نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 9-9-2012
السنة السادسة
العدد: 1836
تعتعة الوفد
نجيب محفوظ لم يرحل!! هل ثمَّ موتٌ آخر؟
ألزمتنى مهنتى، وما يفرضه مرضاى على وعيى من تحديات وتجديدات أن أنظر فى الموت من زوايا مختلفة، تصلنى من خلالها رؤى مختلفة لهذه الحقيقة الماثلة أقوى من الحياة، بل لعلها هى التى تبعث فى الحياة نبضها وتبرر لها وجودها.
العامة بتلقائيتهم السمحة يفرقون بين “الموت” و”الفقد”، وهم يسلمون بأن الموت حقيقة راسخة، وحدث لا مفر منه، وأن ما يفجعنا من بعض مظاهر هذه الحقيقة هو “فقد العزيز” بمعنى اختفائه عن مجال الرؤية والعلاقات المباشرة، وهذا ما يحدد قولهم “الموت على رقاب العباد .. بس الفراق صعب”!!.
أوصلتنى رحلتى فى نقد “النص البشرى” (=علاج المرضى وشخصى وبعض المتدربين معى) ونقد “النص الأدبى” من هانز كريستيان أندرسون إلى محفوظ مرورا بديستوفسكى، وفتحى غانم إلى مالا يعد من مستكشفى الفطرة البشرية، كيف أن الموت هو بمثابة “نقلة نوعية” من “الوعى البشرى” إلى “الوعى الكونى” إلى وجه الله، وإذا بى اكتشف لاحقا أن هذا وارد فى “متون هرمس” بالحرف الواحد، وقد دعمت لى هذا الفرض نظريتى الإيقاعية التطورية التى ترى الحياة كلها حركية تتبع إيقاعا حيويا يجددها باستمرار بفضل الله، يتجلى ذلك أكثر ما يتجلى حين يصلنى من دينى ما يؤكد لى أن دورة النوم واليقظة ما هى إلا مصغر دورة الموت والحياة (ولا أتطرق هنا إلى دورات داخل النوم بين الحلم واللاحلم) يتأكد ذلك من دعاء المسلم للنوم “باسمك ربي وضعت جنبي، وبك أرفعه، اللهم إن أمسكت نفسي فارحمها، وإن أرسلتها فاحفظها…الخ” ويؤكد ذلك دعاء الاستيقاظ “الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور”…الخ
ثم يتطور فكرى حتى يحضرنى فرض يعتبر الموت “أزمة نمو”!! أكثر منه نهاية تعلن العدم.
أغلب الذين تحدثوا عن رحيل محفوظ وهم من أكرم وأصدق أصدقائه ومحبيه ركزوا أكثر على مشاعر الفقد، وحنين الشوق، ومسئولية الديْن علينا له لعلنا نوفيه بعض حقه فجاءت الأحاديث طيبة وفية، وقد تعجبت من نفسى أننى لم أشارك فى هذه الذكرى لأول مرة منذ سنوات، لكننى فسرت ذلك باستغراقى معه كل خميس (كل خميس فعلا) فى فك رموز ما خطه بخط يده صفحة بعد صفحة، وكراسة بعد كراسة فيما اسميناه معا “كراسات التدريب” وكنا نعنى التدريب على الكتابة بعد الإعاقة، أخذ حضوره الجديد يزداد اقترابا منى وحيوية فى وعيى أسبوعا بعد أسبوع، وحتى أطلب مشورته أحيانا فى شئون خاصة، وكثيرا ما أسأله الدعاء..الخ، حتى وصلت إلى الصفحة (91) خلال 91 أسبوعاً، ومازالت القراءة مستمرة.
يا ترى كيف حضر شيخى هكذا بعد أن ذهب؟ وهل هو ذهب أصلاً؟
تركت لتداعياتى العنان استلهم من لمحات تدريباته ما يعيننا فى رفض اليأس، وقتل العدم، وقبول التحدى، ونحن أحوج ما نكون لكل ذلك هذه الأيام.
تبينت أن إشاعة رحيله كانت ومازالت أبعد ما تكون عن حقيقة “الآن”.
وفيما يلى بعض ما تعلمته منه عن الموت (الآخر) كما ظهر فى بعض نقدى لبعض أعماله.
أولاً: من نقد “ملحمة الحرافيش”
فى البدء كان الموت
فى ملحمة الحرافيش حضر الموت باعتباره: البداية، واليقين، والتحدى، والدفع جميعا…. منذ السطر الأول يعلن محفوظ أن الملحمة تدور “.. فى الممر العابر بين الموت والحياة”، لم يقل الممر العابر بين الحياة والموت، أو بين الولادة والموت، كما يُفترض بحسب التتابع الزمنى المنطقى. قدم محفوظ الموت باعتباره الأصل، وأن الحياة هى احتمال قائم، الموت بمعنى العدم – كما يشيع عنه – لا وجود له. حين راح شيخ الزاوية (خليل الدهشان) يصبر جلال (الأول) بعد موت خطيبته قمر (ص 403).
كلنا أموات أولاد أموات.
فقال بيقين: لا أحد يموت.
ثانياً: مقتطفات من أصداء السيرة ونقدها:
نشرت الجزء الأول (التشريحى) من هذه الدراسة فى كتاب “أصداء الأصداء” (المجلس الأعلى للثقافة، 2006)، إلا أننى ألحقت به الفصل الأخير عن الطفولة كعينة للجزء الثانى وهو ما أسميته الدراسة الجامعة، وهى تشمل مسحا للموضوعات النوعية كل بما يستحق، وقد وجدت أن “الموت” كان أحد أهم موضوعات هذه الدراسة.
وفيما يلى عينة من المسودة لعلها تؤيد الفروض السابقة مؤقتاً.
الفقرة رقم: 8 – المطرب
قلبى مع الشاب الجميل، وقف وسط الحارة وراح يغنى بصوت عذب: “الحلوة جايــه”، وسرعان ما لاحت أشباح النساء وراء خصاص النوافذ وقدحت أعين الرجال شررا، ومضى الشاب هانئا تتبعه نداءات الحب والموت.
التعقيب:
تعود حركة “البندول” هذه المرة إلى الناحية الأخري، لكنها لا تصل إلى طفل تغمره موجات الفرح على شاطيء السعادة (فقرة 1) أو تندلع فى جنباته ثورة العنف المتعطشة إلى الجنون المتلفعة بالحزن والخوف (فقرة 2) أو وهو يمتلك مفتاح السعادة فى قرار الاجتهاد المدرسى والنجاح الحافظ للكرامة (فقرة 3) أو وهو يفرح بالتخلص من صاحب العضلات التى عكرت عليه طفولته(فقرة 6)، بل يتوقف البندول عند الشاب الذى راح يغازل الدنيا وهى تقبل عليه “الحلوة جايه”، فيعيش مغامرة الغواية والجسد، الجذب والتحرش، فتتبعه نداءات “الحب والموت”،
سوف نلاحظ كيف يواكب الموت الحب عند محفوظ فى هذا العمل كثيرا، وفى أعماله الأخرى أيضا، فالموت عنده كان غالبا حيويا لدرجة لا يبتعد فيها كثيرا عن الحب، ولايبدو الموت نقيض الحب إلا إذا كان سلبا خالصا وهو ليس كذلك عنده.
تحديث : فهل هذه الرؤية تسمح أن نتكلم عن رحيله أصلاً.
الفقرة رقم: 27- الزيارة الأخيرة
لولا المعلم عبد الدائم لضاع كل وافد على المدينة القديمة، يستقبل الوافدين فى مقهى المعز، ثم يفتح لكل مغلق الأبواب، وكان عبد الله أحد أولئك الوافدين، ما لبث أن ألحقه بوظيفة مساعد بواب، فحمد الرجل ربه على الرزق والمأوى وحثه على الرشد والتدبير حتى زوجه من بنت الحلال، وجعل عبد الله يزوره فى المقهى من حين لآخر إعترافا بفضله وإحسانه، غير أنه لما استغرقه العمل وتربية الأولاد ندرت زياراته حتى انقطعت، وقبل الرجل الحياة بحلوها ومرها، وتصبر حتى وقف الأولاد على أقدامهم وانطلق كل فى سبيل،
ومع تقدم السن شعر عبد الله بأنه آن له أن يستريح وينفض عن رأسه الهموم، وفى فراغه تذكر المعلم عبد الدائم فشعر بالخجل والندم وصمم على زيارته داعيا الله أن يجده متمتعا بالصحة والعافية. وقصد مقهى المعز وهو يعد نفسه للاعتذار، وطلب العفو، لاحظ من أول نظرة ما حل بالمقهى من تجديد وفرنجة فى الأثاث والخدمة والزبائن ولم يعثر لصاحبه على أثر، ووضح له أن أحدا لم يسمع به، وظهر عجوز يسرح بالمسابح والبخور، وكان الوحيد الذى تذكره، والوحيد الذى يعرف منزله بالإمام، ولا يعرف عنه أكثر من ذلك، ولم تحل تلك الصعوبات بين الرجل ورغبته فمضى من فوره إلى الإمام، كان يقوده شعور قوى بالوفاء، وبأنه ذاهب إلى غير رجعة..
التعقيب:
أطـلت على “أولاد حارتنا “من هذه الفقرة بشكل أو بآخر، فعبد “الدائم” وقهوة المعز”، واحتمال اختفاء عبد الدائم فى (مقابر) الإمام، وما حل فى قهوة المعز من تجديد مفرنج، بحيث بدا أن المقهى لم يعد يذكر أو يحتاج لا إلى “الدائم” ولا إلى “المعز”، كل ذلك يغرى بتصور هجوم محفوظ على من يدعى “موت الله” (نتشة مثلا) أو الاستغناء عنه، لأنه لا بديل له إلا هذا “اللاشيء” الذى ملأ القهوة بالقبح والنسيان،
إلا أن عبد الله الذى يعرف أن “كله من عند الله”، والذى لا يستطيع إلا أن يعترف بالفضل، لا يستطيع أن يشاركهم فى الإنكار، أو النسيان أو الغفلة، وإفاقته هنا وعودته للبحث عن صاحب الفضل يذكرنا من ناحية بالبحث الذى شغل محفوظ طوال رحلة إبداعه، بدءا من “زعبلاوي” ثم الطريق، مارا بأولاد حارتنا فالحرافيش، ومن ناحية أخرى هو ذكرنى بمعنى الحديث الخاص بصهييب، وكيف أن صهيب قد خلط الإيمان بلحمه ودمه، ومتى نسى فإنه إذا ذُكِّـرَ ذكر، وهنا يذكر عبد الله فضل المعلم عبد الدائم دون أن يذكــره أحد، فهو قد رفض أن يستسلم للإنكار فى نهاية النهاية،
العودة هنا للاعتراف بأنه “كله من عند الله” هى أقل درامية من عودة عرفة لمحاولة إحياء الجبلاوي، لأن عبد الله لم يشترك فى إنكار فضل عبد الدائم، ناهيك عن إلغاء وجوده.
وأخيرا فإن الفقرة لا تنتهى بلقاء بين عبد الله والمعلم عبد الدائم فى القهوة أو فى الدنيا، لكنها تعد بلقاء ما، فالآخرة خير وأبقى، وليكن اليقين به والاعتراف بفضله سبيلا للقائه بعد اللحاق به عبر مقابر “الإمام”.
وبعد
دعونا نعترف بحضور نجيب محفوظ الدائم رغم شائعة رحيله، فإن غاب فنحن المسئولون، ونحن الخاسرون، لأننا أحوج ما نكون إلى حضوره هكذا، وغير هكذا.