نشرة “الإنسان والتطور”
12-6-2012
السنة الخامسة
العدد: 1747
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (83)
الإدراك (44)
“العين الداخلية” (15)
و”عملية اعتمال (معالجة) المعلومات” (14)
Information Processing
الإبداع وعملية معالجة المعلومات
(عبد السلام المِشدّ ـ وحالة “رشاد” )
مقدمة ليست اعتذارا
أتوقع احتجاجا مُحِقًّا على نشرة هذا اليوم، خاصة ممن يتابعنا (إن وُجد)، مع “رشاد” ونحن نستكشف قدرة المريض على وصف ما يجرى فى داخله وهو يراه (وليس كأنه يراه)، وذلك استجابة لظرف شخصىّ طارئ
تصادف – لسبب بعيد عن السياق الحالى، أن رجعتُ إلى الجزء الأول من ثلاثية المشى على الصراط، وأنا لم أقرأه بعد نشرِهِ منذ ثلاثة وثلاثين سنة (1979)، إلا لمراجعة الطبعة الثانية، وكنت قد كتبت هذا الجزء بالذات سنة (1977) على ما أذكر ربما قبل أن يولد رشاد، وإذا بى أفاجأ أنه فى الفصل الرابع من الجزء الأول “الواقعة”، جاء وصف الشخصية المحوريه “عبد السلام المشد” لبعض حالته قريبا من وصف رشاد الذى يتم نشره حاليا تباعا، فلم أتردد فى تخصيص نشرة اليوم لصفحة واحدة من هذا الفصل وأنا أوضح ما يلى:
1- إن الحالة فى الرواية ليست من الحالات التى شاهدتها فى ممارستى المهنية، جملة وتفصيلا
2- إننى لم أنقل هذا الوصف الذى جاء فى الرواية من أى مريض آخر مثلما يظهر الآن مع “رشاد”
3- إن هذه الرواية (بأجزائها الثلاثة) هى إبداع صرْف، لا يستبعد الخبرة، لكنه لا يصف واقعا ماثلا.
4- إننى لن أتعرض اليوم للتشابه بين ما ورد فى المقتطف مع وصف “رشاد” لحالته كما نشرت حتى الآن، وسوف أترك ذلك للقارئ تماما.
5- إننى سوف أقوم بتقطيع المقتطف مما قد يساعد من يشاء من القراء أن يقارن وصف رشاد بما جاء به
6- إن علاقة الإبداع بالمرض العقلى تمثل محورا جوهريا فى فروضى، لم يكن من بينها أن الإبداع يمكن أن “يسبق” خبرة معينة ، ويأتى بمثل هذا التطابق
7- إننى أعتقد – فى حدود تخطيطى الآن- أننى لن أعود لهذا الاستطراد مرة أخرى، اللهم إلا فى دراسات لاحقة عن علاقة الاضطراب الجوهرى للفكر بعملية الإبداع”.
المقتطف:
“ثلاثية المشى على الصراط”،
الجزء الأول “الواقعة”، تاريخ الكتابة 1976/1977، الطبعة الثانية 2009،
الفصل الرابع: اللهو الخفى ، رقم الصفحة 69 (الطبعة الثانية)
(ملحوظة: التقطيع إلى فقرات تم الآن، وليس فى أصل المتن)
…………………..
“…….سمعت صوت أمى زمان وهى تدعو علىّ غاضبة بأن أصاب “باللهو الخفي”.
ربما يكون هذا هو مرضى الحقيقى
أو ربما يكون الشلل قد أصاب مخى دون أطرافى،
فكثيرا ما يخوننى مخى فجأة حين يعجز عن مواصلة تتبع فكرة معينة كنت ألاحقها بإصرار. أتعجب من هذا الذى الذى يحدث:
الفكرة فى متناول يدى، ألمسها، وأتركها تبتعد قليلا لألاحقها بثقة القط يلاحق الفأر،
ولكن المطاردة تنقلب فجأة لتصبح بين غزال جامح ودينصور غبى،
يركض الغزال ويختفى بين غابة من المشاعر المتضاربة،
والدينصور فاتح فاه فى دهشة الأبله المتجمد من هول المفاجأة.
أليس هذا هو الشلل بعينه: أن تنقلب المطاردة بين القط القادر والفأر العاجز إلى مطاردة بين الغزال الهارب والدينصور الغبي؟(…..)
كيف كنت أفكر قبل ذلك؟.
لماذا لم ألاحظ هذا الانفصال العجيب بين الفكرة والمفكر قبل اليوم؟.
ما أروع أن يسألك أحدهم سؤالا فتجيبه على الفور.
عمل تلقائى يفرز الأفكار فى كتل متراصة بطريقة آلية مثل ماكينة الجيلاتى فى ليالى رمضان فى سيدنا الحسين أو على شاطئ الاسكندرية:
يُضغط على الذراع فيخرج قمع الجيلاتى متعدد الألوان فى كتلة مخروطية متماسكة.
هكذا يعيش إنسان اليوم دون حاجة إلى تفكير آخر.
……..
…….. الخ
يبدو أن المرض يبدأ حين تضطر إلى تقليب أرشيف مخك للبحث عن إجابة مناسبة ذات معنى لسؤال ليس له معنى، فأنت معرض أثناء تقليبك الأرشيف أن تقفز إليك أسئلة لا حصر لها ولا لزوم لها، وكأنها مجموعة من الكلاب الضالة الصغيرة التى التقت بصاحبها بعد طول هجر، ثم تمضى فى تقليبك للأرشيف تبحث عن معنى حتى تقترب من الطبق الأوسط المغطى منذ الأبد، والمحرم رفع غطائه كشرط لإكمال الوليمة، فإذا كنتَ أهوج أحمق فسوف تفعلها، وهنا يقفز الفأر من تحته ويجرى على المائدة يقلب الآنية ثم يقفز ليختبئ فى ركن من أركان الحجرة،
وتبدأ المطاردة بين القط والفأر النشط. حتى هذه اللحظة أنت ما تزال متمكنا من اللعبة، تترك الفأر وقتما تشاء لأنك واثق أنك ستلحقه كما تشاء، ثم تثور عاصفة المشاعر الهوجاء لتجد نفسك فى غابتها، وتنقلب المطاردة إلى لعبة الغزال والدينصور ويحدث الشلل المرعب.
يا “نهار أسود”.. كيف تتوارد هذه الأفكار بهذا التسلسل الغريب العميق..؟.
على كلٍّ..، شئ يقطع ملل الانتظار! فلأستمر فى التفكير (وكأنى أستطيع ألا أفعل):
لست أدرى إلى أين تجرنا تلك الحماقة التى حذرتنا منها كل الأديان والأساطير القديمة
“لا تأكل من الشجرة المحرمة”
” لا تسأل عما لا يعنيك،
“لا تسألوا عن أشياء إن تـبد لكم تسؤكم”.
“لا يغلبك حب الاستطلاع حتى تكشف غطاء الطبق الأوسط”،
“لا تفتح الحجرة المقدسة فى سرداب سكة الندامة”.
كل هذه النصائح الأزلية هى لتحافظ على آلية ماكينة الجيلاتى التى تضخ الأفكار السابقة التجهيز حتى لا يصير الإنسان إنسانا قبل الأوان. متى الأوان؟.
وأنا؟. أنا مالى بكل هذا؟. لم يخطر فى بالى أن أكون “إنسانا”فى يوم ما. أنا لا أعرف معنى الكلمة. كنت قد تبت إلى الله أن أعود لهذه المحاولة من بعد خيبتى فى المراهقة.
ما ذنبى أنا الآن فى كل هذا؟.
أنطق بشئ كالحكمة، وأبحث عن مجهول اسمه الحقيقة، وأدعى إمكان المعرفة دون قصد.
………………..
انتهى المقتطف من الرواية
لا تعليق
ونلتقى بـ”رشاد” غدا، دون اعتذار إلا له هو شخصيا
أهلا.