“يوميا” الإنسان والتطور
3-5-2008
العدد: 246
تعتعة
غموض جريمة، وتفسير أسهل
حينما بلغتنى أنباء الأب النمساوى (جوزيف كرتزل 72عاما) من قرية أمشتايتن فى النمسا، والذى حبس ابنته فى قبو 24 سنة، وأنجب منها سبعة منهم طفل مات رضيعا فحرقه ودفنه فى القبو، فزعت وأصابنى غثيان مؤلم، لكننى خشيت فى نفس الوقت من احتمال هجوم بعض شباب الإعلام يسألونى عن “التفسير النفسى” لهذا السلوك ..إلخ، وتصورت تصريحات الزملاء وهم يطلقون اسم هذا المرض أو ذاك على هذه البشاعة، أو يفتون بهذا التفسير النفسى جدا لهذه الجريمة .إلخ
هانذا أعلن مقدما أننى عاجز عن التفسير، خصوصا النفسى، المسألة أقبح وأكثر دلالة من معظم معلومات العلوم النفسية عبر التاريخ! رحت أبحث عن مزيد من التفاصيل: فعلمت أن الأب اغتصب ابنته فى سن 11 سنة، ثم خبأها منذ سن 18 سنة فى كهف سفلى، وأعلن اختفاءها، وراح يسلم أمها (روز مارى) خطابات تكتبها ابنته (قهرا غالبا) تطمئن أمها عليها فى غربتها، ثم أخذ ثلاثة من أبنائه من ابنته الواحد تلو الآخر، وسلمهم لجدتهم فى الدور الأعلى وهو يدعى أنه وجدهم أمام الباب مع رسالة من ابنتهم تطلب رعايتهم لأنها أعجز (ماديا) عن تربيتهم….إلخ
المسكن فى شارع ملىء بالمحلات التجارية، والقبو (كما ظهر فى التليفزيون) يتكون من دهاليز وحجرات ومطبخ وغرفة نوم، وله مدخل سرى، وتمر 24 سنة ولا يبقى مع البنت الأم سوى ثلاثة من الستة (كريستين 19 عاما وستيفن 18 عاما وفيلكس 5 سنوات).
تمرض البنت الكبرى منذ أسابيع وتفقد الوعى، فيتم نقلها بواسطة والدها إلى إحدى مستشفيات البلدة ويقول الوالد أنه عثر عليها أمام باب المنزل، وبحوزتها ملحوظة مكتوبة بخط يد والدتها تطلب منه المساعدة. المستشفى تريد معلومات أكثرعن الفتاة المريضة للإحاطة بالحالة وعلاجها، فتطلب من وسائل الاعلام المحلية أن توجه نداء إلى والدة كريستين. تشاهد الأم اليزابيث الإعلان فى التليفزيون، فتطلب من والدها (ووالد البنت!!) السماح لها ولابنيها بالتوجه للمستشفى لإنقاذ كريستين، فيوافق والدها ، ويسمح.
برجاء ألا يسرع الزملاء بالفتوى، قبل أن ينتبهوا: أنها 24 عاما (لا يوما ولا أسبوعا ولا شهرا)، وأن بالقبو مطبخ به شوك وسكاكين، وأن الوالد هو الذى نقل كريستين إلى المستشفى، وأنه هو الذى سمح للأم (ابنته أصبح عمرها 42عاما) وللأخوين بزيارة كريستين للإدلاء بالمعلومات اللازمة، وأنه اعترف بكل ذلك.
هذه ليست دعوة للشفقة بهذا الأب الشاذ، ولكنا تذكرة ربما تساعد فى عدم استسهال الحكم بتشخيص مرض نفسى جاهز، أو إصدار مذكرة تفسيرية تحليلية نفسية (لو سمحتم!!).
وصف الأب بـ “الوحش البشرى” ربما يكون إهانة للوحوش، ودمغه بالجنون هو تجريح لنبل ورقة عمق مشاعر أصدقائى المجانين.
حين نعجز عن تفسير ظاهرة ما، علينا أن نتحلى بشجاعة التأجيل، والاعتراف بالجهل (ولو المؤقت)، مهما بلغت مشاعرنا معها أو ضدها، ثم نبحث طول الوقت على مزيد من المعلومات فالعلم.
حين فشلتُ تماما فى أن أفهم، ولو مؤقتا، رحت أتلفت حولى بعيدا عن هذا الحادث الفردى الصعب، لعلى أجد فيما يجرى حولى ما يساعدنى، وإذا بى أكتشف أنه أسهل علينا أن نفسر الجرائم الأعم والأخطر التى تجرى حولنا يوميا (ليس تفسيرا نفسيا، فما أسخف ذلك عادة) كل دقيقة على مدار الساعة فالأيام فالشهور فالسنين، وهى جرائم جماعية أخطر وأعم مما فعله هذا الوالد المقزز: هذه الجرائم الرسمية العلنية الموثقة بالإعلام فى كل مكان، طول الوقت، أليست أبشع، وفى نفس الوقت أسهل تفسيرا من جريمة هذا الرجل؟
إن ما ارتكبه هذا الرجل – بالقياس الموضوعى- لا يمثل واحد على مليون مما يفعله بوش فى العراق، أو ما تفعله شركات الدواء فى المرضى والعلم والأطباء، أو ما تفعله شركات البترول فى السياسة والحرب والاستغلال، أو ما تدعى أنها فعلته وهى لم تفعله القاعدة (حسب تصريحات أيمن الظواهرى الأخيرة)..، أو ما تفعله إسرائيل فى غزة وغير غزة، أو ما تفعله تجارة دعارة الأطفال وأعضائهم.
أسهل علينا أن نفسر هذه الجرائم العلانية مع سبق الإصرار والتبجح، وأن نتخذ منها الموقف المناسب، وليس فقط المشاعر المناسبة، من أن نسرع بدمغ مجرمين أو شواذ فرادى لا نعرف بقية قصتهم .
أو على من يتحمس من الزملاء النفسيين أن يكتفى باقتداء الطبيب النمساوى “ماكس فريدريك” الذى راح يجرى الأبحاث على من ظلوا فى القبو من الأطفال ليحدد المشاكل التى لحقت بعيونهم وبشرتهم من أثر نقص الضوء!!
أليس ما يفعله هذا الطبيب يشبه ما تفعله بنا – مثلا فى غزة – خريطة الطريق، أو حكومات العملاء أو تصريحات هيئات الأمم المتحدة؟