المقدمة
المقدمة
مستشفى
دار المقطم للصحة النفسية
معنى المجتمع العلاجى
أ.د. يحيى الرخاوى
استهلال
1) بعد سبع عشرة عاما من المحاولة المتصلة عرفنا الناس أكثر مما عرفنا أنفسنا لهم.
فجاء أحدهم يقول أننا نمارس جراحة النفوس وليس طبها، فسعدت أشد السعادة حيث أننى كنت أدرس لتلاميذى أنه لم يبق فى الطب المعاصر من الفن إلا فن الجراحة، وفن الطب النفسى، أما بقية الطب فقد أصبح إما كيمياء، أو أجهزة.
وتعبير هذا المريض الفاضل- وأهله- لم يقصد بمضمون الجراحة أنها ” جزر ” أوقسوة، بل إنه قصد المعانى التى نعيشها ونوصلها من خلال هذا المجتمع العلاجى، وهى:
حسم القرار، وبتر الفاسد، وفن اللأم
حسم القرار، وبتر الفاسد، وفن اللأم
3) ثم جاء فاضل آخر- بعد أن استنفد ما استنفد- وطلب منا أن نقوم بتأهيل ابنه، وشرح مقصده أنه سمع أننا نقوم بالتأهيل، ولذلك فهو يحاول أن يجعل ابنه يتقن حرفة ما، واضطررنا أن نشرح له معنى التأهيل النفسى الذى نحاوله، وهو أننا نفك الجمود لنعيد التنظيم فتنطلق القدرات، وبعد لأى أدرك، ووافق، وبدأنا حمل الأمانة آملين فى ما يمكن.
وبدأ زملاء كرام، لا يعتقدون ما نعتقد، فيجتهدون مع مرضاهم بكل علم، وكيمياء، يجتهدون فى إصلاح ما أفسد الدهر، لكنهم بثقة وأمانة، يحيلون إلينا بين الحين والحين ما يتصورون أنه يكمل ما بدأوا، وأننا نستطيع ذلك بفضل ثقتهم، وحسن ظنهم فيما نعمل.
فيوفقنا الله حينا
ولايحالفنا الحظ حينا
لكننا نستمر فى كل حال.
4) ثم توليت منصبا جامعيا، أتيحت لى فيه فرصة أن أكتب موجزا شديدا لما هو طب نفسى لطالب الطب فى مرحلة البكالوريوس، وللطبيب العام إن أمكن، فإذا بى أكتب الأمراض النفسية جميعها – مضطرا طبعا- متضمنة الخطوط العامة لعلاجها فى خمس وستين صفحة لا غير، وإذا بأحد الزملاء الأساتذة فى فرع تخصصى ممن يعرفوننى من قديم يثنى على ما كتبت، ويقول لى أنه فهم من هذا الموجز منى وعنى ما لم يفهمه من مطولات أخر و مشاركة سنين.
5) وكنا قد دأبنا منذ عامين وأكثر على أن نكتب تقارير مسهبة، وأن نضمنها ما أسميناه التشخيص التركيبى (أى كيف تتركب الشخصية الآن، وما نوع علاقات أجزائها ببعضه)، ثم ننهى التقرير بتوصيات مطوله لا يمثل الدواء فيها إلا جزءا يسيرا جدا من التوصيات، رغم التركيز على أهميته وحتم الإنتظام عليه بحسب التعليمات، وتعمدنا أن تكون هذه التقارير باللغة العربية، وأن نسلمها للمريض وأهله، وأن نناقشهما فيها قبل الصياغة النهائية، وإذا بأغلبيهم يقدرون ما نفعل، ويتعاونون أكثر مما كنا ننتظر، وإذا بالزملاء الذين تقع فى أيديهم هذه التقارير يقررون أنهم يدركون ما نقصد، وأنهم يحاولون تنفيذ التوصيات لإكمال ما بدأنا كما يمكن، وأن اللغة الطبية – هكذا- هى أقرب إلى الواقع، وأقدر على التحقيق.
6) ثم تطلب منا زميلة فاضلة أن نرسل لها حيث تعمل بعيدا عن مصر ما يساعدها فى شرح فكرة المجتمع العلاجى لمن تريد أن تنصحهم بالإستعانة بما نفعل.
7) ثم جاءنى أحد الزملاء الأفاضل يطلب منى مقالا عن المجتمع العلاجى لينشره لعامة الناس فى دليل طبى علمى أمين، فكتبت ما سيراه القارئ هنا، واعتمدت فى كل ذلك على خبرتنا فى هذا المستشفى بوجه خاص.
***
هذا، وقد كنا قد عزفنا منذ بدء هذه المحاولة- فى هذه المستشفي- المجتمع العلاجى أن نذكر ما نفعل، بشكل قد يساء فهمه على أنه من قبيل الدعاية أو ما أشبه.
لكن الزمن مر، والمعالم اتضحت، وأصحاب الحاجة أصبح علينا لهم واجب التعريف.
فاستخرت الله وراجعت المقال السالف الذكر عن المجتمع العلاجى، وجعلته صلب هذا الكتيب، ثم رجعت إلى المذكرات الشديدة الإيجاز التى كتبت أصلا بالإنجليزية لطالب الطب، فانتقيت منه الجزء الخاص بالتعريف البسيط، ثم الخطوط العامة لعلاج كل مرض، ثم تذكرت وراجعت بعض ما جاء فى التقارير السالفة الذكر…، وقلت أجمع هذا وذاك وأضعه بين يدى القارئ والزملاء، وقد كنت دائما أقاوم فكرة تخصيص وقتى لعرض ما كنت أعتبره تحصيل حاصل، لكنى رجحت أخيراص أن الأمانة تقتضينى أن أقدم هذا الذى أعتبره من أبسط البسيط، و الذى قد يبدو أنه لا يحتاج إلى تحديد أو توضيح، ولم أعد أظن أن الوقت أولى بما هو أكثر صقلا، وأعمق مادة، وأبرق وجاهة، فاكتشفت أن الأبسط هو الأولى، لأن الناس، عامة الناس، والزملاء أفضل الزملاء فى حاجة لأن يعرفوا بعض ما نحاوله، وهذا ما لم يعد من الأمانة كتمانه.
معنى المجتمع العلاجي
معنى المجتمع العلاجي
أولا: مقدمة
كثر الحديث عن الأمراض النفسية فى صورتها المعاصرة، وكذا عن الطب النفسى الحديث، والعلاجات النفسية الحديثة، يشيرون فى ذلك إلى الأصول الكيمائية للاضطرابات جميعا.
وأصبح الناس بالتالى يرفضون المعاناة، ويستثقلون الوعى بالذات، والتوجه إلى هدف أبعد، فيهربون- بأسرع ما يمكن- إلى الاستكانة تحت مظلة هذا القرص، أوتلك الحقنة.
وعلى الجانب الآخر اعتقد كثير من الناس أن المرض النفسى هو عقدة لا تزول إلا بمحاولة حلها، وأن العلاج النفسى ليس إلا التحليل النفسى الذى يفسر ويبرر، ويحكى، ويبحث عن الأسباب والتأويل.
والحقيقة أن الطب النفسى المعاصر قد تجاوز هذا وذاك بشكل إنسانى مسئول.
ويجدر بنا فى البداية أن نستلهم المثل الشعبى الذى يشير إلى أن العطار لا يصلح ما أفسد الدهر، ويمكن ترجمة هذا المثل إلى مقولة علمية حديثة تقول:
إن الدواء لا ينفع حتما إذا كان السبب هو خدش، أو جرح، أو اندمال، قد أصاب الشخصية أثناء نموها.
فماذا تفعل الكيمياء فى شخص انغلق على ذاته حتى ألغى العالم؟
وماذا يفعل الدواء فى إنسان أصبح يستهدف الموت غاية بدلا من أن يستلهم الحياة انطلاقا؟
فإن صدق هذا المثل فإنه جدير بنا أن نكمله لنقول:
قد لا يصلح العطار ما أفسد الدهر، ولكن يصلح الدهر ما أفسد الدهر.
فما هو هذا الدهر القادر على إصلاح ما أفسد الدهر؟
مادمنا نفترض أن الزمن الماضى بما فيه من ناس وأحوال، قد يؤثر سلبيا على الإنسان حتى يمرض، فلا بد أن نفترض فرضا مقابلا أن الزمن الحاضر بما فيه من ناس وأحوال لا بد وأن يؤثر على المريض حتى يشفى.
فواجبنا الأول هو تهيئة هذا الزمن- الدهر/ المجتمع- بمواصفات معينة تمكننا كمعالجين من تعديل المسار. من الإعاقة، والخمول، والتواكل، والهرب فى الخيال، إلى الفعل، والإيجابية، والإقدام، وتنمية القدرات، والتناغم مع الآخر حتى غاية الأكوان وما بعدها، مما ليس كمثله شئ (وجهه سبحانه).
وعملية خلق مثل هذا المجتمع هو ما يسمى علاج الوسط، أو المجتمع العلاجى.
وتكوين مثل هذا المجتمع ليست عملية صناعية مفتعلة بعيدا عن الواقع الاجتماعى، بل إنها فى واقع الحال عودة إلى مجتمع صحى طبيعى، قد يكون مختلفا بعض الشئ، فطريا بعض الشئ، ثائرا من حيث المبدأ، سريعا من حيث الإيقاع، لكنه فى البداية والنهاية ينبع من الواقع، ليصب فى الواقع.
فما هى معالم هذا المجتمع، وكيف نؤسسه، وكيف يشفى المريض من خلاله؟
معنى المجتمع العلاجى:
المجتمع هو مجموعة من الناس تحكمهم ثقافة مشتركة، يتواجدون عادة فى مكان مشترك، يتوجهون إلى هدف عام (جنبا إلى جنب مع الأهداف الفردية المتنوعة)، يتكلمون لغة متبادلة متفق عليها، يتعاونون حتما فى مسيرتهم على أكثر من مستوى (سلوكى، اقتصادى، ذهنى، وجدانى..إلخ)
والمجتمع العلاجى الذى نقدمه هنا هو كذلك.
* أما القضية المشتركة بين المرضى مجتمعين (وهى القضية التى قد تصل إلى درجة أن تصبح ثقافة متميزة)، القضية بين المرضى والأطباء مشتملين إنما تنبع من الشعور المشترك بأن الحياة الراتبة العادية لم تعد تعطى أفراد هذا المجتمع احتياجاتهم، كما لم تعد تحقق أهدافهم الخاصة والعامة بالطريقة المناسبة.
* أما الهدف العام، فيبدو أنه الإصرار على التفرد، يحققه المريض بالاختلاف عن السائد إلى مستوى أقل فى الفاعلية والتكيف، ويحوله المعالج (الطبيب خاصة) بممارسة مهنته مبدعا متجددا محاولا أن يتميز فى مواكبته لأزمة مريضه.
* أما اللغة المتبادلة المتفق عليها فهى لغة تدور حول “معنى الأعراض”، و”دلالة المرض” (وهى ليست اللغة الشائعة عن سبب الأعراض، وتأويل المظاهر)
* أما التعاون على المسار فهو يبدأ من موقف الطبيب حيث يملك القدرة على حمل الرسالة (الأمانة) بالأصالة عن نفسه والنيابة عن مرضاه كنقطة انطلاق من خلال:
مسئولية الترجمة: ترجمة الأعراض إلى معانيها، وترجمة التوقف والإعاقة إلى دلالاتهما.
مسئولية التقبل: أن يتقبل المريض كما هو ابتداء، وأن يحترم حق المريض فى الاعتراض (على العادية ) من حيث المبدأ.
مسئولية الرفض: أن يرفض الاختيار السلبى الذى انتهى إليه المريض رغم قبوله للبداية من حيث المبدأ.
مسئولية عدم الشطح: حتى لا يصبح ما يدعو إليه المريض بأعراضه (والطبيب بتقبله) هو البديل عن المجتمع العادى
وأخيرا:
مسئولية الصبر: على التغير.. مع الانتظار الإيجابى.
ومن خلال هذه البدايات يلتقط المريض الخيط، ويشارك رويدا رويدا، فيخف العبء على المعالج، وتقل الحاجة للدواء وتنبسط القدرات حركة وإبداعا.
ولكن هل المجتمع العلاجى هو الذى يـعرف لدى أغلب الناس بما يسمى الفريق العلاجى المكون من طبيب وأخصائى نفسى وأخصائى اجتماعى يشارك بعضهم البعض فى تشخيص وعلاج المريض؟
لا.. ليس الأمر كذلك، ولهذا يجدر بنا حتى تتضح الصورة أن نميز بين الفريق العلاجى والمجتمع العلاجى:
ذلك أن ما يسمى بالفريق العلاجى هو مجموع جهد أفراد تخصصوا كل فى جانب من الجوانب الخاصة بالمريض، مثل الأخصائى النفسى والأخصائى الاجتماعى والطبيب وأخصائى العلاج بالعمل، فى حين أن المجتمع العلاجى يصهر أفراده صهرا بحيث تصبح فاعليتهم كلا متكاملا، رغم احتفاظ كل فرد منهم بما يميزه تحديدا، وفى الجدول السابق يمكن النظر فى هذه الفروق شديدة الدلالة.
ومعنى ذلك أن التخصص قائم، ولكن دون احتكار أو انفصال.
وأيضا فإن ذلك يعنى أن الكل يعالج الكل بشكل أو بآخر.
أى أن ما يصل إلى المريض من كل هذا هو روح جماعية، وأن ما يؤثر فى المريض ويدفعه على مسار الشفاء هو هذه الروح الجماعية التى تصبغ كل وسيلة علاجية بصبغة تجعلها مختلفة تماما عن طبيعتها الأخرى إذا ما طبقت وحدها، أو فى إطار العلاقة الفردية، أو العلاج الروتينى العادى.
ثانيا: المبادئ والمفاهيم العامة:
لكن لا بد من توضيح مبدئى لبعض المفاهيم الأساسية التى يدور حولها هذا المفهوم الأحدث (الأقدم فى نفس الوقت)
وليس هذا مجال تنظير مسهب،، بل إن التنظير قد يضر بمفهوم ما هو مجتمع علاجى، بمعنى أننا لو عرضنا فكرا نظريا عن القيم والمبادئ التى يسير عليها مثل هذا المجتمع، ثم تقررت مثل هذه المبادئ كمنهج دراسى مثلا لنيل بعض الدرجات العلمية التخصصية وحفظها أحد الطلبة النجباء عن ظهر قلب فإنه:
أولا: سوف يعجز عن تطبيقها حتما،
وثانيا: سوف يشوهـها إذا حاول تطبيقها فعلا،
ذلك أن المسألة ليست فى التعريف النظرى أو المقارنات الذهنية بقدر ما هى نتاج الممارسة الفعلية، فى واقع بذاته، فى زمن بذاته.
ولأضرب لذلك مثلا من واقع بدايات الممارسة العلاجية لما هو علاج نفسى جمعى باعتبار أنه نموذج للمجتمع العلاجى المتحرك فى المكان الملتزم بالزمان الممتد. (أى أنه لا يرتبط بمستشفى معين، بقدر ما يرتبط بموعد أسبوعى للقاء يتكرر شهورا وربما سنوات) أقول حدث أن أحد الزملاء الذين تدربوا على العلاج الجمعى فى مؤسسة تافستك كلينيك بلندن عاد من بعثته وبدأ محاولاته لتجربة العلاج الجمعى فى مصر، فجمع مجموعة من طلبة الجامعة، وأخذ يمارس معهم ما تعلمه هنا: بأكبر قدر من العلم المحفوظ والخبرة المستوردة، وإذا بالعدد يتناقص حتى توقف العلاج، وقد ذكر فى سبيل شرحه وعزوفه عن استمرار التجربة أن المصريين -حتى طلبة الجامعة – ليسوا معتادين على لغة التحليل النفسى، ولا على المفاهيم النفسية الشائعة لدرجة أنه لا يصلح لهم مثل هذا العلاج، على الأقل فيما يتعلق بهذه التجربة المحدودة
ولعل السبب الحقيقى فيما تم هو فى تطبيق مفاهيم وقيما لم تنبع من التجربة المحلية، لم تستطع أن تزدهر وأن تفيد كما كانت الحال فى مجتمع آخر فى بيئة آخرى.
وعلى النقيض من ذلك حين بدأنا تجربة العلاج الجمعى فى جماعة غير متجانسة فى كل شئ (التشخيص والسن ودرجة التعليم، تحركت المفاهيم والقيم وتنامت حتى شملت المجموعة (كمجتمع علاجى صغير) واستمرت التجربة لمدة زادت حتى الآن عن عشر سنوات.
وبالرغم من هذه المحاذير المبدئية لا بد أن نعرض للقارئ الغريب عن الصناعة بعض هذه المفاهيم.
1- مفهوم المرض:
المرض فى العلاج التقليدى هو أعراض وتشخيص نتيجة ظروف وخلل فى كيمياء المخ بشكل أو بآخر
وهو فى المجتمع العلاجى: إعاقة، وجمود لا تستبعد خللا فى الخلايا أو الكيمياء، ولكن لا تؤكد أيها السبب وأيها النتيجة، كما أن الذى يأتى فى المقام الأول لتسمية الاضطراب الحادث مرضا هو التوقف: التوقف عن كل ما هو حياة وتقدم بما يشمل مشاركة الناس، وبسط القدرات.
وهذا التمييز إنما يعنى أنه فى المجتمع العلاجى لا نتوقف كثيرا عند مجرد ظهور الأعراض أو اكتشاف خلل الكيمياء،حتى الهلوسة مثل رؤية أشياء لا وجود لها لا يمكن أن تعتبر فى ذاتها على أنها هى القضية الأساسية، وإنما يهمنا فى المقام الأول معنى رؤية هذه الأشياء وما ترتب عليه من إعاقة، أو عزلة، أو موت نفسى… إلخ.
2- موقع المريض:
المريض فى العلاج التقليدى هو زبون يسأل المشورة ويتلقى العون فى شكل نصيحة أو وصفة طبية (روشتة) بأقل قدر من الاندماج الشخصى والمسئولية الذاتية ما دام الطبيب قد نفذ ما ورد فى آخر المراجع العلمية.
أما فى المجتمع العلاجى فالمريض هو أنت، هو إبنك، هو عزيز عليك، وما ترجوه للمريض هو ما ترجوه لنفسك، وما تمنعه عن مريضك هو ما تمنعه عن إبنك، وما تأباه للمريض هو ما تأباه لعزيز عليك، وليس معنى هذا أن المسألة شخصية عاطفية، أو أنه يمكن تجاوز الفروق الفردية واختلاف الظروف الواقعية وإنما يشير هذا الموقف إلى أن المجتمع العلاجى ليس إلا عائلة صغيرة، وبالتالى يصعب التمييزفيها بين الإخلاص الشخصى والأمانى الإنسانية، بين الإتقان الحرفى والتطبيق العلمى، فالعلاقة وثيقة تماما، يستعمل فيها أكبر قدر من المهارة والعلم، لتحقيق غاية ما يشير إليه الإخلاص والحماس الشخصى لأحد أفراد العائلة فعلا وهو المريض الذى لا يعدو أن يكون ابنك فى ورطة، أو عزيز ضل!!
3- مفهوم الصحة:
الشائع عند معظم العامة وكثير من الأطباء أن الصحة هى عدم وجود الأعراض، والتماثل مع أغلب الناس فى المظهر والسلوك العام على الأقل
وفى المجتمع العلاجى لا يوجد مفهوم واحد محدد للصحة، فهناك مستويات للصحة ومراتب، ومراحل كذلك:
واختفاء الأعراض والتكيف مع عامة الناس فى الفعل اليومى هو أمر وارد وهام، لكنه ليس نهاية المطاف على كل حال.
ذلك أنه يأتى مع ذلك تعريف للصحة يشير إلى أنه التركيب البشرى الأقرب إلى الفطرة (مرونة الحركة واستمرارها) وبالتالى الأبعد عن الإعاقة والتشوه، ولتحقيق هذا المستوى الذى يمنع النكسات عادة لأنه يعطى المناعة الحقيقية، لا بد من تغيير تركيبى فى نمط الشخصية فعلا.
أما المستوى الأبعد، والذى لا يغفله المجتمع العلاجى، وإن كان لا يرجحه على حساب ما قبله فهو مستوى الإبداع الإيمانى، وهو ليس مستوى دينى محدد، ولا هو مستوى إنتاج إبداعى أو فنى بذاته، ولكنه نوع من التواجد المتحرك المرن، المتقن للفعل اليومى، وفى نفس الوقت المتصل بما بعد الفرد، ليس فقط ما بعده من ناس وأشياء ومستقبل منظور، وإنما ما بعده من وجود ممتد فى الغيب بيقين حيوى وممارسة متواضعة فى نفس الوقت.
4- مفهوم العلاج:
وبالتالى يختلف مفهوم العلاج التقليدى عن العلاج فى المجتمع العلاجى، ليس فقط من حيث التطبيق (كما ذكرنا سالفا فى الجدول والمتن)، وإنما أيضا من حيث الهدف.
فإذا كان الهدف فى العلاج التقليدى هو إزالة الأعراض، والتكيف مع الناس، فالهدف فى المجتمع العلاجى هو: إحياء الخامل، ومنع التوقف، واستعادة النبض الحيوى لتحقيق مرونة الفطرة فى توجه الإيمان (بالمعنى السالف الذكر) والوسيلة إلى ذلك – كما ذكرنا – هى كل ما تيسر من العلم، والصحبة، والتعليم و التدريب.
5- أبعاد التصنيف:
فى المفهوم التقليدى للمرض النفسى وعلاجه يكون التركيز على إسم المرض كما ورد فى هذا الدليل التصنيفى أو ذلك المرجع المقرر، وقد لا يرتبط هذا التصنيف بموقف علاجى بذاته أو بهدف إنسانى محدد.
أما فى علاج الوسط (المجتمع العلاجى) فإن التصنيف يهتم بأبعاد أخرى تتعلق كلها بغاية العلاج كما سبق ذكرها، وهكذا يكون التصنيف متعلقا بحدة المرض فى مقابل إزمانه، ليس بمعنى كم مضى عليه من الزمن، وإنما بمعنى كم هو مستقر مجمد هذا المرض، وكم هو متوهج متمادى وهكذا.
وتفصيل ما بعد ذلك لا يتسع له المجال هنا فى هذه المقدمة. ومن البديهى أن الموقف العلاجى يختلف عنه باختلاف التصنيف، ففى حين يكون التأهيل والتحريك واستعادة المرونة أهم الأهداف فى المرض المزمن، يكون الضبط والتهدئة ووقف النزيف النفسى أهم الأهداف فى حالة التصنيف الحاد وهكذا.
6- من هو المعالج:
الطبيب هو المعالج الأول، وربما الأخير فى العلاج التقليدى، قد يستعين بخبرة هذا المختص فى القياس النفسى، أو ذاك المختص فى العلاج بالعمل، لكنه فى كل حال هو المعالج فى النهاية.
أما فى الوسط العلاجى فالوسط (الروح العامة والتوجه) هو المعالج، وكل فرد فى هذا الوسط هو مشارك فى العملية العلاجية، كما أن كل من له علاقة خاصة، أو وثيقة، أو دالة بالمريض لا بد وأن يشترك فى العملية العلاجية، بمعنى أن يبذل ما يمكن، وفى نفس الوقت يتعاون فى أن يتوقف عن بعض ما يمكن أن يتورط فيه من سلبيات، والوسط يقوم بهذه المهمة من خلال الفهم العام، أكثر من قيامه بها من خلال النصيحة المباشرة أو اللوم والتأنيب.
ثالثا: كيف يختلف نفس العلاج
سبق أن ذكرنا أنه لا خلاف فى العلاجات التى تعطى للمريض فى المجتمع العلاجى عنها فى غيره من حيث التسميات، وحتى من حيث تفاصيل كل أسلوب علاجى على حدة، ذلك أن كل العقاقير، والجلسات، والعلاج السلوكى والعلاج النفسى بأنواعه والعلاج بالعمل، كل ذلك يعطى للمرضى سواء كانو يعالجون فى مستشفى عادى يمارس العلاج التقليدى أم فى مستشفى يمارس فكرة المجتمع العلاجى، لكن كل إجراء علاجى من هذه الإجراءات يكتسب نوعية جديدة مختلفة إذا ما فهم فى السياق الأعم لما هومجتمع علاجى.
وإليكم بعض الأمثلة، وكيف تتميز الأساليب رغم أنها هى:
1- العلاج الدوائى: حديثا، يكاد لايمكن أن يعالج المريض النفسى بغير تعاطى عقاقير، لكن فى المجتمع العلاجى يكون الهدف هو إعطاء العقاقير فى الحالات الحادة أساسا، وفى الحالات النشطة، ثم يوضع فى الاعتبار هدف تال هو التخلص منها بأسرع وأنجح ما يمكن.
وتتناسب عادة كمية العقاقير عكسيا مع كمية التنشيط و التأهيل على أرض الواقع.
2- العلاج الكهربائى: فى المجتمع العلاجى خاصة لا يعتبر العلاج الكهربائى عقابا أو تحجيما، ولا هو صدمة، كما أنه لا يعطى بناء على إسم تشخيص معين، لكنه يعتبر دفعة فيزيائية تنظيمية، يتدخل بها المعالج لينقل من خلالها المريض عبر مأزق بذاته.
أى أنه بعد الإعداد المناسب، والضغط الواعى المحسوب، وبعد أن يبدأ المريض فى محاولة العودة إلى تحمل تبعاته، واقتحام صعوباته، تظهر عليه أعراض تدل على قوة قراره، وفى نفس الوقت تدل على صعوبة الإعاقة المتزايدة من داخله، بما يرصد أحيانا على هيئة أعراض مسحة من الاكتئاب، فتأتى هذه الدفعة الفيزيائية لتقوى، وتدعم المستوى الناضج العائد إلى أرض الواقع ومسئولياته، لينتصر المريض على سلبيات المرض من خلال هذه الدفعة المختارة.
لذلك فإن هذه الجلسات تسمى فى هذا المجتمع جلسات علاج تنظيم الإيقاع Rhythm Restoring Therapy بدلا من الاسم الخاطئ القديم: الصدمات الكهربائية.
3- العلاج السلوكى: فى هذا النوع من المجتمع العلاجى يطبق مبدأ الثواب والعقاب، أو التدعيم والتنفير بشكل منتظم وتلقائى.
إلا أن تطبيق هذا المبدأ السلوكى إنما يفترق عن المفهوم التقليدى لعلاج تحوير السلوك فى أنه يتخاطب مع الكيان البشرى ككل، وليس مع سلوك بذاته، كما أنه يدعم مستوى بأكمله من مستويات الوجود (المقابلة لمستويات تنظيم المخ)، بدلا من أن يركز على جزئية ظاهرة من مجمل الفعل الواعى، وأخيرا فهو يعتمد على حوار متعدد المستويات، من أول الحوار اللفظى حتى الوعى الأعمق.إذن ففى علاج الوسط (المجتمع العلاجي): نحن ندعم مستوى إيجابى من مستويات الوجود البشرى (مثل مستوى العلاقة بالواقع والالتزام بالفعل اليومى) بالقبول والسماح، والصحبة والتدريب، ولاشك أن ذلك يحدث من مدخل ملاحظة سلوك بذاته، إلا أن مجرد تغير السلوك دون تغير نوعى فى الوجود لا يكفى، بل أحيانا قد نرفض تغير السلوك حتى إذا بدا أن هذا التغير إلى أحسن ظاهريا، لأن بعض التحسن الظاهرى قد يتم على حساب تغير نوع الوجود إلى أدنى.
4- العمل العلاجى
ونحن نفضل استعمال هذا التعبير، ليتميز به العمل فى الوسط العلاجى عن الشائع تحت مسمى “العلاج بالعمل” وفى المجتمع العلاجى يقع العمل فى مركز أساسى بالنسبة للبرنامج اليومى، وبالنسبة لمقياس التقدم نحو الصحة، وبالنسبة للغاية الإنتاجية من أى فعل علاجى هادف.
إلا أن مفهوم العلاج بالعمل لا يقتصر على شغل وقت الفراغ، ولا على تكرار أعمال راتبة تساعد على الانغلاق والعزلة (مثل شغل الكنافاة، أو عمل السجاد أو السلال أو ما شابه)، إنما يمتد مفهوم العمل إلى الفعل المشارك المتغير، الذى يصالح المريض على جسده من ناحية، ويقربه من الآخرين من جهة أخرى ثم إن ذلك كله يتضمن تنمية مفهوم أن العمل فى حد ذاته قيمة.
وفى المجتمع العلاجى لا يأمر المعالج المريض بعمل دون أن يشاركه فيه، فعلا، وبألفاظ أخرى فإن المعالج يقوم بنفس العمل الذى يقوم به المريض بعض الوقت إن لم يكن كل الوقت.
5- العلاج النفسى الجماعى خاصة
لا يوجد تعريف جامع للعلاج النفسى اللهم إلا اشتراطه أن تكون العلاقة البشرية بين الطبيب المعالج والمريض المعانى هى أساس جوهرى فيما يحدث من تغير نحو الشفاء.
وعلى هذا الأساس فإن معظم ما ذكر من علاجات سابقة هى بالضرورة مشتملة بشكل أو بآخر على العلاج النفسى.
وأهم ما يميز العلاج النفسى هو طول النفس، وتعدد مستويات العلاقة واستمرارها، وعدم الاكتفاء بالتحسن الظاهرى واختفاء الأعراض.
والعلاج النفسى الجمعى هو من أهم ما يميز العمل العلاجى فى المجتمع العلاجى. ذلك أن معظم الممارسات اليومية تشترط فى هذا المجتمع أن تتم فى جماعة، والعلاج الجمعى هو بالتعريف ما يتم من تواصل وتعاون وبصيرة وحفز، فى جماعة مسئولة لها قائد وهدف مشترك.
بل إن هذا العلاج الجماعى هو الذى يسمح بامتداد مفهوم المجتمع العلاجى إلى ما بعد الخروج من المستشفى
بل إن بعض المجموعات القديمة الممتدة تمثل مجتمعا على مستوى العيادة الخارجية، يكفيه الانتظام فى اللقاء الأسبوعى والمشاركة المستمرة حتى تصبح بمثابة مجتمع علاجى، وإن اقتصر على أنواع محددة من آليات العلاج.
ولكن هل هناك مواصفات معينة للطبيب المعالج (أو المعالج عامة ) فى هذا المجتمع العلاجى، مواصفات تختلف عن مواصفات الطبيب العادى، أو الطبيب النفسى الذى لا يمارس هذا النوع من العلاج
صفات ومهارات الطبيب
صفات ومهارات الطبيب
وصلت المسألة حاليا فى الممارسة الطبية النفسية إلى مأزق علمى وأخلاقى معا، فالطب النفسى يمر بمرحلة توازى ما يمر به الإنسان عامة فى عصرنا هذا، التحدى سافر والمتغيرات متلاحقة، والذى يحكم البحث العلمى والممارسة الطبية عامة، ليس هو التعريف المتكامل للصحة النفسية، أو للصحة عامة، وإنما ثمة عوامل لا داعى لشرحها هنا تفصيلا تؤثر فى كل ذلك، وقد كتبت فيها فى أماكن أخرى*.
إلا أننى أوجز بعض ما كتبت بما يتفق مع هدف هذا العمل، وأذكر مخاوفى التى أرجو ألا تكون حقائق
محاذير:
ولكن قبل أن أفعل، لا بد أن أوضح عدة حقائق ساطعة ودامغة ولا جدال فيها، وعلى من يشطح به تلقيه لما أكتب أن يرجع لها بعد كل دهشة، وقبل أى حكم
1- إننا لسنا ضد العقاقيرالنفسية، ولا أستطيع أن أعمل طبيبا نفسيا بدونها.
2- إننا لسنا مع التحليل النفسى، تطبيقا عمليا، وإن كنا نستضئ تماما وكثيرا بعديد من تصوراته، وتفسيراته
3- إننا لسنا مع اتهام الأهل بسمئوليتهم- المباشرة- عن المرض النفسى للأبناء خاصة، وإن كنا نشركهم مباشرة وتماما فى مسيرة العلاج.
4- إننا لسنا مع الحركة المناهضة للطب النفسـى (التى تزعم أن الأطباء النفسيين يعطون العقاقير للمرضى ليساعدوا السلطة على قهرهم)، وبالتالى يرفضون العقاقير رفضا شديدا..
5- إننا لسنا ضد استعمال الدين فى المساعدة فى الدعم النفسى، لكننا لسنا مع الطب النفسى الذى يتصف بصفة دينية بذاتها، اللهم إلا السعى إلى التكامل – وجه الله- وحمل أمانة الوعى والإبداع، والعمل لخير الناس.
هواجس:
ومع ذلك فعندى عدة هواجس لا بد من أعلانهما دون تفصيل، وهما يفسران بشكل أو بآخر ما نفعله فى هذه المؤسسة، وقد يضيفان بعدا توضيحيا لما أعنيه من صفات لاحقة فيما هو طبيب نفسى.
الهاجس الأول:
أن شركات الدواء – رغم أهمية الدواء – تبالغ فى دعايتها مبالغة تضطر معها أن تفسر كل شئ،كل شئ بزيادة فى الكيمياء هنا، ونقص فى الكيمياء هناك (فى هذا الجزء من المخ أو ذاك)، حتى أنها بذلك لا تؤثر على تفكير المرضى وخطط العلاج فحسب، بل إنها تؤثر أيضا على مسارات البحث العلمى وفروضه مما يحتاج إلى تفصيل ليس هذا مكانه.
الهاجس الثانى:
إن ما يسمى النموذج الطبى للمرض النفسى والعلاج النفسى، ليس كذلك تماما، وإنما هو نموذج كيميائى الزعم بغير ذلك، فالطبيب هو الذى يتقن فن المداواة، مستعملا كل العلم، والتجربة، والصناعة.
الهاجس الثالث:
إن كثيرا ممن يتصورون أنهم يحمون المرضى النفسيين، ويحافظون على حقوقهم..، رغم افتراض حسن النية، قد يسيئون إليهم حين يتركون المرض يستشرى تحت هذه العناوين وما شابهها.
الهاجس الرابع:
إن كثيرا ممن يتنافسون على احتكار التطبيب النفسى، والعلاج النفسى، قد لا يبذلون جهدا منظما للتدريب على العلاج النفسي- للأطباء خاصة- تدريبا منظما بإشراف مستمر، أما الناحية الأخرى فيمن هم ليسوا أطباء، فالفرصة الواقعية محدودة محدودة..بما لا يسمح بالتدريب الفعلى تحت إشراف إلا نادرا.
وبعد،
فإن هذه المحاذير وتلك الهواجس هى التى دعتنا أن ننشئ هذه المؤسسة، وأن نشترط فيها شروطا تكاد تكون قاسية، وأن نقدم فيها تدريبا منتظما وملحا ومتواصلا، حتى نحقق هذه الشروط بعضها أو كلها لمن لا تتوافر فيه، فإذا تحققت هذ الشروط فبها ونعمت، وإلا فإننا نحاول مع الزميل الأصغر ثانية وثالثة كثيرا، ثم ننصحه بكل الإخلاص أن يترك هذه المهنة إلى ما هو أفضل منها، وربما أسهل، وأكثر ربحا، وكثير من زملائنا الذين لم يتمكنوا من الاستمرار معنا قدروا هذه الخطوة حق قدرها ومازالوا يشكرون، وينجحون، ويتوادون معنا إلى ماشاء الله، إن شاء الله.
وقد يبدو للقارئ العادي- وهو صاحب هذا الكتيب- أننى بذكر هذه المواصفات للطبيب النفسى، أخرج عن هدفه وهو التعريف البسيط بالطب النفسى المعاصر كما نؤمن به ونمارسه فى هذه المؤسسة، إلا أنه لا يمكن أن نقدم مثل هذا التعريف بأمانة إلا إذا قدمنا أملنا فى أنفسنا والتزامنا نحو مواصفات من يعمل بمهنتنا.
وسوف أوجزها – وهى أيضا من مخزون تاريخ قديم- فيما يلى:
مواصفات عامة:
ليست المسألة فى الطب النفسى مسألة الحصول على شهادة بذاتها، بل إن الأمر أمر مهنة وأخلاق ومواقف حياتية لا بد من الإشارة إليها، وهى متطلبات ينبغى أن يتصف بها الطبيب النفسى عامة
ورغم أن هذه المتطلبات قد توارت خلف ما شاع مؤخرا من ترويج للمفهوم الكيميائى كما ذكرنا، إذ أعفى الطبيب نفسه- على الأقل جزئيا أو لا شعوريا من كل ما عداتصوره أنه يعرف ما هى المادة الكيميائية التى تحدث المرض، وبالتالى يعرف ما هى المادة التى تعادل تلك المادة، لكن سيظل العامل الأول والأساسى فى العلاج هو الطبيب النفسى، ذات نفسه، لحمه ودمه، وعيه وخلقه، نبضه وإيمانه، حضوره والتزامه.
على أنه لا يختص بهذه المواصفات وحده، بل هى صفات تلزم لكل طبيب مهما كان تخصصه، إلا أنها عند الطبيب النفسى أدق وألزم، لأن الطبيب النفسى يعامل بشرا فى محنة أخلت بحساباتهم، وأشعلت اندفاعاتهم، وأضعفت حاجتهم، فهو مسئول عن كل ذلك، يحميهم من أنفسهم ومن غيرهم، ومن نفسه ما أوتى لذلك سبيلا.
على أن المعالج فى المجتمع العلاجى ليس هو الطبيب النفسى فحسب، بل هو أى إنسان يشارك فى عملية العلاج من أول الطبيب المتص حتى المريض المشارك فى العملية العلاجية، مارين بالأخصائى النفسى، والاجتماعى والمعالج السلوكى، والمعالج بالعمل.
لذلك فإننى إذ أقدم هنا مواصفات الطبيب لا أقصرها بداهة على الطبيب، وإن كانت ألزم تماما لمن هو طبيب نفسى، وخاصة ممن يتهيأون لمثل هذا النوع من العلاج المشارك فى مجتمع علاجى.
لذلك فإن هذه الصفات، مع تحوير بسيط، يمكن أن تصبح هى المقومات الحقيقية لتصنيف المعالج كمعالج فى المجتمع العلاجى بصفة عامة.
لكننى سأحاول أن أخص بالذكر تصورى للمواصفات التى تجعل هذه الأداة البشرية خاصة (الطبيب النفسى) فى أحسن أحوالها، وخاصة فى المجتمع العلاجى:
فأرى لزاما:
1- أن يكون الطبيب ملما بالأسس العامة لفرع تخصصه من مصادرها المتاحة، وبصفة متجددة، على أن يكون موقفه من اطلاعه موقف القارئ الخلاق، لا المتلقى فى استسلام، حتى إذا ماحاول باستمرار أن يختبر إمكانية تطبيق ماقرأ أو تعلم ما كان أمامه سبيل للمراجعة، وهكذا يمكن باستمرار التقريب بين ماهو نظرى وماهو عملى، وكذلك بين ماهو مثالى وماهو ممكن، من خلال هذا الموقف الذى يشمل التهديد المستمر بالإحباط، ومن ثم الألم الشخصى، وهو إذ يلم بكل ذلك، لابد وأن يضع فى اعتباره احتمال تغيير ذاتى مستمر… وقد يعنف أحيانا (أنظر بعد).
ولابد أن أعترف هنا أن الإلمام بالأحدث فالأحدث عن طريق الدوريات العلمية أصبح مكلفا من ناحية، ثم إنه أصبح مسئولية خطيرة من ناحية أخرى، (لاحتمال كونه مسطحا أو حتى – والعياذ بالله- مضللا- فقديما كان كل، أو جل، ما نشر فى مجلة علمية هو من أعلى، وأدق ما توصل إليه العلم، أما الآن، وبعد الشبهات التى تحوم حول مصادر تمويل الأبحاث، وتوجهات الفروض العلمية، فإن على الطبيب النفسى أن يقرأ ما يصل إليه قراءة ناقدة واعية مسئولة، وأن يعيد النظر، وألا يسرع بتطبيق ما يقرأ لمجرد أنه نشر مؤخرا فى مجلة كذا، أو مرجع كيت فى هذه السنة نفسها !!، وعليه أن يتمسك بالقديم، الزهيد الثمن، المؤكد المفعول بالتجربة، ما أمكنه ذلك، حتى يحتاج إلى الجديد احتياجا خاصا ومتميزا، وعليه – إذن… مثلا- ألا ينساق بسهولة إلى مطلب بعض المرضى بتعاطى أدوية حديثة، لمجرد أنها حديثة، نشر عنها هنا أو هناك،وهذا كله من أصعب ما يكون على الطبيب الأصغر خاصة.
2- أن يكون على اطلاع متوسط بنبذة من العلوم الأساسية التى تكون الأرضية الثقافية لعصره من تاريخ وفلسفة واجتماع وغيرها مما يمثل الأصول النظرية لماهية الإنسان وطبيعة وجوده حيث أن هذه الأرضية تؤثر بطريق مباشر على المريض، وعلى الطبيب على حد سواء ومن ثم على العلاقة بينهما، وعلى الانطباع الأول وتسلسل الفروض للوصول إلى تقويم سليم.
ذلك أن الطب النفسى موقف، وأن الطبيب النفسي،.. رضى أم لم يرض هو صاحب موقف (أنظر بعد)، ومن الأفضل له أن يعرف عن موقفه أكبر قدر ممكن، فيجذبه إلى دائرة وعيه، وبالتالى إلى دائرة مسئوليته.
وليست هذه -كما يخشى بعض الأطباء النفسيين- أو قل عامة الأطباء النفسيين- ليست هذه عملية تفسف وادعاء، وخوف الأطباء من كلمة فلسفة هو خوف لا مبرر له، بل إنه يدل على بعد شديد عن فهم الكلمة، لذلك فضلت أن أستعمل كلمة موقف.
أليس على الطبيب أن يحدد موقفه من الصحة والمرض؟
وهل الصحة هى أن يتبلد الإنسان ويساير الآخرين، ولوعلى حساب إبداعه، أم أنها نبض واع، وحركة مستمرة نحو الأحسن ؟
ألا يترتب على ذلك أن الطبيب سيوجه مرضاه – إن صراحة وإن ضمنا- إلى مثل ما يعتقد حقيقة وفعلا ؟؟
ألا يجدر بالطبيب إذن أن يتابع الفكرالبشرى على أوسع نطاق ممكن، لأنه يتعامل مع الفكر البشرى مباشرا…محاورا.. مسئولا؟
إن المقصود بكل ذلك ليس أى دعوة إلى الموسوعية، بل هو سبيل الى توسيع الوعى من كل جانب، وقد يقابل الطبيب النفسى مريض أميا لا يقرأ ولا يكتب، يناقشه فى أصل الكون، ومسارنا بعد الموت، مناقشة شديدة العمق لا يملك الطبيب معها إلا أن يحسن الإنصات إليها قبل أن يسميها باسم هذا العرض أوذاك.
وفى هذه المؤسسة مر علينا وقت كنا نشترط فيها أن يحصل الممارس المتخصص فى الطب النفسى على شهادة فى العلوم الإنسانية النظرية (فلسفة- علم نفس.. إلخ) وقد حصل فعلا على ليسانس فى الفلسفة الزملاء د. رفعت محفوظ، ود. محمد هويدى، د. يسرية أمين سليم، بالإضافة إلى تخصص أكاديمى آخر فى الطب (غيرالطب النفسى) ثم تخصص الطب النفسى ذاته، ونحسب أننا بذلك، كنا ننفذ ما نعتقده واجبا على أنفسنا بمنتهى الدقة والجدية، إلا أننا بعد ذلك اكتشفنا من واقع الممارسة، أن الندوات الثقافية التى نعقدها شهريا منذ أكثر من عشر سنوات، تقوم بالواجب حقيقة وفعلا، وأن التخصص الأكاديمى فى الطب قد لا يستطيع أن يلاحق الأحدث فالأحدث من غير ممارسة فعلية لاحقة على الحصول على الدرجة، فتراجعنا عن الحرص على الشهادات الأخرى دون أن نتراجع عن الموقف الأصلى.. وهو ضرورة أن نلاحق المستحدث من العلوم والثقافات بشكل يومى وعميق ومسئول.
على أنه يجدر بنا أن نضيف إيضاحا آخر فى هذه النقطة، فنحن إذ نوصى، ونعلم أطباءنا ضرورة هذه الممارسة، نحذر ونرفض أى درجة من الاغتراب المعقلن، أو المباهاة الموسوعية، فى معرفة لا يمكن أن نطبقها فعلا يوميا، وأن نراها تسير على أرجل تنفعنا، وتنعكس تلقائيا على مرضانا.
3- يلزم على الطبيب النفسى أن يكون مسايرا للأحداث اليومية، بمعنى أن يكون ملما بما يجرى فى الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية من حوله وما يصاحبها من تغيرات فى الأفراد والجماعات، بادئا بالبلد الذى يعيش فيه، وأن يتخذ موقفا واعيا من هذه الأحداث حتى لايؤثر موقفه هذا دون أن يشعر على مريضه، فإذا كان لابد من تأثير وتأثر- فلابد أن يكون فى مجال الوعى تحت الضوء ما أمكن.
على أن هذه المتابعة اليومية- وفى ظل سرعة الاتصالات العالمية- لابد وأن تتعدى حدود وطنه ليساير من موقفه الواعى كل التحركات فى العالم، تلك التحركات التى تؤثر ضمنا على نوعية وجوده ووجود مريضه، ولعل هيجل كان يعنى هذا البعد حين أشار إلى أن قراءة الصحف اليومية هى صلاة الإنسان العصر.
فالطبيب النفسي-إذن- صاحب هم عام، وكثيرا ما يشكو، وينبغى أن يشكو، من عجزه عن الفصل الحاسم بين ما هو خاص بذاته ومهنته، وبين ما هو عام يعنى بنى وطنه، بل بنى جنسه من البشر.
فلا يوجد طبيب نفسى يستطيع أن يعالج مريضه الفصامى بكفاءة عميقة، وهو لا يعرف كم طفلا يموت من المجاعة فى بنجالاديش أو جنوب السودان،
وكم طنا من القمح يلقى فى البحر من الدول الثرية.
وكم قرشا يقبضه المواطن الاسترالى بدل بطالة وهو لا يعمل ومع ذلك يستطيع أن يسكن فى “فيلا” ويقتنى سيارة!! وهكذا…
ذلك لأنه ينبغى أن تكون أبعاد وعى الطبيب النفسى، وأمله فى الحياة، وفى الإنسان متصلة اتصالا وثيقا بأرقام الواقع، فمريضه كثيرا ما يكون مرضه هو احتجاج مكثف فردى يمثل سرخة (مهزومة) بالنيابة عن هذه المآسى الممتدة، بمعنى أنه قد يبدو أحياا مريضا بالأصالة عن نفسه والنيابة عن بنى وطنه أو بنى جنسه، وعلى الطبيب أن يشاركه المعاناة والمتداد فيما بعده، دون أن يشاركه العجز أو الشلل..حتى يستطيعا معا أن يقلبا المسار (أنظر بعد).
4- أن تكون حياة الطبيب الشخصية على درجة من الاستقرار، لا بمعنى الثبات والجمود، ولكنى بمعنى الوعى ووضوح المسيرة فى حركة هادئة ما أمكن نحو مزيد من الإيجابية والمسئولية، فاتحا باب المراجعة المستمرة والقدرة على تغيير مفاهيمه.
وفى الوضع الراهن لممارسة الطب النفسي- بالمفهوم التقليدي- نجد أن ما يتصل بـ ” الحياة الشخصية” مما قد يؤثر على الممارسة المهنية أمريحتاج إلى مراجعة، فقد أعفى الطب النفسى (الحديث = الكيميائى) الطبيب النفسى من أعباء هذه الوصلة… وهذه مزية ظاهرة طبعا.. لكن عمق الواقع يقول:
بما أن الطبيب النفسى يعالج مرضاه بعلمه.. وبذاته فى نفس الوقت
وبما أن الطبيب النفسى يرجو لمرضاه – على ما يقول وعلى ما نوصى به- كما يرجو لخلصائه وأهل بيته…
فهو إذن لا يملك إلا أن يختلط عليه الخاص والعام.
وقيمة العدل هنا قيمة شديدة الإرهاق مستحيلة التفيذ، ولكن على الطبيب النفسى ألا ينساها مهما كانت الصعوبات، وأن يجتهد فى السير فى اتجاهها فى حدود القدرة البشرية- وهى حدود غير قليلة بفضل الله- وأن يعود إليها لو نسيها كلما أمكن ذلك، وكل ذلك يضطره أن يطبق بعض مقاييسه العمة فى حياته الخاصة، مع الفارق، ومع ذلك ما أصعب ذلك.
وأحسب أن على أهل بيته، وخاصة الزوج أو الزوجة، أن يدرك أى منهما طبيعة عمل شريكه الطبيب النفسى، فيعذره إذا هو قصر، وإذا هو كان مهموما أكثر، وإذا هو رأى حتى صمت، وإذا هوعدل حتى تألم، وهكذا وهكذا مما لا نهاية له إذا ما فصل..
5- وعلى الطبيب النفسيأن يكون متابعا لمسيرة الاتجاهات المختلفة فى فرعه.
وفرع الطب النفسى بالذات من الفروع التى لا ينتهى فيها الاجتهاد، ولا يتوقف الجديد. وما زال الطب النفسى، بما فى ذلك التفسيرات الكيميائية الأحدث، فى مرحلة الفروض التى لم ترتق إلى النظرية، ولا ينبغى أن يرعب ذلك المرضى أوذويهم بأى درجة من الدرجات، فالطب النفسى ما زال لا يحترم إلا النتائج، حتى لو عجز عن تفسير ماهيتها، لكننا أحوج ما نكون إلى أن يعرف مرضانا ذلك، فيساعدون الطبيب ألا يندفع فى تعميم الجزموالفتوى وكأن هذا العلاج أو ذاك هو العلاج الدقيق المختص بنسبة مائة فى المائة (مثلا..كما يتصور البعض)، على أن هذا التنبيه لا يقلل من كفاءة الطبيب وقدرته على المساعدة الحاسمة فى كثير من الأمراض، فهذا أمر يرجع إلى دقة فن التطبيب، والمهارة فى استعمال الفروض والمعلومات بطريقة عملية تفيد المريض حتما بغض النظر عن التنظير والتفسير.
وعلى ذلك فالطبيب النفسى الكفء هو الذى لا يأخذ نظريته مأخذ المعتقد أو الدين العلمى، هو لذلك يتابع كل جديد فى التنظير والتفسير، بنفس القدر الذى يتابع فيه النتائج والاجتهادات بــما يعود عليه، وعلى مرضاه بكل ما يمكن من خير وتكامل.
6- وعلى الطبيب أن يكون واعيا للتغيرات التى يمكن أن تطرأ على فكره وعواطفه بمرور الزمن- من خلال ممارسته لمهنته وحياته، لتجعلها تتم- بقدر الإمكان- باختيار وإدراك ومسئولية.
ذلك أننا تعلمنا – فتأكدنا- من خلال ما نمارسه فى هذه المؤسسة هو أننا مع الحركة ضد السكون، ومع التغير ضد الثبات، وإذا كان المريض النفسى هو أيضا مع الحركة، فإن المشكلة هى فى اتجاه حركته، وليس فى مبدأ الحركة،
فإذا كان الطبيب النفسى جامدا ثابتا لا يتغير، فهو سيتجه حتما- بوعى أو بغير وعي- إلى إخماد حركة مريضه، وليس إلى إعادة توجيهها توجيها سليما.
ولا يمكن أن يتقبل الطبيب حركة مريضه دون أن يكون هو نفسه مستعدا لقبول حركة نموه، التى هى بالضرورة تغيرا كيفيا، قد لا يكون معروفا نهايته القصوى، بل ولا طبيعته الحالية.
وهذا وحده خليق أن يرعب الطبيب النفسى حتما- متى كان صادقا مع نفسه- لكنه ليس رعب العجز، أو رعب الشك، هو فقط رعب شرف الوعى بضرورة قبول مبدأ الحركة التى ستحافظ على حركة مريضه وتتيح لهما معا استمرار مسير النمو.
إذن:
7- فمع الوعى بهذا التغيير يكون الاستعداد له مواكب طول الوقت، فعلى الطبيب النفسى أن يكون مستعدا للتغير من خلال الاحتكاك المستمر، وبخاصة مع رؤية مرضاه حتى لو كانت شطحات مجهضة إل أنها تريه آفاقا ممتدة، وهذه هى ثروته الحقيقية ودافعه لمزيد من التغير نحو الموضوعية.
8- ومن ثم، فإن الطبيب النفسى سوف يجد أنه صاحب رؤية للحياة، وأن له رأيا فى تفاصيل مسيرتها، وأنه يقوم – أراد أم لم يرد- بترجمة هذا وذاك إلى فعل يومى ما أمكن ذلك.
وتتعلق هذه النقطة طبعا بما سبق أن أشرنا إليه من ضرور ة الاطلاع الحى الناقد المستمر بمعطيات الوعى البشرى، لكننا نشير هنا إلى أن الموقف من الحياة لا ينبع بالضرورة من اطلاعات أو ثقافة معقلنة، وإنما هو موقف حتمى ينبع من الدين، والبيئة والتربية، والموقف الأخلاقى والاقتصادى، الخاص والعام، يشترك فى كل ذلك نشأة الطبيب من جهة، ومسار محاولاته الذاتية من جهة أخرى.
9- وأخيرا، فعلى الطبيب النفسى أن يدرك ضرورة معايشة “وحدته” الخاصة فى شجاعة، مع اليقين بحاجته للآخرين ،ومع المعرفة بطريقته لإشباع هذه الحاجة ذهابا وإيابا بوعى وإرادة، من نفسه وإليهم وبالعكس.
ومسألة عزلة الطبيب النفسى أو وحدته وانفراديتههى مسألة تبدو إشكالية تحتاج إلى حل وتفسير.
فكيف يكون الطبيب الذى يحارب العزلة والانغلاق ليل نهار مع مرضاه هو فى نفس الوقت وحيدا؟
إن المأزق الذى يجد الطبيب النفسى نفسه فيه، هو أنه مضطر إلى أن “يرى ” أكثر مما يحتمل، وهو مضطر إلى أن يكتم رؤيته، كلها أوبعضها عمن حوله ممن يستعملون الدفاعات العادية لتسييرحياتهم، وهو لا يكاد يبوح برؤيته هذه لمرضاه بالرغم من أنهم أهم مصدر لهذه للرؤية، إلا أنهم منهزمون أمامها، ووجه الشبه بين الطبيب والمريض ليس إلا فى المرحلة الأولى من الرؤية، ثم بعد ذلك يحمل الطبيب دون المريض مسئولية رؤيته قولا ثقيلا.
لكن كل ذلك لا يبرر أن يبدو الطبيب النفسى منعزلا منفردا شاردا، فنوع الوحدة التى ندعوه أن يتحملها، ويتقبلها، ويمارس كل علاقاته بها ومن خلالها هو نوع إيجابى بالضرورة، لأنها وحدة التعاطف وليست وحدة الانسحاب، وهى وحدة المعرفة، وليست خوف الاقتراب، وهى وحدة العمق وليست فرط التوجس، وهى وحدة التسامح وليست وحدة الحكم المتعالى.
فكأننا ندعوه بذلك أن يواصل عمق رؤيته، حتى لو فرضت عليه وحدة من حيث المبدأ، فيكون واجبه بعد ذلك إزاءها هو أن يحترمها ليعيش بها دون شكوى، ودون انسحاب فى نفس الوقت.
وبعد
فإذا كانت بدايات الطبيب النفسى هى أبعد ما يكون عن كل ذلك، فإن الممارسة الصحية ستجعله يقترب من بعض ذلك.
ثم إنها رحلة حياته بأكملها، يواصل السير – من خلال مرضاه- إلى غاياتها حتى يقترب دائما أبدا من هذه المواصفات التى وإن لم تكن حتما مبدئيا فهى غاية واعدة، أو هى على الأقل جاذبة لحركة النمو فى اتجاهها مما يعود حتما على المريض والطبيب فى نفس الوقت بأنفع الخير والصحة.
استدراك:
ولما كنت قد كتبت الخطوط الأساسية لهذه المواصفات منذ حين، فهل أستطيع بعد حوالى ثلاثة عشر عاما وأنا أقدم هذا التعريف بهذه المؤسسة أن أدعى أن من يعمل بها هو يتصف بهذه المواصفات حقيقة وفعلا؟
الحق أقول أننى لا أستطيع، بل إننى لا أدعى أنا شخصيا أننى أتمتع تماما أوبدرجة كافية من هذه المواصفات بشكلها المطلق، لذلك فإننى أعترف أنها هامة وجادة، وخطيرة، أننا نعمل طول الوقت فى محاولة الوصول إلى بعضها، والاستمرار فى اتجاه ما لم نصل إليه، فلا نحن نكف، ولا نحن نصل، لكن إصرارنا يمنحنا شرف التمسك بها، أوبالمحاولة.
،وهنا أمر شديد الأهمية، لأن لى تفسير لمن ارتضى أن يكتفى بالتفسير الكيميائى للطب النفسى وهو أنه نظرا لصعوبة هذه المواصفات، ولما تتطلبه منجهاد هو شبه بالجهاد الأكبرطول الوقت فإن الرضا بالتفسير الاكيميائى لا بد وأن يعفى الطبيب النفسى من كثير من هذه المعاناة على شرفه، وكل ما أستطيع أن أقوله فى هذا الصدد، هو أنه ليس معنى أن الطريق صعب وأن المعاناة مؤلمة هو أن أستميم للخطأ، ليكن الخطأ خطأ كما هو، وليكن القصورقصورا كما هو، و لكن الحق فى الحق دائما أبدا حتى لو لم نعرفه الآن، حتى لو عجزنا عن حمل أمانته أو القيام بمسئوليته الحالية فورا.
ومهما استحدثنا من عقاقير، ومهما شاع من ترويج الرفاهية والتخدير، فسيظل وعى الإنسان هو شرف وجوده.
وستظل معاناة الإنسان هى بدايات إبداعه.
وسيظل الطبيب هو الحكيم المواكـب.
والعالم الذى يطبق علمه بمهارة الفنان وحكمة الفيلسوف واستلهام الحق.
ماهية الأمراض النفسية
ماهية الأمراض النفسية
(أعراض أم إعاقة)
1- المرض النفسى هوالإعاقة عن الفعل، والحيلولة دون الإنسان والناس، فهو ليس مجرد ظهور مظهر سلوكى بذاته – مهما كان شاذا- فى شخص بذاته.
والتركيز على الأعراض ليس من طبيعة عملنا فى هذه الؤسسة، صحيح أننا نرصد الأعراض بمنتهى الدقة، ونجمعها إلى بعضها لبعض بنؤلف منها مرضا بذاته نرصده فى أوراق المرض، ولكننا نقف أمام كل عرض لنعرف ماذا يعنى، وإلى أى درجة يساهم فى الإعاقة.
وهذا مهم فى مجتمعنا بالذات، فكثير من الأعراض التى تعتبر شديدة الشذوذ فى مجتمع غربى متقدم هى ليست كذلك عندنا.
فمثلا إذا اعتقد أحدهم أن أحدا يضع فى رأسه أفكارا ليست أفكاره، فإن ذلك يعبتر شذوذا خطيرا فى مجتمع غربى فى حين أننا قد نقبله من فلاح مصرى، أو يمنى، لأن علاقتنا بالقوى الخفية ليست علاقة سيئة على طول الخط.
وهكذا. فإن ما يهمنا طول الوقت هو مدى الإعاقة ومجالها ونحن نهتم بالأعراض إذن بقدر ما تكون سببا فى الإعاقة، وليس لمجرد وجودها،
2- وكذلك نهتم بالأعراض بقدر دلالتها على ما يمكن أن يترتب عنه.
فمثلا إذا كان هناك من يرى رؤية طيبة كل صباح، فيأتى له سيدنا الخضر ويدعو له بالتوفيق، ويقول له أن ” من أخذ الأجرة حاسبه الله على العمل”، وبناء عليه يعمل هذا الإنسان عملا طيبا طول النهار، فماذا يكون موقفنا منه؟.
إن هذا العرض فى التقييم العادى يسمى هلوسة سمعية.
ولكن إذا كانت هذه الظاهرة لا تسبب له إزعاجا ولا تعطله عن العمل بل تشجعه وكان المجتمع يصدق بعض ذلك أومثل ذلك، فأى سبب علمى أو أخلاقى يجعلنى كطبيب أنبرى للتخلص من هذه الأعراض بكل ثقل القهر الكيميائى؟
وأحيانا ما أمزح مع بعض طلبتى وزملائى الأصغر فأقول لهم: أنت تغار منه لأن سيدنا الخضر لا يحدثك، ولأنه يعمل أفضل منك.
لكن المسألة ليست بهذه البساطة، فقد يكون ظهور مثل هذا الهاتف حديثا، بما يعنى أن ثمة طارئ قد طرأ فأظهره مما ينبغى البحث عنه وعن احتمالات دلالاته المرضية، وقد يكون الاستسلام له داعيا لتسليم الإرادة الذاتية للمجهول، إذ ماذا لو أن سيدنا الخضر -بالذات- أمره بقتل صبي؟ هنا يصبح موقفنا من الأعراض موقفا مسئولا وحذرا طول الوقت، حتى لو تسامحنا فى وجودها من حيث المبدأ إلا أن دراسة علاقتها بالإعاقة مهمة جدا، وكذلك دراسة تأثيرها الحالى والمستقبلى على الإنسان هامة أيضا
3- فنحن إذن نقيس تقدم الحالة نحو الشفاء بقدر زوال الإعاقة أولا، ثم بقدر اختفاء الأعراض ثانيا.
وبألفاظ أخرى نحن لا نفرح باختفاء الأعراض مع استمرار الاعتمادية والشلل الفعلى والعجز عن العمل،
وكذلك لا نفرح بالعودة إلى العمل وما زال المريض تحت رحمة عالمه الداخلى النشط الذى قد ينقض عليه فى أى لحظة.
4- ومع الأعراض (مثل الهلاوس كما ذكرنا، أو الاعتقادات الخاطئة، أو الوسواس القهرى) ندرس كل ما يمكن أن يكون مظهرا مرضيا، حتى لو لم يظهر فى شكل محدد مثل ما سبق الإشارة إليه حالا.
فنحن نهتم مثلا، ومباشرة – حتى دون قياسات- بدراسة:
علاقة مريضنا بالواقع كما هو، وهو أمر صعب، لذلك لا نطلب فيه المطلق، وسيدنا أحمد البدوى كانت دعوته المفضلة: اللهم أرنى الأمور كما هى، ورؤية الأمور كما هى من أهم علامات العلاقة بالواقع.
وأيضا من أهم علامات العلاقة بالواقع مدى تقبل المريض لما يمكن أن يسمى صفقات المعاملات: بما فى ذلك المعاملات العاطفية، وهو أمر ينفر منه الناس عامة، إلا أنه شديد الارتباط بالواقع لأنه لا يعيب أحدا أن يعطى ويأخذ بوعى ومسئولية، حتى فى مجال العواطف (وعذرا للمحبين!!)، كما أننا ننتبه وننبه إلى أن فرط المثالية ليس فى صالح مريضنا طول الوقت
وأيضا الاستغراق فى الخطب والنصائح الأخلاقية الصرفة من قبل المريض وأهله قد يكون بعيدا عن الواقع، وقد ينساق بعض الأطباء – بحسننية- إلى مثل ذلك، دون تذكر أننا أمام مرض بذاته فى شخص بذاته
وندرس أيضا – مع وقبل الأعراض- علاقة المريض بالآخر، بالناس من حوله، كيف يستعملهم ويستعملونه، أو كيف يلغيهم ويستغنى عنهم، وفى نفس الوقت يعتمد عليهم ويرضع منهم فى السر، وهكذا.
ثم علاقة المريض بالكلمة: هل يعنى ما يقول حقيقة وفعلا أم يميل إلى التهويل، والتقريب، أم أن كلامه مثل “كلام الليل مدهون بزبدة يطلع عليه النهار يسيح” كما يقولون فى المثل العامى.
4- ومن المناطق التى تقع فى مقدمة الاهتمام أيضا منطقة مدى تمتع المريض بالقدرة على الاختيار المسئول، وهو ما يسمى فى مجال الأعراض، منطقة اضطراب الإرادة، وهى منططقة شديدة الحساسية
والمطلوب فى هذه المنطقة هو التركيز على تقييمالقدرة على الفعل الإرادى ونتاجه، فى مجال الحياة العملية، وأهم ذلك مجال العمل.
فنحن نتجنب بذلك الحديث المعاد عن الحرية كقيمة نظرية
ولا ننكر أن ظروف عملنا تعرضنا للتدخل فى بعض حرية المريض، وهو عادة شديد الحساسية لذلك، ولكن بمجرد أن نكتسب ثقته، ونعقد الاتفاق على خطوات العلاج، فإنه يقبل التدخل، ويشعر أن ذلك هو سبيل علمى موضوعى مسئول، بل سرعان ما يعرف أنالصحة هى السبيل الصحيح إلى الحرية، وأن من يحافظ على صحته إنما يحافظ على حريته.
فالحرية هى القدرة على الاختيار من موقع القوة
وليست الصياحبالاحتجاج مع العجز والاعتمادية..
ملامح خاصة
جنون أم عقدة نفسية
العصاب والذهان
وتقسيم الأمراض النفسية
إذا كنا نطلب من مريضنا أن يواجه الواقع، أليس الأولى بنا أن نطلب من أنفسنا نفس الطلب وأكثر؟
وواقع الأمر أننا ننفر من كلمة جنون أكثر من اللازم، وأننا عادة ما نستعمل بديلا عنها كلمة المرض العقلى.
وأننا نطلق على كل اضطراب فى الوظائف العقلية – مهما بلغ، ومهما تمكن، ومهما أعاق: كلمة مرض نفسى.
وكل هذا جائز، وطيب.
لكن الخطر كل الخطر هو أن يترتب على ذلك أن نستهين بالأمراض الخطيرة، تحت عناوين مضللة، وهو الأمر الذى يؤخر العلاج مددا طويلة حتى لا يصبح هناك مجال للعلاج من كثرة استتباب المرض.
وفى مجتمعنا العلاجى فى هذه المؤسسة يقع التشخيص، والتقسيم موضعا شديد الأهمية، ليس لمجرد وضع لافتة تميز المريض، فنحن نهتم بالتشخيص كما ألفه الناس ثم نضيف إليه تشخيصين آخرين:
الأول: هو ما أسميناه التشخيص العلاجى (أى التشخيص الذى سيتركز حوله الجهد العلاجى، وبمعنى أدق: تشخيص الإعاقة)
والثانى هو التشخيص التركيبى: وهو التشخص الذى لا يكتفى برصد الأعراض ووضعها بجوار بعضها، وإنما هو التشخيص الذى يرسم علاقة أجزاء، ومستويات، ومجالات الشخصية بعضها ببعض حاليا، من حيث التجاور والتحاور والتبادل والتكامل.
وكثيرا ما يتحمس بعض زملائنا الأصغر من الأطباء فى اتجاه تنفيذ الخطة العلاجية وهم ينسون التشخيص بدرجة ما، أووهم يضعونة فى الخلفية البعيدة، ثم نقابل الصعوبة تلو الصعوبة، فنذكرهم ونتذكر معهم ماهية التشخيص، فنعيد تريتب الأوراق لنصبح أكثر تحديدا، ومن ثم أكثر مثابرة وصبرا، وأقل حماسا أو قل: اندفاعا.
ومن حيث المبدأ، نحن لا نرفض استعمال كلمة الجنون لأننا لا نخجل من ثورة العقل، حتى لو كانت ثورة مهزومة من البداية، فواجبنا أن نجعلها ثورة منتصرة، أما أن ننكر الجنون لفظا وفعلا، حالا ونتيجة، فهذا ليس من أفكار أو مبادئ هذه المؤسسة
والمهم أن مرضانا -بعد قليل- يقبلون هذه المواجهة، ويفهمون ماذا نعنى ونحن نستعمل هذه الألفاظ صريحة ومباشرة.
وقد تعودت أن أقدم التقسيم التقليدى للأمراض النفسية فى صورة مخففة تماما، تصلح للطالب الدارس أساسا،، ولا أرى بأسا أن يشاركنا القارئ العادى فى تدريب عقلى مفيد، ليعرف معنا كيفية الوصول إلى تشخيص من خلال محاورة تفصيلية، لعل فيها بعض المصطلحات التى لا يألفها، إلا أنها قد تكون مفيدة فى شرح أبعاد قضية تقسيم الأمراض النفسية بشكل أو بآخروذلك فى صورة المحاورة التالية:
تقسيم الأمراض النفسية
وضعت الجمعية المصرية للطب النفسى تقسيما خاصا بنا سنة 1975 وأقره المؤتمر العربى الأول للصحة النفسية لسنة 1975، ثم أقره المؤتمر العربى الأول للطب النفسى لسنة 1978، ثم نصح بترجمته، وترجم فعلا إلى العربية ونشر فى صورتيه العربية والإنجليزية سنة 1978، لأن المرض النفسى فيما عدا الحالات الصريحة من الجتوت والشذوذ التى يعرفها شرطى البوليس ومنادى السيارات، فيما عدا ذلك يصعب التحديد بين الصحة والمرض، وأول خطوات التقسيم هى أن نحدد الحد الفاصل بين الصحة والمرض.
ولكن فى الطب النفسى الأمر أصعب قليلا لأنه لا يوجد نموذج للصحة نقيس عليه “ما ليس كذلك” فالقلب السليم له ضرباته المنتظمة الاثنين وسبعين فى الدقيقة، فإذا زادت الضربات أو زادت الأصوات بما يسمى Murmer اعتبرناه مختلا بمرض “هكذا” أما فى الطب النفسى فالأمر أصعب إذ لا يوجد معيار للسواء.
وابتداء نقدم هذه المبادئ العامة فى مسألة التشخيص والتقسيم:
(1) إن المرض النفسى لا يشخص بالاستبعاد Exclusion، لأن له صفاته وشخصيته المستقلة، فلا يصح أن نقول، إن فلانا يشكو وأنه ليس عنده مرض عضوى، إذن فهو مريض نفسى.
(2) كذلك فإن المرض النفسى لا يشخص بمفهوم “هذا… أو” “Either or..”حيث يمكن أن يوجد المرض النفسى مع المرض العضوى أيهما يسبق الآخر حسب ترتيب التسلسل المرضي
(3) إن المرض النفسى هو مرض عضوى فى النهاية لأنه الواجهة الخارجية لاختلال عمل المخ، والمخ عضو شديد التعقيد، فالتسمية بسام الأمراض النفسيةالوظيفية ضعيفة لأن كلمة نفسى ليست ضد كلمة “عضوي”، ولكنها فترة مرحلية لا بد أن نحتمل فيها بعض أخطاء التسمية (بالتقريب أو الغموض) وستعود إلى هذه المشكلة فى التقسيم.
(4) إن المريض يعتبر مريضا إذا توقفت مسيره حياته بسبب ما أصابه حتى أصبح يعانى بدرجة تهدد هذه المسيرة بقوة.
(5) يعتبر الشخص طبيعيا إذا كان مثله مثل أغلب الناس، وخاصة فى ظاهر السلوك، وكذلك إذا كان مثله مثل نفسه كما كان مثله مثل نفسه كما كان فى الماضى القريب، يقوم بعمل مفيد لنفسه أساسا وللآخرين تلقائيا، يعيش مع الناس يأخذ ويعطى، يحب ويكره.. أى أن “حاله ماشي”
ثم ينبغى أن يتدرج التقسيم بعد ذلك بحسب ضرورة استبعاد الأكثر ندرة، والأبعد عن بؤرة الانتباه، ومنه إلى الأكثرشيوعا، فنتدرة على الوجه التالى:
1- التخلف العقلى Retarfation Mental: ويعنى نقص الذكاء أساسا، وتشخيصه سهل نسبيا، إذ يعلن بالتخلف الدراسى ومظاهر تخلف سرعة النمو، فالطفل يتأخر فى المشى والكلام، هذا بالإضافة إلى علامات تدهورية جسمية توجد أحيانا، إذ قد يصاحبه تشوهات خلقية anomalies Congenital، (2) الزملة المخية العضوية Organic BrainSyndrom: وهذا التعبير صعب ويكاد يكون خاطئا، لأنه قد يعنى ضمنا أن بقية الأمراض النفسية ليست عضوية، وهذا غير صحيح، ولكن ما باليد حيلة، لابد من التسليم مؤقتا بهذا الاسم، وعموما ما فإن هذه الزملة تشبه فى حدوثها وأعراضها سائرالأمراض فى الفروع الأخرى، فإن لها سببا عضويا معروفا عادة، سواء كان تسمما ببكتريا التيفود، أو أول أكسيد الكربون، أو كانت أوراما فى المخ أو التهابات مخية، يعنى مثل أى أورام أو تسمم أو التهاب فى أى عضو آخر.. وتتميز هذه الزملة بأن الوعى يضطرب بدرجة أو بأخرى ويبدو المريض تائها (أو كالمسطول) وقد لا يعرف البيئة من حوله، وأن الوظائف الذهنية Intellectual functions تضمحل وتضطرب (مثل الذكاء والذاكرة).
(جـ) وأن العادات الاجتماعية والخلقية قد تضمحل.
(د) ثم قد تجد علامات أخرى تتعلق بالسبب.
بعد أن نستبعد هاتين الزملتين ننتقل إلى السؤال التالى متسائلين: هل هذا المرض الذى أمامك له بداية أولا؟
أعنى هل ما يشكو منه المريض أو أهله موجود منذ قديم، منذ الطفولة مثلا، وأن الذى جد عليه هو أنهم لم يعودوا يطبقونها، أى أنه “كفى هذا” (كفاية كده) أو أنه “زودها حبتين”.
فإذا كانت المسألة قديمة، وهى أقرب إلى “الطبع” منها إلى الأعراض، فإننا نكون أمام ما يسمى باضطراب الشخصية،ونلاحظ تجنب تسميتها باسم مرض كذا أو كيت، لأن هذا لاضطراب عادة هو نمط كلى، وسمة من سمات الشخصية شاذة أو مختلة، وليس أعراضا محددة مثل الصداع أو الأرق أو الخيالات.
أما إذا كان للمرض بداية محددة فنحن أمام سؤال جديد، والسؤال الذى نطرحه على أنفسنا ونحن تتدرج واحدة واحدة…هو:
هل هذا المرض (الذى هو ليس تخلفا عقليا، ولا زملة مخية عضوية، ولا اضطراب فى الطباع أو الشخصية) هل هو مرض نفسى كما يقول عنه العامة ويسمى عصاباNeurosis باللغة العلمية، أم هو مرض عقلى ويسمى ذهانا Psychosis.
إن التفرقة بين العصاب والذهان شائعة جدا، وهى مسألة فيها أقوال، ولكنى سأحاول أن أيسطها بقدر ما أستطيع.
المريض العصابى هو من تقول عنه العامة مريضا نفسيا، وأحيانا معقدا،
والطب يقول عنه أنه:
– مرض أبسط من غيره
– وأنه شائع جدا (لا يقل حاليا عن خمسة إلى عشرة فى المائة من الناس)،
- وفيه قد يكون المريض ما زال مثله مثل الناس ولكنه لا يشكو، ويظل مثله مثل نفسه، ولكن أعراضا جدت عليه أى أن تغيره يكون كمياquantitative،
- كما لا تتغير شخصيته ككل وإنما تضطرب أجزاء من سلوكه،
- وهو يعبر عن شكواه ومعاناته بطريقة عادية
- ويظهر تأثير اللاشعور عليه (اللا شعور هو: محتوى النفس الذى لا يدركه الانسان مباشرة فى وعيه) بطريقة غير مباشرة،
- وهو لا يرى هلاوس (أشباحا غير موجودة مثلا)
- ولا يعتقد فى معتقدات ضاله: “ضلالات” (أى أوهام ثابتة خاطئة غير مناسبة مثل أنه مبعوث العناية الإلهية لإصلاح مواعيد القطارات!!!)
والذهان فى المقابل:
- يتميز بظهور تغير كلى شديد،
- وهو تغير كيفى أحيانا (من النقيض إلى النقيض مثلا) أو هو تغير كمى شديد حتى ليعتبر كيفيا،
- كما أن مكنون النفس (محتوى اللاشعور) قد يخرج صريحا مباشرا مباشرا بلا تحوير،
- فضلا عن أن الأعراض الشديدة مثل “الهلاوس” و “الضلالات” (التى سبق الإشارة إليها حالا) كثيرا ما تظهر فى الصورة الكلينيكية.
وبعد هذا التمييز العريض يمكن أننتقل خطوة إلى تحديد النوع الفرعى من كل مجموعة (عصاب أم ذهان) كما سيأتى ببعض التفاصيل بعد ذلك) فنقول:
إن أغلب أنواع العصاب متداخلة حتى أن تشخيص العصاب غير المتميزUndifferentiated: Neurosis كثيرا ما يغلب على الأنواع الخاصة المتميزة، وبإيجاز مناسب لمجرد التقسيم نعرض لأربعة أنواع على سبيل المثال. فعندنا:
(1) عصاب القلقneurosis Anxiety: وهو العصاب “الأم” الذى تتفرع منه مختلف أنواع الأعصبة، ومظاهره تتراوح بين القلق والوهم الخائف العام غير المحدد وبين أعراض جسيمة دالة على اضطراب الجهاز العصبى الذاتى مثل سرعة خفقان القلب وعرق اليدين والإسهال وما إلى ذلك.
وسائر الأعصبة تظهر نتيجة فرط استعمال الحيل الدفاعية (الميكانزمات) للسيطرة على القلق والتخفيف منه جزئيا.
(2) الهيستريا: وهو يعنى أن المريض فى محاولته التخلص من القلق وعدم مواجهة الذات يصاب بالعجز العضوى دون وجود سبب عضوى، أو أنه يقسم مجرى وعيه حتى يفك مقمات الصراع (حالة فض اشتباك)، وتسمى الهستريا التى تحول فيها الصراع إلى عجز عضوى: هستريا تحولية Conversion hysteria أما الهستريا التى انشق فيها الوعى وحدث فض اشتباك فتسمى: هستريا انشقاقية Dissociative hysteria
(3) عصاب الرهاب Phobic neurosis وهو الخرف بلا مبرر من أشياء لا تخيف الشخص العادى بهذه الدرجة، مثل الخوف من الأماكن المغلقة Claustrophobia أو من الإصابة بالسرطان Cancerophobia أو من النظر من أماكن مرتفة Acrophobia وهكذا، وكل هذا المخاوف يعلم المريض أنها لا تضره ولكنه لا يملك التحكم فى نفسه ويصاحبها فى العادة اضطراب فى الجهاز العصبى الذاتى (السمبثاوى خاصة) مثل عرق اليدين والخفقان، كما يصاحبها الشعور بالتهديد بالموت، وهذه التفاعلات والمخاوف لابد أن kفرقها من التفكير المستمر (المجتر) فى مخاوف بذاتها، مثل التفكير فى قذارة الأيدى وضرورة تنظيفها باستمرار وهذا ما يسمى بالمخاوف الوسواسية ولا يصاحبها فى العادة اضطرابات عصبية أوتونومية.
(4) الوسواس القهرى: وهو تكرار فعل أو انفعال أو فكرة بشكل متواتر (يصل الى الاستمرار أحيانا) دون إمكان التخلص منها، رغم علم المريض أنها لا لزوم لها ولا تغنى عنه شيئا، فإذا كانت هذه الفكرة مخيفة سميت المخاوف لوسواسية phobisas Obsessive وإذا كان الفعل مثلا هو غسيل اليدين عشرات المرات سمى أحيانا “هوس النظافة”Washing Mania وهو ليس هوسا ولكنه عصاب كما ترى
وعلى الجانب الآخر، إذا كان الاضطراب خطيرا ونوعيا أومفسخا، أ ذهانا..، فإن الذهان إما ذهان الفصام schizophrenic psychosis أو ذهانات تحاول السيطرة عليه وإخفاءه
والإنسان وحدة كلية متماسكة فى الأحوال العادية، فإذا تفككت هذه الوحدة إلى وحدات أو أجزاء، سمى تناثرا، وهذا هو الفصام فى أسوأ أشكاله وينتج عن هذا التفكيك عادة تدهور فى الشخصية إذ لا يعود الإنسان إلى كفاءته السابقة
وباختصار فإن الفصامى متناثر التفكير (ما بيجمعش)، متبلد الشعور، مسلوب الإرادة.
والذهانات الأخرى (وأحيانا بعض أنواع العصاب مثل الوساوس) هى محاولة (مرضية أيضا) للحيلولة دون هذا التناثر والتبلد فالتدهور.
وفى محاولة منع التناثر تتكون دعامة جانبية غير واقعية من منظومة اعتقادات وهمية تسمى المنظومة الضلالية Delusional System وهذا ما وتسمى حالات الضلال أو ذهان الضلال Paranoid Psychosis فالمريض يعتقد مثلا أنه مضطهد ويبنى كل فكره وتصرفاته على أنه مضطهد، وبالتالى لا يjناثر حتى لا ينتهز الفرصة مضطهدوه وينقضون عليه، فالاعتقاد الوهمى بالاضطهاد يحفظ تماسكه
أما ذهان الهوس Manic Psychosisis، فالمريض يمنع التناثر بأن يسمح لمحتوى لا شعوره أنمباشرة فى نشاط زائد، وكأنه يفرج عن سكان المنزل (أو السجن) حتى لا تنتهى ثورتهم الداخلية بتحطيمه وتناثره (أى بالفصام).
بقى ذهان لإكتئاب Depressive Psychosis، وهو يعنى فرط الضغط على الداخل، وزيادة الكبت والقمع حتى يمنع القلقلة الداخلية التى تهدد بالتناثر (الفصام !!).
ولكن ليس كل اكتئاب هو ذهانى بالضرور ضد الفصام، فثمة اكتئاب نتيجة للإحباط، وثمة أنواع أخرى قد نرجع لذكرها حلا.
أما الأمراض الجسمية النفسية (السيكوسوماتية Psychosomatic) والتى تسمى حديثا الاضطرابات الفسيولوجية النفسية Psychophysiologic disorders مثل قرحة المعدة والاثتنى عشر، فهى أقرب إلى العصاب ظاهرا من حيث ظاهر السلوك وأقرب إلى الذهان (مكافئة له) من حيث معناها العميق.
وبنفس القياس تعتبر الانحرافات الجنسية Sexual Deviations أقرب إلى اضطرابات الشخصية فى العادة.
ملامح تطبيقية لأنواع من الأمراض
ملامح تطبيقية لأنواع من الأمراض
ملامح تطبيقية لأنواع من الأمراض
وهذا الفصل فيه ذكر سريع لبعض الأمراض
وكيفية تناولها بشكل عام ومن منطلق المجتمع العلاجى
1- أنواع من العصاب
رغم أن العصاب بأنواعه لا يحتاج إلى دخول مستشفى مثل هذه المستشفى، إلا أن التعريف به من جهة، وذكر بعض خبرتنا فى هذا المجال من جهة أخرى قد يكون مفيدا
اضطرابات القلق:
تنقسم الاضطرابات القلق إلى ثلاثة أنواع شائعة غير الأنواع الأخرى الفرعية)
1- القلق العام غير المحدد (القلق الطافى الهائم!!) وهو – كما شزنا يشير إلى شعور غامض وملاحق بالخوف من المجهول، من الاحتمالات، من الاقضاض، من الخطوة التالية، من نبأ غير متوقع، من تأخر ابن فى الخارج بعد العشرة مساء، وينتقل عادة من مؤثر إلى مؤثر مهما اطمأن على الأول.
2- نوبات الفزع (الهلع) المرعب: وهى نوبات خوف منقض، تحدث بشكل مفاجئ تقريبا، ويصاحبها خقان فى القلب، وعرق، وشحوب فى اللون، وربما رعشة فى اليدين (أى أعراض نشاط الجهاز العصبى الأوتونومى والسمباثاوى خاصة)، وى عادة لا تكون مرتبطة بمؤثر بذات- رهابات المواقف (والأشياء والأفكار): وقد أشرنا إلى بعض أمثلتها حالا، ومن أشهرها حديثا: رهالمجتمع social phobia، وتشير إلى الخوف من لقاء الناس، ما يظهر حين الاضطرار إلى الحديث بصوت مرتف، أو إلقاء محاضرة.
وتجربتنا مع هذه الأنواع ترتبط بظروف محددة بحسب أسباب وظروف الارتباط بهذه المؤسسة.
ومن ذلك:
1-أن القلق عامة يبدو جزءا لا يتجزأ من الصورة السلوكية لبعض الذهانات، أى أننا نقابله كعرض أكثر منه مرضا فى خبرتنا فى هذه المؤسسة.
2- أنه مرتبط أشد الارتباط ببعض العقاقيرالتى يأخذها المريض النفسى، مما يسمى بالمهدئات الجسيمة.
3- أنه قد يصل فى بعض اضطرابات الشخصية إلى درجة لا تطاق، ويكون بذلك وراء الدافع إلى الإدمان أحيانا
4-أن الجانب الحركى منه (عدم الاستقرار فى مكان، وكثرة الذهاب والمجيئ، وفرك اليدين..إلخ) يكون ظاهرا أيض كمضاعفة من مضعفات بعض العقاقير.
5- أننا نهتم بدلالة هذه الأعراض اهمتاما شديدا، لأنها تدل على جمود داخلى فى الشخصية، وهذا الجمود يصاحبه نوع من الاندمال الذى يقلب الطاقة إلى تناثر حركى بدلا من أن تكون دفعا للفعل، وزخما للتواصل مع البشر والإبداع.
6- إننا إذ نقابل نوبات الفزع نقيمها حسب الموقف الذى ظهرت فيه، والمرحلة التى يمر بها المريض معنا، لأنها قد تكون إنذارا بانهيار جديد، لكنها أيضا قد تكون تخوفا من قفزة نوعية محتملة، وهى تختلط كثيرا مع عرض بدايات الذهان المسمى الهلع apprehension.
7-إن الرهابات (المخاوف) ليست متواترة بالصورة العادية الشائعة فى هذا المجتمع العلاجى، اللهم إن كانت جزئآ لا يتجزأ من اضطراب الوسواس القهرى (أنظر بعد) وكذلك إن كانت مصاحبة لذهانات أخرى.
8- إن العلاج الجمعى ينجح بشكل خاص فى رهاب الموجهة الاجتماعية، من حيث طبيعته، وأيضا كنوع من العلاج السلوكى.
عصاب الهستيريا:
رغم أن الاسم لم يعد مقبولا فى الاستعمال العلمى الأحدث فى تقسيمات الأمراض النفسية، ورغم أن العامة يستعملون الاسم بمعنى الهياج أو التخريف بصفة عامة، فإن للسم تاريخا ودلالة تجعلنا نفضل الاحتفاظ به فى هذه المقدمة
والهستريا بالذات من أدق لغات العصاب رمزا ودلالة
فالمريض الهستيرى يعبر بجسده، أو بفصل جزء من وعيه، عن حاجة داخلية، أو احتجاج مكبوت.
ورغم أن الشرح هكذا يعنى أنه يقصد حدوث العرض الفلانى أو العلانى فإن هذا غير صحيح، وإلا فإنه يعتبر متمارضا ومدعيا
وعلى ذلك فإن تقبلنا لمريض الهستيريا يكون ذا شقين، فنحن من ناحية نقبل لغته، ومن ناحية أخرى نرفض طريقة التعبير عنها.
فإذا كان الشلل فى الذراع يعبر عن عدمالرغبة فى إطلاق العدوان، فنحن نحترم إحجامه عن العدوان الفج، ونعلمه كيف يعبر عن عدوانه بطريقة أكثر تقبلا، وفى نفس الوقت نرفض الكف بهذا الشلل المهين.
تطبيقات خاصة:
لاحظنا أن المريض الهستيرى يكاد لا يحتاج تدخلا أصلا بمجرد أن يضع قدمه فى المجتمع العلاجى، وأنه يشفى فورا فى خلال يوم أؤاثنين على الأكثر (إلا فى الحالات التى تكون فيها الهستيريا مجد عرض لاضطراب أخطر)
وأنه لا يسارع بطلب الخروج من المستشفى رغم اختلاف حالته عن الحالات الأصعب الموجودة بها (وهذا بعكس أهله عادة الذين يلحون فى الزيارة والخروج باستمرار)
وأنه بذلك، قد أعفانا من أى تد]هل مؤلم مما اعتاده بعضنا على مستوى العيادة الخارجية،
بل إنه قد يشفى من العرض دون ما يسمى بالإيحاء.
وقد زادتنا هذه الخبر احتراما لمعنى العرض الهتيرى بشكل أو بآخر
وتبدأ العلاقة العلاجية الممتدة بعد خروج المريض مباشرة من المسشفى
وقد لاحظنا بوجه خاص أن مسألة الاحترام الداخلى لهذا المرض تصل إلى المريض أسرع وأعمق من الموقف على مستوى العيادة الخارجية
وقد رجحنا أن ذلك يرجع إلى المبأ العام الذى أشرنا إليه من أنالعصابى يطمئن إلى ما يجرى فى هذا المجتمع العلاجى من تقبل (مشروط طبعا) بما هو ذهان، وبالتالى يصبح العرض الهستيرى الذى هو تعبير ظاهر عن صراع سطحى، وفى العمق هو خوف – أيضا- من الذهان، فمتى اطمأن لما هو أعمق لجأ إلى أسلوب أكثر صحة وواقعية للتعبير..
الوسواس القهرى
يصف هذ المرض بمنط شديد التحديد، شديد التميز.
والواقع أننا فى هذا المجتمع العلاجى قد مارسنا خبرة خاصة فى هذا الصدد
وبصفة عامة فإن المريض بهذا الاضطراب – العصابى فى العادة- يعانى من تكرار فعل بذاته، أو فكرة بذاتها، أو مشاعر خوف خاصة تجاه مؤثر أو موضوع بذاته، رغم أنه يعلم يقينا أن هذا شاذ وغير طبيعى، فإذا قاوم ذلك فإنه يشعر بتوتر هائل، يزيد كلما زادت المقاومة، لذلك لابد أن يستسلم فى النهاية، فيقوم مثلا بغسل يديه عدة مرات رغم يقينه ينظافتها، وهكذا.
وعادة ما تكون هذه الأعراض شديدة الثبات طويلة المدة (عدة سنوات )
وهى أعراض لا تستجيب للعلاج النفسى إلا المطول منه، وبنسبة محدودة
لكنا – مؤخرا- تستجيب لبعض الاستعمالات الأحدث لمضادات الاكتئآب (الأنافرانيل خاصة) بشكل متميز، حتى أن ذلك غير بعض فكرنا فى العلاقة بين الترميز التحليلـى، وبين السلوك المرضى المتكرر، وبين التركيب الكيميائى والنيورونى الثابت للمخ0
بمعنى أن استجابة مرضى هذا المرض لهذا العقار ومثله لا ينفى أن المريض وهو يكرر غسيل يديه مثلا، أو غلق الأبواب، لا يرمز بذلك إلى محتوى فى اللاشعور، لكننا ذهبنا بعد ذلك إلى أن هذا الترميز المتكرر يثبت حلقات كيائية ونيورونية بشكل معين، وبالتالى فإذا جاء عقار وكسر هذه الحلقة الثابتة، المتكررة فى موقع بذاته، فإن فرصة العدول عن السلوك تصبح ممكنة من خلال التقاط التدريب والقيام بتفسيره من ناحية، والتدريب (العلاج السلوكى) على تجاوزه من ناحية أخرى.
تطبيقات خاصة.
فى خبرتنا الخاصة فى هذا المجتمع العلاجى واجهنا هذا الاضطراب على الوجه التالى:
1- وصلت شدة الأعراض فى بعض المرضى أنها أصبحت تحول دون قيام المريض بأى نشاط، بما فى ذلك العناية بالأمور الشخصية، أو العلاقة الزوجية، أو حتى المظهر العام، رغم عدم وجود أى أعراض ذهانية أخرى (مثل الضلالات والهلاوس)، وقد اعتبرنا هذه الحالات تحتاج إلى مساعدة مكثفة تقترب من أصعب الحالات التى تصف الجمود عقب ذهان،أو أشد حالاتاضطراب الشخصية.
2- احتاج الأمر فى هذه الحالات التى لا تستجيب لا للمهدئات الجسيمة، ولا لجلسات التنظيم الكهربية، ولا حتى للعقاقير الأحدث، احتاج الأمر إلى تدخل شديد شمل العدو القصير والطويل، والحرمان من النوم، والعلاج الجمعى، حتى أمكن تعتعتة التكيب الجاثم، ولا نستطيع حساب قدر الاستجابة، إلا أن من استمر من هذه الحالت سار سيرا طيبا فى مدى طويل.
3- فى الحالات الأقل جمودا، كان الاختلاط بلاذهانيين مفيدا من نفس المنطلق السالف الذكر، أى أن هذا النوع من الوسواس يكون بمثابة سياج ثقيل (أسمنت مسلح) يحمى من احتمال التناثر المرعب، فما إن يرى بعض هؤلاء المرضى أن ما يسمى بالدهان، أو بالتناثر أو حتى بالجنون ليس بكل هذا الإرعاب، تلوح فرصة للتقدم خطوة نحو التخفيف من هذه الددفاعات المجمدة.
اضطرابات الشخصية:
تعتبر اضطرابات الشخصية حجر زاوية بالنسبة لممارسات هذا المجتمع العلاجى.
ورغم كثرة الجل حول شرعية انتماء اضطرابات الشخصية إلى الطب النفسى أصلا، بمعنى أن ثمة رأيا يقول إنها مشكلة اجتماعية، أو أخلاقية أو تربيوية، رغم ذلك فقد وجدنا أن هذا المفهوم يمثل محورا أساسيا فى نشاطنا على الوجه التالى:
1- إن اضطراب الشخصية لا يظهر فى شكل أعراض محددة المعالم (وجود هلوسات أو ضلالات أو فقد التعرف على المكان والأشخاص مثلا) وإنما هو نمط سلوكى بذاته..وقد سبق أن أشرنا كيف أننا نهتم أكثر بمثل هذا النمط، من اهتمامنا بالأعراض،.
2-رغم أنه نمط، وليس أعراضا، فإننا قد وجدنا أن الإعاقة المترتبة عليه هى من أصعب ما يمكن، وخاصة فى مجال العلاقات الاجتماعية والأخلاق.
3-إن مقهومنا لاضطراب الشخصية لا ينبنى أساسا على اعتبار وجود هذه السمة أو اختفاء تلك، وإنما باعتباره توقف حقيقى يكاد يكون دائما عن نبض النمو، بمعى الجمود المطلق، أو الحركة فى المحل (محلك سر)، وهذا يصعب قياسه فى الأحوال العادية، إلا أننا فى هذا المجتمع العلاجى وجدنا أن التحدى الحقيقى يدور حول هذا المحور، وبالتالى فنحن نستطيع أن نزعم أننا أصبحنا قادرين على التكلم باللغة الطولية إن صح التعبير (أى بلغة: هل تجمد المريض؟ هلى عاد ينبض؟ هل عنده فرصة؟ هل قل خوفه؟ إلخ)، وأصبح الطبيب الأصغر يحاور زميله وكأنه يرى رؤى العين كم الهلاوس، أو نوع الضلالات.
4- إن موقفنا فى الحلات الحادة يتحدد أساسا أننا لا نريد أن نقضى على الحدة والسلام، بقدر ما هو أننا إنما نقضى على الحدة فى ظروف ” لا تطفئ المريض” على حد التعبير الشائع الذى نكرر استعماله
وهذا مانسميه ”الموقف الوقائى ضد الخروج من أى نوبة حادة إلى جمود يسمى فى النهاية (أو على الأقل يكافئ) اضطراب الشخصية.
5- إننا نعتقد أن اضطراب الشخصية -من هذا المنطلق- يمكن أن يبدأ فى أى وقت، على عكس الشائع من أنه لا بد أن يبدأ فى الطفولة أو المراهقة المبكرة.
فالأهم من خلال خبرتنا هو ما أسميناه “اضطراب الشخصية ذا البداية المتأخرة” late onset personality disorder، واضطراب الشخصية بعد الذهانpost psychotic personality disorder.
ومن الملاحظة 4 + الملاحظة 5 نستطيع القول أننا نشعر بمسئولية مطلقة على عاتق الطبيب النفسى (والأهل والمجتمع بداهة) بالنسبة لتواتر هذا الاضطراب عقب النوبات الحادة أو النشطة.
6-إننا نعامل الأمراض المزمنة، المستقرة ،من نفس منطلق موقفنا السالف الذكر من اضطراب الشخصية، بمعنى أن المرض المزمن إذا استقر، فهو جمود أكبر، وإعاقة للنمو أخطر، بالإضافة إلى وجود علامات التناثر وبقايا الأعراض..
أنواع اضطرابات الشخصية:
تصنف اضطرابات الشخصية تصنيف متنوعا، على قدر ما يغلب عليها من سمات، فعندنا الشخصية الشيزيدية (المسماة خطأ شبه الفصامية) وعندنا الشخصية التوجسية (البارانوية) والشخصية النوابية (أو الدورية، أو الفرحانقباضية، نسبة إلى التناوب بين الفرح والانقباض) وعندنا الشخصية، وعندنا الشخصية البينية (وهى تسمية أمريكية سخيفة، لم توضح تماما بين ماذا وماذا، فهى أقرب إلى الشخصية غير الناضجة انفعاليا)
وننبه هنا أن غلبة سمة بذاتها أو سمات بذاتها لا ينبغى أن تعتبر مرض أو اضطرابا فى ذاتها، ذلك لأن أغلب هذه الأسماء هى نوع من التصنيف الذى يمكن أن تتصف به شخصيات عادية فى الحياة العادية، وتظل تعتبر عادية مادامت لم تصل إلى حد الشكوى أو التصادم مع الواقع والمحيطين.
لكن هذ المجتمع العلاجى علمنا أن المسألةج ليست فى غلبة هذه السمة أو تلك بقدر ما هى فى نوع التوقف عن النضج.
1- فثمة توقف عند مرحلة طفلية، أو مراهقية، لم يصل فيها الإنسان أصلا إلى ثبات عل سمات نمطية مميزة بقدر ما احتفظ-رغم سنه- بسمات طفلية فجة مثل العتمادية، والندفاعية، والذاتوية (التحوصل على الذات) وتقلب الانفعال، والميل إلى المبالغة.
2- وثمة توقف نتيجة لتضخم بعض السمات وثباتها، نتيجة لتثبيت هى مرحلة من مراحل النمو، تثبيتا نتيجة لفقر فرص تجاوزها نمويا أو تربيويا، أو نتيجة للتعود الخاطئ والجمود عندها أمانة (واللى تعرفه أحسن من اللى ما تعرفوش).
وهذه المجموعة تشمل الشخصية الشيزيدية، والشخصية البارنوية، والشخصية الوسواسية والشخصية الاكتئابية، كأمثلة
3- وثمة توقف نتيجة لتكرار الاجهاضات النزوية، بمعنى تفريغطاقة النمو فى نوبات مفككة، كلما تجمعت لتدفع بسميرة النمو، ومثل ذلك الشخصية الانفجارية والشخصية العاصفية.
4-ثم ثمة توقف نتيجة للسير (أو بالأصح) الدوران فى المحل، مثل الشخصية النوابية، التى توحى بالتقلب بين المرح والاكتئاب فى حين أنها تنتقل من أى منهما إلى الآخر فى اتجاه مستعرض، يفرغ الطاقة ولا يساعد على البسط إلى الأمام.
5- وأخيرا، فقد شرحنا ما أسميناه بالشخصية الذهانية، وهى شخصية لا تظهر أعراضا ذهانية صريحة، وإنما تحقق غاية الذهان، وتكاد تمارس (تفعلن) محتوى اللاشعور الفج والشاذ تحقيقا نمطيا فى ظاهر السلوك، وكأن الأمر انقلب فأصبح اللاشعور هو الشعور، وبالعكس (أى أصبح ما يسمى الشعور عند الشخص العادى هو اللاشعور) حتى نتصور أن مثل هذا الشخص يكبت الفضيلة، ويتحرج من الطيبة، ويعتذر إذا ما ظهرت حسن شمائله بالرغم منه (كأمثلة للقلب، لذلك تسمى أيضا الشخصية المنقلبة Inversed Personality ظاهرها باطنها)
ولا نعتبر هذه التفصيلات مزيدة فى هذا لتقديم هذه العجالة الموجزة عن المجتمع العلاجى، لأن قضية المجتمع العلاجى هو التعامل مع الشخصية أكثر منها رصد الأعراض وملاحقتها ولأن العلاج هو إطلاق سراح قوى النمو فى الاتجاه الصحيح، واضطراب الشخصية بأنواعه هو التحدى المضاد لهذا الاتجاه.
تطبيقات خاصة:
من هذا الواقع المبسط، ننطلق فنحكى خبرتنا إزاء هذا البعد التركيبى والنموى لاضطرابات البشر فى مجال مجتمعنا العلاجى.
1- انتباه ومسئولية: من هذا المنطلق – منطلق عميق فهمنا لما هو علاقة اضطراب الشخصية بالنمو – رحنا نتحمل مسئوليتنا منذ البداية، كما ذكرنا، فنعتبر أنفسنا مسئولين منذ لحظة تسلم الأمانة (ثقة المريض وأهله) عن استمرار الجمود، وعن احتمال خروج المريض من الأزمة المرضية الحادة بمزيد من الجمود
نعم لا بد من الاعتراف أننا نقيس نتائجنا ليس فقط باختفاء الأعراض، وإنما حتما بمدى اختفاء الدفء الإنانى، وخفوت الرنين العاطفى، وانطفاء احتمال الإبداع، ومدى همود الحركة أو تشتت الطاتقة، وكل ذلك – للأسف – ليس إلا صفات مباشرة لما هو اضطراب الشخصية.
2- لا نستطيع أن نشخص مرضا بذاته إلا إذا زضفنا إليه بعد ما هو الاضطراب المصاحب، أوالأساسى فى الشخصية، وحيننعالج، نركز على الاثنين معا حتما ودائا.
3- لا حظنا أن مشكلة الإدمان هى فى أغلب صورها المظهر الكيميائى – إن صح التعبير لاضطرابات الشخصية- (أنظر بعد فى الإدمان.
4- لاحظنا أيض أن كثيرا من الأهل يمكن تشخيصهم باعتبارهم يعانون من اضطراب الشخصية، ولمنسمح لأنفسنا أن يكون هذا اتهام لهم بأنهم السبب، ولا أن يكون هذا مبررا لنا لدعوتهمللعلاج (تقليديا)، لكن هذه الرؤية جعلتنا نحمل أمانتهم مثلما نحمل أمانة العضو الأكثر مرضا سواء بسواء.
5- كان من الواضج لدينا منذ البداية، واشتد وضوحا بعد تكرار الفشل أن تحريك التركيب المضطرب والمتجمد للشخصية هو مهمة صعبة، ووصلنا إلى قناعة ألا نحاول فى هذا الاتجاه أبدا إلا إذا:
ا) حدثت مضاعفات شديدة وألحت (مثل الإدمان)
ب) رجحنا أن تكرار النكسات – مع خطورتها- هو النتيجة الحتمية لثبات التركيب.
6- لاحظنا كذلك أنه بتقدم السن، تنهك مثل هذه الأنواع من الشخصيات، وبدلا من أن يكون التقدم فى العمر مصاحب بإقلا الفرص فى النبض والنمو، فإن التقدم فى العمر فى حالة اضطراب الشخصية يلوح بالإنهاك لدرجة أن أزمة منتصف العمر – مع مايصاحبها من اكتئاب حقيقي- تكون فرصة حقيقية لاستعادة نبض النمو.
7- كذلك لاحظنا أنه مهما كانت البداية فى العلاج النفسى الجمعى، فإننا سرعان ما نواجه مسألة اضطراب الشخصية، وبالتالى يكون التركيز فى بقية المسار علـى تغيير هذا النمط من خلال الفرص المتاحة.
8- ثم إنه بالرغم من عدم وجود أعراض محددة فإن تحمل المضطرب شخصيته للمهدئات الجسمية يبلغ مبلغ لا نراه فى حالات الذهان الشديدة.
9- وقد تعلمنا من مسيرة الفشل والنجاح أنه لا ينبغى تقييم علاج اضطراب الشخصية فور العلاج، ولا فور الخروج من المستشفى، وإنما بعد سنوات عديدة فكثيرا ما جاءوا وشكروا، وكثيرا مادعونا لحفلات زفافه بعد أن كنا قد تيقنا بالفشل وسمعنا بالنكسة، وكثيرا ما جاءوا يستشيروننا فى شئون أولا دهم، على غير ما توقعنا.
10- كذلك لاحظنا أن ما يصل إلى هذا المريض أثناء النشاط، أو السهر (الحرمان من النوم) أو العلاج الجمعى، أو فى جوف البحر، إنما يصله كرسالة سريعة غامضة أكثر مما يصله كخطابة لفظية محددة، ثم تظهر آثارها بعد حين، لكننا والحمد لله تعلمنا كيف نرصدها.
11- إنه فى هذه الحالات بوجه خاص نحتاج لأكبر قدر من الإحكام للمجتمع الخارج، يظهر هذا بوضوح فى بعض العاملين فى الشركات، حين يصبح للمرض مكسبا ثانويا (إجازات عمل خفيف)، وهنا يتحتم التفاهم مع السلطة الطبية والسلطة الإدارية بأكبر قدر من الإحكام، ثم ما إن نكسب ثقة المريض حتى تعاد صياغة التفاق، ثم يأخذ فرصته مثل غيره بشكل أو بآخر.
12- أن فائدة المستشفى لمثل هذه الحالات تتركز فى بدء العلاقة وليس فى إتمام العلاج، وأن المريضص يحترم الجهد الذى يبذله الأطباء، رغم ذاتويته، ومن هنا يبدأ النظر فى رهادة تقييم أحكامه. 13- أن ظهور الاكتئاب هو أمر نادر، وثمة نوعان من الاكتئاب ينبغى التفرقة بينهما من البداية فى مثل هذه الحالت خاص{(أنظ أيضا الاكتئاب) وهما اكتا الاعتماد (النعابة)، واكتئآب الوعى (الألم النفسي)، ورغم أن الأخير أكثر ندرة وأصعب تمييزا فإنه يظهر حين تصل الرسالة وتنهك الحيل المهطلة، فى حين يظهرالأول نتيجة لمأزق الحيلولة دون تحقيق اللذة.