نشرة “الإنسان والتطور”
الخميس: 13-2-2014
السنة السابعة
العدد: 2358
ص 142 من الكراسة الأولى
القراءة:
تساءلت قبل ذلك مرارا كيف احتفظت ذاكرتك يا شيخنا بهذا الشعر القديم الجميل القادر العريق، أنا اكتشف هذه الأيام مجددا أن اللغة العربية هى حضارة بأكملها، وبرغم تحفظى تجاه دعاوى القومية العربية، وشكىّ فى مظاهر الاتفاقات العربية الشكلية بلا اقتصاد يتحدى، أو إبداع يقود، أو جيوش تحمى فعلا، برغم ذلك فإننى حين أقف أمام بيت واحد من الشعر العربى الأصيل قبل أو بعد الإسلام أكاد أقسم أن هذا البيت، ناهيك عن القصيدة برمتها، لا يمكن أن يكون إلا دليلا معماريا فى ذاته على حضارة وعى هذه الجماعة الإنسانية التى أفرزت هذه اللغة، شطر واحد هو الجديد الذى جاء فى صفحة تدريب اليوم، وكل ما عدا ذلك سبق وروده بما استدعى من تداعيات . (انظر الهامش)(1)
هذا الشطر هو الذى يقول:
“سقط النصيف .. واتقتنا باليد”
أول ما حدث أننى توقفت أمام هذا النصّ وأنا أكاد أنكر ما هو أمامى، إذْ حسبت لأول وهلة أنه عجز منى أن أقرأ ما خططتَهُ هكذا، فهممت أن أعتذر، وأن أكتب كما اعتدت مؤخرا: “كلمة غير مقروءة” فأنا لا أعرف ما هو “النصيف“، وماذا يعنى فعل “اتقتنا“، قلت فى نفسى هل أعتبر أى منهما كلمة غير مقروءة وأهرب؟ لكننى دققت النظر، وصبرت، وكبّرت بالعدسة، وبغير العدسة، حتى قرأت ما تيسر كما سيرد حالا:
وبمساعدة صديقنا جوجل صاحب الفضل، أجدنى أمام قصيدة “المتجردة” التى شبب فيها الشاعر “النابغة الذبيانى” بزوجة “النعمان بن المنذر”
بمجرد أن قرأت اسم النابغة الذبيانى وجدت نفسى فى عام 1949 .
وأنا فى سنة ثانية ثانوى بمدرسة مصر الجديدة، مع عبد المعز أفندى، وقد سبق لى يا شيخنا أن حدثتك عن قصيدة المتنبى “الميمية” وكنت فى نفس السنة وبدايتها:
وَاحَرّ قَلْباهُ ممّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ * * * وَمَنْ بجِسْمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ
ما لي أُكَتِّمُ حُبّاً قَدْ بَرَى جَسَدي * * * وَتَدّعي حُبّ سَيفِ الدّوْلةِ الأُمَمُ
وكان ذلك فى سياق احتجاجى على هذا النوع من الحب من الشعراء العرب المادحين للحكام، وقد جاءت تفاصيل هذا النقاش فى نشرة بتاريخ 12-8-2010 “فى شرف صحبة نجيب محفوظ” وفى نشرة 30-6-2011 ، فقد وصلتنى منه جرعة من التأليه لم أستسغها، ودافعت أنت يا شيخى أن شاعر تلك الأيام كان بمثابة وزير إعلام الحاكم الآن، وأنه ما كان يمكن أن يقول وزير الإعلام للرئيس إلا مثل ذلك، ولم أقتنع لكنك أرشدتنى إلى مساحة أكبر من السماح، فى نفس السنة –سنة رابعة ثانوى- أذكر أن بعض ما كان مقررا علينا كان من اعتذارات النابغة الذبيانى للنعمان ابن المنذر، وأذكر أنها ضخمت من موقفى من هذا النوع من الشعر، فيحضرنى الآن من الذاكرة من تلك السنة: (الثقافة العامة) بيت النابغة وهو يعتذر للنعمان قائلا:
نـُبـِّـئت أن أبا قابوس أوعدني * * * ولا قرارَ على زأرٍ من الأسدِ
ولم أكن أتصور أننى سأذكر هذا البيت ثانية، فإذا بك تهدينى هذه القصيدة لنفس الشاعر فأرى فيه وجها آخر فأصالحه بعد خمس وستين عاما كما صالحتنى على المتنبى، ويهدينى عمنا جوجل مناسبة هذه القصيدة وتفاصيلها، وكما يبلغنى مدى تجاوز الشاعر حدوده، بل وربما مدى تجاوز زوجة النعمان حدودها معه أو مع غيره، وأعجب .. لمدى حرية هذا المجتمع الذى صوروه لنا بدائيا فجـّا، ويبدو أنه لم يكن كذلك.
وصلنى عن جوجل عن ويكيبيديا كل هذه القصيدة ومناسبتها وخلفيتها ومن ذلك :
“كان النعمان بن المنذر ملك الحيرة قبيح الهيئة، وكانت زوجته (المتجردة) أجمل نساء زمانها، وكان النعمان يغار عليها بجنون، وفي ذات يوم شاهدها الشاعر النابغة، عندما صادفها فجأة في قصر النعمان (الخورنق) وبرغم انها انحنت لتلتقط ازارها الذي سقط على الأرض لتداري حسنها، الا أن النابغة الذي بهت من جمالها، لم يستطع أن يكبح جماح نفسه، وانشد قصيدته الشهيرة التي يقول فيها:
سقط النصيف ولم ترد اسقاطه فتناولته واتقتنا باليد
بمخضب رخص البنان كأنه عنقود من فرط الحلاوة يعقد
وقبل ان يفيق من سكرة الشعر كان سيف النعمان يطلب رأسه ، فظل هاربا لعشرات السنين، وكتب اعتذارياته الشهيرة للنعمان”.
ثم أعود إلى شطر البيت الذى ورد فى صفحتك الجميلة يا شيخنا.
“سقط النصيف … واتقتنا باليد”
وأصله:
سَقَطَ النّصيفُ، ولم تُرِدْ إسقاطَهُ … فتناولتهُ ، واتقتنا باليدِ
وقد انتقيت من معانى “النصيف” أنه “كل ما غطى الرأس من خمار أوعمامه”، أما اتَّقتـَّنَا فقد تعبت حتى عثرت على ما أراده الشاعر غالبا، ورأيتها قد مالت بعد أن سقط النصيف، وهى لم ترد إسقاطه ولا هى منعته أن يسقط، ثم أرى الشاعر يهم بالتقاطه لها برغم أنه لم يسقط بعد فتبعده بيدها (واتقتنا باليد) وهى تحذره أو تجنبه، فتحضرنى الصورة كلها متحركة.
فتحضرنى لوحة المرحوم أ.د. صلاح مخيمر وهو يصف لغة الملاءة اللف المصرية (أظن بعد أن فقد بصره فى حرب 1948) لكنه كتب فى هذا الموضوع بعين عالم تشكيلى ناقد وراح يصف انثناءات الملاءة وهى توشك أن تسقط، فتلمها صاحبتها إلى جسدها، ثم تدعها تبتعد ثم تكاد تختبى فيها (اكتب من الذاكرة) ولا تدعها تسقط منها أبدا، وأيضا لا تتركها ساكنة تغطى جسدها ببلاهة ماسحة، عاودتنى هذه الصورة وشاعرنا النابغة يصف، المتجردة وهى تسمح للنصيف أن يسقط، لكنها لا تسقطه فهى لم ترد إسقاطه كما ذكرنا، ويلبى الشاعر النداء ولكنها تبعده “تتقيهَ” بيدها فيواصل وصف هذه الذراع.
بمخضب رخص البنان كأنه عنقود من فرط الحلاوة يعقد
هل حضر كل هذا التشكيل بكل هذه الحركة فى وعى شيخنا، وهو يكتب بهذه التلقائية لمجرد التدريب؟
نعم
حاشية
لم أستطع أن أترك هذه القصيدة دون أن ألتقط منها أيضا:
لا مرحباً بغدٍ ، ولا أهلاً بهِ إنّ كانَ تَفريقُ الأحبّة ِ في غَدِ
فتحضرنى أم كلثوم – ربما أنت الذى أرسلتها لى يا شيخنا الآن- وهى تتغنى بشعر “مرسى جميل عزيز” ما فى أغنية “ألف ليلة”
واقول للشمس: تعالى تعالى بعد سنة مش قبل سنة
ولا أعرف إن كان “مرسى جميل عزيز” قد قرأ بيت النابغة أم لا.
[1] – * الحمد لله رب العالمين: وردت هذه الآية الكريمة فى صفحة التدريب رقم(7) بتاريخ: 21-1-2010، وفى صفحة التدريب رقم (16) بتاريخ: 25-2-2010، صفحة التدريب رقم(36) بتاريخ: 8-9-2011 ، وفى صفحة التدريب رقم(44) بتاريخ: 17-11-2011، وفى صفحة التدريب رقم (49) بتاريخ: 15-12-2011، وفى صفحة التدريب رقم (55) بتاريخ: 26-1-2012، وفى صفحة التدريب رقم(61) بتاريخ: 16- 2- 2012، وفى صفحة التدريب رقم(67) بتاريخ: 29-3-2012، وفى صفحة التدريب رقم(87) بتاريخ: 2-8-2012، وفى صفحة التدريب رقم(97) بتاريخ: 4-10-2012، وفى صفحة التدريب رقم (113) بتاريخ: 27 – 6 -2013، وفى صفحة التدريب رقم(115) بتاريخ: 11-7-2013، وفى صفحة التدريب رقم(131) بتاريخ: 31-10-2013
* جاء الحق وزهق الباطل: وردت هذه الأية الكريمة فى صفحة التدريب (ص 126) بتاريخ: 26-9-2013
* الا ليت الشباب يعود يوما: ورد هذا النص فى صفحة التدريب أرقام (2)، نشرة 31 -12-2009 ، وصفحة التدريب رقم (4)، نشرة 7-1-2010، وأيضا فى صفحة التدريب رقم (42)، نشرة 3-11-2011، وصفحة التدريب (ص 57) بتاريخ: 26-1-2012، وصفحة التدريب (ص 103) بتاريخ: 1-11-2012
* يا عشرة الماضى الجميل: وردت فى نشرة 23-6-2011 صفحة التدريب 26 ، وصفحة التدريب (ص 74) بتاريخ: 3-5-2012
* ياما ناديت من اسايا في وحدتي النوم يداعب جفونى: ورد هذا النص فى صفحة التدريب ( ص91) بتاريخ: 30-8-2013، وصفحة التدريب (ص 105) بتاريخ: 22-11-2012
* ياللي تشكي من الهوى: ورد هذا النص فى صفحة التدريب (ص 74) بتاريخ: 3-5-2012
* حسبنا الله ونعم الوكيل: ورد فى صفحة التدريب (ص 50) بتاريخ: 22-12-2011