“يوميا” الإنسان والتطور
26-7-2008
العدد: 330
تعتعة
تألّم: الصورة تطلع “حقيقية”!!
كان ذلك منذ عشرين عاما تقريبا: كنت فى بوسطن، أزور صديقا لم يتأمرك تماما، وحين اقتربنا من منزله حيّانا ابنه الشاب، بأنه: “هاىْ”، (لم أكن أعرف بعد لغة: “الهاىْ”- “ياللا باىْ”). انطلق الشاب يرطن بالإنجليزية الأمريكانى، مع أن أمه امرأة مصرية من شبرا، وحين طلب والده منه تصويرنا للذكرى، رحّب الشاب، وقال كلمتين بالإنجليزية لم ألتقطهما، فأفهمنى والده أنه يطلب أن “نبتسم”، ونحن ننطق لفظ “شييز”Say Cheese ، سألته: كيف؟، قال: قلها وسوف تظهر أسنانك فتبدو ضاحكا، (لم يكن فيلم أحمد زكى قد ظهر بعد) وافقت تأدبا، وحاولت أن أظهر أسنانى، فبدت – حين تسلمت الصورة- أننى كشرت عن أنيابى لا أكثر، أخذت أبحث عن كلمة بالعربية مقابل كلمة “تشييز” ربما احتجناها من باب العولمة، فاهتديت إلى كلمة “مِعـِِييزْ”، بعد أن مرت بخاطرى كلمات لا تليق.
حضرتنى هذه الذكرى، وأنا أتأمل المرة تلو المرة صور ابتسامات زعمائنا، ورؤسائنا، ووزرائنا، أو حتى صورنا مع أعدائنا الأصدقاء الألداء، رحت أتساءل: يا ترى ماذا يقول لهم المصوّرون حتى يبتسموا هذه الابتسامات “النصف نصف” التى هى هى طول الوقت؟ طبعا لمت نفسى، فالابتسامات الدبلوماسية ضرورية للشىء لزوم الشىء، لكن ما هو هذا الشىء تحديدا، الذى له كل هذا اللزوم والإلزام؟
ثم تصادف أننى أعيد قراءة مجموعة قصص ليوسف إدريس، وقد توقفت أطول عند قصة “لغة الآى آى” (وهو اسم المجموعة)، خصوصا وأن رئيس التحرير “أبا يحيى” قد استشهد بها منذ أيام فى افتتاحيته هنا، أثناء القراءة: تعاطفت بداهة مع تلك البقايا لذلك الهيكل الآدمى الفلاح المصرى العجوز “فهمى” الذى لم يتبق منه إلا مستقبِلات الألم فى المثانة المتهتكة بالسرطان يعصره عصرا، لكننى فى نفس الوقت تعاطفت مع مضيفه (“الحديدى” الشاطر الناجح جدا) الذى استيقظت فيه شهامته رغما عنه حين آوى بلدياته فهمى متورطا، ثم إذا به يستعيد حقه فى الحياة حين يعرف قيمة الألم ومعناه من خلال تقمصه آهات زميله القديم، بديلا عن غيبوبة الموت الذى هو فيه بكل ما حقق من نجاح، رأيت فهمى بهزاله وصدقه وألمه وهو يعانى “.. ألم سرطان المثانة حين يزحف مع الليل، حين تبدأ قطرات البول تتجمع” لتكويه كيا، كما رأيت سعادة الحديدى بألمه الشريف الذى تفجر فيه نتيجة تقمصه ألم ضيفه، فاكتشف من خلاله الحياة من جديد..، “….. كل الفرق أنه ليس له حق فى التوجع مثله” (مثل فهمى)، “…المقياس الوحيد للحياة هو أن تشعر بها، وأنا لم أشعر بها ..إننى أقضى حياتى كعملية حسابية دقيقة هدفها الوصول..”
توقفت أتساءل: أين كل هذا على الناحيتين ، من تلك الإبتسامات الرسمية المؤتمراتية الفاترة المصنوعة للتصوير الخارجى؟؟!!”
“الفرح” ليس عكس هذا الألم الذى أشير إليه، بل هو يبطنه!
السعادة هى جزء من هذا الألم الحى،
أما ما هو عكس هذا الألم فهى، البلادة ، واللذة المنفصلة، والاستسهال، والكذب.
أعرف أن الكتابة عن الألم غير معايشة الألم، وأن “اللى بينجلد غير اللى بيعِـدّ”، لكننى لا أعرف وسيلة أخرى تنقل إليكم،إلينا، إليهم، ما يصلنى من مرضاى ومن مبدعينا، وأحيانا من نفسى، عن شرف هذا الألم الخلاق، أتساءل بصراحة: هل يتألم وزاراؤنا ورؤساؤنا أصلا؟ متى؟ ولماذا؟ ولمن؟؟ هل من المحتمل، ولو أحيانا، أن يعايش أحدهم بصدق ألم الجوع والمهانة التى يعانى منها جموع الناس؟ هل أنا أحلم حين أتمنى أن يشعر بعض رجال الأعمال بألم الحياة والأحياء، وبألمهم شخصيا، بديلا عن هذا الموت التراكمى الذي يحبسون أنفسهم فيه داخل حجرات التحنيط الترفيهى، المبنية بحجارة أهرامات الشيكات والأوراق المالية ؟
حين حذرت من الانسياق وراء استعطاف الحكومة أو تهييج الناس بدموع البنات والأمهات الباكيات النائحات على صعوبة الامتحانات، كنت أحاول أن أنبه إلى خطورة الخلط بين ألم الشعور بالظلم (أهى جت على ناس ناس) وبين حق الناس الأساسى فى الألم الشريف الذى يبنى ويعلـِّم، إن الوعى بالألم الإنسانى، لنا ولغيرنا، هو من أرقى العواطف البشرية، ولهذا أعتب على زملائى أطباء النفس الذين يختزلونه عادة إلى ما يسمونه “الاكتئاب”؟
نحن نلغى شرف معايشتنا هذا الألم أولا بأول: بالاكتئاب الذى يحل محله ، أو بالدموع التى تجهضه، أو بالانسحاب الذى يغرى بتجنبه (بما فى ذلك انسحاب 67، وأيضا الإعلان من جانب واحد عن آخر الحروب، التى لا تنتهى قبل آخر الزمان !!)
شكرا لعمنا الشيخ حسن نصر الله، وهو يذكرنا بشرف الألم، وألم الشرف، فى عمق احتفالية استعادة الأسرى