نشرة “الإنسان والتطور”
2-11-2011
السنة الخامسة
العدد: 1524
تاريخ النشر الأول الأهرام: 1/6/1999
الجزء الثانى:
هم يحتاجوننا بقدر ما نحتاجهم (2 من 2)
مقدمة:
انتهى مقال أمس بتساؤل عن البديل (للتلفيقات والمزاعم والتسويات المرفوضة) وعن القضايا الأولى بالتقديم والعناية، وفيما يلى محاولة الإجابة.
****
……………….
………………
إن الحديث عن نوعية الحياة لا بد أن يجرنا إلى أصل الحكاية، وهى البحث عن ما هية الإنسان، وكيف أسهمت، وتسهم ، كل روافد المعرفة من علم وفن وإيمان وأديان، فى الكشف عنها، ومن ثم تعهدها وتنميتها، إن الإنسان حين ابتلى بالوعى والحرية أصبح ممتحنا بالإسهام فى تحديد مساره ومصيره، وما يجرى الآن ممن استولوا قسرا على قيادة النظام العالمى الجديد لا يبشر بخير كثير فى الاتجاه الصحيح، وقد تعلمت أننى بمجرد استعمال لغة مثل “ماهية الإنسان” أو “موضوعية الوجود الإلهي، أو مسألة الفطرة”، أن أواجه للتو باعتراضات الخائفين من الفلسفة (رهاب الفلسفة)، والحريصين على تصنيف البشر والأقلام، تصنيفهم: إما يسارا أو يمينا، إما متدينا تقليديا أو ملحدا غبيا، إما أصوليا رجعيا أو متنورا مدعيا، ولا ينقذك من كل هذا أن تؤكد أن هذه القضايا الأساسية هى جوهر الوجود البشرى، وأنها تشغل الطفل والأمى مثلما تشغل المتفلسف والمتفيقه والعالم والفيلسوف جميعا، وإن اختلفت لغة ومستويات الانشغال. إن الإنسان بمجرد أن يمارس وعيه بانفصاله عن أمه يحاول أن يحقق بشريته جنبا إلى جنب مع محاولة تحقيق ذاته، فامتدادها، هذه هى قوانين النمو الإنسانى لكل فرد دون استثناء، وهى ليست خاصة بمناقشات نظرية أو أبحاث قاصرة على الخاصة.
إننا نتعرف على ما هو نحن، ليس من محفوظات المدرسة أو نتائج الأبحاث أو نشرات الأخبار، وإنما من كل ما نأتى وما نذر، ما نعلم وما نحس، ما نمارس وما نبدع، ونحصل على هذه المعرفة حتى ونحن نيام. إن مصادر التعرف على ماهية الإنسان ليست هى العلم وحده، وليست المناقشات الفلسفية المعقلنة الرصينة فحسب، وليست التلفيق، قص ولصق (شوية تكنولوجيا على شوية دين على شوية معلومات على شوية ديمقراطية- ملحوظة: شوية كلمة عربية = القليل من الكثير، الوسيط) ، إنما نتعرف على ماهية الإنسان من واقع الممارسة التى تنتج نوعية من الحياة يختص بها الإنسان حين يتصور أنه أرقى المخلوقات المعروفة، مؤتنسا بإقرار ذلك من رب العالمين “ولقد كرمنا بنى آدم”
كرمنا ربنا بماذا؟
بما خلقنا به، وبما سهل لنا تحقيقه
أما أن نركز على أن نتميز بشرا بمزيد من التكنولوجيا أو بمزيد من الاستحواذ الاغترابى أو بتعميق لما يسمى مجتمع الرفاهية ، فهذا هو ما يحتاج إلى وقفه ووقفة؟
حتى الإبداع المنتج إذا حلّ محل إبداع الحياة فالأمر يصبح تسكينا مؤقتا لا مانع من تنميته حتى نتحمل مسئولية إبداع الحياة ذاتها. لكى يكون الإنسان إنسانا عليه أن يعمق ما يميزه، مما أعتبره فرض عين على كل حي، إذاقام به البعض لا يغنى عن الكل، حتى لو كان هذا البعض هو الرئيس كلينتون شخصيا، هداه الله وغفر له، وبالتالى فإن على كل فرد أن يجتهد فى هذا الاتجاه، إذا كان يريد أن يبرئ ذمته من الورطة التى تورط فيها إذ حمل أمانة الوعى وشرف الاختيار.
من هنا تبدأ نقطة الانطلاق للحديث عن “نوعية الحياة، واحتمال أن يكون منطلقنا إليها بالممارسة الآنية والواعدة مختلفا عما يلوحون لنا به، فلا نسارع بالتنافس على القسم بأغلظ الأيمان أننا ديمقراطيون جدا، ومحافظون على البيئة 100%، وعلى حقوق الإنسان المكتوبه بالمواصفات التى يحددها ويتابعها الراعى الأمريكى جدا..إلخ، إن علينا أن نبحث عن مواصفات بشرية بديلة عن المعروض فى السوق هى موجودة حتما بدليل أننا مازلنا بشرا رغم كل شيء- مواصفات يمكن أن تحقق الحرية وليس فقط الديمقراطية، أو تحقق العدل وليس فقط الحقوق المكتوبة، أو أن تصالحنا على الطبيعة لنظل فى حوار دائم معها، وليس فقط خفراء للحفاظ على ما نجتزئه منها ونسميه البيئة، إن قضايا العدل والحرية والعلاقة بالطبيعة وبالامتداد فى الكون بالإيمان لم تحسم بانهيار اتحاد السوفيتي، ولا بالسماح بانتقال الأموال، ولا بإغراق العقول بقصاصات المعلومات الصادرة عن تثاؤبات الوعى البشرى المصنوع.
فهل ثم سبيل نساهم به فى إضافة متواضعة يمكن أن تنير بعض هذه الجوانب الأساسية؟
إن التأكيد على حقنا -بل واجبنا- فى اكتشاف نوعية الحياة يحمل فى طياته التكليف بالبحث عن ما هية الإنسان فى حضوره المتطور أبدا، فالدعوة ليست قاصرة على التنبيه إلى حياة روحية (ضد المادية)، أو حياة بشرية راقية (ضد الحيوانية)، أو حياة ديمقراطية أو نقابية (ضد الشمولية والتسلطية)، وإنما هى دعوة للإسهام فى اكتشاف كيف نحن، وكيف اخترقنا التاريخ البيولوجى العريق حتى صرنا بشرا هكذا؟
هكذا ماذا؟
يبدو أن سيدى أحمد البدوى كان يحاول الإجابة على هذا السؤال وهو يدعو ربه دعوته المفضلة: اللهم أرنى الأمور كما هي، وهذا أيضا هو ما بلغنى من تكرار الابتهال من صوفى لا أعرف له إسما محددا وهو يذكر الله بابتهال لم أفهمه لأول وهله، وهو يردد: “ربى كما خلقتنى، ربى كما خلقتنى، ربى كما خلقتنى”، لقد خلقنا الله فى أحسن تقويم، ثم سمح لمن لم يرع هذا التقويم أن يرتد إلى أسفل سافلين، حتى لو كان هو قائد النظام العالمى الجديد، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات،
واجبنا الآن، وليس بعد، أن نعرف كيف نستعمل أدوات العولمة الجديدة لنكون من هؤلاء المستثنين الذين يحاولون أن يعرفوا كيف يحافظون على أنفسهم ورعيتهم فى أحسن التقويم الذى خلقوا عليه.
إنها دعوة للجهاد الأكبر لنتعرف على “كيف خلقنا الله”، وعندنا فرصة أكبر باستعمال الوسائل الحديثة، وأكرر:التى لا تشمل اختزال الدين إلى ما أتى به العلم الحقيقى أو الزائف، ولا اختزال العلم ليتحرك فى حدود وتحت وصاية تصور تفسير الدين.
إننا حين نتصور أننا نختلف عنهم لا بد أن نفهم أن ذلك الاختلاف – إن صح- يصب عائد ممارسته الإيجابية فى كل من هو إنسان أينما كان، إن ميزة الغرب الحقيقية ليست فيما أنجز، بقدر ما هى فى قدرته على نقد نفسه باستمرار، وعلى المراجعة وعلى إعادة المراجعة الكرة تلو الكرة.
إن خطورة العولمة ليست فى أدواتها، ولا فى منهجها، وإنما تأتى الخطورة من احتمال أن تتمادى القوى الأغبى فى استعمالها لتحقيق مكاسب جزئية لفئة ، أو فئات خاصة، على حساب تشويه إنسانية الإنسان الذى تمثله الأغلبية الساحقة من التابعين أو الذاهلين أو الجوعي، فتكون فتنة لا تصيب الذين عولمونا خاصة .
فكيف نتقى ذلك؟
وهل ثمة مجال - بظرورفنا الصعبة وإمكانياتنا المتواضعة – أن نساهم فى أن نكون كما خلقنا الله لا كما يرسمنا الأمريكان، ولا كما يرسمون أنفسهم حتى؟ ثم نهدى ذلك إلى كافة البشر، – بما فيهم من ينحدرون إلى ما – الله إليه؟ وكيف السبيل؟
علينا أن نعيد النظر فيما فعلناه بديننا، أدياننا، وعقولنا، ووجودنا، من منطلق آخر، منطلق ينقذنا فينقذهم، يضيف إلينا فيرحمهم، وذلك حين نعطى لوسائل المعرفة الأخرى حقها فى صياغة حياتنا، أو حين نتعمق فى التصالح مع الطبيعة، وليس فقط فى الحفاظ على البيئة لتطيل أعمارنا بنفس المواصفات، إننا نسينا معنى الحوار مع الطبيعة، العبادات فى الإسلام التى ارتبطت بالطبيعة وإيقاعها الحيوى طول الوقت، وربما يكون الأمر كذلك فى غير الإسلام كلا بطريقته، لكننا أغفلنا ذلك لحساب تقديس أدوات تفصلنا عن الطبيعة ونحن نحكم بها فى غير مجالها.
إن واجبنا ونحن نعيش أزمة التحدى المعاصر أن نجددإيماننا باستلهامات إبداعية، وليس أن نجمد تديننا بتفسيرات انتهى عمرها الافتراضي، مع النهل من كل مناهل المعرفة دون استثناء.
إن مقولة “إن الله موجود”، هى محور التوحيد أصل الأديان، وهى مقولة إذا حضرت فى الوعى تجلت فى كل نبض الحياة اليومية، وحتى الأديان التى لا تعلن مثل هذه المقولة مباشرة (مثل البوذية) إنما تحضرها ممارسة والتزاما، ولأن الإسلام هو دين شديد البساطة (قبل التشويه والاغتراب) شديد الغور فى نفس الوقت، فإن هذه المقولة تتبدى للمسلم الحقيقى بشكل حاضر طول الوقت، حقيقة “إن الله موجود” وحين نقدت -فى مقالى السابق- مقولة “إن الدين لله والوطن للجميع”وكذا “ما لقيصر لقيصر وما لله لله:(وكان هذا من بعض ما أثار المنتقدين على المقال)، كنت أعنى أن الدين لله، والوطن لله، والكل لله والنفس لله، ليس بمعنى الدروشة ولا تحفيزا لكسل عقلى أو اعتماد سلبي، بل تأكيدا على حضور هذه الحقيقة وعيا قادرا فى الوعى البشرى المنتمى إليها طول الوقت،
إن تغريب حضور الله سبحانه عن الوعى البشرى اليومى وقصره على العبادات أو الحلال والحرام يجعل الممارسة الدينية وكأنها أمر اختيارى متقطع بعض الوقت، بل إن الجماعات الدينية وهى تنادى أن الإسلام “دين ودولة” تبدو لأول وهله وكأنها ركزت على البعد السياسى النفعى الظاهر، إن الدعوة لحضور الله فى الوعي، وبالتالى فى الفعل اليومى، هو الذى يحقق أن يكون الإسلام، وغير الإسلام، دين، ودولة، وفن، ونوعية حياة، ونبض خلايا، وأنفاس طبيعة، وكل ما هو “ربى كما خلقتني”.
فهل تمنعنا أدوات العولمة من مواصلة هذا الجهاد الأكبر؟ أم تسهله علينا؟
حاولت أن أقول فى المقال السابق أنها يمكن – إذا أردنا واجتهدنا- أن تسهله علينا
فهل نحن أهل لذلك؟ وهم: أليسوا فى حاجة إلى بعض ذلك؟
إننى أتصور أن فرصتنا أكبر بفضل الفقر النسبى والإيمان المتبقي، دون وصاية الجمود والغرور،
فهل نحاول؟ لعلنا نجد إجابات تنفعنا فتنفعهم.
فهل نحاول طول الوقت بدءا من هذه اللحظة؟
وهل نملك غير ذلك؟