نشرة “الإنسان والتطور”
25-11-2010
السنة الرابعة
الحلقة الواحد والخمسون
الجمعة 21 / 4 / 1995
..بيتى!! كما كل مساء جمعة، هو فى بيتى، قلت مرارا أن الاستاذ سمح لى ألا أكون فى استقباله فى بيتى فى نهاية الاسبوع، فحرمت من التعرف بشكل أوثق على مجموعة الجمعة الطيبة القريبة النشطة المحبة (1)وفرحت بأنهم يحضرون فى ضيافته هو.
العدد قليل، والجو ربيع، والدنيا بخير
الأستاذ أسامة عبد الكريم، شقيق صاحبة مجلة شموع لوتس عبد الكريم، ألمانى الإقامة والجنسية (مزدوجة)، هو الذى حكى لى الاستاذ عنه، وودّ لو أنه يعرّفنى به، وقد عرفته، رجحت أن عمره يناهز عمرى أو أكثر قليلا، لكنه يتحدث مع الاستاذ عن أحداث ثورة 19 وحول معاهدة 36 بما لا أعرف ولم أعايش، فرحت به وتعجبت من هذا ”المريد” الذى يأتى من بعيد، والذى حدد ميعاد سفره فى الثالثة صباحا (أى بعد انتهاء جلسة الليلة بخمس ساعات فقط، ومع ذلك حضر ليأخذ جرعة لازمة من الاستاذ قبل سفره) بالإضافة إليه كان هناك يوسف عزب، وقدرى (أدريان) ، وحافظ عزيز، كانوا موجودين باكرا، ثم لحقنا محمد بعد بعض الوقت ثم الصديق الدائم زكى سالم ثم الآخرون.
بدا حديث الليلة بالتاريخ، أثاره الأستاذ أسامة عبد الكريم واستجاب له الاستاذ بدقة وحيوية، تكلموا عن المهاجرين، من أفراد جماعة اليد السوداء، وعن واحد من أسرة عنايت حكم عليه غيابيا فى حادث مقتل السردار وسافر إلى السويد وظل هناك حتى الآن (وتساءلوا إن كان مازال على قيد الحياة) وعن واحد اسمه نجيب..(غالبا)، مسلم، وهو الذى وشى بقتلة السردار، ورفضه الناس، أغلب الناس، وسافر وأمضى عشرات السنين فى الخارج، وحين عاد إلى الوطن، لم يستقبله أحد، ولم يرحب به أحد، ولم يستطع البقاء فسافر من جديد.
أظن أن الحديث كان يدور حول قوة جموع الناس الضاغطة والدالة والقادرة على القبول وعلى الرفض، وعن قيمة الوعى العام فى تحديد أحكام التاريخ، فى هذا السياق جاء ذكر واحد لواء اسمه شاهين (باشا)، كان يسكن العباسية جارا من جيران الاستاذ، و حسب حكى الأستاذ: كانت له ثلاث بنات، وكان شديد القسوة فى معاملة المتظاهرين والثوار ضد الانجليز، وبدا كرهه الناس كرها لا مزيد عليه لما أقدم عليه من إهانات وسحل وسحق وإيذاء للمتظاهرين والثوار، وفى آخر حياته رفضه الناس رفضا كاملا، وأحس هو بذلك فاعتزلهم كئيبا حتى بنى لنفسه ما يشبه الاستراحة فى المقبرة، حتى إذا مات لا يحتاج أن يسير فى جنازته أحد، وكانت بناته حلوات، واحدة منهن أصبحت ملكة إذ تزوجها آخر ملوك ليبيا من عائلة السنوسى، واكتشف الأستاذ بالمصادفة أن ابنة إحدى هذه البنات قد تزوجها إبن اخته، وحكى لنا أنه أثناء واجب عزاء عند ابن أخته هذا، وأثناء جلوس الاستاذ فى الصالون، وجد شاهين باشا فى مواجهته معلقا على الحائط (وكان لايعرف الصلة تحديدا بينه وبين زوجة ابن أخته) صورة بالحجم الطبيعى، وكانت له نظرة ثاقبة وصارمة وقاسية، وكان واقفا شاهرا ذراعه وقفة ذات دلالة، وقد أحس الأستاذ (مازال هو الذى يحكى) برجفة، وخفق قلبه خوفا حقيقيا من الرجل والنظرة حتى غيّر موقعه فعلا وحرّك كرسيه بحيث لا تأتى جلسته فى مواجهة صورة شاهين باشا.
ويضيف الاستاذ أن الناس حين ألّفوا ورددوا فى العباسية، أغنية “على عِيلِيوَةْ، “ياللى” ضرب الزُّمّيرّةْ ،…ياللى..،”، وهى الأغنية التى انتشرت فى كل البلاد بعد ذلك، أنهوها بذكر شاهين هذا الذى مات دون أن ينجب ولدا، وكنت أحفظ الأرجوزة كلها منذ صغرى، وإن كنت لا أعرف أصلها، وتعجب الأستاذ وطلب منى أن أرددها، ففعلت كما كنا نغنيها أطفالا بنغمتها الطروب، وعلى ما أذكر كنا نردد “ياللوا”…، بدلا من “ياللى” كما ذكرها الأستاذ، وكان البنات فى الأرجوزة تسعة (ربما لزوم السجع)، وليسوا ثلاثة كما ذكر لنا الأستاذ، تقول الأرجوزة:
على عليوه ،…ياللوو..،
ضرب الزميرة ،…ياللوو..،
ضربها حربى ،…ياللوو..،
نطت فى قلبى ،…ياللوو..،
قلبى رصاص ،…ياللوو..،
أحمد رقاص ،…ياللوو..،
رقاص على مين ،…ياللوو..،
عَالىَ شاهين ،…ياللوو..،
شاهين ما مات ،…ياللوو..،
خَلِّفْ بنات ،…ياللوو..،
خلفهم تسعه ،…ياللوو..،
قاعدين عالقصعة ،…ياللوو..،
ياخى جتهم لسعة ،…ياللوو..،
ويبدو أن الأستاذ كان يحفظ بعضها فقط، أو كان يركز على الجزء الأخير منها فحسب، ووجدت نفسى وأنا أسترجع كلماتها أنها قد تعنى فعلا مواجهة الثوار لرصاص شاهين بقلوب أقوى من الحديد (الذى ربما تشير إليه الأغنية هنا أنها قلوب من الرصاص – قلبى رصاص ياللوو) ثم يرقص الناس (أحمد رقاص)، فرحا بالتحدى والنصر على هذا القاهر.
ثم يتبادل الأستاذ والأستاذ أسامة أغانى شعبية أخرى لها علاقة بالثورة تخاطب اللنبى وتعايره أننا أخذنا الاستقلال والحرية بالرغم منه ومن حركاته ويذكر يوسف عزب، أو حافظ أو كلاهما صورة شاهين باشا التى ظهرت بشكل ما فى رواية الاستاذ ”صباح الورد” وهى من الروايات النادرة للأستاذ التى لم أقرأها بعد.
ويذكر الاستاذ تضحيات أبناء الشعب العاديين من أجل الثورة والاستقلال فيأتى ذكر واحد كان يحضر (يصنّع) القنابل اليدوية فى بدروم النقراشى باشا شخصيا، ومع ذلك رفض الاعتراف عليه حتى أعدم، ويذكر الاستاذ أن اسمه كان فيه موسى ويذكر الأستاذ أسامة عبد الكريم أن اسم هذا الشخص كان فيه محمود أو الخراط، حاولت أن أجمع كل ذلك فأصبح اسمه عندى “محمود موسى الخراط” (وهو ليس كذلك غالبا).
وعلى ذكر النقراشى باشا أقول للاستاذ – ربما أعيد عليه – لقد فهمت حبك لسعد، لكننى لم أستوعب حبك للنحاس باشا، مع أننى شخصيا كنت أحبه لطيبته برغم أننى لم أكن وفديا أبدا، كما أن العقاد برغم تقديره لسعد حتى كتب فيه كتابه الرائع، كان إذا ذكر النحاس باشا على حد رواية أنيس منصور تهكم ووصفه بأوصاف لا أحب أن أكررها نظرا لحبك له ولحبى له أيضا، وأستدرك بسرعة أننى لا أطلب تفسيراً بمعنى التفسير، فالحب لا يحتاج إلى تفسير، لكننى أحب أن أتعرف على النحاس باشا أكثر من خلال هذه العاطفة النقية، قلت له: صحيح أننى تيقنت بكل وسيلة أنك إنما تحب كل الناس ما فى ذلك شك، لكن هذا الحب للزعيم الثانى شغلني، برغم أنك حدثتنا عنه مرارا، ولكن عندى رغبة أن أسمع منك ذلك ثانية .
ويقول الاستاذ: عندك حق، أنا اعترف أننى أحببت النحاس حبا جما، كان عندى يمثل امتدادا لسعد، كما يمثل الطيبة المصرية القوية السلسة، وأذكر أننى حين كنت أجلس فى قهوة “لابيه” فى الاسكندرية (ذكرنى اسمها بقهوة La Pais فى ميدان الأوبرا فى باريس كانت ملتقى الزعماء المصريين أيضا) وكان ذلك اثناء انتقال الوزارة إلى الاسكندرية، وكان النحاس باشا يمر فى ساعة معينة بعد الظهر، كنت أنتظر مروره وهو يتمشى فى تلك الساعة بالثانية وبشوق عارم، وحين يمر أشعر يفرحة طاغية لأنى لمحته، وكأنها فرحة الحاج الذى حقق الزيارة.
وأعرج بالحديث إلى النقراشى وأحمد ماهر، فيذكرهم الاستاذ بنفس العاطفة والولاء، ويقول إنك لاتعلم، إنه حين خرج النقراشى وأحمد ماهر وهيكل من الوفـد خرجنا معهم لخلاف مبدئى، معظم ثلتنا خرجت وأصبحنا مع النقراشى وأحمد ماهر، لكن النقراشى أخطأ خطأ العمر لأنه قبل أن يزوّر الانتخابات، أو وافق على ذلك وهو وزير داخلية، هنا انهار أمام أعيننا، فلا يوجد شيء فى الدنيا يبرر التزوير واختراق المبادئ، فرجعت إلى الوفد، لكن كثيرين ممن خرجوا معى وجدوا تبريرا لهذا التزوير، ولم يرجعوا.
وتطرق الحديث عابرا إلى سيناء حتى وصل إلى تاريخ ضمها إلى مصر وهو حوالى 1836 ( على حد قول أستاذ أسامة وذاكرتى) وقلت له: كتمِّ على الخبر أحسن اليهود يسمعوا، وقال أستاذ. أسامة: هم يعرفون تماما تاريخ منحها لمحمد على بعد أن رفض عروضا أوسع واستمر فى حملته على الشام
ثم ثارت قضية “الأب” (هكذا أسميها بديلا عن ما يناقش تحت عنوان: حاجة الشباب إلى المثل الأعلى) قلت للاستاذ إن جيلكم، وإلى درجة أقل جيلى، نشأ وعنده شخص يحبه، يهتف له، ويفخر به، ينتمى لما يمثله، (وليس بالضرورة يريد أن يكون مثله – لهذا أرفض تسمية: المثل الأعلى) – وجيلى، إلى درجة أقل – كان عنده بعض ذلك، ولكن بشكل أقل تجسيدا فى شخص واحد، مثل حسن البنا، وبعض قادة اليسار مما لا أذكر، فماذا عن جيل محمد إبنى، (وكان حاضرا)، وجيل عمر إبنه؟ لم يرد الاستاذ، وقال “قدرى” إن الانتماء الآن ليس لفرد، ولاحتى لوطن وإنما لمنظومة من المعلومات، وقال حافظ (على ما أذكر) وشاركه آخر لا أذكره أيضا، إن هذه ليست قضية محلية وإنما هى قضية عالمية، فلا أحد ينتمى لبيل كلينتون مثلما كان الحال مع لينكولن أو حتى أيزرنهاور، إن مراحل التاريخ التى كانت تسمح بتجسيد روح الأمة فى فرد قد انتهت، وتذكرت آخر من يمثل هذه الفكرة وقد عاصرته سنة 1969 فى باريس وهو شارل ديجول حين كان يظهر فى التليفزيون يدعو أنصاره ليتجمعوا ويتظاهروا فى ميدان ”الإتوال” عند قوس النصر على قمة شارع الشانزلزييه، ردا على تجمع خصومه من الاشتراكيين فى الحى اللاتينى، وتكون مشاهد هذه التجمعات التى يصورها التليفزيون، وتذاع على الهواء مباشرة بمثابة استفتاء على تأييد ديجول أو رفضه، وأذكر كيف استقال ديجول لمجرد أن استفاء أجراه لم يصل إلى ما كان يتوقعه برغم فوزه بالأغلبية، فعلا انتهى عصر البطل الأوحد، والزعيم المتفرد، والقائد الشعبى الأسطورة، والملِهم المعصوم، كما انتهت الرواية التى تدور حول البطل الفارس أو البطل المنقذ أو البطل فقط، ورغم اعترافى بهذه الملاحظات الدالة، ورغم تعميم القضية حتى بدت وكأنها سمة العصر، أو سننها قضية عالمية الحضور إلا أن الأستاذ لم يعقب تحديدا، فانبريت أبدى رأيى وأننى أتصور أن المبدع – مثل الاستاذ – يمكن أن يقوم بهذا الدور، وإن لم يكن دورا قياديا فهو دور محورى، وذلك لأننى لا أتصور إمكان أن ينمو الإنسان نموا طبيعيا دون “أب”، بمعنى دون حضور قوى لشخص محورى متكامل يتمحور حوله الإبن، وبلغة “التقمص”، دون قميص متين جاهز يلبسه الأصغر، يحتمى به حتى يشتد عوده فلا يحتاجه فيخلعه باختياره، والأديب المعاصر القوى الحضور فى وعى الناس، مثل الاستاذ، قد يقوم - بهذا الدور بعد اختفاء الزعماء، ثم إنى تماديت فى الحديث حتى بدا لى أننى أتراجع فقلت: إن لى تحفظا على ما قلت، وهو أن الأديب لا يحضر فى وعى الناس بشخصه وإنما بإنتاجه، والمطلوب حسب الفرض الذى طرحته هو أن يوجد شخص حقيقى له سلوك وحضور وكلام وأخلاق وأخطاء وهيبة، تحضر فى وعى الآخر نتيجة لتعامله معه واقعا يسير على الأرض.
لم يعقب أحد ربما لأننى عقبت على نفسى، وأغلقت القضية دون أن تحل، ولم أعرف كيف تحل أصلا، وأظن أن النقاش انتهى عند ذلك.
ثم عاد الحديث إلى كتاب العقاد عن سعد زغلول فأثنى عليه الاستاذ ثناء حسنا، وقال إنه من فرط إعجابه به أثناء صدوره كتب (أظن فى الاهرام) يقترح أن يقرر هذا الكتاب على الطلبة فى المدارس، فاستدعاه سلامة موسى فى مكتبه وقال له: ما هذا الذى تكتبه وتدعو له، نحن ما صدقنا (أو أنت ماصدقت) أنك أصبحت موظفا لك مرتب، هل تريد أن تجد نفسك فى الشارع غدا؟ وسألته من أى موقع قال لك سلامة موسى هذا الكلام؟ فقال: أبدا من موقع النصيحة والخبرة الأعمق بطبيعة الجاري.
أثناء توصيلى الاستاذ إلى باب السيارة خارج بيتى مالَ علىّ وهو متردد وقال: إن الاثنين القادم سيكون شم النسيم فما هو نظامكم؟ قالها متوجسا أن نلغى الخروج لارتباطاتنا الشخصية،
قلت له: إطمئن كل شيء كما هو بالثانية،
فانفرجت أساريره وابتسم راضيا .
[1] – (التى واصلت اجتماعات الجمعة حتى الآن سنة- 2010- دون سائر ثلل وجماعات الأيام الأخرى، حتى الحرافيش، أعنى ملحق الحرافيش لم يواصلوا الاجتماع! وهل هناك حرافيش بدونه؟)