الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / مثل وموال (بابٌ قديم جديد)!

مثل وموال (بابٌ قديم جديد)!

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 13-8-2014

السنة السابعة

العدد: 2539

مثل وموال (بابٌ قديم جديد)!

مقدمة:

انتهز باب “مثل وموال” الذى كان ينشر بانتظام فى المجلة الأم “الإنسان والتطور – الفصلية”، لينقضّ على يوم الثلاثاء، مع أن اسمه “الثلاثاء الحر”، ليجرب حظه فى احتلال هذه الصفحة ولو لبضع نشرات، أو قد يستمر، وهذا يتوقف على استجابة الأصدقاء وتوصياتهم (إن وجدت)

كانت الفكرة الاساسية هى التعرف على بعض جوانب تركيب النفس البشرية، من خلال قراءة الوعى العام كما يتجلى فى الأمثال العمية (المصرية كمثال)، وقد جمعت ما نشر فى هذا الباب فى المجلة الأم طوال سنوات وصدر فى كتاب باسم “مثل وموال” عن دار الهلال بتاريخ 1992 (1)، وقد أظهرتُ تحفظى فى مقدمته على المبالغة فى الإعلاء من قيمة أى مثل باعتباره ممثلا للوعى الشعبى بشكل مباشر، حيث يكاد يوجد لكل مثل ما هو ضده.

العودة اليوم تشمل نفس التحفظ، فلا المثل يمثل الأغلبية، ولا مغزاه يلخص الوعى العام فى أى مرحلة تاريخية بذاتها، وإنما يؤخذ المثل فى سياقة، وموقف استعماله وتوظيفه.

العودة هنا غير مشروطة، والانتقاء غير مخطط مسبقا، اللهم إلا فى محاولة كشف بعض تقلبات النفس البشرية، وأيضا فى محاولة احترام واستلهام هذا الإبداع الشعبى الجماعى الذى أفرز كل هذه الحكمة، وكل هذا الإبداع.

وبعد

أبدأ اليوم بالحديث عن الحرمان والطبقية، وهو الموضوع الذى سبق نشره فى مجلة الإنسان والتطور ثم تم تحديثه فى الكتاب السالف الذكر، وقد حاولت مزيدا من التحديث، فلم أجد مبررا لذلك، لأنه بدا لى متكاملا فهأنذا أنشره كما هو، لعل الأصدقاء يساعدونى فى نقده آمِلاً أن يفتحوا الباب لاحتمال تحديثه، خاصة وأن به مثل واحد كان إلهاما لى أن أكتب مقالا مطولا فى مجلة وجهات نظر (2)، وكان عنوان المقال هو المثل نفسه الذى يقول:“طلب الغنى شقفة، كسر الفقير زيره، كات الفقير وكسه، يا سوّ تدبيره”.

*****

‏‏فصل‏ ‏فى: ‏الحرمان‏ ‏والشبع‏ ‏والطبقية  (3)

قراءة‏ ‏التراث‏ ‏مسئولية‏ ‏خطيرة‏، ‏يقول‏ ‏صلاح‏ ‏جاهين‏ “‏إفعل‏ ‏أى ‏شيء‏ ‏تقرره‏، ‏وستجد‏ ‏مثلا‏ ‏يبرره”‏وهو‏ ‏يعنى ‏بذلك‏ ‏أن‏ ‏الأمثال‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تبرر‏ ‏الشيء‏ ‏ونقيضه‏ ، ‏ ‏وأن‏ ‏وظيفة‏ ‏استخدامها‏ ‏لاحقة‏ ‏لا‏ ‏مرشدة‏ ‏أو‏ ‏هادية‏ ‏أوباعثة، وهو‏ ‏يدعونا‏ ‏بهذا‏ ‏التحدى ‏أن‏ ‏نتوقف‏ ‏لنتساءل‏: ‏هل‏ ‏الأمثال‏ ‏تبريرية‏، ‏أم‏ ‏تقريرية‏، ‏أم‏ ‏تنبيهية‏، ‏أم‏ ‏توجيهية‏،‏؟

هنا‏ ‏تقع‏ ‏مسئولية‏ ‏القراءة‏ النقدية، ‏التى ‏هى ‏مسئولية‏ ‏إبداع‏  ‏التراث‏  ‏بوعى ‏يقظ‏.‏

فيقال‏-‏من‏ ‏أبحاث‏ ‏أكاديمية‏ “‏عظيمة” – ‏أن‏ ‏نسبة‏ ‏كبيرة‏ ‏من‏ ‏أمثالنا‏ ‏تبرر‏ ‏الطبقية‏، ‏أو‏ ‏تدافع‏ ‏عنها‏، ‏فهل‏ ‏هذا‏ ‏صحيح؟‏ ‏فإن‏ ‏صح‏، ‏فهى ‏معلومة‏ ‏خطيرة‏ ‏مؤلمة‏، ‏لأنها‏ ‏مستوحاة‏ ‏من‏ ‏المثل‏ ‏الشعبى ‏الذى ‏لا‏ ‏يصدر‏ ‏بمرسوم‏ ‏فوقي‏، ‏ثم‏ ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏الفوق‏ ‏هم‏ ‏القلة‏ ‏التى ‏نادرا‏ ‏ما‏ “‏تقول”، ‏وهى ‏حتى ‏لا‏ ‏تردد‏ ‏الأمثال‏، ‏وإنما‏ ‏تسمعها‏، ‏وقد‏ ‏لا‏ ‏تفهمها‏، ‏إذن‏: ‏كيف‏ ‏أن‏ ‏الغالبية‏ ‏من‏ ‏عامة‏ ‏الناس‏، ‏تردد‏ ‏ما‏ ‏لا‏ ‏ينفع‏ ‏إلا‏ ‏القلة‏ ‏من‏ ‏عالم‏ ‏الفوق؟‏.‏

ألا‏ ‏يحتمل‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ “‏التقريرللواقع” ‏الذى ‏يصدر‏ ‏من‏ ‏حدس‏ ‏الناس‏ ‏هو‏ ‏تذكرة‏ ‏مثيرة‏، ‏وتحـد‏ ‏جدلى ‏صعب؟

موضوع‏ ‏اليوم‏ ‏يبدأ‏ ‏بمثل‏ ‏من‏ ‏أكثر‏ ‏الأمثال‏ ‏العامية‏ ‏إيلاما‏: ‏

  • “‏إطعم‏ ‏مطعوم‏، ‏ولا‏ ‏تطعم‏ ‏محروم”.‏

فكيف‏ ‏بالله‏ عليكم ‏يقول‏ ‏لنا‏ ‏هذا‏ ‏المثل‏ ‏أن‏ ‏الذى ‏عنده‏ ‏يأخذ‏ ‏ويـُزاد‏، ‏وأن‏ ‏الذى ‏هو‏ ‏أولى بالأخذ ‏بسبب‏ ‏حاجته‏ ‏وحرمانه‏، ‏يـُهمل‏ ‏ويُحرم‏ ‏أكثر؟

هناك‏ ‏احتمالات‏ ‏تكمن‏ ‏وراء‏ ‏هذا‏ ‏القول‏، ‏لابد‏ ‏أن‏ ‏نواجهها‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏نتسرع‏ ‏بالرفض‏، ‏أو‏ ‏بالتفسير‏ ‏السطحي‏، ‏مثلا‏: ‏احتمال‏ ‏أن‏ ‏الناس‏ ‏رضيت‏ ‏بالحرمان‏، ‏أو‏ ‏احتمال‏ ‏أن‏ ‏المثل‏ ‏موضوع‏ ‏ومدسوس‏ ‏على ‏العامة‏ (‏من‏ ‏قبل‏ ‏أصحاب‏ ‏المصلحة‏).. ‏إلى ‏آخر‏ ‏مثل‏ ‏ذلك‏.‏

ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فما‏ ‏وراء‏ ‏المثل‏ ‏من‏ ‏أرضية‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يرجع‏ ‏إلى “‏حقائق” ‏لا‏ ‏يصح‏ ‏هزها‏ ‏ابتداء‏، ‏لمجرد‏ ‏أن‏ ‏نُرْضِى ‏مزاعم‏ ‏المساواة‏، ‏ودعاوى ‏العدل‏ ‏المناوراتي‏، ‏نعم‏ ‏نبدأ‏ ‏بالحقائق‏، ‏ثم‏ ‏نرى ‏مسئوليتنا‏ ‏تجاهها‏، فثمة‏ ‏معلومات‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏الواقع‏، ‏أو‏ ‏العلم‏ ‏العملى (الإمبريقى)‏، ‏أو‏ ‏المنطق‏ ‏السليم‏ ‏تقول‏:‏

‏1- ‏إن‏ ‏الذى ‏لم‏ ‏ينل‏ ‏القدر‏ ‏الأساسى ‏من‏ ‏أى ‏حق‏، ‏هو‏ ‏الذى ‏قد‏ ‏لا‏ ‏يعرف‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏حقه‏ ‏أصلا‏، وبالتالى فهو ‏لا‏ ‏يعرف‏ طريق ‏المطالبة‏ ‏به، ولا جسامة مرارة وآلام الحرمان منه، فلا ضرر من إهماله!

‏2- ‏وإن‏ ‏الذى ‏لم‏ ‏يعرف‏، ‏لم‏ ‏يذق‏، ‏فإذا‏ ‏ما‏ ‏أعْطِى ‏من‏ ‏هذا‏ ‏الذى ‏لم‏ ‏يعرفه‏، ‏ولم‏ ‏يطعمه‏ (‏فيستطعمه‏) ‏فإنه‏ ‏إما‏ ‏ألا‏ ‏ينتفع‏ ‏به‏ ‏أصلا‏، ‏أو‏ ‏أنه‏ ‏سيستهين‏ ‏به‏ ‏جهلا‏، ‏أو‏ ‏أنه قد‏ ‏يضعه‏ ‏فى ‏غير‏ ‏موضعه‏ ‏نشازا‏، ‏فيثبت‏ ‏فى ‏جميع‏ ‏الأحوال‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يستأهله‏، ‏وبالتالى ‏لا‏ ‏داعى ‏لإعطائه‏ “‏منه” [‏لا‏ ‏تضع‏ ‏طعامك‏ ‏أمام‏ ‏الخنازير‏، ‏فإنها‏ ‏تدوسها‏].‏

‏3- ‏أو‏ ‏أن‏ ‏الذى ‏حرم‏ “‏جدا”، ‏إذا‏ ‏أعطى ‏بعد‏ ‏فوات‏ ‏الأوان‏، ‏فإنه‏ ‏لا‏ ‏يشبع‏ (‏لا‏ ‏النافية‏)، ‏فيظل‏ ‏يأخذ‏ ‏بلا‏ ‏نهاية‏، ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏أشرنا‏ ‏اليه‏ ‏بما‏ ‏أسميناه‏ ‏الوجود‏ ‏المثقوب‏ (‏إذ‏ ‏قد‏ ‏ألتهم‏ ‏الواحد‏ ‏منكم‏ ‏تلو‏ ‏الآخر‏…. ‏دون‏ ‏شبع‏) (4)، ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏جائز‏، ‏وهو‏ ‏أحد‏ ‏وجوه‏ ‏الواقع‏ (‏المر‏).‏

‏ ‏ولكن‏ ‏هل‏ ‏يعنى ‏ذلك‏ ‏أن‏ ‏نحرم‏ ‏صاحب‏ ‏الحق‏ ‏من‏ ‏حقه‏ ‏لأنه‏ ‏لا‏ ‏يعرفه؟‏ ‏أو‏ ‏لا‏ ‏يطالب‏ ‏به‏، ‏أو‏ ‏لا‏ ‏يستطعمه أو لا يشبع؟‏ ‏

‏ ‏إن‏ ‏هذه‏ ‏الدعوى ‏تجرنا‏ ‏إلى ‏مقاومة‏ ‏الحكم‏ ‏المطلق‏ ‏على ‏العامة‏ (‏مثلا‏): “‏إيش‏ ‏عرفهم‏ ‏فى ‏الحرية” ‏أو‏ ‏مقولة‏ ‏بعض‏ ‏المستغلين‏ ‏عن‏ ‏ضحاياهم‏، “‏لا‏ ‏تعطهم‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏تفتح‏ ‏عيونهم”..‏الخ‏- ‏وكل‏ ‏هذا‏ ‏لا‏ ‏ينتج عنه‏ ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏يزيد‏ ‏من‏ ‏ظلم‏ٍ ‏واقع‏، ‏ليس‏ ‏للمظلوم‏ ‏إسهام‏ ‏فى ‏نشأته‏، ‏فقد‏ ‏لحق‏ ‏به‏ ‏الظلم‏ ‏وهو‏ ‏ضعيف‏ ‏صغير‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يدفعه‏ ‏أصلا‏، ‏فهو‏، ‏لم‏ ‏يعرف‏ ‏أصلا‏ ‏أن‏ ‏له‏ ‏حقا‏ ‏حتى ‏يقول‏ “‏أريده”.‏

ولكن‏ ‏دعونا‏ ‏نتعمق‏ ‏فى ‏استجابة‏ ‏المحروم‏ ‏لحرمانه‏ ‏فنقرأ‏ ‏المثل‏ ‏من‏ ‏جديد‏ ‏‏مستشهدين‏ ‏بأمثلة‏ ‏أخرى ‏ما‏ ‏أمكن‏:

‏‏(1)  ‏قد‏ ‏لا‏ ‏يدرك‏ ‏المحروم‏ ‏أصلا‏ ‏طعم‏ ‏ما‏ ‏يحتاج‏ ‏إليه‏ ‏كما‏ ‏ذكرنا‏، ‏وهذا ما قد‏‏ ‏يُعَبَّرُ عنه بالمثل القائل:

  • “‏إيش‏ ‏عرف‏  ‏الفلاح‏  ‏فى  ‏أكل‏  ‏التفاح” ‏

والأصعب‏ ‏والأقسي‏.‏

  • “‏إيش‏ ‏عرف‏  ‏الحمير‏  ‏فى ‏أكل‏  ‏الزنجبيل(5).‏

‏(2) ‏وقد‏ ‏يستغنى ‏المحروم‏ ‏عن‏ ‏حاجته‏ ‏أصلا‏، ‏ما‏ ‏دام‏ ‏ليس‏ ‏عنده‏ “‏الثمن”، ‏بل‏ ‏إنه‏ ‏قد‏ ‏لا‏ ‏يدرك‏ ‏حقيقة‏ ‏الثمن‏، ‏رغم‏ ‏إدراكه‏ ‏ملامح‏ “‏الحاجة” ‏وهنا‏ ‏يعلن‏ ‏بكبرياء‏ ‏الرضا‏، ‏وإباء‏ ‏المستكفى (‏ولو‏ ‏رغم‏ ‏أنفه‏) ‏مما يعبر عنه المثل القائل::

  • اللى ‏ممعاهوش‏ ‏ما‏ ‏يلزموش

فهو‏ ‏يرفض‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يَرْفض ابتداء، ما دام يعرف أنه لن يناله، وهذا ما يقوله المثل:

  • “‏إن‏ ‏فات‏ ‏عليك‏ ‏الغصب‏، ‏إعمله‏ ‏جُودَه”. ‏

وهذه‏ ‏الدرجة‏ ‏هى ‏درجة‏ ‏أعلى ‏وأكرم‏، ‏من‏ ‏إلغاء‏ ‏الحاجة‏ ‏أصلا‏، ‏لأن‏ ‏المحروم‏ ‏هنا‏ ‏يلغى ‏الطلب‏ ‏بلا‏ ‏جدوي‏، ‏ويلغى ‏إعلان‏ ‏الحاجة‏، ‏ولكنه‏ ‏لا‏ ‏يلغى ‏الاحتياج‏ ‏ذاته‏.‏

‏(3) ‏وقد‏ ‏يكملها‏ ‏المحروم‏ ‏المحتاج‏ ‏بألا‏ ‏يكتفى ‏بالاستغناء‏، ‏بل‏ ‏إنه‏ ‏يتنازل‏ ‏عما‏ ‏له‏ ‏طوعا‏ ‏وصبراً‏، ‏وكأنه‏ ‏يكملها‏ ‏رضوخا‏ ‏للواقع‏:‏

  • خلِّى ‏الـمـيَّـهْ‏.. ‏ميــَّهْ‏ ‏وواحد”‏

هذه‏ ‏المهانة‏ ‏الذاتية‏ ‏فى ‏تعميق‏ ‏العبودية‏، ‏قد‏ ‏تحمل‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏التحدى ‏ ‏مما‏ ‏يذكرنا‏، ‏بجدل‏ “‏العبد‏ ‏والسيد‏ ‏عند‏ ‏هيجل”‏، ‏فكلما‏ ‏إزداد‏ ‏العبد‏ ‏عبودية‏، ‏إزداد‏ ‏السيد‏ ‏وحدة‏.. ‏فموتا‏، ‏ومهما‏ ‏يكن‏ ‏من‏ ‏أمر‏ ‏الاستسلام‏ ‏المتحدي‏، ‏فهو‏ ‏مرحلى ‏بحكم‏ ‏الضرورة‏، ‏وإذا‏ ‏كان‏ ‏التمادى ‏فيه‏ يحمل ‏خطر‏ ‏التأجيل‏، ‏فإن‏ ‏به‏ ‏مزية‏ ‏رفض‏ “‏الحل‏ ‏الوسط” ‏الذى ‏يوهم‏ ‏العبد‏ ‏بعدم‏ ‏العبودية‏ ‏تحت‏ ‏رشاوى ‏تخديرية‏ ‏مشبوهة‏، ‏وكثير‏ ‏من‏ ‏الأمثال‏ ‏يعلن‏ ‏هذا‏ ‏التمادى ‏فى ‏التنازل‏ ‏لدرجة‏ ‏نستشعر‏ ‏معها‏ ‏أن‏ ‏المسألة‏ ‏ليست‏ ‏تنازلا‏ ‏ذليلا‏، ‏بل‏ ‏تحديا‏ ‏خفيا‏:‏

  • “‏طلب‏ ‏الغنى  ‏شقفةْ‏،  ‏كَسَر‏  ‏الفقير‏  ‏زيرُهْ

     “كات‏  ‏الفقير‏  ‏وكسه‏،  ‏ياسَوّ‏  ‏تدبيره”‏

نحن‏ ‏لا‏ ‏نستسلم‏ ‏لوصم‏ ‏هذا‏ ‏السلوك‏ ‏بسوء‏ ‏التدبير‏، ‏إلا‏ ‏على ‏المستوى ‏السطحى ‏فحسب‏، ‏أما‏ ‏من‏ ‏عمق‏ ‏آخر‏، ‏فقد‏ ‏يصدق‏ ‏ما‏ ‏ذهبنا‏ ‏إليه‏ ‏من‏ ‏حكمة‏ ‏تعميق‏ ‏الواقع‏ ‏تحديا‏ ‏وإصرارا‏ (6).‏

وفى ‏نفس‏ ‏الإتجاه‏ ‏يقول‏ ‏مثل‏ ‏آخر‏:‏

  • “‏إذا‏ ‏شفت‏  ‏الفقير‏  ‏بيجرى  ‏

   إعرف‏  ‏إنه‏  ‏بيقضى  ‏حاجة‏  ‏للغني”‏

‏(4) ‏وقد‏ ‏يتعامل‏ ‏المحروم‏ ‏مع‏ ‏حرمانه‏ ‏بالانتظار‏، ‏سواء‏ ‏فرض‏ ‏عليه‏ ‏الانتظار‏ ‏من‏ ‏خارجه‏ ‏بالوعود‏ ‏والتأجيل‏، ‏أم‏ ‏أْوهم‏ ‏نفسه‏ ‏به‏، ‏بالصبر‏ ‏والتحمل‏. ‏وكأن‏ ‏المحروم‏ ‏يحذر‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏مغبة‏ ‏الانتظار‏ ‏بلا‏ ‏جدوى‏، وهو يكاد يعلن يأسه بمثل يقول:

  • “‏موت‏ ‏يا‏  ‏حمار‏  ‏على  ‏ما‏  ‏يجيلك‏  ‏العليق”  (7)

فإذا‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏هو‏ ‏موقف‏ ‏المحروم‏ ‏من‏ ‏حرمانه‏، ‏فما‏ ‏هو‏ ‏موقف‏ ‏المجتمع‏ ‏الأوسع‏ ‏من‏ ‏لعبة‏ ‏التمييز‏ ‏المتصاعد‏ ‏هذه؟

للأسف‏، ‏إن‏ ‏ظاهر‏ ‏المجتمع‏- ‏إلا‏ ‏فى ‏فترات‏ ‏التحول‏ ‏الثوري‏- ‏يميل‏ ‏إلى ‏الاستمرار‏ ‏مهما‏ ‏كانت‏ ‏المعادلة‏ ‏خاطئة‏، ‏والقوى ‏المتصارعة‏ ‏غير‏ ‏متكافئة‏، ‏من‏ ‏مدخل‏: “تحالف‏ ‏الناس‏ ‏والزمان‏، ‏فحيث‏ ‏كان‏ ‏الزمان‏ ‏كانوا” ‏

‏- ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏يؤكده‏ ‏أمثال‏: ‏مثل‏: ‏

  • ‏ ‏”الغنى ‏غنوا‏ ‏له‏، ‏والفقير‏ ‏ايه‏ ‏يعملوا‏ ‏له” ‏

أو‏

  • “‏الغنى ‏شكته‏ ‏شوكه‏، ‏بقت‏ ‏البلد‏ ‏فى ‏دوكه‏ ‏

            ‏والفقير‏ ‏قرصه‏ ‏تعبان‏ ‏قالوا‏ ‏بطلوا‏ ‏كلام”. ‏

كل‏ ‏ذلك‏ ‏تعميق‏ ‏وتثبيت‏ ‏لواقع‏ ‏صعب‏.‏

لكن‏ ‏يبدو‏ ‏من‏ ‏عمق‏ ‏آخر‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏كله‏ ‏موقف‏ ‏الظاهر‏ ‏لا‏ ‏أكثر‏ ‏و‏ ‏لا‏ ‏أقل‏، ‏لأن‏ ‏حقوق‏ ‏الإنسان‏ ‏الحقيقية، بما‏ ‏هو‏ ‏إنسانى، ‏تفرض‏ ‏نفسها‏، ‏ولا‏ ‏تنتظر‏ ‏أن‏ ‏يطالب‏ ‏بها‏ ‏أهلها‏، “‏فالحق‏ ‏لمن‏ ‏يستحقه‏، ‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏لمن‏ ‏يطالب‏ ‏به”، ‏والقياس‏ ‏بذلك‏ ‏مثلا‏ ‏أن‏ ‏الطفل‏ ‏لا‏ ‏يختار‏ ‏أن‏ ‏يتكلم‏ ‏‏ ‏لغة‏ ‏مفهومة‏، ‏هذا‏ ‏حقه‏ ‏لأنها‏ ‏قدرته‏، ‏فإذا‏ ‏حرم‏ ‏طفل‏ ‏منذ‏ ‏الولادة‏ ‏من‏ ‏أى ‏صوت‏ ‏من‏ ‏الأصوات‏ ‏البشرية‏ ‏فإنه‏ ‏لن‏ ‏ينطق‏ ‏أصلا‏، ‏ولا‏ ‏يصح‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الحالة‏ ‏أن‏ ‏نتصور‏ ‏أنه‏ ‏صنف‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏البشر‏ ‏لا‏ ‏يصح‏ ‏أن‏ ‏ينطق‏ ‏حتى ‏يطالب‏- ‏بنفسه‏- ‏بحق‏ ‏النطق‏، ‏وعلى ‏نفس‏ ‏القياس‏، ‏فان‏ ‏ذلك‏ ‏الأمّى ‏الذى ‏لا‏ ‏يعرف‏ ‏القراءة‏ ‏والكتابة‏، ‏إذا‏ ‏أعطيته‏ ‏كتابا‏ “‏هدية” ‏فإما‏ ‏أنك‏ ‏تسخر‏ ‏منه‏ ‏أو‏ ‏تتعالى ‏عليه‏، ‏أو‏ ‏تعايره‏، ‏لأنه‏ ‏لن‏ ‏يستعمله‏ ‏أصلا‏، ‏إذ‏ ‏هو‏ ‏لن‏ ‏يفك‏ ‏رموزه‏ ‏ابتداء‏، ‏فلن‏ ‏يستفيد‏ ‏منه‏ ‏بداهة‏، ‏أما‏ ‏ذلك‏ ‏الذى ‏يقرأ‏ ‏ويكتب‏ (‏الذى ‏تعلم‏ ‏كيف‏ ‏يقرأ‏ ‏ويكتب‏ ‏لأنه‏ ‏كانت‏ ‏لديه‏ ‏الفرصة‏) ‏فإنك‏ ‏إذا‏ ‏أعطيته‏ ‏كتابا‏، ‏فقد‏ ‏يقرأه‏، ‏وقد‏ ‏لا‏ ‏يقرأه‏. ‏فإذا‏ ‏جاء‏ ‏أحدهم‏ ‏وقال‏ ‏لك‏: ‏لا‏ ‏تعط‏ ‏الأمى ‏كتابا‏، ‏فهو‏ ‏لا‏ ‏يقرر‏ ‏واقعا‏ ‏دائما‏، ‏وإنما‏ ‏هو‏ ‏ينبهك‏ ‏إلى ‏نسيانك‏ ‏مرحلة‏ ‏أسبق‏ ‏وألزم‏ ‏وكأنه‏ ‏يقول‏ “‏علم‏ ‏الأمى ‏القراءة‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏تعطيه‏ ‏كتابا”، ولعل‏ ‏هذا‏ ‏ما‏ ‏يعلنه‏ ‏هذا‏ ‏المثل‏ ‏المؤلم‏ ‏فى ‏عمقه‏ ‏الحقيقى، أى ‏أنه‏ ‏يعلن‏ ‏أن‏ ‏من‏ ‏يعلن بالكلمات ‏ضرورة‏ ‏تكافؤ‏  ‏الفرص‏ ‏المبدئية‏  ‏الأولية‏،  ‏فإنه‏ ‏لا‏ ‏ينبغى  ‏أن‏  ‏يتمادى  ‏فى  ‏ادعاء‏  ‏المساواة‏، ‏حتى ‏إذا‏ ‏عجز‏ ‏المحروم‏ ‏أن‏ ‏يستعمل‏، ‏أو‏ ‏يستطعم‏، ‏أو‏ ‏يتفهم‏ ‏طبيعة‏ ‏ما‏ ‏حُرِمَ‏ ‏منه‏ ‏أساسا‏، ‏قيل‏ ‏إنه‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏استغنى ‏عنه‏، ‏وأنه‏ ‏بالتالى ‏لا‏ ‏يستحقه‏.‏

وكأن‏ ‏هذا‏ ‏المثل‏ ‏المحورى ‏الذى بدأنا به ‏ “‏إطعم‏ ‏مطعوم‏، ‏ولا‏ ‏تطعم‏ ‏محروم” ‏هو‏ ‏مجرد‏ ‏إعلان‏ ‏لمستوى ‏معين‏ ‏من‏ ‏الوجود‏ ‏الطبقي‏، ‏فهو‏ ‏يعـرى ‏نتيجة‏ ‏ظلم‏ ‏سابق‏، ‏ولكنه‏ ‏أبدا‏ ‏لا‏ ‏يرسى ‏قاعدة‏ ‏ولا‏ ‏يرضخ‏ ‏لواقع‏.‏

وعلى ‏ذلك‏ ‏فإذا‏ ‏كان‏ ‏هذا‏ ‏المثل‏ ‏الشعبى ‏يعلن‏ ‏حقيقة‏ ‏ما‏، ‏وأنها‏ ‏نقطة‏ ‏بداية‏ ‏فحسب‏، ‏وتذكرة‏ ‏لما‏ ‏كان‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏فى “‏الوقت‏ ‏المناسب” ‏أى ‏أنه‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏للمحروم‏ ‏أن‏ ‏يُحرم‏ ‏لدرجة‏ ‏تصل‏ ‏به‏ ‏ألا‏ ‏ينفع‏ ‏له‏ ‏عطاء‏ ‏بعد‏ ‏ذلك‏، ‏وما‏ ‏لم‏ ‏نأخذ‏ ‏هذا‏ ‏المثل‏ ‏بهذا‏ ‏المنطق‏، ‏فنحن‏ ‏نتهم‏ ‏المثل‏ ‏أنه‏ ‏يؤكد‏ ‏أن‏ ‏يظل‏ ‏المحروم‏ ‏محروما‏، ‏والمطعوم‏ ‏مطعوما‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏لا‏ ‏نهاية‏.‏

الحدس‏ ‏الشعبى ‏لم‏ ‏يوصى بأن‏ ‏أن‏ ‏تطعم‏ “‏شبعانا”‏، ‏بل‏ ‏“مطعوما”‏، ‏والمطعوم‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏استطعم‏ ‏الشيء‏ ‏حتى ‏تذوقه‏ ‏فعرف‏ ‏قدره‏، ‏فهو‏ ‏يقدره‏ ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏أعطيه‏، ‏فيضعه‏ ‏فى ‏مكانه‏، ‏وينتفع‏ ‏به‏ ‏إذ‏ ‏ينفع‏ ‏به‏، ‏لأن‏ ‏من‏ ‏استطعم‏ ‏الشيء‏ ‏الذى ‏ميزه‏ ‏انسانا‏، ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يعيش‏ ‏مكتفيا‏ ‏بحق‏ ‏منفرد‏ ‏هكذا‏، ‏بل‏ ‏هو‏ ‏أحوج‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏يتيح‏ ‏الفرصة‏ ‏لغيره‏، ‏بما‏ ‏أعطى ‏فيعطي‏، ‏حتى ‏تتسع‏ ‏دائرة‏ ‏إنسانيته‏، ‏وهذه‏ ‏التفرقة‏ ‏هى ‏التى ‏تظهر‏ ‏حين‏ ‏نتذكر‏ ‏أن‏ ‏المثل‏ ‏لم‏ ‏يقل‏ “‏إطعم‏ ‏شبعانا” ‏وإنما‏ ‏قال‏: ‏“إطعم‏ ‏مطعوما”،‏ ‏أما‏ ‏الشبعان‏ ‏فقد‏ ‏نهى ‏عن‏ ‏إطعامه‏ ‏إذ‏ ‏يقول‏ مثل آخر فى ذلك: 

  • “‏الأكل‏ ‏فى ‏الشبعان‏ ‏خساره”‏

ذلك لأن‏ ‏الشبعان‏ ‏الذى ‏يقبل‏ ‏أن‏ ‏يأكل‏ ‏بعد‏ ‏الشبع‏، ‏هو‏ مثال للطمع والاغتراب بالغوص فى ‏دوامة‏ ‏تدفع‏ ‏إلى ‏القاع‏، ‏ولعل‏ ‏هذا‏ ‏الشبعان‏ ‏الذى ‏لا‏ ‏يشبع‏ (‏لا‏ ‏النافية‏)، ‏أو‏ ‏الذى ‏إذا‏ ‏شبع‏ ‏لا‏ ‏يفيض‏ ‏على ‏غيره‏ ‏من‏ ‏ناتج‏ ‏ارتوائه‏، ‏وإنما‏ ‏يغوص‏ ‏فى ‏دوامته‏ ‏الذاتية‏، ‏هو‏ ‏الخسيس‏ ‏الذى ‏يعنيه‏ ‏الموال القائل‏:‏

  • أصل‏ ‏الخسيس‏ ‏لو‏ ‏شبع‏ ‏زى ‏السباخ‏  ‏لو‏ ‏زاد

    بيتلف‏ ‏الأرض‏ ‏و‏‏لا‏ ‏بتجبش‏ ‏زرعتها

وهنا‏ ‏تنبيه‏ ‏جديد‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏للعطاء‏ ‏حدود‏، ‏وحدوده‏ ‏هو‏ ‏حاجة‏ ‏الفرد‏ ‏إلى ‏الآخر‏، ‏وحاجة‏ ‏المعطى ‏للعطاء‏ ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏، ‏ثم‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏الفيض‏ ‏بهذا‏ ‏العطاء‏، ‏ثم‏ ‏نوع‏ ‏وقدر‏ ‏عائده‏ ‏عليه‏ ‏و‏ ‏على ‏غيره‏، ‏وقد‏ ‏يكون‏ ‏المطعوم‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏أخذ‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏حاجته‏، ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏الشبعان‏ (‏دون‏ ‏استطعام‏) ‏لا‏ ‏يهمه‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏يلتهم‏  ‏ويلتهم‏ ‏حتى ‏يغمى ‏عليه‏، ‏إذ‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يتوسط‏ ‏أو‏ ‏أن‏ ‏يكف‏ ‏عن‏ ‏الاستزادة‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏كانت‏ ‏الزيادة‏ ‏مفسدة‏: ‏وهكذا‏ ‏يكمل‏ ‏الموال‏:‏

  • والملح‏ ‏حسن‏  ‏الطعام‏  ‏وبيفسده‏ ‏لو‏ ‏زاد

   وشجرة‏ ‏ما‏ ‏فيهاش‏ ‏ثمر‏ ‏يا‏ ‏سوء‏ ‏زرعتها

فالإطعام‏ ‏له‏ ‏حدود‏، ‏ووظيفة‏، ‏وجرعة‏ ‏مناسبة‏، ‏وإن‏ ‏لم‏ ‏يساهم‏ ‏إطعام‏ ‏المطعوم‏ ‏فى ‏التقليل‏ ‏من‏ ‏عدد‏ ‏المحرومين‏ ‏باستمرار‏، ‏فلا‏ ‏جدوى ‏منه‏، ‏لأن‏ ‏العطاء‏ ‏والعمل‏ ‏والزرع‏ ‏والكلمة‏، ‏كلها‏ ‏تقيَّم‏ ‏بعائدها‏ ‏على ‏دوائر‏ ‏الأكثر‏ ‏فالأكثر‏ ‏من‏ ‏البشر‏ ‏الأحوج‏ ‏فالأحوج‏:‏

  • عمل‏ ‏مافيهش‏  ‏أمل‏  ‏يبقى  ‏بلاش‏  ‏منـه

وشجر‏  ‏ما‏  ‏فيهش‏  ‏ثمر‏  ‏برضه‏  ‏بلاش‏  ‏منـه

وخلف‏  ‏ما‏  ‏فيهش‏  ‏نفع‏  ‏غوَّر‏  ‏بلاش‏  ‏منـه

ورغم‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏، ‏فالحدْس‏ ‏الشعبى ‏منتبه‏ ‏تماما‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏المسألة‏ ‏ليست‏ ‏مجرد‏ “‏دعوة” ‏تقول‏ ‏لمن‏ ‏يأخذ‏: ‏أن‏ ‏يعطي‏، ‏ففى ‏فترات‏ “‏عدم‏ ‏الأمان‏ ‏العام” ‏و”‏الاغتراب‏ ‏الذاهل” ‏الذى ‏يثير‏ ‏التنافس‏ ‏حتى ‏يشعل الطمع من ناحية، والحقد المسعور من ناحية أخرى‏، ‏لا‏ ‏نتوقع‏ ‏لا‏ ‏من‏ ‏المطعوم‏ ‏و‏ ‏لا‏ ‏من‏ ‏المحروم‏ ‏خيرا‏، ‏الأول‏ ‏قد‏ ‏ينسى ‏طعم‏ ‏ما‏ ‏طعم‏ ‏حتى ‏يصبح‏ ‏شبعانا‏ (‏خسيسا‏) ‏لا‏ ‏يشبع‏، ‏والثانى ‏قد‏ ‏يفقد‏ ‏الأمل‏ ‏فى ‏أى ‏حق‏، ‏حتى ‏يتنازل‏ ‏حتى ‏عن‏ ‏بعض‏ ما ‏وصله‏ ‏من‏ ‏فضلات‏، ‏ويتفكك‏ ‏الناس‏ ‏عن‏ ‏بعضهم‏ ‏تفككا‏ ‏يعلن‏ ‏موت‏ ‏الكيان‏ ‏الاجتماعى ‏بالعزلة‏،  ‏واللامشاركة‏:‏

  • خليك‏ ‏فى  ‏حالك‏  ‏بلاش‏  ‏اللف‏  ‏عالفاضي

ما‏ ‏عدش‏  ‏فيه‏  ‏حدْ‏  ‏يستحمل‏  ‏بلاوى  ‏حدْ

وهكذا‏ ‏تُجهض‏ ‏مسيرة‏ ‏دوائر‏ ‏العطاء‏ ‏الحتمية‏ ‏التى ‏تعطى ‏للمجتمع‏ ‏صورته‏ ‏الإنسانية‏ ‏وتصبح‏ ‏القاعدة‏ ‏هى “‏نفسى ‏وبعدى ‏الطوفان” ‏الا‏ ‏ما‏ ‏ندر‏. ‏

  • فى ‏الألف‏  ‏واحد‏  ‏ملان‏  ‏بيكب‏  ‏عالفاضي

والغل‏  ‏بحره‏  ‏اتسع‏  ‏أصبح‏  ‏مفيش‏  ‏له‏  ‏حد

وقبل‏ ‏أن‏ ‏نوجز‏ ‏ما‏ ‏ذهبنا‏ ‏اليه‏، ‏نستأذن‏ ‏القاريء‏ ‏فى ‏إعادة‏ ‏كتابة‏ ‏الموال‏ “‏على ‏بعضه”، ‏عله‏ ‏يقرأه‏ ‏بنفسه‏ ‏لنفسه‏ “‏معا” ‏دون‏ ‏تدخل‏، ‏ثم‏ ‏نرى‏:‏

أصل‏ ‏الخسيس‏ ‏لو‏  ‏شبع‏  ‏زى ‏السباخ‏ ‏لـو‏ ‏زاد

بيتلــف‏  ‏الأرض‏  ‏و‏ ‏لا‏  ‏بتجـــبش‏  ‏زعـــتها

والملح‏  ‏حسن‏  ‏الطعام‏….. ‏و‏ ‏بيفسده‏  ‏لـو‏  ‏زاد

وشجره‏  ‏ما‏  ‏فيهاش‏  ‏ثمر‏  ‏يا‏  ‏سوء‏  ‏زرعتهـا‏ ‏

عمل‏  ‏ما‏  ‏فيهش‏  ‏ثمر‏  ‏برضه‏  ‏بـلاش‏  ‏منــه

خلف‏  ‏ما‏  ‏فيهش‏  ‏نفع‏،  ‏غـوّر‏  ‏بـلاش‏  ‏منه

فى  ‏الألف‏  ‏واحد‏  ‏ملان‏  ‏بيــكب‏  ‏عالفاضـي

والغل‏  ‏بحره‏  ‏اتسع‏  ‏أصبـح‏  ‏مفيش‏  ‏له‏  ‏حـد

خلاصة‏ ‏القول‏:‏

إن‏ ‏المثل‏ ‏الشعبى ‏لا‏ ‏يُقرأ‏ ‏وحده‏.‏

‏ ‏وإن‏ ‏الكلمة‏  ‏والجملة لا تقرأ إلا فى ‏سياقها‏، ‏وثم فرقْ ‏ ‏بين‏ ‏المطعوم‏ ‏والشبعان‏. ‏

وإن‏ ‏المثل‏ ‏ليس‏- ‏فقط‏-‏ تقريرا‏ ‏لما‏ ‏نريد‏، ‏ولكنه‏ ‏تذكرة‏- ‏أيضا‏- ‏بما‏ ‏ينبغى،

 ‏فنحن‏ ‏لا‏ ‏نعلم‏ ‏كيف‏ ‏نشأ‏ ‏المثل‏، ‏ولكننا‏ ‏نعرف‏، ‏أو‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏نعرف‏، ‏أين‏ ‏يوضع‏، ‏ولماذا؟

[1] – يحيى الرخاوى: “مثل وموال” دار الهلال – 1992

[2] –  يحيى الرخاوى: مجلة وجهات نظر (“طلبَ‏ ‏الغنى ‏شقفة‏، ‏كسَر‏ ‏الفقير‏ ‏زيره‏” مخاطر‏ ‏استيراد‏ ‏الأفكار‏ ‏والمناهج‏ ‏والمشاكل‏) نوفمبر 2002.

[3] –  يحيى الرخاوى: “مثل .. وموال” قراءة فى النفس الإنسانية”  دار الهلال  1992.

[4] – دراسة‏ ‏فى ‏علم‏ ‏السيكوباثولوجى (‏يحيى ‏الرخاوى) ‏ص‏300، شرح ديوان سر اللعبة (‏من‏ ‏فرط‏ ‏الجوع‏ ‏التهم‏ ‏الطفل‏ ‏الطفل‏..). 

‏ ‏وذات‏ ‏مرة‏ ‏قديمة‏ ‏باكرة‏، ‏كتبت‏ ‏شعرا‏ ‏مباشرا‏ ‏يقول‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏المعني‏:‏

“‏إيش‏ ‏يفهم‏ ‏فى ‏الغنوة‏ ‏الأطرش؟

إيش‏ ‏يفهم‏ ‏فى ‏الصورة‏ ‏الأعمي؟

إيش‏ ‏يفهم‏ ‏محروم‏ ‏من‏ ‏يومه‏، ‏فى ‏الحنية‏، ‏والذى ‏منه؟”‏

“‏أغوار‏ ‏النفس”، ‏يحيى ‏الرخاوي‏، 1978،‏ص‏197، ‏دار‏ ‏الغد‏ ‏للثقافة‏ ‏والنشر‏.     ‏

[5] – الزنجبيل‏، ‏تنطق‏ ‏أحيانا‏ ‏الجنزبيل‏، ‏وهو‏ ‏شراب‏ ‏حار‏، ‏ثمنه‏ ‏فوق‏ ‏المتوسط‏،  ‏يوجد‏ ‏عند‏ ‏العطارين‏، ‏ويقال‏ ‏أن‏ ‏له‏ ‏فوائد‏ ‏طبية‏ ‏متعددة‏،  ‏ولا‏ ‏يشربه‏ ‏إلا‏ ‏الندرة‏، ‏والمقصود‏ ‏هنا‏ ‏هو‏ ‏أنه‏ ‏شراب‏ ‏الخاصة‏ ‏من‏ ‏البشر‏. ‏يشربونه‏ ‏فى ‏ظروف‏ ‏خاصة‏، ‏ناهيك‏ ‏عن‏ ‏أكله‏.‏

[6] –  يمكن الرجوع إلى مقال وجهات نظر هامش رقم (2)

[7] – عبرت‏ ‏عن‏ ‏خطورة‏ ‏موقف‏ ‏الانتظار‏ ‏هذا‏ ‏بصورة‏ ‏مباشرة‏:‏

“‏مش‏ ‏يمكن‏ ‏لعبة‏ “‏إستني” ‏تفضل‏ ‏على ‏طول؟

القلب‏ ‏مقدد‏ ‏والجرح‏ ‏ممـــد‏، ‏فى ‏الأرض‏ ‏الشوك‏ ، ‏والميه‏ ‏عصير‏ ‏صبار”  (‏المرجع‏ ‏السابق‏، ‏ص‏198).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *