“يومياً” الإنسان والتطور
15-4-2008
العدد: 228
تشكيلات الارتباط الثنائى بين الأحياء، (والبَشَرْ!)
فى أسبوع واحد أجريت مقابلة متعددة الأطراف، وحوارا منفردا عن الحياة الزوجية أساسا (دريم2: برنامج نأسف للازعاج، ثم الفضائية المصرية: برنامج سيدتى) يجدهما فى الموقع من شاء من الزوار: صوتا وصورة.
لاحظت فى الآونة الأخيرة تكرار طرح هذا الموضوع بشكل ملح، حتى امتلأت الفضائيات والأرضيات بالنصح والإرشاد والوصفات والتوجيهات، ولا مانع من الاستشهاد بخواجة من هناك أو إحصاء من هنا،
وبرغم مشاركتى فى هذا الجارى إلا أننى لا أخرج -مهما حاولتُ- راضيا من أى لقاء أو حوار حول هذا الموضوع، حيث لا أشعر أننى استطعت توصيل ما أريد، أو بعض ما أريد، إلى من يهمه الأمر، بطريقة يمكن أن تبقى.
المؤسسة الصعبة الضرورية:
لن أهمد عن ترديد أن المؤسسة الزواجية هى من أصعب المؤسسات الاجتماعية الحديثة، وفى نفس الوقت هى من ألزمها الآن، وربما إلى درجة ما: عبر التاريخ.
رجعت إلى أوراقى، وبالذات ذلك البحث الباكر عن تحرير المرأة وتطور الإنسان (1975) لأجد تصنيفا استلهمته من التطور البيولوجى للأحياء وأنواع المعايشة الثنائية بين بعضها البعض، فوجدت أنه يمكن وضع فروض تسهم فى إعادة النظر فى العلاقة الثنائية بين البشر من خلال تصنيف هذه التنويعات بين الأحياء
البداية:
بدأت الانتباه إلى فحص ومراجعة ظاهرة هذا التعالق الثنائىsymbiosis بدافع البحث عن أبعاد مضاعفة معطلة نسبيا فى العلاج الجمعى، حين كنا نرصد ما يسمى “الازدواجية pairing حين يرتبط أحد أفراد المجموعة ارتباطا خاصا جدا بآخر أو أخرى، وذلك أثناء العلاج، إما لأنه يشبهه، أو لأن دفاعات أحدهما تدعم دفاعات الآخر وبالعكس، كنا نسمى ذلك من باب الفكاهة (العلاجية) أو التعرية للإفاقة “سُنْبَطَهْْ” من Symbiosis وننظر إليها نظرة ذات دلالة، وتتعامل المجموعة – تحت قيادة المعالج (أو أكثر) – مع هذه الظاهرة وهى تهدف إلى فض هذا الترابط السلبى عادة، إلى أن نتأكد أنه لم يعد يعوق انفتاح هذين العضوين على المجموعة، بما يدعم مسيرة نموهما والمجموعة الذى هو هدف العلاج أساسا.
ثم أنى اضطررت أن أرجع إلى أصل كلمة symbiosis أثناء كتابة أطروحتى عن تحرير المرأة وتطور الإنسان سنة 1975 بحثا عن تنويعات “العيش معا“ً عند مخّتلف الأحياء، فلم أستطع أن أحصد التباديل والتوافيق بسهولة من المراجع الأوسع، فلجأت إلى القاموس الطبى دورلاند [1]، وإذا بى أعثر على خمس تصنيفات متنوعة، بلغتْ من الوضوح والتمايز أن أوحت لى أن أحاول أنظر فى العلاقات البشرية الثنائية، خصوصا بين الرجل والمرأة، من خلال هذا المنظور.
بصفة أساسية، وبإيجاز أرجو ألا يكون مخلاً، وجدت أن تقسيم التنويعات يعتمد على مدى الضرورة أو الفائدة، أو عدم التأثر، مما يعود على كل طرف من الطرفين نتيجة لهذا “التعايش معا”.
وقد وجدت أن عرض هذه التنويعات فى جدول قد يكون أكثر فائدة وأوضح للمقارنة على الوجه التالى:
نوع الارتباط | الكائن الأول | الكائن الثانى | المقابل البشرى الثنائى (مثلا: الزواج) |
الارتباط التكافلىMutualism | يستفيد وينمو بما هو، لما هو من خلال مواكبته للآخر. | يستفيد وينمو أيضابما هو، لما هو من خلال مواكبته للآخر | العلاقة التى ينمو من خلالها كلّ من الطرفين بالرؤية، والتكافل، والقرب، والحركة، والتقارب الجسدى، والتباعد الحميم، مع الاحتفاظ بمسافة مرنة متغيرة متجددة طول الوقت. |
الارتباط التعايشىCommensalism | يستفيد من خلال التواجد مع الآخر،وليس على حسابه. | لا يستفيد ولا يتضرر بما يفعله الآخر، ويواصل هو حياته وهو يسمح لهذا الآخر يما يأخذه حسب الأحوال والمتاح. | العلاقة (الزواج) من جانب واحد، حيث يستمر أحد الأطراف (الرجل) عادة، موافقا على ما يأخذه الطرف الآخر منه، أحيانا فى مقابل استعمال هذا الطرف استعمالا طرْفيا برضاً نسبى، أو بدون هذا الاستعمال، فتحقق –مثلا- المؤسسة الزواجية للرجل تأكيد رجولته ومواصلة إنجازه فى حين تمارس المرأة (الزوجة) – ربة المنزل دون عمل خارجه عادة- اعتمادها غير الطفيلى عليه، وهو ماض فى سبيله لنفسه وتقتصر استفادتها على الحصول على احتياجاتها الأساسية برغم توقف نموها نسبيا أو تماما. |
الارتباط الطفيلىParasitism | يستفيد ويعيش على حساب الطرف الآخر معتمدا عليه، مستهلكا طاقته، (ماصٍّا غذاءه). | يصاب بالضرر من هذه العلاقة الاعتمادية الماصَّة، المستهلِكةْ. | الارتباط (الزواج) الاستعمالى، الذى تصل فيه الاعتمادية الطفيلية إلى درجة أن يستعمل أحدهما الآخر لتفريغ شحناته على حساب انسانية هذا الآخر ونمائه وحقوقه، فمثلا: الرجل يستعمل المرأة أُمّاًً أو مجالا للتفريغ على حساب كيانها واستقلالها، أو تستعمل المرأة الرجل كممول للمصاريف أو مُذَبْذب للجنس، فيعاق ويُستنزف فقط. |
الارتباط بلا دعمAmensalism(آسف للترجمة مؤقتا) | يعاق أو يصاب بالضرر نتيجة لهذا الارتباط | لا يتأثر لا ضرراً ولا فائدة، وكأن أثره السلبى على الطرف الآخر هو نتيجة ثانوية يتحملها الطرف الآخر وحده الذى ارتضى ذلك، أو احتاج لذلك، أو اضطر لذلك | مثل الزواج (أو العلاقة) التى تدفع فيه الزوجة ثمن العلاقة دون أن يتأثر الزوج إذْ يمضى فى طريقه المستقل(الناجح عادة) يستعملها بعض الوقت، كما يمكن أن يستبدلها أحيانا أو يضيف إليها، وهكذا يتفاقم الضرر وتتمادى الإعاقة خاصة لو الظروف فرضت استمرار هذه العلاقة الظالمة مددا طويلة. |
الارتباط التحطيمى التَّهْلكُىSynnecrosis | يتحطم ويعاق حتى التهلكة من خلاله وبسبب هذه العلاقة الثنائية. | يتحطم ويعاق أيضاحتى التهلكة من خلال وبسبب هذه العلاقة الثنائية. | مثل الزواج أو العلاقة التى تعطل الاثنين معا حتى لو أرضتهما بعض الوقت، إرضاءً طرْفيا يبرر بعض الاستمرار حتى التهلكة، ويبدو أن هذا النوع على خطورته يحقق نزوعاً عدميا لكلا الطرفين. |
تعقيب محدود وتنبيهات هامة
خطر لى فى البداية أن أتوقف عند عرض هذا الجدول هكذا، لأدع خيال القارئ (الزائر) يتصرف رفضا وقبولا، وإعادة تشكيل كما يشاء،
ثم تداركت الأمر لأضيف ما يلى:
أولا:
المقصود بتعبير “يستفيد“، أو “يتضرر“، ليس أساسا الفائدة المادية أو النفع القريب الظاهر، ولكن المقصود هو أن تكون هذه العلاقة الثنائية هى أيضا لصالح حياة، بقاء، او دفع مسيرة نمو الفرد فى ذاته لذاته، وفى الأحوال الأحسن لا تقتصر الفائدة فقط فى الاسهام فى أن يتحقق الفرد بذاته لذاته من خلال هذه العلاقة، ولكن أيضا هو ينطلق منها على امتداد مسيرة نموه، لتطوير ذاته إلى ما تعدُ به.
أما الضرر فهو عكس ذلك تماما، أى أن تكون العلاقة على حساب الحياة والبقاء، وتحقيق الذات، ثم تمتد الإعاقة إلى مسيرة النمو سواء كان ذلك لحساب الآخر (مثل الارتباط الطفيلى) أو على حساب الاثنين (مثل الارتباط التحطيمى).
ثانياً:
لا يمكن وضع حد فاصل بين أنواع هذه الترابطات وبعضها، ففى حين تتصف أحياء بذاتها بنوع خاص من الترابط، فإن الإنسان الذى يحمل تاريخ كل الأنواع، وتتكرر دورات نموه (تطوره) خلال عمره كله،عدة مرات على مراحل متعاقبة، هو كائن جدير وجاهز أن ينتقل من نوع من الترابط إلى آخر، تبعا لحيوية تجربته، وتفتح مسار نموه، أعنى نموهما، كل على حدة، و”معا”
فقد يبدأ الارتباط طفيلا، أو حتى تهلكة (أموت فيك وتموت فياّ) حتى إذا استنفد أغراضه يفيق أحد الطرفين أو كلاهما فينقلب تعايشيا أو حتى تكافليا.
والعكس صحيح، فقد يبدأ تكافليا لنفع الاثنين كل على مساره، ثم يُنهك أو يُستهلك، او ينتهى عمره الافتراضى نتيجة سوء تعهده، فينقلب طفيليًّا: حين تنسحب المرأة –مثلا- من المجتمع الأوسع، من العمل، من الناس، تلقائيا أو بفعل فاعل، فتتنازل عن استقلالها، أو حين يُنهك الرجل أو يكسر لسبب ما، فيتراجعً عن مسيرته لتتبناه المرأة رضيعيًّا: معتمِدًا مطلقا فيصبح طفيليًّا عليها، وهكذا …إلخ
ثالثاً:
إن الانتقال من نوع إلى آخر لا يسير فى خطى تصعيدية أو تراجعية خطية، وإنما هو يتذبذب تطوراً أو نكوصا حسب المراحل، وحسب تأثير عامل الزمن سلبا وإيجابا، وحسب الوسط المحيط، وحسب الظروف الضاغطة وبقدر الفرص المتاحة وتنوعها.
رابعاً:
إن فرص التحول من نوع من الترابط إلى آخر تظل متاحة باستمرار، وفى نفس الوقت هى تتأثر بثقافة المجتمع المحيط وأيديولوجياته وقيوده، ومساحة الحرية، والسماح بالتغير وفرص الإبداع (إبداع الذات خاصة).
خامساً:
إن علامات فشل نوع من هذه الترابطات تُعلَنُ بأشكال مختلفة، ليست قاصرة على إعلان الاختلافات الزوجية (أو الثنائية) بالطريقة المباشرة، فقد تظهر فى شكل عَرَض نفسى أو مرض نفسى، أو جسدى، أو ربما يعلن الفشل من خلال تغيّر مُنذر فى أى من مجالات التواصل بينهما (التواصل الجسدى أو الفكرى أو الوجدانى أو كل ذلك … إلخ) كما قد يتجلى أو يتفاقم الخلاف مع ظهور سلوك مُبَاعِد فى ذاته، أو تداخل بديل يحرك مستوى آخر من التواصل لأحد الطرفين يبعده عن شريكه بشكل مباشر أو غير مباشر.
سادساً:
إن ظهور أى من إنذارات أو أعراض فشل أى نوع من هذه الأنواع يعتبر فرصة “مفترقية” (على مفترق الطرق) لإعادة النظر، ومن ثم إمكانية التقدم نحو نوع أكثر إيجابية وأطول عمرا، أو قد يحدث أنه بإعلان الفشل تماما ربما تظهر لأى طرف من الاثنين أو لكليهما فرص أخرى بشكل أو بآخر، فيبدأ مسيرة أنجح.
سابعاً:
إن المطلوب ليس هو الإصرار على البداية بداية جيدة (تكافلية مثلا) من أول الطريق، لأن ذلك أمر صعب، ثم إنه يحمل خطر أن تكون المسألة خاضعة لنوايا حسنة لا أكثر، أو لصورة نظرية مثالية معقلنة، دون توافر مقومات التكافل الحقيقية لضمان ممارسة بنّاءه على أرض الواقع.
ثامناً:
إن أية بداية – مع ضمان حركية التطور من حيث المبدأ – بأى نوع من الترابط قد تتيح فرصة لتطوير العلاقة (بعد ومن خلال أزمات نمو العلاقة، ونمو الطرفين أيضا) إلى نوع أفضل وأفضل نحو التكامل…
تاسعاً:
إن احترام مسيرة الواقع من خلال الممارسة المفتوحة لكل الاحتمالات هو الذى يسمح لدورات النمو والتصحيح باعطاء أكبر فرصة لحركية النمو بالمراجعة والتصحيح الفعلى (وليس مجرد إعلان الخطأ أو الاعتذار أو التراجع إلى ما يشبه العكس)
عاشراً:
إن هذه كلها فروض قابلة للمناقشة والاختبار مع الشكر.
الخلاصة:
- انطلاقا من التذكرة بأن الإنسان يحمل فى تركيبه الحيوى البيولوجى أغلب أنواع الأحياء، ومن ثم أغلب تنويعات العلاقات، فمن المحتمل أن تكون معظم هذه البرامج العلاقاتية الثنائية جاهزة فى تركيبه. ومن ثم فإن نجاح أو فشل مثل هذه العلاقات الشديدة الصعوبة قد يتوقف على تنشيط حركية النمو بصفة عامة، أكثر مما يتوقف على انتقاء وتفضيل نوع بذاته غير حاضر بالضرورة فى وقتٍ بذاته وغير مضمون استمراره.
- إن حركية النمو ذهابا وجيئه، نكوصا وتطور، اقترابا وابتعادا، هى التى تسمح لكل هذه التنويعات أن تدخل التجربة وتخرج منها بشكل مرن واعد، مرورا بالآلام المصاحبة، وتعرضا للمضاعفات المحتملة.
- إن الذى يسمح بالحفاظ على الأمل فى هذه العلاقات الثنائية الشديدة الصعوبة والضرورية فى آن، دون أن يعاق أو يضار أحد الطرفين أو كليهما بشكل دائم أو متزايد، هو دعم حركية النمو هذه لأطول وقت، ونحن نضع فى الاعتبار حتميةالإيقاع الحيوى وقوانينه التى تساعد على ذلك، ليأخذ كل طور حقه –إذْ تتبادل الممارسة المستوْعِيَةْ مع البسط الإبداعى– بمعنى أن المسيرة تحتاج إلى وقت للامتلاء بالخبرات الحسنة وغير ذلك (طور الملء Filling Phase وهو ما أسميته هنا الممارسة المستوْعِيَةْ)، حتى إذا امتلأت بما لا يمكن الإضافة إليه، فإن النبض الحيوى يطلق طور البسط Unfolding phase الذى تصاحبه عادة أزمة نمو، لو أحسنّا معايشتها، فإنها تعيد تشكيل العلاقة على مستوى أعلى كما ذكرنا..،
وهكذا.
[1]– Dorland’s Medical Dictionary (24th Edition) W.B’ Saunders Co. Philadelphia and London، .1967.