نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 16 -2-2013
السنة السادسة
العدد: 1996
حوار مع مولانا النفّرى (15)
موقف “الفقه وقلب العين“
مقدمة:
..قلت لمولانا: وهكذا اضطررت إلى الانتقاء!!..،
كان لى زميل وأنا فى الخامسة عشرة من عمرى، ونحن فى سنة رابعة ثانوى، رحمه الله، اسمه حسن قنديل (أصبح سفيرنا فى السويد) هو الذى عرفنى على ميخائيل نعيمه ونجيب محفوظ، وبالذات على كتاب ميخائيل نعيمه “كرم على درب” الذى صدّره بقوله: “كرمى على درب، فيه العنب وفيه الحصرم، فلا تلمنى يا عابر السبيل إن انت أكلت منه فضرست”.
ولم أعتبر نفسى يا مولانا عابر سبيل فى روضك الفياح، كما أننى لم أضرس من أى من مواقفك، لكننى حين سمحت لنفسى بالانتقاء ضبطت نفسى متلبسا بالاستسهال، إذْ كلما قرأت موقفا لم يصلنى لصعوبته، أو حيّرنى إزاء كلماته، أو أثار فىَّ الشكوك فى سلامة نقله، أو شعرت بحيرة فى تشكيل بعض ألفاظه، أروح أراجعه، أقرأ الكلمة مرة بشدَّة وفتحه، ومرة بفتحه فقط وأحيانا هى هى بكسرة لازمة حتى يستقيم المعنى أو لا يستقيم، ثم أسأل نفسى بأى حق أضع معايير لاستقامة المعنى وأنا أعجز عن أن أحيط بكل طبقاته أو مستوياته، ثم أعود إلى النص فإن عجزت من جديد وظلت الحيرة تدور بى، أو ظلت الصعوبة تحول بينى وبينه، تركته إلى غيره وأنا أشعر بالتقصير نحوك، ذلك أن عندى يقين أنك ما قلت هذه المواقف لنفسك ولا حتى لخاصة خاصتك ليحتفظوا بها دون غيرهم، وإلا لما وصلت لأمثالى، وما دمتَ قد قلتَها للناس وأنا منهم، فعلى كل من يعرف معنى أمانة القراءة أن يبذل الجهد الكافى قبل أن يجنب أى كلمة أو عبارة جانبا.
لست متأكدا يا مولانا من سلامة منهجى الآن، لكننى أعدك، – إن ظل فى العمر بقية – أن أعود بعد أن تنتهى “مرحلة السماح بالانتقاء” هذه، مهما كانت المآخذ على هذه الطريقة، أعود لأحاول من جديد مع ما نحّيته جانبا، أو قد أستشير فيه غيرى ممن كتبوا عنه، أو ممن يحاورونى شفاهة حوله، وأن أجتهد من جديد فى تناول ما يحتمل أكثر من وجه لغياب التشكيل أو لشك فى خطأ مطبعى.
هل هذا يكفى لأستمر فى التمتع بحق الانتقاء “كمرحلة أولى”؟
نعم يكفى!!
هكذا قال لنا: “لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ”.
وبعد
يبدو أننى اليوم قد غامرت بتحدِّى كل هذه المقدمة، فرفضت الانتقاء، وفتحت كتاب المواقف عشوائيا وقد قررت أن أجتهد فى الصفحة التى ينفتح عليها دون أى انتقاء أو حتى تقطيع إلى فقرات، فإذا بى أمام هذه الصفحة بالذات وكأنها تتحدانى وهى تعلم أننى سوف أتجنبها لصعوبتها جدا، فقبلت المضى فى التحدى، ولم ألزم نفسى بغير ما يخطر لى، والله المستعان.
موقف “الفقة وقلب العين”
قال مولانا النفرى:
أوقفنى وقال لى ما أنت قريب ولا بعيد ولا غائب ولا حاضر ولا أنت حى ولا ميت فاسمع وصيتى وإذا سميتك فلا تتسم وإذا حليتك فلا تتحل ولا تذكرنى فإنك إن ذكرتنى أنسيتك ذكرى، وكشف لى عن وجه كل شىء فرأيته متعلقاً بوجهه وعن ظهر كل شىء فرأيته متعلقاً بأمره ونهيه.
وقال لى انظر إلى وجهى، فنظرت.
فقال ليس غيرى، فقلت ليس غيرك.
وقال لى انظر إلى وجهك، فنظرت.
فقال ليس غيرك، فقلت ليس غيرى،
فقال أخرج فأنت الفقيه، فخرجت أسعى فى الفقه وصح لى قلب العين فقلبتها بالفقه وجئت بها إليه، فقال لا انظر إلى مصنوع.
فقلت لمولانا النفرى
ليكن يا مولانا ليكن
ولأعترف أولا أننى لم أجد فى الكتابة فى هذه الصفحة ما أحتج به أنه يحتاج إلى تشكيل أو ترقيم، ثم أعترف ثانيا أنه لم يخطر لى أى شك فى صحة نقل أو احتمال تقريب، فزاد التحدى هكذا:
إذا لم أكن يا مولانا “قريب” أو “بعيد” ولا “غائب” ولا “حاضر” ولا “حى” ولا “ميت” فمن أكون؟ طبعا لستُ عدماً ولستُ هو!!
ولكن مالى أتحدث عن نفسى وهو يقول لك أنت ولا يقول لى، فأضبط نفسى أننى أخاطبك يا مولانا بعد أن خجلت وتراجعت مستغفرا أننى تجرأت على مخاطبته هو مباشرة منذ فترة يسيرة حتى لو كان من خلال سماحك، أقول ما دام قد قال لك ما قال، فقد قاله لى، وحين سمعت كل هذا النفى وهو ينبهك إلى نفى كل صفة وضدها، وفى نفس الوقت تيقنت أننى لست عدما برغم كل ذلك، كما أننى لست “هو” طبعا وتماما، تعجبت أننى لم أفزع، ذلك لأنه قد غمرتنى راحة لم أتوقعها، افلا يعنى كل ذلك أننى لست إلا إننى هكذا مشروع أتخلق باستمرار؟!!
إن من يتخلق يملك كل الاحتمالات فلا يحتاج فعلا لأى من هذه الصفات، فرحت أضرع إليه أن أتسمى بلا صفة، فلحقتنى كلماته إليك يا مولانا “ألا تتسمى حتى إذا سمّاك هو وألا تتحلى حتى إذا حلاّك هو”،
طيب أكتفى بذكره، فاكتفيت
فإذا به ينبهك فينبهنى أننى إن ذكرته أنسانى ذكره.
ما العمل يا مولانا ما العمل؟
فأجده قد كشف لك عن وجه كل شىء وعن ظهر كل شىء فإذا بكل وجه متعلق بوجهه هو، وإذا بكل ظهر متعلق بأمره ونهيه!!
وصلتنى أنها عملية نفى كل ما عَداه ليحيطنا حضوره بإحاطته حاضرا أحضر حتى من ذكره.
فارتحت مندهشا أكثر.
ثم أنصتُّ وهو يقول لك أنظر إلى وجهى، فلا ترى غيره، ثم يسمح لك أن تنظر إلى وجهك فتتعرف عليك أنت من جديد “ليس غيرك” وتقر ذلك، فأشعر يا مولانا أنك رضيت بذلك الذى فسر لى راحتى الغريبة تلك وسط كل هذا الغموض.
لكننى يا مولاى عدت أتخبط وهو يأمرك أن تسعى فى الفقه، فما الذى جاء بالفقه هنا؟ لكننى أعلم أن الفقه فى أصله هو الفهم، وهو العلم، وهو الفطنة، هذا هو الفقه كما شاع عنه وكما نبهتنا أنت إلى الحذر من التوقف عنده، وأن نتجاوزه إلى معرفة أصيلة أعمق غير فقه المتفقهين “بالحرف” الذى حلّ محل أصل كل شىء، لكن ما إن تابعتك بعد أن سمح لك بالفقه ونعتك بالفقيه، حتى وجدتك وانت تسعى فى الفقه تقلب عينك به وتذهب بها إليه، وإذا بك تفاجأ برفضه ما صنعت، فوصلنى ضعفك إليه، وعذرت خيبتى.
هل كان امتحانا إذْ خرجت تسعى بالفقه حتى رضيتَ أن تقلب عينك وإذا بها صنعة لا فطرة؟ وهل هو درس لنا أن يكون النظر للفقه بنفس العين فى وضعها الطبيعى وأنه لا يصح لنا أن نقلب ونحن نسعى فيه؟ مادام لا ينظر إلى “مصنوع” مهما تفقهنا بقلب العين، لكنه ينظر إلينا كما خلقنا مهما ضعفنا أو عجزنا أو أخطأنا أو استصعبنا.
وبعد
هكذا قبلت التحدى يا مولانا دون اختيار
لكننى ما زلت متمسكا “بحق الانتقاء”
ولا يقدر على القدرة إلا هو