نشرة “الإنسان والتطور”
الثلاثاء: 12-8-2014
السنة السابعة
العدد: 2538
الثلاثاء الحرّ: قصة قصيرة:
فى ضيافة “عم علوان”
– 1-
قفز عربى من العربة، وأخذ يوجه قائد سيارتنا الذى كان يخفى خوفه بزهو وإشارات موافقة، كانت الفجوة بين الجبل وبين الصخرة على شاطئ خليج العقبة شمال “عصلة” (وهبه) مباشرة ضيقة والأرض وعرة بما يبرر هذه الأناة كلها. وكان يمكن أن نركن العربة قبل الموقع بعدة أمتار ونتجنب هذه المغامرة، لكن هذا المرور من هذا الممر القصير الضيق كالـثقب كان من أهم طقوس زيارة هذا الموقع، وحين عبرت العربة إلى رحم الوادى، لم يكف عربى عن الكلام والإشارة والشرح والتوجيه، كان شابا نحيفا ً، شديد القفز، واضح الإشارة، حاد الانتباه، خفيف الظل، لا يفرض نفسه مع أنه لا يكف عما يفعل. لم يكن يرتدى سوى سروالاً تحتياً طويلاً كان ـ فى يوم من الأيام ـ له لون أبيض.
– 2 –
العجيب، كما قال عربى، واضطرّنا أن نصدقه، أنه لم يكن بدويا من أهل المنطقة، قال إنه يعيش الآن فى القاهرة. لم يقل أين؟ مع أنه أصلا، هكذا أكّد لنا من جديد، من الفيوم، ووالده ما زال هناك، وإنه وُلد بعد أن غادر اليهود المنطقة بأربع سنوات ـ عمره 71 سنة الآن ـ فكيف يذكرهم؟ (كان يرد على سؤال أحدنا) ـ وقال إن له أصدقاء كثيرين هنا، وهو يحضر لزيارتهم والإقامة والعمل معهم كثيرا لكنّه لا يقيم هنا بصفة دائمة، ولم يقل لنا ماذا يفعل بين حضوره وحضوره؛ وقال إنه يتعلم اليهودية (العبرية) والألمانية حين يحضر، ويقوم بدور الدليل دون مقابل أحيانا ـ كما يفعل معنا هذه الليلة ـ وراح يحكي وتاريخه يقفز مع حكيه، ولا أحد يصدق كل هذا الذى بدا عكس مظهره، ولون بشرته، وتقديرنا لموطنه الأصلى. بدا لنا يقينا صبىاً بدوىاً من أهل المنطقة لا أكثر ولا أقل، وأنه يعمل بهذه السياحة الخاصة المشهورة فى عسلة، وأنه مؤهل للعمل فى السياحة”الحميمة جدا” قريبا جدا.
– 3 –
جلس عربى فى صندوق أمتعة السيارة وهى مفتوحة، فافتقدنا حضوره وطلاقته ووصفِه لحوار الظلام مع ضوء القمر. وأثناء عودتنا، لاح ضوء بعيد على جانب الطريق غير الممهد (المدق) فتوقفنا، فقفز عربى يسأل إن كان قد أصاب العربة ما استدعى الوقوف. وكنا فى حاجة إلى أن نسأله نحن عن هذا المكان، وهذا المبنى، وهذا الضوء، وهؤلاء بضعة النفر الجالسين أمام المبنى، حول المائدة يتسامرون أو …، أو ماذا يا عربى؟
ردّ عربى بلا تردد، وراح يفتى عن الغطس، وعن الثقب الأزرق، والنفق المرجانى الذى على عمق “كذا….”، والذى طوله “كيت…” وحكى لنا عن الألمانى المفقود من أربع سنوات، وعن زوجته التى تحضر كل عام مصرة على أنها ستلقاه هنا، وقال إننا يمكن أن نتناول باردا أو ما نشاء، وجلسنا على مائدة أبعد قليلا من موقع بضعة النفر سالفى الذكر، وراح عربى يذهب ويجىء بيننا وبينهم، فإذا ذهب رطن كأنه يتحاور معهم، وإذا عاد شرح وكأننا نفهم ما يريد.
وسأله أحدنا:” لماذا؟”. فسأله عربى بدوره: ” لماذا ماذا؟” وكأنه لا مكانهنا لمثل هذا السؤال أصلا، ألمان. . ألمان، ويهود أيضا، كانوا ألماناً أو كالألمان، يغطس الواحد منهم فى منتصف الليل إلى عمق البحر، ويمضى بين شعب المرجان فى نفق مجهول ويخرج أو لا يخرج، ماذا فى هذا، حتى نسأل لماذا؟
ألم تدخل عربتنا منذ قليل بين الجبل وبين الصخرة دون لماذا؟
ثم أدركنا، كل على حدة، لماذا القاهرة ـ هكذا ـ حزينة وهى تلبس ثوب الغبار الأغبش طول العام.
1985