“نشرة” الإنسان والتطور
29-12-2008
السنة الثانية
العدد: 486
يوم إبداعى الشخصى
الذراع والحزام
قبل النص
حين حضرت صباح اليوم (الأحد) لأختار من إبداعى الخاص ما يصلح لنشرة الغد المخصصة لذلك، فوجئت بأخبار مذبحة غزة، مجزرة غزة، سلخانة غزة، طبعا لا أستطيع أن أصف مشاعرى، وما فائدة المشاعر أصلا؟ وما فائدة وصفها؟ وما فائدة الكتابة؟ وما فائدة النشرة؟ وما فائدة الحياة؟ وما معنى أى شىء لأى شىء إن كان العجز قد وصل إلى هذا الحد؟، وما فائدة نشرة اليوم بالذات: إبداعى الخاص؟؟!!! لماذا؟ وما فائدة الشبكة العربية للعلوم النفسية؟ وما فائدة العلوم النفسية؟
بحثت عن تفاؤلى العنيد الذى وصل إلى حد المرض كما أزعم، نعم هو مرض بقدر بعده عن الواقع، وهو شديد البعد عن الواقع، بحثت عنه فلم أجده، هرب منى، هو دائما يهرب منى كلما شعرت بما أشعر به الآن من عجز وغيظ وغضب وجزع وجنون، كلما حدث مثل ذلك أُصاب بشلل ما، أصمت وأنسحب وكأننى مِتّ فعلا، ثم أنفجر للأمام قبل أن تزهق روحى مباشرة، ألملم نفسى، وأنا أستعد للجولة القادمة، ولا أجد إلا الكتابة، لا لتفريغ ما بى، وهو لا يفرغ، ولا ينتهى، ولكنها – الكتابة – تذكرنى بمسئوليتى.
يبدو أن هذا نفسه هو ما حدث لى سابقا ودفعنى أن أكتب القصة التى نشرت منذ أسبوعين بعنوان “تقرير”، أثناء كتابتى تقريراً عن بحث علمى، كان ساعتها يجرى حولى ما ينبهنى إلى احتمال مشاركتى مجرما مساهما، كما ذكرت، هذه القصة المقال سبق نشرها فى الأهرام سنة 1982، ومازلت أذكر جزع وألم كل من قرأها آنذاك، لكن ماذ فعلنا بالألم أو فعل بنا الألم؟ وحين أعيد نشرها الأسبوع الماضى، أحدثت نفس الألم عند من عقب عليها وكانها كتبت للتو (قبل مذبحة غزة أمس)؟ لكن، مرة أخرى: ما فائدة الألم، وما فائدة الكتابة؟ …. إلخ،
الألم هو الألم، والعجز هو العجز، لكن أيا من ذلك لا ينجح أن يثنينى عن تحمل المسئولية، شخصيا، أولا، ولووحدى، قفزت على سطح ذاكرتى صورة أخرى، كتابة أخرى، كتبتها فى مثل نفس الموقف، ربما بمثل نفس الدافع، ربما لمثل نفس الغرض، ونشرت فى الأهرام أيضا فى 17 أكتوبر 1985.
الآن، لم أعد أستطيع أن أجد عندى ما أعبر به عن موقفى مما بلغنى هذا الصباح إلا أن أعيد نشر تلك القصة، أعيد نشرها لأن شيئا لم يتغير، إلا بداخلى، أصبحت واعيا أكثر فأكثر، وأنا أقبل التحدى بقدر ما أتحمل مسئولية التفاؤل حتى لو كان مرضا فعلا، حتى لو أصر أن يقول ويعيد:
“إنه بالرغم من كل هذا، فإننا نحن – الناس – (وليس فقط العرب) هم الذين سوف ينتصرون، حين نتحمل مسئولية تفاؤلنا والدماء تجرى من حولنا، طالما هناك دماء تجرى فى عروقنا، لا مفر من مواصلة معركتنا بشرا معا، اللهم إلا إن تحولت الدماء فى عروقنا إلى مياه راكدة آسنة عفنة، وأنا لا أرى أن هذا محتمل، وإن كان يمكن أن يكون هذا هو ما يجرى فى عروقهم هم، فهم المنقرضون قبلنا، “هم” ليسوا فقط الإسرائيليون، ولكن كل من لا يثور ضد الجارى لصالحه قبل صالحنا، لصالح الناس، كلُّ من موقعه بطريقته طول الوقت”.
*****
النص:
الذراع والحزام
تمتد الذراع الأفعى إلى حيث لم احتسب، تنسحب اليد اللزجة فوق المجرى المخفى فى ثنايا الستر، تلصقنى الأخرى على قفاى، يتنخم صوت خشن دون توقف حتى أتبين أنها قهقهة تصدر من أمعاء مخمور لم يتقيأ، يبصق على وجه ابنتى النائمة فى حجرى قائلا:
.. كله بثمنه .. واللى عاجبه
الممثل الأكبر يدهن شعره المصبوغ بشحم نتن، يتحدث عن العدل القاتل والرد الملغوم، وصدور تشريع احدث لتقنين النذالة والوغدنة الموجهة، اى والله.
أتقيأ شعرى، أوزان قصائده حجارة من سجيل تلطم وعيى، افتح درج مكتبى لأبحث عن نتائج، آخر بحث علمى لم افسر بعد نتائجه، أرقام مرصوصة فى جداول معقدة، يشغلوننا – طول الوقت - بهذا العبث الدائر حول جزئيات الجزئيات، أعثر مصادفة على عقد زواجى فأخفيه بعيدا خشية تمزيقه، ألعن ميثاق الأمم المتحدة والوصايا العشر، وإعلانات العمرة السياحية.
اخجل من مجرد التفكير، لا أجرؤ أن أتتطلع فى وجه حفيدى، يستدير – نائما – يخفى وجهه فى رحم وسادة صغيرة، ليست نظيفة، ألعن الانتخابات والصحف وأبراج المساكن والمدن السياحية واسعار الدولار واطمس أحاسيس غافلة لم تطمس بعد خشية أن تشتعل منى لا أعرف إلى أين.
ما عاد يجوز .. ما عاد يجوز..
أتبين غول الغضب يجرى فى كل دروب وجودى
فهو القتل.
فرض كفاية، أظن كفاية، بل فرض عين لا يسقط ابدا، لا يسقطه أن تحارب كل الأجنة فى بطون أمهاتها، لا يسقطه أن يتبدل الناس غير الناس، العار يصبح عارا أبشع اذا عبثت به عتمة الذاكرة أو مؤتمرات القمة.
سوف أقبل الدعوة، هذا هو رقم تليفون قريبى الذى كان يعمل بالمخابرات، هو يكرههم أكثر من كراهيته لذئب مسعور يجرى جائعا فى روضة أطفال، سوف يدلنى على نوع المتفجرات وطريقة التشغيل، لابد أن تكون الزيارة “العلمية” الثالثة أو الرابعة حتى يطمئنوا، زملائى حسنو النية مهدوا الطريق، الأسس النفسية للتفاوض الدولى (!!) ليكن بحثا علميا يحتاج لمقابلة الصقور والحمائم مجتمعين، سيكولوجية العلاقات الحازمة الإثنية (اى كلام: بكاهلشا رونميزيز) – الحزام رقيق السمك تماما، والتحكم من خلال قلم حبر جاف، يحتد النقاش العلمى، انفجر، بى- فيهم .. معلنا وصيتى، رسالتى
أنتقل عبر الحاجز غير المرئى أشعر إنى أخف وزنا حتى اتصور – فرحا – أن الطيران اللولبى الصاعد سوف يدوم، إلا أن ثقلا يدب فى أطراف أصابع القدمين، ينسحب للساقين فالجذع، يجذبنى الثقل إلى أدنى أهبط – غير مصدق – فى رعب ساحق، لماذا؟ ألم افعل ما ينبغى؟ الا يكفى؟
أحاول أن أفيق مرتين بلا جدوى.
لا أعرف السباحة والبركة آسنة بلا قاع، أغوص – رغم زئبقية القوام – فى منقوع العار والمرارة (لم تكتب سناء المحيدلى قصة، لم تقرض شعرا، ولا قامت ببحث علمى لمؤتمر يستمنى)
لا أجد عذرا انتحله
عنينا يتوارى خجلا من استمراره حيا.
*****
بعد النص: 28/12/2008
أتمطى بعد ربع قرن، فأكتشف أنى مازلت حيا
جدا
الألم هو الألم، والدماء الشريفة مازالت طازجة تؤكد أن الحياة تتجدد
لا أخجل
لا أتوارى
لست عنينا بعد!
ولن أكون
*****
ملحق النص:
(قبل القصة “الذراع والحزام” بثلاث سنوات ونصف- الأهرام: 8-4-2002)
معنى آخر للجمال
وسط كل هذا التذبيح، والقتل، والتجويع، والإبادة، والإهانة، والاستهانة، هل يوجد مكان للحديث عن الجمال؟ لابد أن للقبح معان أخرى كما أن للجمال معان أخرى، هل يوجد أقبح من تستمع لهذا السيد المسمى بوش وهو يصرح أى تصريح ولا تشعر بالغثيان. تعلمت من غثيان سارتر كيف يكون القبح مثيرا لمثل هذا الرد المعبر عن التقزز، إنك حين تسمع هذا الدبليو بوش وهو يطلب من عرفات أن يبذل جهدا أكبر لمكافحة الإرهاب وقد قطعوا عنه الماء فلم يعد يستطيع أن ينظف نفسه أو يتوضأ، أو وهو يوصى صديقه وحليفه شارون ألا يطرد عرفات حتى لا يمارس الإرهاب من الخارج، (وليس لأى سبب آخر)، وكل تصريحاته كذلك، لا تملك إلا أن تصاب بالغثيان وهو أقبح أنواع القبح. ذلك القبح النشاز المثير للنفور الفاتر اللزج المسخ.
هل يوجد بعد و وسط كل هذا القتل والإهانة والإذلال والتجويع، والغطرسة مجال للحديث عن عكس هذا تماما، عن الجمال؟
ما هو الجمال؟ وكيف يجد مكانا وسط كل هذا ؟
لا أعرف ما الذى جعلنى أخاطب وفاء إدريس فى نهاية مقال نشر لى فى موقع آخر(الوفد: 6/2/2002) قائلا “ما أروعك يا وفاء، وأنت تقلبيين كل خططهم بكل هذا الجمال”، راجعنى بعض الأصدقاء والقراء عن مدى تناسب هذا الوصف مع صورة وفاء وقد تناثرت أشلاؤها بما يثير آلام وحسرة ذويها وكل من يحبها، لم أجد إجابة جاهزة حتى أننى كدت أراجع نفسى كأن اللفظ قد قفز منى رغما عنى. لكننى حين طالعت بعد ذلك بأسابيع وجه آيات الأخرس وعشت – تقمصا ما أمكن ذلك – خبرتها وهى تودعنا لتلحق بأختها منال وإخوانها بلا حصر، عاد إلى وعيى ذلك الوصف الذى غمرنى وأنا أشير إلى رحيل منال رغم الدم والأشلاء والآلام .
ما الحكاية؟ أى جمال فى هذا الفعل الرائع؟
يمكن أن نتكلم عن البطولة، وعن الشجاعة، وعن التضحية، وعن الإيثار ، ولكن أن يوصف هذا الفعل بالجمال هذا هو ما توقفت عنده أحاول تفسيره
دون الدخول فى تنظير حول فلسفة الجمال، وصلنى من خلال مغامرة القلم هذه أن الجمال ليس مجرد تناسق الأجزاء فى كل قادر أن يعيد تناسق وعى المتلقى بما تيسر، لكنه حضور جدلى بين وعى إنساني، ووعى إنسانى أو إلهى آخر فى حالة تصعيد بلا نهاية. الجمال حركة منفرجة ضامة مفتوحة النهاية قادرة على تحريك مواز ليواكبها. الجمال تآلف بطول الزمن الممتد، وبعرض الطيف غير المحدود ، كل هذا لا يتحقق بشكله المطلق إلا فى حالة من الوجد الصوفى الذى لا يوصف.
هل هذه هى الرسالة التى وصلتنى من وفاء وآيات وكل أولادى وأحبابى وأنا أنظر فى عيونهم بعد أن رحلت أجسادهم عن مجال حواسنا الأدنى لتتآلف فى المطلق غير المتناهى؟ ربما، وربما هذا هو الذى جعل الألم الذى يعتصرنى لا يمنعنى من استعمال تعبير الجمال فى وصف رحيل أجسادهم دون اختفاء دورهم.
لحن الاستشهاد هذا هو الذى يملأ الوعى بتأكيد العلاقة الوثيقة بين الحياة والموت، ليسا كضدين، ولكن بتوليد أحدهما للآخر، وهو هو الذى يؤلف بين الفرد وناسه، بين المحدود والمطلق ، بين الدنيا والآخرة، هذه العلاقة لا يمكن أن توصف إلا بالجمال، دون أن يحرمنا هذا التناغم من أن نتقطع ألما ونجزع فرقا.
إن الذى يقرأ وصف الأخرين من الثقافة الأخرى لهؤلاء الشباب لا بد وأن يشك فى سلامة وعيهم، ونقاء ذوقهم، إنهم يتحدثون عن هذا الجمال بأقبح الأوصاف، لم يذهب أحدهم إلى مرآته، ويمسك بأى آلة حادة، ويقربها من عنقه، ثم يسأل نفسه ما هو الدافع الذى يمكن أن يجعلنى أغرس هذا النصل فى عنقى هذا اللهم إلا أن يكون الشديد القوى الذى لم يعد يطاق ؟
الفلسطينيون المحتلون المهانون المستعملون المذلون يضحون بحياتهم الواحد تلو الآخر ليس نتيجة للإحباط وإنما هى استراتيجية انتحارية؟ والإسرائيليون وهم يحتلون أرض غيرهم، ويهينون خلق ربنا، ويبصقون على كل الأعراف، ويمزقون كل القرارات الدولية، هؤلاء الإسرائيليون هم الذى يقومون بهذه المجازر الاضطرارية نتيجة للإحباط، شكرا يا سيد سترو.
لا أحد منهم يفهم معنى الموت الجميل، لأن لا أحد منهم يريد أن يتقمص هذا الوجه الجميل لآيات الأخرس، حتى لو عجز فريدمان عن ذلك، فليناد ابنته أو حفيدته فى مثل سن آيات، أو أكبر أو أصغر قليلا وليتطلع فى وجهها ويتصورها وهى تلف حزام التفجير حول وسطها الرقيق، ويسألها أو يسأل نفسه، ما الذى يجعلها تهدر كل هذا وتحرمه منها، وتحرم نفسها من كل آمالها وحبها وحلمها؟ إستراتيجية العمليات الانتحارية؟ لا يا شيخ!!!!! آيات لم تسمع كلمة استراتيجية أصلا يا سيدى
إنه ظلمكم يا سيد فريدمان. واحتقاركم لأى آخر غيركم.
*****