نشرة”الإنسان والتطور”
1-7-2010
السنة الثالثة
العدد: 1035
الحلقة الثلاثين
الخميس: 9/2/1995
مرة أخرى أجد نفسى مع الأستاذ وحدى على مدى ساعات، سبق أن انفردت معه ذات ليلة، وحكيت عن ذلك (يوم الاتنين، يوم ما اتقابلنا احنا الاتنين “نشرة: 25-2-2010 الحلقة الثانية عشر”) لكن اليوم شىء آخر، ذلك أن اليوم هو الخميس، يوم الحرافيش، ولا يوجد سواه وشخصى، إذن: فأنا لست حرفوشا أحتياطيا كما أذكّر نفسى باستمرار، أنا فى هذه الليلة الحرفوش الوحيد معه، ولا يمكن الاستغناء عنى أو إبدالى، فأنا لست احتياطيا بحال. توفيق صالح أصابه الدور، دور الانفلونزا السائد، ومنعه من الحضور أمس، فاليوم، بصراحة، دعوت الله أن يشفيه بسرعة، حتى يتمكن من أن يصحبنا اليوم، فأعـفى من هذا الامتحان الذى أتخوف منه هكذا.
وصلت بعد الميعاد بدقيقتين، الأستاذ يقف وسط الردهة كالعادة، لا يوجد أدنى تردد فى أننا سنخرج سنخرج، وهو يعرف أن الأستاذ توفيق لن يحضر اليوم، بادرنى وهو يتأبط ذراعى ونحن نتوجه إلى الباب بنفس السرعة (التى أصبحتُ أفهم مغزاها أكثر فأكثر)، بادرنى بإخبارى أن توفيق مازال مريضا وملازما الفراش، حاولت أن أبطئ من خطواته ولو قليلا حتى نتفق على مسار الليلة، فليلة الحرافيش لا بد أن تبدأ بمكان عام (فندق عادة بعد تعذر الجلوس فى مقهى تبعا للظروف الجديدة)، ثم نعود إلى بيت توفيق فى النصف الثانى من الليلة، يا ترى هل يجوز أن نمضى الليلة كلها فى نفس المكان العام؟ بيتى لا يصلح أن يجمعنى أنا وهو فقط، وقد كنا فيه أمس، ركنى الخاص أعلى المستشفى لا يصلح بعد ما انتبهت إلى احتمال سوء فهم الزوار والعاملين ومن لا يهمه الأمر لمعنى تردد الأستاذ على مستشفاى. أثناء الأسبوع حادثتنى من يومين صحفية من المصور وطلبت تحديد موعد لقاء تتحدث فيه معى عن صحة الأستاذ النفسية، والمصيبة أنها طلبت زيارته فى المسشتفى عندى، أفهمتها بلهجة غاضبة محذرة، أن عليها أن تراجع معلوماتها بأمانة وإتقان أكثر، وأن صحة الأستاذ النفسية مسألة غير مطروحة للمناقشة إلا فيما يخص كيف أنه يعالجنى نفسيا أنا شخصيا، حاولت الصحفية أن تقنعنى أن الحديث هو عن تأثير الحادث نفسيا على الأستاذ، قلت لها هذا أمر ليس له علاقة بالنفسية كما تتحدث عنها الصحافة أو حتى الأطباء النفسيين، هذا أمر له علاقة بربنا، والأرجح أنها لم تفهم، فأنهت الحديث، ففرحت، لم أقل لها أن كل ما وصلنى من أثر هذا الحادث على الأستاذ هو ما عاينته كل لحظة من هذا الغمر بالطمأنينة، وحب الحياة، غمر امتلأ به حتى فاض على كل من حوله، تحريكا وإبداعا، (وهذا ما أسميته فى مقال نشر لى فى الأهرام “إبداع “حى ó حى” )، نعم، رأيت بعينى رأسى معنى الرضا المتبادل بين العبد وربه، الحادث عمّق عندى ما وصلنى من الآية الكريمة ولم أفهمه جيدا إلا بعد أن عاينته من أنه “رضى الله عنهم، ورضوا عنه”، نعم عرفت كيف يرضى العبد على ربه إلى هذه الدرجة، خاصة بعد محنة بهذا الحجم، رأيت بعينى رأسى كيف يمكن أن تكون صلابة الإيمان بالحياة وخالقها (لماذا نسميها الصحة النفسية؟) لها كل هذه القدرة على تجديد الوجود وتأكيد النقاء، أفقت من سرحتى وهو يكاد يجرجنى جرا نحو السيارة، وهو يقول ردا على تساؤلى: “لنتفق فى العربة”، ذكّــرته أننا لا بد أن نتفق على المكان لنخطر به رجال الأمن قبل أن نتحرك، لأنهم يتبدلون فى ساعة معينة أثناء اجتماعنا، ولا بد أن يخطروا رؤساءهم بالمكان قبلها بوقت كاف حتى يتمكن البدلاء من الحضور، قال لى: “قل لهم اسم أى مكان حتى نرى”، أسرعت واقترحت عليه فندق ”الواحة” أول الصحراوى، قال ”كما تري”، لم اتعجل وأخبر الأمن وطلبت منهم أن يتبعونا ويمهلونا، فوافقوا.
أثناء الطريق غيرت رأيي، فأنا لا أعرف أحدا هناك، قلت فجأة “فورت جراند”، فاستعادنى مرات، ولم يعقب. فى بداية رحلة الليلة عرضت عليه أن نشترى السوداني، فلم يرفض وكأنه نسى أن السودانى لزوم بيت توفيق، ولكنه استدرك بسرعة وقال: “لا داعى”، (ولم يذكر السبب مثل المرة السابقة)، سألته عن احتمال أن يلحقنا أحمد مظهر حتى نخبره بمكاننا بمجرد أن نتفق عليه، فأجاب أن توفيق أخبره أنه لن يحضر، مع أننى كنت أتصور أن مظهر سوف يحضر إذا علم بغياب توفيق، ليس فقط ليكتمل اللقاء، لكن لأسباب وصلتنى دون أن يصرح بها أحد منهما.
أثناء اقتراب السيارة من بيت توفيق خطر لى فجأة أن أعرض على الأستاذ أن نعوده فى منزله نطمئن على صحته، قال فورا (لا أعرف لماذا فورا): “زمانه نائم”، هذا رجل يعرف الناس من الظاهر والباطن طول الوقت.
فى فندق فورت جراند (أصبح الآن ميريديان الهرم)، قرأت على وجهه راحة متسعة، فعرفت دون أن أسأل من جديد، أننا سوف نمضى النصف الثانى من السهرة حيث نحن، أعلنت له ما وصلنى فأقره، واتسع الارتياح أكثر، فعرفت أن استنتاجى كان صائبا.
هذا الرجل علاقته بالأماكن مثل علاقته بالزمن، يتعامل مع الزمن وكأنه مكون من “وحدات حياة”، لا دقائق ساعة، وهو يتعامل مع المكان وكأنه محراب يتخلق بصلوات ما يتلى فيه وما يجرى فيه وما ينبض به، حين خطر لى هذا الخاطر، نظرت إليه، ولم أجرؤ أن أسأله : لماذا ترك العباسية؟ بصراحة: أنا لم أحب شقته الحالية أبدا، أشعر أنها لا تتسع لكتبه، لا تحيط بأوراقه، فكيف يجول فيها خياله ويتفجر إبداعه، يبدو أنه “يستعمل البيت كقاعدة إطلاق الصواريخ، القاعدة قد تكون بضع عشرة مترا أو ما يقرب من ذلك، لكنها قد تطلق صاروخا يعبر القارات، وهو يطلق صواريخ إبداعه فى كتاباته قمرا بشريا مضيئا حاديا هاديا للبشر أمثالنا، أشرت إلى مادار فى خلدى عن رأيى فى علاقته بالمكان، ولم أذكر له طبعا مشاعرى نحو شقته فى الدور الأول التى يشاع أنها على النيل مع وقف المشاهدة، حدثته عن كتاب جاستون بشلار “شاعرية المكان” قائلا إن وصف بشلار للأشياء الصغيرة والمخبأة فى مكان بذاته عند الأطفال قد ملأني حتى حضرتْ أماكن طفولتى وملأت وعيى وأنا أقرأه، رجحت أن مثل هذه العلاقة بالمكان بأدق تفاصيله هى من أخص خصائص إبداع الاستاذ، (وخاصة فى الفترة الوصْفية الباكرة)، هز رأسه موافقا تقريبا، فانتقلت إلى الإشارة إلى عمل آخر لجاستون بشلار أيضا كنا قد قدمناه فى ندوة المقطم الثقافية، وهو ”حدْس اللحظة”، فطلب منى أن أحدد له ما وصلنى وبهرنى، أو أوجز له ما شدّنى، هذا الرجل لا يكف عن الاستزادة من المعرفة من أى مصدر فى أية مناسبة، رحت أشرح له كيف عرّفنى بشلار قيمة معايشة هذه الأجزاء من الثانية، ليس بالضرورة بأى درجة من الوعى، لكن باعتراف وإقرار على الأقل، ثم رحت أحكى له كيف اننى ألاحظ أهمية هذه الأجزاء من الثوانى أثناء نقلات مرضاى، ونفسى، وتلاميذى، فى العلاج الجمعى بالذات، وأننى حين أرصد ذلك، أو يخيل إلى أننى أرصد ذلك، أتابع هذا الفرض، وهو أن ثم شىء قد حدث لنا، له (للمريض) فى هذه الثانية أو جزء منها، ولا استطيع طبعا أن اجزم ساعتها، أو أن أعلن شيئا، لكن مع مضى الزمن والمتابعة، يخيل إلى أننى أرى أثره فى مآل مرضاى، وعلى مسار نموى شخصيا. كان يستمع بإنصات مجتهد، لكن حواحبه ارتفعت فعرفت قبل أن ينطق أن طالب العلم الأمين لم يصله ما أريد كما قصدت، قال: “لم أفهم تماما”، المصيبة أننى فى محاولة الشرح: اضفت -كالعادة – ما زاد الأمر تعقيدا، قلت له “إن زويل حين اكتشف تناهى صغر زمن التفاعل الكيميائى حتى استطاع تصويره فيما سمى الفيمتوثانية طمأننى على ما وصلنى من بشلار، وما رأيته أو افترضته فى مرضاى، ونفسى”، لم يعقب، ولم يرفض، وإن وصلتنى حيرته، ولفنى صبره، سكت خجلا من عيّى، وطال صمته وهو مطرق، ففرحت أنه احترم محاولتى على الأقل.
هو الذى سارع بتغيير الموضوع، فرجّحت أنه يريد أن يعفينى من خيبتى، أو أن يستريح من مبالغتى فى الحدس هكذا، قال: “ حدثنى توفيق عن مدى إعجابك بفيلم “المخدوعون”، فرحت أن رأيى له هذه القيمة هكذا، قلت له يبدو أن توفيق يحب هذا الفيلم حبا شديدا لدرجة أنه حين صرحت له بإعجابى الشديد به، وحكيت له عن بعض المناقشات التى دارت حوله حين عرضناه فى ندوة الجمعية فى المقطم، كان كمن يسمع نقد الفيلم لأول مرة، مع أنه إنتاج 1968، قال الأستاذ: هو كذلك، إنه يحبه حبا شديدا، وقد سافر معه وبسببه إلى الخارج لأكثر من بلد، فى أكثر من مناسبة، كنت قد سألت الأستاذ فى البداية – بمناسبة أننى لاحظت أن توفيق صالح هو صاحب السيناريو والإخراج دون الحوار، قال لى “لا تنسى أن الحوار كان باللهجة الشامية، الفلسطينية، ولا تنسى أن الفيلم إنتاج سورى”، سألته سؤالا أكثر عمومية لو أن اللهجة كانت هى هى لهجة الممثلين والمخرج والسيناريست، كيف يمكن أن ينفصل السيناريو، وهو تشكيل المَشاهد، عن الحوار وهو نبض محتوى المَشاهد، وبالتالى كيف، يستقل كاتب السيناريو عن كاتب الحوار؟ فأجاب ”أنا كاتب سيناريو، لكننى لم أكتب حوارا أبدا، ذلك لأننى لا أستطيع أن أكتب بالعامية، ففضلت أن أترك موضوع الحوار لمن يحذق ذلك، وأكتفى بالسيناريو، إن كاتب السيناريو يكتفى بالإشارة إلى موضوع الحوار فى كل لقطة، أو قطع، ثم يترك الألفاظ والتفاصيل لكاتب الحوار، ثم ذكر لى كيف أنه كان يفضل صلاح جاهين ليكتب الحوار للسيناريو الذى يشكله، فصلاح مثلا يعرف لغة المدبح أكثر منى مائة مرة، والحوار ينبغى أن يكون من واقع الواقع حسب الأحداث، والعامية ليست واحدة، وعرج بنا الحديث على احترامى للعامية، وأن لى ديوانا بالعامية، ومع ذلك فأنا أعجز عن كتابة حوار قصة أو رواية بها، فيخرج منى بالفصحى، ثم استشهدت بهذه الخواطر التى أكتبها الآن بعد لقاءاتنا، وكنت قد ألمحت إليها دون تفصيل، قلت له إننى لا أستطيع أن أكتب حتى هذا الحديث الذى يجرى بيننا الآن بالعامية، وأننى بمجرد أن أمسك بالقلم أجدنى أكتب بالعربية الفصحى، فعقب قائلا “أو بالعامية العربية”
عدنا بسرعة للحديث عن فيلم توفيق “المخدوعون”، قلت له إننى شاهدته وحدى قبل الندوة لأعد تقديمى له، وأنه فيلم لا يمكن أن يشاهده أحد وهو مستلق مثلا، وأننى بمجرد أن أكملته، رحت أعيده من جديد لألتقط بعض الحوارات التى فاتتنى تفاصيلها، وعندما وصلت إلى منتصف الفيلم لم أستطع أن أكمل خوفا من مشاعر الحزن التى قد تغمرنى من جديد، مع أننى كنت أحاول أن أذكر نفسى طول الوقت أن هذا تمثيل، أن هذا تمثيل، وأنه من صنع صديق أعرفه الآن شخصيا، فأحداثه لم تحدث هكذا، ولكن مشاعرى لم تطاوعنى أن أكمل الفيلم للمرة الثانية إلا أثناء الندوة، وأضفت: كم هو رائع أن يصبح الخيال – وهو خيال – أقوى من الحقيقة أو فى قوتها، وأشرت للأستاذ أن هذه المشاعر كنت أقبلها وأنا طفل، وأننى أحيانا كنت أقرص نفسى وأنا أشاهد فيلما مؤثرا حتى أتأكد من أننى خارج وليس داخل الكادر، والتقط الأستاذ ما أريد واعتبره مديحا جيدا لهذا العمل المتميز لهذه الدرجة، حكى الأستاذ معقبا ” أنه مـر بما يقابل هذه الخبرة تقريبا، وذلك أنه حين يكون نائما ويصاب بالكابوس يروح يكرر لنفسه أنه نائم وأن هذا كابوس وليس حقيقة، وسألنى كيف يدرك النائم أنه يحلم، فحكيت له عن نظريتى فى الحلم، وأن الحلم الذى نحكيه ليس هو الذى يحدث أثناء النوم، وأن ما نحكيه وكأنه حدث فى أيام أو شهور، هو فى حقيقة الأمر لا يستغرق سوى ثوان أو بعض ذلك، ثم أضفت أننى بعد تعرفى على أجزاء الثانية كما اشرت من “حدس اللحظة” ومن اكتشاف زويل، اطمأننت إلى سلامة فرضى الذى هو أساس نظريتى الإيقاعية التطورية وما بها من فهم جديد لظاهرة الأحلام، حيث افترضت أننا نؤلف أحلامنا التى يمكن أن تحكى أو لا تحكى، فى جزء من الثانية ونحن بين النوم واليقظة، عادة قرب الاستيقاظ، وقد نشرت هذه النظرية متكاملة فى مجلة فصول، وحسب هذه النظرية فإن أى إنسان عادى هو مبدع بالضرورة، حالة كونه يشكل من مادة معلوماته المتقلقلة أثناء ما نسميه النشاط الحالم، يشكل حلمه فى جزء من الثانية قبيل اليقظة، لم يستوقفنى الأستاذ، وفهمت من صمته وإنصاته وحاجبيه أنه ينتظر إيضاحا ما، حاولت أن أربط بين حديثنا السابق عن حدس اللحظة والفيمتو ثانية فعجزت، فانتقلت إلى حديث أكثر اتساعا عن حالات الوعى المتنوعة والمتبادله، وقبل ان أتمادى رحت أقرأ وجهه وصمته فتشجعت، حاولت أن أشرح كيف أنه بقدر النجاح فى الإبقاء على حالة “وعى الحلم” حتى تتم اليقظة أو نقترب منها جدا، يكون الحلم ممثلا فعلا لتقليب المعلومات وإعادة تشكيلها إبداعا، استفسر الأستاذ منى على مدى دقة استعمالى للفظ إبداع فى هذا السياق، ففرحت أنه يتابعنى، حاولت أن أعرّف الإبداع الذاتى وافرق بينه وبين الناتج الإبداعى فى أدب أو علم أو تشكيل، وأن أى إعادة تشكيل لتركيبنا الحيوى مهما بلغت ضآلته هو إبداع للذات، كنت أتكلم فى حماس مستغلا تشجيعه الصامت، لكن يبدو أن الأمر لم يزدد وضوحا، امتلأت غيظا من نفسى، حتى قلت: خلاصة القول إن الحلم يكون أكثر إبداعا حين يكون أقرب فأقرب إلى وعى النوم الذى بداخله وعى الحلم، وصلنى من حالة التلقى الصبور الذى غلف موقف الأستاذ انه ربما انتهز فرصة انفرادنا، وأن الجلسة برغم أنها حرافيشية، إلا أنها ممتدة ولن تقسم إلى جزأين، خيل إلى أن الأستاذ راح يتمادى فى الاستيضاح دون حرج عدم اهتمام آخرين، وبرغم خجلى من نفسى نتيجة عجزى عن الاستجابة لحب استطلاعه بما يكفى، إلا أننى فرحت وأنا أتعرف واتعلم عظمة موقفه هذا المتشوق إلى أية معرفة، وكل معرفة، تشجعت واستمررت قائلا: إن مفردات الحلم هى معلومات دماغية، تتحرك أثناء ما يسمى النوم النقيضى أو النوم الحالم،أو نوم حركة العين السريعة، حيث تتحرك العين عشرين دقيقة كل تسعين دقيقة وكأنها تتابع إعادة تشكيل المعلومات هذه، وهذا ما يرصد بانتظام إيقاعى رائع برسام المخ الكهربائى، سواء تذكرنا بعض هذا النشاط حين نستيقظ أم لا، ثم عرجت بسرعة إلى سؤاله الأول عن كيف يدرك النائم أنه يحلم وهو يحلم، وقلت له إنه بناء على فروضى تلك، فأنا أتصور أن بعضنا قد يستطيع أن يحتفظ بنشاط أكثر من مستوى من مستويات الوعى معا، وبالتالى فمثل هذا الشخص قد يتمكن أثناء نشاط وعى الحلم حالة كونه يحرك المعلومات ويعيد تشكيلها، من أن يسمح بنشاط جزء من وعى اليقظة، فيرصد هذا النشاط، ويعرف، أنه يحلم، واضطررت أن أذكـّره أن هذا كان سؤاله فى البداية، وهو الذى جرنا إلى كل هذا الغموض. تنهد الأستاذ أخيرا، وقال: “الآن فهمت بعض ما تعنى”، صدّقته وفرحت، ثم أضاف ” وهل هذا له علاقة بنظرية تعدد الذوات التى شرحتها لنا من قبل؟ ” بصراحة كدت أقفز من الدهشة والبهجة معا، ومن حبى له أيضا. ما هذا؟ ما هذا يا ناس؟ إن تعدد الذوات –عندى على الأقل- هو ليس إلا تعدد مستويات الوعى، هممت أن أقوم لأقبـّل رأسه من فرحتى أننى وجدت عقلا بشريا فى هذه السن يستطيع أن يتحمل هذا القدر من الشطح أو من الفروض أو من الحقائق بهذا السماح الصبور، لكنه نجيب محفوظ، وبرغم أنه ليس النموذج الذى يمثل كل الناس، لكنه أيضا ليس إلا بشرا سويا، هذا كل ما فى الأمر، و هذا أيضا هو ما يعطيه جماله، إنه ليس إلا الاصل البشرى كما خلقه الله، وأفيق من فرحتى التى ألجمتنى وهو يبادر بسؤال جديد “وهل هذا يحدث لكل البشر حتى لمن لا يحلم، أنا أعرف ناسا يقولون أنهم لا يحلمون”، مزيد من الفرح بهذا الباحث (كدت أقول التلميذ) النجيب، قلت: نعم، إن نشاط النوم أثناء حركة العين السريعة التى تشغل ربع ساعات النوم تقريبا، وهو ما يرصده رسام المخ، هو الدليل على أننا جميعا نحلم نفس القدر كل ليلة، أما إنكار أى شخص أنه يحلم، فهذا يشير إلى إقراره أنه يحلم، وليس إلى حقيقة أن النشاط الحالم لا يحتل هذه المساحة عنده مثله مثل غيره، وفى خبرتى وجدت أن مستويات وعى مثل هذا الشخص هى بعيدة عن بعضها البعض، تكاد تكون فى خصام استقطابى (إما…أو)، فبمجرد أن يستيقظ هذا الشخص، وفى جزء من ثانية قبل أن يفيق لدرجة التذكر أو الحكى، يقوم بإبعاد ما كان فيه من نشاط تشكلى باستعمال آلية (ميكانزم) الإنكار بسرعة فائقة، ثم أضفت أننى فى خبرتى أثناء العلاج أعتبر اعتراف مثل هذا الشخص بأنه بدأ يحلم، أو بدأ يتذكر بعض أحلامه، أعتبر ذلك علامة تقدم نحو تصالحه مع نفسه. تتسع ابتسامة الأستاذ جدا، وهو يقول سؤالا وصلنى اقرب إلى أنه إقرار بأننى نجحت أخيرا أن أوصل بعض ما أريد، قال:
” لا يا شيييييخ !!”، وضحك، فضحكت، بما سمح أن نرجع إلى حكينا عن توفيق صالح:
عاد الأستاذ يتساءل تساؤلا كم كررناه بالتبادل، ونحن معا دون توفيق حتى لا نقلب عليه المواجع، قال ما سبق أن قاله وقلتُه مرارا: “كيف أن مثل هذا المصرى الموهوب، وقد عاد إلى وطنه منذ عشر سنوات لا يجد من يدعوه لإخراج عمل جديد فى هذا البلد؟” وكنت قد ذكرت له من قبل رأيى فى تواضع أفلامه الأخرى غير “المخدوعون”، بما فى ذلك “يوميات نائب فى الأرياف”، لكننى لم أكرر ذلك الآن، فقد قدرت أن هذا غير لائق ونحن نحكى عن إبداع توفيق وتفوق إنتاجه واستغرابنا من موقف أهل الفن من قدراته حتى لم يعطوه فرصا تليق بتاريخه بعد عودته، لم أذكر فى هذه المرة رفضى الخاص لفيلمه “صراع الأبطال”، الذى وصلتنى منه جرعة خطابية أكثر منها سينمائية، عدت إلى مناقشة فيلم “المخدوعون” تجنبا لإعلان رأيى هذا، قلت للأستاذ أننى سمعت أن توفيق قد عـدل فى قصة غسان كنفانى ”رجال تحت الشمس” التى هى أصل الفيلم، وأنه مثلا رفض أن يجعل الرجال الذين انحبسوا داخل صندوق العربة النقل يدقون بأيديهم على جدار العربة الداخلى كما جاء فى القصة، وأننى وافقت توفيق على هذا التعديل لأنه أقرب إلى الممكن واقعا، حيث أن القابعين فى صندوق العربة من الداخل أمام نقطة الجمرك كانوا فى حالة من الإعياء واليأس بحيث يكاد يستحيل أن يقوموا من أماكنهم، فضلا عن أن يدقوا على جدار العربة، فالذى يموت من الحر والاختناق لا تسمح له الغيبوبة وما قبلها بأى نوع من الهياج الحركي، ثم إن مثل هذا الدق على جدار العربة كان يمكن أن يلفت نظر رجال الجمرك حتى لو أنهم كانوا فى حالة تسمح به، ولهذا رفضت اعتراض من شاهدوا الفيلم حين عرض فى ندوة الجامعة الأمريكية مثلا، وقارنوا بينه وبين الرواية، ووافقنى الأستاذ بغير حماس، فتذكرت ما سبق أن نبهنى إليه من أن النص الروائى لا ينبغى أن يكون وصيا على العمل السينمائى الذى يستلهمه إلا فى حدود، ولم أعد إلى تساؤلاتى السابقة عن الفرق بين رواياته شخصيا والأفلام التى صدرت عنها.
هذا الرجل لا يكف عن النهل من المعرفة، ولا يترك كبيرة ولا صغيرة إلا وأخذها مأخذ الجد، حتى المعلومات المتخصصة البعيدة عنه يفتح لها ذراعىْ وعيه بكل ترحيب، أذكر اننى ذكرت ترحيبه بظهور مجلة الإنسان والتطور وخطابه التشجيعى لنا بعد أول عدد (يناير 1980)، وأنه قال فى رده هذا أن العدد الأول قد فتح له آفاقا جديدة للتعرف على ما يسمى “علم النفس الإنساني” (وكانت المجلة قد قدمت إشارة عنه فى عددها الاول بقلم أ.د. مجدى عرفه)، الذى يعطى نهمه للمعرفة قيمة أكبر هو استمرار طزاجته هذه برغم كل هذه الإعاقات، والأحداث، كنت قد تصورت أنه خرج إلى موضوع فيلم المخدوعون ليبعدنا عن عجزى عن شرح نظريتى فى الأحلام، سألنى فجأة بشكل لم أتوقعه كما ذكرت، “إذن فما هى وظيفة الحلم من وجهة نظرك”؟ فرحت بالسؤال فرحا لا مزيد عليه، قلت فورا بأبسط ما حضرنى ” إنه صمام أمن، وأنه إعادة تنظيم رغم ما تمر به هذه العلمية من تشوش فى بعض مراحلها، فهو تشوش مؤقت لا يمكن أن تتم إعادة التنظيم إلا بالمرور بمرحلته، وأن هذا هو تماما ما يحدث فى عمليات الإبداع الفائق”،
هز رأسه هذه المرة هزة أعمق، وأحسست أخيرا أننى استطعت أن أوصل شيئا يهمه، فلا بد، وهو المبدع الفريد، أنه يعرف بطريقة أسهل ما أقول على مستوى الإبداع، وذلك من خلال ممارسته الفائقة، وبالتالى يمكن أن يلتقط ما أعنى حين أصف الحلم بأنه إبداع مواز، اضفت متشجعا: إن إعادة التشكيل هذه التى هى حركية نمو، وفى نفس الوقت صمام أمن، لا ترصد بشكل مباشر طبعا، وإنما نحن نعرفها من نتائجها، حين يقوم النائم من نومه مستشعرا أن نومه وأحلامه قد قاما باللازم، فيصحوا ممتلئا مختلفا، وكأنه البعث الإيقاعى الحيوى كل ليلة، وأذكر اننى كررت ذكر صلاة المسلم وحمده وهو يستقيظ أنه “الحمد لله الذى أحيانى بعد ما أماتنى وإليه النشور” فى مناسبات أخرى مرارا. سألنى الأستاذ عما إذا كان هناك دليل على حكاية أن وظيفة الحلم، حـكىَ أم لم يُحك، هى ما قلته حالا من أنه “صمام أمن ضد الجنون خاصة”؟ شعرت ساعتها أننى فعلا لا أفرض على الجلسة اهتماماتى الخاصة أو المتخصصة، وأن هذا الرجل يصر أن يعرف أكثر وأكثر ما أمكن ذلك، يا خبر !! هل تعد هذه ليلة حرفوشية، أين نكات جميل شفيق، وصمت أحمد مظهر الحالم، وذكريات توفيق صالح، ما هذا الذى نحن فيه هكذا؟ ومع ذلك فلا أنكر أن رائحة الحرافيش كانت تحيط بنا وتباركنا، طال صمتى وأنا أسرح فى كل ذلك، فأعاد الأستاذ تساؤله فتأكدت من حرصه، فرحت أحكى له عن تجارب “الحرمان من الحلم”، وكيف يؤدى هذا الحرمان إلى إعاقة نوم حركة العين السريعة عن إعادة تشكيل المعلومات فإذا استمرت هذه الإعاقة بضعة أيام، وليال من السهر المتواصل فإن هذا النشاط الممنوع من حقه فى التناوب يضغط حتى يظهر بما يرصد فى رسام المخ الكهربائى أثناء اليقظة، أما فى السلوك فإن المحروم من الحلم يعيش هذه الفوضى النشطة المكافئة للجنون فعلا، حتى يعود إلى النوم بما يكفى أن يعود صمام الأمن لفاعليته. كان الأستاذ ينصت بانبهار طمأننى أكثر، ولم يقطع هذه الوجبة الدسمة إلا طلبه أن نذهب ” لتنشيط الحركة الثقافية” (= تسديد الرأى، قضاء الحاجة).
حين عدنا فوجئت به يواصل فى نفس الموضوع، وكأنه أخذه معه وظل يفكر فيه حتى ونحن “ننشط الحركة الثقافية”!!!، بمجرد عودتنا بادأنى بقوله: ” إذن فالمسألة كلها توازن وإتساق، فتوازن واتساق، فإعادة توازن واتساق”، كدت أقفز مرة ثانية من الفرحة، حتى هممت أن أقبل يده وأنا أقول” الله نوّر يا سيد العارفين”، مضى يكمل وكأنه لم يسمعنى” فما هو موقف فرويد من كل هذا؟ وتفسير الأحلام عنده شىء آخر تماما “، لم أسارع بالرد لأننى أعرف مدى احترامه لمنجزات فرويد بشكل مبالغ فيه حتى أحسست أن هذه المبالغة فى تقدير معطيات التحليل النفسى الفرويدى قد أفسدت بعض أجزاء من بعض رواياته، أجبته بحذر: “إن فرويد الذى اعتبر كتاب تفسير الأحلام هو أعظم إنجازاته، حتى سجل تاريخ اكتشاف نظريته فى الأحلام على مائدة الطعام التى كان يتناول عليها غذاءه حين هبط عليه وحى هذا الحدس ثم راح يكتب لنفسه ” قيِّض لى أن أكتشف أكثر الأمور بداهة”، أكملتُ: ” إن فرويد قد اعتمد كثيرا جدا على الحلم الظاهر المحكى، الذى هو عندى أكثر مستويات الحلم تسطيحا، وأنه برغم اعترافه بمستوى الحلم الأصل، الذى أسماه “الحلم الكامن”، فإن إصراره على لغة الرمز لترجمة ما هو ظاهر إلى ما هو أصل باطن، افسد محاولاته من وجهة نظرى، لأن مصادره لتفسير الأحلام، حتى أحلامه هو شخصيا كانت على مستوى أقل بكثير من حقيقة التشكيل الذى أشرت إليها الآن، والذى يرجع الفضل فى وصولى إليها إلى علاقتى برسام المخ الكهربائى من جهة، وهو يرصد حركية النوم الحالم، وعلاقتى بالإبداع نقدا وإنشاء من جهة أخرى، ثم أضفت أننى أعذر فرويد فهذه الإنجازات التكنولوجية لاحقة لعصره، وأنه ما زال عندى يمثل العبقرى الذى أحترمه بلا حدود، وأتحفظ تجاه فكره أيضا بلا حدود “، سألنى الأستاذ أن أضرب له مثلا على تحفظاتى على تفسيرات فرويد، حضرنى إصرار فرويد على وضع ترجمة بذاتها لأحلام بذاتها، وقلت له ” خذ مثلا أحلام الطيران، وكيف أكد فرويد على علاقتها بشطحات الجنس المكبوت بشكل خاص، مع أنها يمكن أن يختلف مغزاها فى كل مرة، وعند مختلف الأفراد حسب السياق، والأهم حسب مستوى حكى الحلم، وهل هو حلم فجٌّ أصلى، أم حلم سطحى مصنوع من الظاهر، وافقنى الأستاذ بشكل لم أتوقعه، وتصورت أنه سوف يكتفى بهذا المثل، لكنه اضاف سائلا: ” ثم ماذا أيضا تختلف معه فيه؟ ” تعجبت وواصلت مترددا قلت: ” إن فرويد مثلا كان يعتبر أن الحلم هو بمثابة “حارس” النوم أحيانا، أى أن من وظائفه الحفاظ على استمرار النوم، إذ يحتوى الحلم فى تشكيله أثر المؤثر الخارجى الذى يمكن أن يوقظ النائم، يحتويه فى حلم يشمله فيستمر النوم”، سألنى الأستاذ:مثل ماذا؟”،، فقلت له “..مثلا حين يدق جرس الكنيسة المجاورة، فحتى لا يوقظ النائم، يحضره حلم بأنه فى حوش المدرسة وأن الفسحة انتهت، وأن هذا هو الجرس الذى يعلن ضرورة العودة إلى الفصول”، ضحك الأستاذ وسُـرَّ من تفسير فرويد، فحل بى غيظ غير قليل، فأضفت، ” إن هذا قد يكون حقيقى فى ندرة من الأحلام، وحتى لو تواتر، فإن توظيف الحلم كحارس هكذا تأتى عندى فى المقام الخامس أو العاشر من وظائف الحلم، ورحت أتحمس وأنا أقارن بين وظيفة الحلم كصمام أمن ضد الجنون، حتى لو لم نعرف محتواه أو نحكيه، ووظيفته كحارس لنوم “اسم النبى حارسه”، وحين نطقت هذا التعبير قهقه الأستاذ طويلا وربت على ساقى وكأنه التقط غيرتى وغضبى، وفرحت.
انتهزتها فرصة، وقلت لعل الأمر يكون أوضح حين أفتح معه حديثا عن نقدى لعمله “رأيت فيما رأى النائم”، وكذلك ليالى ألف ليلة، (ولم يكن قد بدأ فى كتابة “أحلام فترة النقاهة بعد، ولا كنت أنا بدأت فى قراءتها ناقدا طبعا)، قلت له إن جرعة الإبداع التى وصلتنى من هذين العملين بالذات، جعلتنى أتصور أن الإبداع الأعمق هو من أعظم ما يثبت نظريتى فى تشكيلات النشاط الحالم، وأن الله سبحانه خلقنا كائنات قادرة على التفكير أثناء اليقظة، ثم إعادة التشكيل أثناء الحلم، وأن المبدع هو الذى يتمكن من امتلاك ناصية المستويين معا فى وعى فائق، هو وعى الإبداع، وأن هذا بالذات هو ما وصلنى من هذين العملين بوجه خاص، قال لى “هذا عن رأيت فيما يرى النائم، حيث كانت الأحلام تسرد باعتبارها رؤى أحلام فعلا، فما علاقة ليالى ألف ليلة بنظريتك هذه؟” قلت له إن التشكيل فيها هو أقرب إلى عمق تشكيلات الحلم دون إعلان أنها حلم، وهذا أجمل إيقاعا وأرسخ إبداعا، ثم اضفت أنها وصلتنى على هذا المستوى حتى تذكرت علاقتى الفاترة بـ ألف ليلة وليلة الأصلية، فقد وصلنى ما قرأته منها – على ما أذكر – على أنه نسيج وعى اليقظة العادى، أكثر منه تشكيل وعى الحلم أثناء النوم، وحين استعاد ما قلته من عدم استساغتى لألف ليلة وليلة الأصلية شعرت أنه مستغرب، فأكدت له ذلك، سألنى على التو: “متى قرأتها، لابد أنك قرأتها وأنت كبير”، فتعجبت لاستنتاجه السريع هكذا، لأننى قرأتها فعلا مؤخرا وأنا أتحدى حركة مصادرتها أو محاولة مصادرتها منذ بضعة سنوات (ليس لذلك علاقة بما حدث مؤخرا -2010- وهو نفس الأمر)، وأضفت أننى عجزت أن ألزم نفسى بإكمالها بشكل متلاحق، مع أننى ما زلت أعود إليها بين الحين والحين، ولا يتغير مذاقى لها، فقال عندك حق، إن قراءتها فى سن باكرة أمر آخر، إنها تحتاج إلى جرعة كبيرة من الطفولة حتى تعايشها، إنها تكملة لحواديت الأطفال والجان وأمنا الغولة التى كنا نسمعها أطفالا، ثم نجدها مكتوبة هكذا فى ألف ليلة، فتفعل فعلها، أما أن تقرأها كبيرا فهذه هى النتيجة كما وصفتها أنت، قبلت تفسيره لكننى لم أقتنع به جدا، ولم أقل له إن الطفل بداخلى ما زال قارئا نهما حتى الآن، وأننى أستمتع بميكى وهانز كريستيان أندرسون وهارى بوتر أكثر فأكثر كلما تقدمت فى السن،
يا لهذه الليلة !! خيل إليه أنها ليس فيها أية رائحة حرافيشية، ومع ذلك فكم أنا فرحان بها، خاصة وأننى لم ألمح عليه أية بارقة ضجر حتى الآن، ولم يسأل ولا مرة واحدة عن الساعة، وأيضا لم نتذكر غير قاصدين غياب أى حرفوش حتى توفيق صالح، لم نصمت لحظة واحدة، ولم يخفت انتباهنا أو يتحول لحظة واحدة، ما هذا؟
تحول الحديث تلقائيا بمناسبة ما وجدنا أنفسنا فيه ونحن نفرق بين ما هو سطحى خفيف خفيف، وما هو عميق مكثف غامض، لا أعرف من الذى فتح الحديث عن موضوع الحداثة بما فى ذلك ما أسموه “قصيدة النثر”، أسأله بلا تحديد عن موقفه، وكنا قد تناولناه فى سياق فكاهى بمناسبة الخطأ المطبعى الذى سبق الحديث عنه حين نشر الأهرام فصلا قبل فصل، من فصول “أصداء السيرة الذاتية“، أسأله أو أنكشه حول هذه المسألة من جديد، فيرتفع حاجباه وهو يقول: أنا أحتار فى هذه الجماعة، لا شك أنهم يريدون أن يقولوا شيئا بما يفعلون، لكن ما يهدفون إليه لا يصلنى أبدا، أحاول أن أقرأ وأن أفهم بلا طائل وأتساءل : أليست هذه لغتنا؟ أين المعنى الظاهر أو الخفي؟ أو أين الشكل حتى؟ أنا أتعجب حين أقرأ لهم لكننى لا أتعجل الرفض ولا التعميم”، يا لصبر هذا الرجل !! قلت له: أما أنا فقد صبرت أكثر من احتمالى، ونقدت بكل قدراتى، ولم أنجح، سألنى هل استطعت أن تنقد بعض ذلك؟ كيف بالله عليك؟ قلت له إن أحد الأصدقاء الذين كنا ننشر لهم فى مجلة الإنسان والتطور، وهو الشاعر “أحمد زرزور” ألحّ على أن أنقد عملا له، وأننى اجتهدت بكل ما أملك من أدوات نقدية، وأن عملى قد نشر فى مجلة “إبداع”، ورحب به الشاعر نفسه، وبعض النقاد كما أخبرنى أحمد نفسه، ومع ذلك فأنا أذكر أننى بذلت جهدا أكثر مما أبذل أثناء نقدى لرواية طويلة لديستويفسكى، مع المبالغة، وقد خرجت من هذه التجربة بأن الذى يمكن أن يحل شفرة الحداثة هذه هو النقد الجاد، ربما يستطيع أن يغوص مع من يحاول إلى عمق كل الاحتمالات، حتى يتمكن أن يميز “زيف الفوضى” من “عمق التكثيف والاختزال معا”، وألمحت من بعيد إلى أطروحتى عن جدلية الجنون والإبداع ، وكيف ميزت فيها بين الإبداع الزائف والإبداع الفائق وهما يكادان يقتربان من بعضهما البعض شكلا فقط،، بصراحة قلت ذلك فى عجلة خشية أن يفاتحنى أن أشرح أكثر فأغمض أكثر لكن الله سلم، فواصلت: إننى أعود باللائمة على النقاد الذين يكتفون بمدح قصيدة النثر أو تأييدها، أو بشجبها وشطبها، وكأننا فى موقف انتخابات لا إعادة إبداع النص، قال الأستاذ بتلقائية : يبدو أن النقاد “نيلوها”، فرحت بقدر ما تعجبت مما لم أعتد عليه منه، فاستوضحته ماذا يقصد بـ “نيلوها” قال: لقد زادوا الحداثة حداثة، فوجدنا أنفسنا أكثر بعدا عن كل شىء، ثم أضاف بما شعرت أنه يرجعنا إلى ما هو أسهل برغم صعوبته قال:
إن نظريتك التى حدثتنا عنها مرارا فيما يتعلق بتعدد الذوات، ثم حديثنا الليلة عن الأحلام الذى لم يصلنى كله، يبدو أن هذا وذاك يمكن أن يفسر لنا بعض هذه الأعمال لو افترضنا أنها تخرج من ذوات متفرقة معا”
فرحت فرحة مجنون وجد أخيرا من يلتقط ماذا يعنى برطانه “فتجمّع” مطمئنا، الحمد لله، هأنذا أجد من يأخذ شطحى مأخذ الجدية، ومن؟ نجيب محفوظ شخصيا!! فلم أتردد هذه المرة فى التمادى، قلت: إن تعدد الذوات قد يظهر فى تكثيف الشكل وتوليد المضمون المتداخل تناغما فى النهاية، وهذا ما رصدته فى نقدى لروايتيك “رأيت فيما يرى النائم، وليالى ألف ليلة” (مرة أخرى، تذكرة: لم يكن قد بدأ فى كتابة أحلام فترة النقاهة)، وحتى نقدى للحرافيش رصد بعض هذا العمق والنقلات النوعية المفاجئة، وإن كان أقل تكثيفا، وأضفت أن ما ساعدنى فى نقد هذه الأعمال فعلا هو يقينى بصدق فروض تعدد الذوات كما أعايشها فى العلاج الجمعى خاصة، استوضحنى الأستاذ مما طمأننى أننى لم أضْجـِره بعد، قلت له: حين أقرأ فى “رأيت فيما يرى النائم”، أو “ليالى ألف ليلة” تعبيرا مثل “و حلّ به وجود جديد” أو “وانطلق من داخله مارد آخر”، وأنا ملىء بهذه النظرية، هل يمكن إلا أن أرى تعدد الذوات رأى العين؟ وقد حاولت أن أطبق نفس الفروض على ما قرأت مما يسمى الحداثة فلم أجد أمامى ذوات تتعدد، أو تتبادل، أو تتجادل، وإنما أشلاء متناثرة مثلما كانت أمى تفرك الخبيزة بمفراك من الخشب مثل الترس الكبير فتتناثر وريقات الخبيزه على جوانب الوعاء، فضحك الأستاذ، وقلت له إن هذا المنظر هو أكثر تواترا فى الريف، فهل رآى مثله فى مطبخ المدينة، فقال إنه لا يذكر.
يسألنى الأستاذ فجأة ما دمت لم أقرأ ألف ليلة وليلة الأصلية وأنا طفل، فماذا كنت أقرأ؟ يا خبر ما هذه المفاجآت هذه الليلة؟ هو الذى يسألنى ” المهم أسرعت بالحكى قبل أن يغير رأيه: قلت له إن أول ما قرأت بشكل متكامل كان حوالى سنة 42 ، وكنت بين الثامنة والتاسعة، حين عثرت فى مكتبة والدى على قصة بلىَ غلافها الخارجي، ولا أظن أن اسم المؤلف كان مكتوبا على الغلاق الممزق أغلبه، إلا أن اسم القصة كان واضحا وهو “الشيخ الصالح”، وأنها كانت تحكى عن شيخ يتنقل بين قرى المنطقة على حمارته يعظ ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فى حين أنه كان لصا أو قاطع طريق أو شىء من ذلك، وما زلت أذكر منظره وهو راكب حمارته ووراءه عبد يملكه يعدو طول الوقت ليلاحق خطوات الحمار السريعة، ثم أضفت للأستاذ أننى أذكر أننى حين كتبت عن هذه الذكرى فيما يشبه السيرة الذاتية فى ترحالاتى، اكتشفت أننى تقمصت العبد بعرقه ولهاثه وسواده وطاعته دون الشيخ، لا أعرف لماذا؟ وتجرأت وسألت الأستاذ، يا ترى لماذا؟ رفع الأستاذ حاجبيه ولم يجب، لكنه سألنى عن مؤلف القصة فأدركت أنه لم يلتقط حالة الغلاف فى بداية الحكى، فأعدت عليه أن غلافها كان باليا لم ألتقط من عليه إلا عنوان القصة، وسألته لماذا يسأل، قال لو أننا عرفنا اسم المؤلف أو تاريخ النشر، فربما يمكن أن يؤرخ بها لبداية الرواية المصرية، ما هذا؟ هل يصدقنى هذا الرجل بكل هذا الكرم وكأننى أحكى تاريخا يستأهل؟ لكننى تيقنت من جدية أسئلته عنى، وعن طفولتى حين قال، ثم ماذا؟، ثم ماذا؟!! ماذا ماذا يا شيخى الجليل؟ تشجعت وصدقت وأكملت قلت: إن الرواية الثانية مباشرة التى قرأتها كاملة كانت رواية مترجمة ما زلت أذكر اسمها جيدا حتى الآن لكننى لا أذكر محتواها، كانت أيضا فى مكتبة والدى، كان اسمها “أزميرالدا”، وظل نطق الاسم صعبا علىّ مدة طويلة، وأننى لا أذكر الأحداث وإن كانت هناك لقطة تحضرنى بسهولة، وهى منظر الدوق أو اللورد، لست أذكر، وهو فى حجرة التدخين فى القصر يذرعها ذهابا وجيئه، وقد ظللت مدة طويلة اسأل نفسى عن كيف يخصصون حجرة للتدخين، خاصة وأن أحدا من عائلتى الصغيرة لا يدخن، قال الأستاذ وهو يستعيدنى: أزميرالدا؟ قلت نعم قال تأليف: تشارلز كارفن، (لست متأكدا من نطق الاسم أو صحة ذاكرتى، وقد بحثت فى جوجل ولم يسعفنى)، قلت: لا أدرى، قال إننى أذكرها، وأذكر بالمناسبة كيف كان الأهرام زمان ينشر قصصا مترجمة بانتظام مع أنها كانت متوسطة الجودة، وأذكر أن معظم القصص كانت تدور حول النبيل الذى عشق بنت الشعب أو العكس، ومن كثرة تواتر هذه الفكرة كنت أحيانا أشعر أنها قصة واحده، ثم أضاف: كان الأهرام أيامها ينشر قصصا مترجمة نتعرف من خلالها على الغرب بشكل او بآخر، لم نكن نشك فى حكاية أنهم يريدون أن يغسلوا مخنا مثل كلام هذه الأيام، ثم ذكر أسماء بعض المؤلفين الاصليين الذين كانوا يترجم لهم، وحين حاولت أن أكتب الأسماء الآن لم أكن متأكدا من سمعى، ولا من التقاطى النطق وأنا سوف أكتبها بالعربية، وكان كلما ذكر اسم مؤلف، أضاف: طبعا أنت تعرفه، وكنت أحيانا أرد أننى لا أعرفه، وأحيانا لا أرد خجلا من جهلى.
تذكرت ما يكتبه المؤرخ العظيم يونان لبيب رزق عن تاريخ هذه الأيام من خلال أعداد الأهرام القديمة، فسألت الأستاذ إن كان الحاج صبرى يقرأ له بعض حلقاته، ولو مجرد العناوين، ثم أضفت أن الأهرام قد جمع المجموعة الأولى فى الجزء الأول فى كتاب بنفس العنوان “الأهرام: ديوان الحياة المعاصرة”، قال إننى أسمع عن هذه السلسلة، ولكننى لا أستطيع أن أطلب من الحاج صبرى أن يقرأ كل هذه المساحة، وقته محدود، ومهمته بالكاد (يادوب)، قلت له: إن بنت الشاطيء تكتب مع د. يونان رزق فى نفس اليوم (يوم الخميس)، وهى ذات قلم رصين وإن كنت أختلف كثيرا معها فى مواضيع جمة، وذكرت له كيف أنها كانت تسكن فى شارع صغير مع زوجها المرحوم الشيخ أمين الخولي، وكانت تقطن الدور الثانى فى حين أن زوجته الأولى كانت تقطن الدور الأول، وكنت معجبا أشد الإعجاب بالشيخ أمين الخولى وهو محافظ على عمامته رغم تخلى جيله عن هذا الزى، وحكيت له كيف أن والدى كان يلبس الجبة حتى تخرج من دار العلوم، ثم كيف حكى لى والدى أنهم كانوا بعد أن يلبسوا أفندى يرفضون أن يناديهم أحد بلقب أستاذ، ويردون على من يناديهم بهذا اللقب “أستاذ إيه يا أخينا إنت شايفنى لابس عمه”، وربطت ذلك بأن معظم أصدقاء الأستاذ الحاليين، وانا من بينهم، نتكلم عنه بلقب “الأستاذ” دون ذكر اسمه، فليس لنا إلى أستاذ واحد، فضحك وقال لى لا تحكى لهم عن المرحوم والدك وزملائه، فغاية علمهم أن الأستاذ هو أعلى الألقاب العلمية الجامعية، وحضرتنى بعض نوادر والدى فقلت أخفف الجرعة بحكيها، قلت: كان والدى يحكى لنا طرائف عن علاقاته بمشايخه ما زلت أذكر بعضها، فمثلا كان له شيخ يدرس له فى دار العلوم أيضا اسمه الشيخ السكندرى، ويبدو أن اسمه يدل على اصله، فالتقاه والدى وهو يسير على شاطئ الإسكندرية ذات صيف، فتقدم منه وسلم عليه، وقبل يده، وهو فرح متهلل، فتجاوب معه الشيخ السكندرى بفتور، فسأله والدى ألا تعرفنى يا مولانا،، فرد عليه الشيخ السكندرى “لا تؤاخذنى يا إبنى إن البقر تشابه علينا”، ضحك الأستاذ ضحكة رائعة شجعتنى أن استمر فى الحكى عن نوادر والدى مع الشيخ السكندرى، ربما خفف ذلك كثافة ما كان فى أول اللقاء، حكيت له أن والدى سأل الشيخ السكندرى ذات مرة بعد المحاضرة سؤالا تكميليا، ويبدو أن الشيخ كان متعجلا أو منشغلا بأمر آخر، فسأل والدى قائلا: قل لي يا شيخ توفيق: ما هو الأكثر: الذى تعرفه أكثر أم الذى لا تعرفه، قال والدى: طبعا الذى لا أعرفه أكثر بكثير، فقال الشيخ السكندرى خليها (هذه المعلومة التى تسأل عنها) على الكوم الكبير، وضحك الأستاذ أعلى، وشاركته.
لم أكن أتصور أن الوقت سيمتلئ هكذا ونحن اثنان فقط فى جلسة مغلقة، وفى يوم الحرافيش.
سارعت بأن أطرح أنا السؤال هذه المرة، فسألته عن رأيه فى جارثيا ماركيز، قال قرأت له، وأعجبت به، إن خياله واسع رائع، مزج فى تكامل بين الأسطورة والرواية الحديثة، قلت له لكننى بصفة عامة أتحفظ على قراءة الأعمال الكبيرة مترجمة، قال فعلا عندك حق، لكننى – كروائى – أستطيع غالبا أن أشعر بالهنات والنواقص، وأتصور أننى أستطيع أن أملأها، فيصلنى العمل شبه كامل، أقرب إلى أصله، قلت له إن بعض التراجم تكاد تعيد كتابة العمل باللغة المترجمة إليها بكل إبداع وكل أمانة فى نفس الوقت مثل ترجمات سامى الدروبى لديستويفسكي، قال سمعت عنها مدحا كثيرا، لكنى قرأت ديستويفسكى بالانجليزية. فلم أجد مبررا أن أقرأة ثانية بالعربية، قلت والأصعب حين تكون الترجمة نقلة ثانية أو ثالثة وليست من اللغة الأصلية، قال: فعلا، إن ديستويفسكى هذا بكل عظمته وإبداعه تـُـرجم لأول مرة ترجمة سيئة بالانجليزية، فلم يلتفت إليها أحد، ثم جاء مترجم آخر وترجمه ترجمة وافية أمينة، وخذ عندك دخل ديستويفسكى تاريخ العالم الغربى والعالم أجمع، ثم أضاف: ديستويفسكى هذا، كان مثالا لعدم الانضباط، وكان يكتب كثيرا وطويلا فى كل إتجاه، حتى يمكن أن تعتبر الرواية الواحدة عدة روايات، لكنه فى النهاية كان يخرج عملا وأعمالا لا يمكن إلا أن تدل على عبقريته، قلت له إننى أحبه وهذا يجعلنى أصبر عليه مهما أطنب، ولو أننى أشك كثيرا أن الجيل الأصغر يحتمل أية درجة من الصبر على قراءة هذا النوع من الكتابة، إن ديستويفسكى يتدفق حتى يبعده تدفقه عن جوهر الخط الأساسي أحيانا، ما زلت أذكر فى فصل من فصول الإخوة كارامازوف وصفه للراهب زوسيما؟، جاهدت أن أحتمله وأواصل حتى شعرت أننى فى كنيسه يقوم بالوعظ فيها شيخ لحوح، قال الاستاذ: نعم هذا القس، نعم أذكر أنه كتب هذا الفصل ما يقرب من مائة صفحة ماكان يمكن أن يقوله فى صفحتين، قلت، لكنه فى النهاية حين مات القس، وبعد أن أوحى لنا ديستويفسكى أنه سوف يكون معجزة بعد موته كما صور ظاهره فى حياته، وأن جثمانه سوف يظل جافا يبعث الروائح الزكية أو بلا رائحة على الأقل، فوجئنا بالرائحة النتنة تتصاعد منه، هنا يمكن أن ندرك للتو أن كل هذا الإطناب السابق قد تلون بلون رائحة النتن بعد موته، وقد شعرت من خلال هذه المفاجأة بأهمية التفاصيل السابقة، وتيقنت أن المبدع الأصيل لايترهل عادة، وإنما هو يفيض ليضم، ويضم ليتفرع، علما بأنى أرجح أنه لا يقصد ذلك تماما منذ البداية، لكن هكذا الإبداع.
ثم جرنا هذا الحديث إلى موضوع سبق فتحه دون أن يأخذ حقه، وهو حق المبدع فى الفتور أحيانا، وسألته عن تفسير ذلك، فأقر أولا أن هذا وارد، ولكن تواتره غير حسن، وعموما فإن تقدير المبدع ينبغى أن يؤخذ من جماع إنتاجه، وليس من عمل واحد قد يهبط منه غصبا عنه، سواء هو أدرك ذلك أم لا.
رجعنا مرة ثانية إلى روعة ترجمة سامى الدروبى وأن المترجم قد يصل إلى أن يكون دوره هو إعادة تقديم النص، فيصبح له فضل لا يقل عن فضل المؤلف، قال الأستاذ إنهم يـرجعون شهرة رباعيات الخيام فى الغرب إلى ترجمة الكاتب البريطاني إدوارد فيتسجيرالد أكثر من الرباعيات نفسها، قلت له إن لها عدة تراجم بالعربية، كما أننى قد عثرت مؤخرا على ترجمة لها بالعامية المصرية، قال سمعت عن الأخيرة، ثم تذكرت أن ترجمة محمد السباعى كانت خماسية وليست رباعية، وسألته هل لاحظ ذلك، فقال لم اقرأها للسباعى، وأثنى على ترجمة رامى وقال إنها من أدق الترجمات، ثم سألنى هل قرأت ترجمة السباعى، قلت له نعم، ولم تعجبنى برغم الاجتهاد، سألنى هل تحفظ شيئا منها، فتلوت له هذه الخماسية:
إشرب الصهباء فى ظل الصبا
ما شدا طير بتيجان الربي
فإذا ساقى المنايا أو جبا
شربةً غصّتْ ومرّتْ مطعما
فأحسُ جلدا خمرة الموت الزؤام.
وطرب الأستاذ من الانتقاء، وذكرنى بأن محمد السباعى فى رأى كامل كيلانى يؤلف حين يترجم، ويترجم حين يؤلف، وذكر لى كيف قالها الكيلانى ساخرا مداعبا يقظا، ففهمت الشطر الأول من الجملة ولم أفهم الشطر الثاني،ولم أخجل من أن أسأله، فقال دون أن يرفض غبائي، يعنى أن السباعى حين يدعى التأليف كان يسرق شذرات من هنا وهناك ويترجمها باعتبارها من تأليفه، وضحكنا.
سألته إن كان قد عرف كامل الكيلانى شخصيا، قال ياخبر !! لقد تزاملنا فى وزارة الأوقاف عمرا بأكمله، وكان كامل الكيلانى كاتبا فى الوزارة، هذه كانت وظيفته، لكن كان فوقه الكتبة الحقيقيون كتبة على قدر حالهم من مستوى: “أتشرف بأن أرفع لسيادتكم…”، لكن الكيلانى كان شيئا آخر برغم تواضع وظيفته، وكان له أصدقاء مميزون، وكان كلما زاره كبير أو زائر عربى أو شخص مهم، يملأ الغيظ رؤساءه فيتحفزون ضده ويميلون عليه، وحين علم أنى أكتب وينشر لى أحيانا فى الرواية والرسالة أخذنى على جنب ونبهبى ألا أذكر ذلك إطلاقا لأى مخلوق فى الوزارة، حتى لا يقع لى ما وقع له، فقد كان رؤساؤه وزملاؤه يقولون عنه هذا الموظف “بتاع الأطفال” (ذكر الكلمة بالعامية) يحظى بكل هذه الأهمية ونحن الأعلى والأهم: لا اعتبار لنا، ثم سألت الأستاذ سؤالا سخيفا، لم أتبين سخفه إلا بعد أن سألته، ذلك أننى سألته هل تعرف رشاد ابنه (وكنت قد تعرفت عليه بمصادفة ذكرتها فى نشرة سابقة) فقال لى لمحته مرة معه، كان صغيرا، لكننى لا أعرفه كبيرا، قلت له إنه صاحب مطبعة وراء قصر عابدين، وأنه لا علاقه له إطلاقا بالأدب ولا بقلة الأدب، فهو كما عرفته، رجل أعمال متواضع الذكاء لا أكثر ولا اقل، صاحب مطبعة ربما ورثها عن أبيه، لا يعنيه ماذا تطبع، وإذا أفتقر إلى ما يطبعه فتح الله عليه بنشر دلائل الخيرات، أو أدعية فى مقام الست الطاهرة حتى تفرج، وسألت الأستاذ: لماذا يغلب على أولاد المبدعين (والثوار كذلك) أن يصبحوا من أصحاب الأعمال ذوى الاهتمامات المادية أساسا، نجحوا أم فشلوا، دون أى اهتمام بالثقافة أو بالناس، ولم يرد الأستاذ، فكررت له نكتة لم اكن متأكدا أنه سمعها من قبل، وهى أن الرئيس اكتشف أن مصنعا ضخما فى العاشر من رمضان تبلغ قيمته عشرات الملايين، يملكه إبنه، فعلق قائلا: “أفى هذه الأشياء ينفق مصروفه هذا الولد الشقي؟.. الآن عرفت!!!”
وحين ضحك الأستاذ عاليا وطويلا، اطمأننت أنها جديدة بالنسبة له.
ثم لست أدرى كيف انتقل الحديث إلى الاستعمار الانجليزى؟ أظن أنه حين جاء اسم الصديق القديم أستاذى أستاذ الطفيليات فى قصر العينى الدكتور أدهم رجب، وصديق صبا الأستاذ، وقد سبقت الإشارة إليه، ورد اسم عبد المنعم الشوفى (لست متأكدا من الاسم) ربما فى مقام مقاومة الإنجليز، وأنا لا أعرفه، فسألته عنه فقال ياه إنه صديق وعضو ثلة وعضو فريق كرة المنيرة، قلت له أى فريق هذا؟، قال كان لكل حى من أحيائنا فريق كرة، بل أحيانا كان لكل حارة فريق، وكانت تجرى تصفيات أو ما يشبه الدوري، وذكرت له أن علاقتى بالكرة شديدة الضعف، وأعدت له حكاية أصدقاء أخى وتقسيماتهم فيما بينهم وإغفالى، (وأذكر أننى ذكرتها سابقا فى ترحالاتى “الترحال الأول: الفصل الثالث فى ضيافة المرأة المُهرة “)، فيسألنى عن سنى آنذاك فأذكر أننى كنت حول الثالثة عشر، وكنا قد انتقلنا إلى مصر الجديدة، وأنه ليس لى علاقة بالكرة لا لاعبا ولا متفرجا ولا مشجعا، فيستغرب الأستاذ، فأستثنى من ذلك مناسبة وأنا فى سن اصغر حين كنت فى زفتى، وحضر فريق من الجيش الانجليزى ليلاعب فريق زفتى، وخرجتْ إليهم فتوة امرأة جسيمة، وراحت تتحدى وهى تتراقص وسط الشارع وصدرها مفتوح ونهداها أكثر من أقتين يترجرجان فى حرية وهى تغنى ساخرة قبيل الماتش “جونى يا جونى تعا بوسنى وعضني”، وضحك الأستاذ فأردفت أننى لم أكره الانجليز أيامها مثلما كرهتهم حين حضرت إلى القاهرة ورأيتهم وقد أدلوا من ثكنات قصر النيل أرجلهم الحمراء كما ذكرت سالفا، ثم أردفت ثانية أنه يبدو أن الإستعمار الانجليزي، كانت له مزايا، أو أن عيوبه كانت أقل من غيره، قال فعلا، يا ساتر على الإستعمار الفرنسى أو الطليانى قلت أو البرتغالي، ثم ذكرت له كيف أننى لا حظت أثناء زيارة أو اثنتين للإمارات كيف أنها بدت لى أكثر تقدما وحضارة من الدول التى لم تستعمر أصلا مثل السعودية، أضاف أو مثل اليمن، وحين وصلنا لذكر اليمن حكى الاستاذ تعليق صالح جودت الذى صحبه فى رحلة اليمن وكان أول ما عمله حين وطئت قدماه أرض اليمن، أنه قال: الحمد لله على الاستعمار، هذا هو ثمن الاستقلال المغلق، ثم أردف الاستاذ أن نوع الاستعمار بمعنى العمران أو التنوير كان عند الانجيلز متميزا وهو يشبه الاستعمار المصرى القديم، كان المستعمر المصرى إذا غار على بلد حافظ على تقاليده ودياناته وعاداته وتقاليده، وكان يطلب أولاد علية القوم يحضرهم إلى مصر ليعلمهم، وخذ مثلا رسائل تل العمارنة (؟) كانوا يكتبون إلى أخناتون بود واحترام، ويقدمون له العروض والتعهدات، ويتعلمون من المصريين، وصاحبك (أخناتون) سارح فى ثورته العقلية وفلسفته الجديدة، ذكرته بحديثنا السابق عن فشل الملك الفيلسوف.
تطرق الحديث إلى رأيه، فى مصطفى كامل ومحمد فريد وما ينشره سلماوى على لسانه فى الأهرام، ورحت أقول له: الآن أشهد أن شهادتك لسلماوى كانت طيبة وصادقة، وأنه يكتب بإيجاز وموضوعية، وقلت له: إننى استنتجت أنك تحمل قدرا فاترا من العواطف تجاه محمد فريد بالذات، وأننى شخصيا لم أحبه أبدا، قال هو إبن ذوات، هرب، وحين نجحت الثورة أراد أن يعود زعيما، سألته وأنا أتساءل: لماذا يربط خيالى بين مصطفى كامل ومحمود سامى البارودي، قال مطرقا لعل فيهما وجه شبه، قلت أظن أنه شارب كل منهما، فمازالت صورة الشاربين فى ذهنى منذ رأيت صورة كل منهما فى كتبى فى المرحلة الإبتدائية، قال وكأنه لم يسمعنى، وكأنه يرفض هذا التظرف، إن أصلهما لم يكن مصريا تماما، ثم أردف، ولكن ربما كان كثير من زعماء تلك الفترة كذلك، ثم عاد وقال: غير أنى أعتبر كل هؤلاء مصريين، كل من هو فى مصر وعاش فيها، وأعطاها واخذ منها هو مصري، تذكرت – وقلت له – عن ظاهرة زواج الاجنبيات من مصريين، مستشهدا بما حكاه لنا على الشوباشي فى أحد لقاءات الثلاثاء عن ابنه، وكيف أن هؤلاء الزوجات حين يحضرن إلى مصر، لا يرغبن فى مغادرتها، بل إن بعضهن يكن فى كثير من الأحيان سببا فى عودة أزواجهن إلى مصر مع أن بلادهم تتمتع بالحرية والرفاهية والوفرة (وحقوق الإنسان)، تعجب معى، ووافقنى تقريبا، ولم يتعسف جوابا.
أثناء عودتنا سألته دون تردد: إن هذا هو أول امتحان لى كحرفوش مستجد يقضى ليلة كاملة وحده مع شيخ الحرافيش فهل يا ترى نجحت؟
قال كلاما طيبا أخجل أن أعيده، صدقته كما هو حتى لو كان مجاملة
قلت له ألم يئن الآوان لفتح باب الإلتحاق لحرافيش جدد لتجديد الدم وضمان الاستمرار،
قال إنهم (الحرافيش) متزمتون جدا فى هذا الشأن، فسكت، وكأن هناك شىء اسمه الحرافيش ما زال، وكأن الأمر يحتمل التزمت أو غير التزمت،
وفرحت بهذه الليلة الاستثنائية إلا منا نحن الاثنين
هل هى ليلة حرافيش فعلا؟
أم ماذا؟
يبدو أن صفة الحرافيش تتحقق بنوعية العلاقة، وليست بمزيات خاصة فى الملتحقين بها
شكرا يا شيخى الكريم
وأجرؤ اليوم فأقول:
ويا صديقى العزيز
الحمد لله.