“يوميا” الإنسان والتطور
27-3-2008
العدد:209
قراءة فى أحلام فترة النقاهة
(حلم 43)، (حلم44)
حلم 43
ليلة الزفاف ابن عمى تقام فى بيتنا بالعباسية بين الطبل والأغانى. يتقدم ابن عمى تتأبط ذراعه عروسه فى حلة العرس. وقبل أن يصعدا السلم إلى الداخل يعترضهما مفتش الشرطة. ذهلنا وتساءلنا عما وراء ذلك. انقض المفتش على العروس فتفحص وجهها وأخذ بصمتها على لوح صغير وفحصه بمنظار مكبر وألقى القبض عليها وسار بها إلى سيارة الشرطة، وأدرك الجميع ما يعنيه ذلك
وأقبلوا على ابن عمى يواسونه ويحمدون الله الذى نجاه من شر أوشك أن يطوقه،
ورغم ذلك فقد مضى الشاب وهو يبكى وقررت أن أمضى الليلة فى بيت العباسية مع أهلى ولكنى أكتشفت أن جميع مصابيحه الكهربائية معطلة.
فسألت أختى كيف يعيشون فى الظلام. واكتشفت أيضا أن جدرانه تحتاج إلى ترميم ودهان وضقت بالمكان ونويت أن أصلحه، وأعيده إلى رونقه القديم.
* * * *
القراءة
نبدأ من الآخر وهو يسأل اخته “كيف يعيشون فى الظلام”؟
تُرى أى ظلام؟
ظلام أنهم ليسوا على دراية بسذاجة ابن العم الذى كاد يشوه سمعة الاسرة وهو لا يميز من يناسبها من مصاهرة؟ أم ظلام عدم احترامهم لمشاعر شاب اختار، وانكسر فى ليلة عرسه، ولم يصلهم معنى بكائه من أثر الفضيحة، أو ربما من لوعته لفقد العروس، أو من شعوره باحتمال الظلم.
هل منظومة القيم الظلامية هذه هى كذلك لأنها لا ترى إلا ظاهر الظاهر دون أن تتيح الفرصة لرأى آخر أو رؤية مختلفة فهى تحتاج إلى ترميم؟ وهل يا ترى يكفى الترميم أم سيكون دهانا يخفى الشقوق لينسى الجميع الفضيحة “وكأن الذى جرى ما كان”؟
لاحت لى علاقة ما بين الترميم هنا، وبين ما جرى فى حلم (8) الذى انتهى بحوار بينه وبين أمه حين التقاها وقد خرج من البيت وقرر ألا يعود إليه مدى الحياة، وقالت له
– أنت السبب فيما حصل
فثأر غضبه وصاح
– بل أنتِ السبب فى كل ما حصل
ثم راح يمضى فى الهرب؟
الفرق هنا هو أنه حين ضاق بالمكان، والظلام لم يهرب، بل قرر أن يصلحه ويعود به إلى رونقه القديم.
هل هذا الرونق القديم هو “من كان منكم بلا خطيئه؟، أم أنه قيمة “العدل والاحترام”؟
أم كلاها،
أم هو مجرد مزيد من طلاء لامع على جدران متآكلة؟
ثم من أدرانا أن البوليس كان على حق فيما فعل؟
من أدرانا أن من تقبض عليه الحكومة هو مجرم، وهو لم يحاكم بعد؟
لم يظهر فى الحلم ما يشير إلى أى دليل على موضوعية مثل هذه الاجراءات التى بررت أن ينتزعوا العروس هكذا من عريسها فى ليلتهما، وهم فى مرحلة أخذ البصمات، ومن ذا يستطيع أن يتحقق من تطابق البصمات بالنظر بمنظار مكبر وكأن البصمة الأخرى قد انطبعت فى ذاكرته؟ إذن هم لم يتحققوا يقينا بعد مِنْ ما إذا كانت بصمات العروس ستطابق من يشتبهون فيها أم لا
إلى متى نعيش فى هذا الظلام؟
* * * *
حلم 44
مقدمة قبل القراءة
اكتشفت أننى سبق أن قدمت نقدا منشورا لهذا الحلم (44) بالاضافة إلى حلمى (124)، (113)، حيث ربطت بين هذه الأحلام الثلاثة وبين إحدى فقرات أصداء السيرة الذاتية، وفضلت أن أثبت النص بأكمله هنا الآن، لعلى أعرض بعض ما أنويه فى “الدراسة الشاملة” لكلا النصيين معا، بعد تجميع كلٍّ على حدة، ربما!!
أولا:
من أصداء السيرة الذاتية الفقرة 32 بعنوان “التحدى”
فى غمار جدل سياسى سأل أحد النواب وزيرا:
هل تستطيع أن تدلنى على شخص طاهر لم يلوث؟.
فأجاب الوزير متحديا:
إليك – على سبيل المثال لا الحصر - الأطفال والمعتوهين والمجانين، فالدنيا مازالت بخير.
القراءة
من موقع التنبيه إلى أن ضغوط الحياة قد تضطر مدعى الفضيلة إلى الدعارة الخفية (الأصداء/فقرة28)، أو تضطر المكافح من أجل لقمة العيش، إلى التنازل عن الكرامة (الأصداء/فقرة 34)، أو تضطر رب الأسرة البريئة إلى عمل صفقة مع ضميره (الأصداء/فقرة 23)، فيقع الجميع فى مصيدة التلوث، مع اختلاف التبريرات، يكاد يعمم نجيب محفوظ فى هذه الفقرة استحالة الحفاظ على البراءة، وذلك من خلال إجابة الوزير متحديا: إن القادرين على أن يظلوا طاهرين لا يلوثون، هم الأطفال والمعتوهين والمجانين” ثم يضيف “فالدنيا ما زالت بخير” حتى يبدو مرتاحا تماما إلى ما خلص إليه.
هذا الموقف من شيخ ينصت إلى أصدائه، لا يحكى خبرته ولا رأيه بصفة شخصية، ربما أراد محفوظ أن يتردد فى وعينا ما يحل هذا الإشكال المزعج الذى يقول :”…. تلك هى المسألة الصعبة: أن نعطى للطفل الحكمة والنضج، دون مساس ببراءته بطهارته بحلاوة صدقه، أن نصبح ناسا بسطاء لكن فى قوة، أن ننسج من خيط الطيبة ثوب القدرة”(ديوان: سر اللعبة للناقد).
إذا لم ننجح فى حل تلك المسألة الصعبة، فربما واجهنا الخيار الصعب: إما أن نظل أطفالا عاجزين، أو نصبح معتوهين، أى نُجنّ، كل هذا ”لتستمر الدنيا بخير” كما يراها النواب والوزراء، وكأنهم ينبهوننا إلى إننا إذا نحن تحركنا بعيدا عن هذه الاختيارات، فسوف نتلوث (مثلهم ولا مؤاخذة،).
(ربما أتخذ نجيب محفوظ حذره ضد هذا التعميم الذى أقوم به الآن حين وضع الجملة الاعتراضية “عل سبيل المثال لا الحصر”)
نستمر فى القراءة متجاهلين هذا الاستطراد مؤقتا:
ثَـمّ تحذير واجب هنا: إن وصف أحدهم بأنه تلوث أو لم يتلوث، يستدعى افتراض أنه سبق خوضه تجربة ما. هذه الفئات التى ذكرها محفوظ (الأطفال والمعتوهين والمجانين) يمكن أن تدرج ثلاثتها تحت من يسمى “لم يُـختبر”، أو من هو إذا اختبر فإن فرصته هى أن يفشل أن يلوث .
فرقٌ بين أن تعجز عن أن تتلوث، وأن ترفض أن تتلوث، هذا شئ وذاك شئ آخر.
من هنا وجب التنوية على خطورة التعميم – برغم الجملة الاعتراضية التى لا تكاد تغنى- خصوصا إذا جاء هذا التوجه إلى التعميم من وزير يخاطب نائبا فى مجلس الشعب
رحت أبحث عن هذا الذى أشار إليه الوزير عفوا أو توقيا، وهو يقول ” على سبيل المثال لا الحصر”. لم أجده فى الأصداء بشكل مباشر، لكننى وجدته فى حلم 142 من أحلام فترة النقاهة،
نقرأ معا “نص” هذا الحلم
* * * *
حلم 142
هذه القطعة من الأرض الفضاء هى ميراثى الوحيد وقد أطلق عليها اسم الخرابة لطول ما عانت من إهمالها. وما أن رُزقتُ بعض المال حتى فكرت جاداً فى تعميرها، ولكنى لم أقدم لكثرة ما عرفت من حوداث النصب وفساد الذمم، حتى سألت جارى الحكيم: ألا يوجد فى الدنيا شخص خيِّر؟ فأجابنى بأنه موجود ولكن يتطلب العثور عليه عزماً وشجاعة وبحثاً لا يتوقف.
القراءة
فى الصدى المثبت فى البداية كان السائل نائبا (برلمانيا!)، وكان المسؤول وزيرا، فى حين أن السائل هنا فى الحلم هو صاحب حق بسيط، وميراث محدود، يبحث عن شخص أمين يثق فيه، والمجيب هو جاره الحكيم. هل يا ترى كان هذا كامن فى عمق إبداع محفوظ، مع أن الفارق الزمنى بين كتابة النصين يكاد يقرب من عشر سنوات؟ الجار الحكيم يثق فى خير الناس، ويعرف أن الأصل فيهم هو الأمانة والصدق، فهو يوصى السائل أن يجد فى البحث بشجاعة وعـزم ومثابرة.
هذا النوع من اليقين لا يوصل صاحبه فقط إلى الإقرار بأن الدنيا بخير، لكنه يلزمه – ضمنا – أن يكتشف الخير بنفسه، وأنه إن لم يجده ، فليس عليه إلا أن يشك فى بحثه، لا أن يدمغ الناس أو يحكم عليهم ويصنفهم –كما فعل الوزير – باعتبارهم بلهاء أو مجانين أو ناقصى النضج (أطفال).
نجيب محفوظ لا يعمم.
الإبداع هو الإبداع لا أكثر ولا أقل، فجعلتُ أبحث أكثر فأكثر عن صورة الوزير فى كل من الأصداء والأحلام. لم أعثر على ما يعيننى فى الأصداء، لكننى عثرت على بعض الإنارة فى الأحلام[1].
نقرأ أيضا “نص” هذا الحلم
* * * *
حلم 113
أخيرا حضر الوزير الجديد فقدمت له نفسى باعتبارى سكرتيره البرلمانى ولكنه لم يفهم كلمة من كلامى، فحاولت شرح عملى ولكنه نهرنى بحدة وأمر بنقلى من وظيفتى، وهكذا بدأت المعاناة فى حياتى ثم شاء القدر أن يجمع بينى وبين الوزير فى مكان غير متوقع وهو السجن، وبعد أن أفقت من ذهولى أخذت أذكره بلقائنا الأول وما جرى فيه حتى تذكر، وتأسف، واعتذر.
وانتهزت فرصة وجودنا فى مكان واحد كى أشرح له عمل السكرتير البرلمانى.
القراءة
نلاحظ فى هذا الحلم ، مقابلةً بالصدى (التحدى: فقرة 32)، أننا ما زلنا فى جو البرلمان (مجلس الشعب)، وكما كان الحوار بين أحد النواب وبين الوزير فى الصدى، جاء الحوار هنا بين السكرتير البرلمانى والوزير. من أجمل الإبداع هنا تعمد التجهيل لحقيقة نوعية عمل ماهو “سكرتير برلمانى”، هذا التجهيل يحفزك فورا للبحث عن سر (سيم) الجارى، وقد تشم رائحة بها ما يشير إلى أن المهمة الحقيقية لهذه السكرتارية البرلمانية قد تكون ممارسة أساليب التحايل، والتستر، والتلاعب، وترتيبات الصفقات، وتسريب المعلومات، بحيث يصبح التساؤل حول كل ذلك علانية أمرا أقرب إلى البلاهة. من هنا يمكن الاستنتاج أن الذى فصل من وظيفته فى هذا الحلم لم يكن الموظف الذى سجن مع الوزير، لكنه كان المبتدئ الأهبل الذى راح – من فرط خيبته- يتصور أنه عين سكرتيرا ليكون سكرتيرا، فى حين أن السكرتير الحقيقى (وهو بداخله أيضا) هو الذى يشارك الوزير نشاطاته السرية، دون إعلان طبيعتها، ولا تسميتها. المعاناة التى بدأت بعد عقابه بالفصل لم تكن لأنه ترك وظيفته، ولكنها كانت لأنه اكتشف أن ما كان يتصوره “سكرتارية برلمانية”، تبين أنها شراكة فسادية عميقة، عليه أن يمارسها بشروطها، فكانت المعاناة وهو يروض نفسه ليقوم بالمهمة الحقيقية تحت المسمى المعلن، دون شرح أو توصيف، ويبدو أنه قد قام بها خير قيام بدليل أنها انتهت به إلى السجن بالسلامة. علينا أن نقرأ نهاية الحلم باعتبارها سخرية تعلن أن وجودهما معا فى هذا المكان المناسب، هو الشرح الحقيقى لطبيعة عمل السكرتير البرلمانى.
أكرر بلا ملل أن محفوظ –غالبا- لم يقصد، بوعى هادف، أيا من ذلك، إلا أن إبداعه قام بالتشكيل الدال بكل حبكة وجمال. كالعادة، وكما ينبغى
عاودت البحث عن صورة الوزير فى الأحلام، فإذا بى أجد أنه قد ورد فى حلم باكر(44) بصورة قد تدعم هذا الفرض النقدى البدئى.
* * * *
حلم 44
وجدت نفسى جالسا أمام مكتب وزير الداخلية. منذ أيام قلائل كان زميلى فى الجريدة، وكان اختياره وزيرا للداخلية مفاجأة، وانتهزت الفرصة وطلبت مقابلته فاستقبلنى بمودة وترحاب وعرضت عليه مطلبى وهو توصية لرجل أعمال معروف بصداقته له، لأُختار فى وظيفة معينة فى شركة من شركاته. وكتب بخط يده التوصية المطلوبة وانتهت المقابلة على أحسن حال.
وفى مساء اليوم نفسه وأنا أمشى على شاطئ النيل اعترضنى رجل ممن تسمع عنهم فى الصحف، وأشهر على سلاحا وسلب منى نقودى. كانت فى حدود خمسين جنيها.
رجعت إلى منزلى مضطربا ولكنى لم اتخذ أى إجراء يؤثر فى الميعاد الذى حدده لى رجل الأعمال، وعند الضحى كنت فى مكتبه، وبعد دقائق سمح لى بالدخول وقدمت التوصية، ولكنى تجمدت فى موقفى لحظة غاية فى الحرج. قلت فى نفسى ‘رياه .. إنه اللص الذى سرقنى أو أخوه التوأم
ودارت بى الأرض.
القراءة
التكثيف هنا أصعب وأعمق، فالبداية تقول إن الوزيرالحالى ليس إلا صحفى زميل سابق، والنقلة من الصحفى إلى الوزير نادرة، لكنها محتملة (راجع تاريخنا السياسى الأحدث). النقلة هنا أكثر دلالة، لأن هذا الصحفى الحريف لم يعين وزيرا للإعلام أو للثقافة، وإنما وزيرا للداخلية، هكذا خبط لزق، ترى ماذا كان عمله الحقيقى فى الصحافة حتى يعين وزيرا للداخلية؟
من هذين الموقعين: الصحفى الجاهز لوزارة الداخلية، فوزير الداخلية ذو الاتصالات برجال الأعمال الذين هم، نتذكر وظيفتى السكرتير البرلمانى فى الصدى (السالف التصدير به)، وما ذكرناه عن الوظيفة الظاهرة والوظيفة الخفية، ثم تنتقل بنا الصورة حتى نفاجأ- مثل طالب الوظيفة- أن قاطع الطريق الذى استولى، وبالسلاح، على كل ما يحمله هذا المسكين (خمسون جنيها سنة 2005) هو هو رجل الأعمال الموصى له بالتزكية
نتذكر أن ما بين كتابة ذلك الصدى وهذا الحلم ما يقرب من عشر سنوات. وبعد مضى ثلاث سنوات أخرى، ولو أن شيخنا كان على دراية بكل تفاصيل ما يجرى، ومعدلات تضخم الفساد، لما بدت للراوى، ولا لنا أية مفاجأة.
تعقيب الآن 26/3/2007
ألا يحق لى أن آمل فى دراسة لاحقة أشمل لهذين النصّين
ألا يحق لى أن أصر على أهتمامى بالدورية النقدية لشيخنا الذى لم يرحل.
والدعوة عامة.
[1] – حتى تاريخ نشر هذا النقد الباكر 2-9-2005.