نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 15-6-2024
السنة السابعة عشر
العدد: 6132
(ثلاثية المشى على الصراط)
رواية “الواقعة” [1]
الفصل الخامس:
عقل بالى (2)
.………………..
………………..
تمددت على أريكة لم أنم على مثلها فى حياتى، لست أدرى هل هى من ريش النعام أو من الكاوتشوك وارد الشواربى… استرخت عضلاتى وكدت أهزها إلى أعلى وإلى أسفل كما كنت أفعل حين نمت أول مرة على سرير “بملة”، طال الصمت حتى كدت أستغرق فى النوم.
جلس هو على كرسى خلف رأسى بعيدا عن مستوى نظرى، اضطررت أن أقطع الصمت لما بدأت أحس بالتوتر من هذا الوضع الشاذ.
- هل أتكلم وأنا نائم هكذا؟ ماذا أقول؟
- أى شىء يخطر ببالك، ..
(قال له عقلى بالى: “يا نهار أسود، هل تعنى ما تقول فعلا، لكننى أنا الذى سأدفع الثمن: الطرد أو السجن أو الرفت أو النفى، أيها أسرع).
خطر لى أنى لو تكلمت هكذا وأنا نائم فإن الكلام لابد أن ينزل فى قدمى كما كانوا يحذروننا من الشرب – صغارا – ونحن مستلقين، .. ولكن ربما كانت هذه هى الطريقة الحديثة للعلاج: أن ينتقل الكلام الزائد من رأسك إلى قدميك حسب نظرية الأوانى المستطرقة، وبذلك تثقل رجلاك ويصفو رأسك فى نفس الوقت، فتصبح “ثقيلا” و”راسيا” وكلاهما مرادف للعقل أو للدلال حسب مزاج سعاد حسنى، يا واد يا تقيل، أو حسب تعليمات مقتفى الأثر، ..
قطع المحللّ على اكتشافاتى السـّـرِّية الجديدة قائلا، ..
- فيم تفكر الآن؟
رد عقلى مباشرة بما يشغله هذه اللحظة وقد كان شيئا آخر غير شطحات عقل بالى (يبدو أن العقلين يمكن أن يفكرا فى نفس اللحظة).
- فى تكاليف العلاج.
لم يرد على الفور، هممت أن أرد أنا مع أننى أنا الذى ألقيت السؤال، همس لى عمل بالى: هو الذى سبق أن قال: “أنت تنسى مالا تريد تذكره”، رأيت كيفّ أنا لا أريد أن أتذكر تكاليف العلاج، ومع ذلك لم أنسها، خاب ظنك سيدى اللورد، هأنذا أسألك عن ماوددت ألا أعرفه.
فوجئت بأنه رد أخيرا:
- كل جلسة مثل الكشف، ولكن المهم هو الجدية والالتزام، ..
قفزت من فوق الأريكة كالملدوغ وقد تأكدت من عودة جدول الضرب إلى ذاكرتى
- أربعة وعشرون [2] جنيها فى الشهر؟
(ذكرنى عقل بالى بأن مرتبى يزيد عن ضعف هذا المبلغ بقليل)،
قال فى هدوء .
- هذا إذا حضرت مرتين فى الأسبوع فقط.
قلت فى انزعاج.
- هذا إذا كان الشهر أربعة أسابيع فقط.
(لعب عقل بالى حاجبيه وأخرج لسانه لأنه خدعنى وتكلم هو نيابة عن عقلى).
استمر عقلى وهو يستعبط وكأنه ليس هو،
قال:
- آسف لابد أن أدبر أمورى أولا.
قال فى ثقة وتفهم:
- وأنا آسف كذلك، ولكنى لا أستطيع خداع الناس، أو ظلم نفسى، وعلى أى حال إذا كنت جادا فى العلاج فسوف أضع ظروفك الاقتصادية فى الاعتبار.
(قال عقل بالى:” لا تقل له إننا اثنان، حتى لا يطلب ضعف الأتعاب).
يبدو أننى قلت بعض الجملة الأخيرة بصوت مرتفع سمعه الدكتور فحسب أننى أوجه له الحديث وقد كنت جالسا على الأريكة بعد لدغة العقرب، وكان هو مازال جالسا على كرسيه فى اتزان يرسل إلى نسمات من ريح بلاد النرويج، ..
قال:
- عفوا؟ ؟
قلت معتذرا:
- لا، أبدا، كنت أختبر قدرتى الحسابية ووجدتها على ما يرام،
قال متفهما:
– ما عليك لم تكن تنوى من البداية، فضلا عن الاستمرار،
(قال عقل بالى: لابد أن له عقل بال ينبئه بنوايا الناس)،
قال عقلى:
- أنا عاجز عن الشكر، ولن أنسى لطفك ما حييت.
قال مودعا فى رقة حقيقة:
- أنا تحت أمرك، ليس عندى شك أنك سوف تجد طريقك، ولكن أرجوك أن تقدر طبيعة عملى.
شكرته واحترمت صدقه واعتزازه بمهنته وانصرفت مطمئنا بعد أن مد لى يده بالتحية، إذ يبدو أنه لا يسلم إلا مودعا إلى غير رجعة.
قبل أن أغادره لمحت وراء وجهه الأملس إنسانا رقيقا وربما محتارا مثلى، كانت الساعة “إلا عشرة”، خرجت مندفعا، خشيت أن أخل بالنظام، قابلت على السلم رجلا منمقا لامعا يتمهل الصعود خطوة خطوة، أغلب الظن أنه صاحب الموعد التالى، وأنه يتباطأ حتى لا يصل قبل خروجى، أحسست من رائحة العطر التى تفوح منه لتملأ السلالم، ومن مدى أناقته وهدوء خطواته، أنه الرجل المناسب للمكان المناسب، كما طاف بخيالى منظر وأناقة الأستاذ عبد الصادق، لكن هذا الخيال لم يمكث سوى ثوان، وأنا؟ أين مكانى المناسب؟ ربما فى القهوة البلدى أو فى السجن، أو فى مستشفى المجاذيب، المؤكد أنه ليس هذا المكان، يبدو أن الأستاذ نصحى حين أرسلنى إلى هنا كان يظن أنى مستور أو ابن ناس بشكل ما، ..، أو يبدو أنه تصور أن حديثى عن بلدنا أحيانا يعنى ثراء ريفيا يسمح لى بهذه المغامرة، إن كل ما أتلقاه من أمى هو بعض “الزيارات” العينية التى تعيننى على غلاء الأسعار، ولا أظن أن هذا المستشار يرضى أن أدفع له أتعابه بقدر من “البيض” أو ” أقراص الكعك” مثلما كنا نفعل زمان مقابل الحلاقة.
ما علينا، رجعت إلى لعبتى القديمة وسوف أدبر أمورى ثانية بعدما تأكدت أن لى عقلين وشعورين، كل المطلوب هو أن يلتزم كل منهما باختصاصاته حتى لا تعود الأمور إلى الاضطراب، ليختص عقلى بالمكتب والأعمال المنزلية، وللعقل الآخر الفرجة والفلسفة واختراع النظريات والخيال الجامح، جاءت سليمة هذه المرة والحمد لله.
****
- حمدا لله على السلامه يا عبد السلام، هكذا وإلا فلا.
- الله يسلمك يا أستاذ نصحى البركة فيك.
- هكذا تتحقق النتائج بأسرع مما حسبتُ، ولكن حذار أن تنقطع عن الذهاب، وإلا كنت مثل الراقصين على السلم.
أية نتائج، وأى سلم يا رجل؟ لن أحدثك عن شئ، وسأدعك سعيدا بأوهامك.
- ربنا يسهل يا أستاذ نصحى.
– أنا تحت أمرك ومادمت قد سمعت النصيحة فسأقول لك سرا، لقد كنت أنا الذى ذهبت إليه للتحليل والعلاج، وليس صديقى.
نظرت إليه، ولم أحاول أن أعقب حتى لا تفلت منى أننى كنت عارفا تقريبا، فمضى يؤكد بلهجة أقرب للزهو:
- وبالتحليل وبالتفسير تخطيت كل الصعاب،
لم أستطع أن أمنع نفسى من الرد هذه المرة متعجبا.
- كل الصعاب؟؟
- حللت كل العقد، وفهمت مدى الكبت الذى كنت أعانيه منذ الطفولة حتى أصبحت “هكذا”.
كدت أسأله “هكذا، ..ماذا، يا هذا؟ ” لكنى آثرت السلامة،
****
استطعت فى الأيام التالية أن أنظم أمورى أثناء النهار، أما فى الليل فما زالت المعارك تنتظرنى، مع كل مساء امتحان صعب، يبدأ أول الليل ونادرا ما أنجح فيه، ولكن نادرا ما يعلن فشلى فيه أيضا، كنت أذكى من أن أترك الأمور تخرج من يدى، المعارك مستمرة مع الهوام والوحوش متى ما غلبنى النعاس، وحين يشتد الصراع بلا حول لى ولا قوة يصبح النوم أملا وتهلكة فى نفس الوقت – أظل يقظا حتى الصباح خوفا من أن أفقد عقلى إذا أنا أغلقت عينى.
يبدو أننى حين حاولت أن أشرح حالتى أكثر للأستاذ نصحى استعملت بعض التعبيرات التى كانت تدور بداخلى، وكان عادة يتعجب، ثم قاطعنى ذات مرة قائلا:
أنت تسمى الأشياء بأسماء غريبة، إنها حالة نفسية اسمها القلق…
- هل أنت متأكد من أن اسمها “القلق”؟
- طبعا، وهى من الأمراض العصابية الناتجة من الصراع بين “الأنا والهو”…
”يانهار أسود” ذهبت إلى المختصين فلم يذكروا لى كل هذا العلم، ولكن الأستاذ نصحى شىء آخر، لابد أن هذا الـ “أنا”، هو عبد السلام المشد، وأن الـ “هو”، هو “عقل بالي”، ولكنى شخصيا لست عبد السلام المشد، “والهو” ليس عقل بال شخص مجهول الأصل والهوية، ثم إنه ليس “هو” واحد ولكنه عشرة أو عشرون أو مائة، ما هذا يا أستاذ نصحى، إسمح لى يا رئيسى العزيز: الله يخيبك، أسكتُّ عقل بال بحسم وسألت مباشرّ.
- من أين لك بهذا اليقين يا أستاذ نصحى؟
- من خبرتى من التحليل وقراءاتى، ثم دراستى فيما بعد.
- هل تدرس حضرتك ما أنا فيه الآن؟
- يعنى، لقد أنهيت الليسانس وأحضر الآن الماجستير.
- وهل تترك التجارة والمحاسبة.
- ليس بالضرورة.
ترى هل يراد لى نفس المصير، أن أقلب كل مشاعرى هذه إلى أسماء وتحاليل ولافتات تلغى كل شىء حين تضعه تحتها؟ هل هذا هو الطريق لذلك العلاج المقترح؟ وهل لابد من الدراسة بنفس الحماس والتعصب؟
- هل لابد من مثل هذه الدراسة، حتى أشفى يا أستاذ نصحى؟
- لا، أبدا، هى مجرد هوايتى الخاصة.
حمدت الله أن جهلى حمانى من دراسة هذا التحليل النفسى الذى يبدو أنه أصبح من هوايات العصر الحديث، ما للتحليل النفسى وقيام القيامة؟ سمعت عن العقد والشعور بالنقص، ما أنا فيه ليس له علاقة بكل هذا، ليس له اسم، إنه انفجار مدمر تضيع فيه المعالم وتختلط الأسماء، ليس فيه نشاط معروف إلا الفرار، حيث يفر المرء من كل ماحوله، أمه وأبيه، صاحبته وبنيه، الفرار الفرار يا غريب ويا صبحى أفندى ويا كل الناس، أنا لا يعنينى إلا ما أنا فيه، وهو ما لا أستطيع تحديده، ما إن أخرجت الأرض أثقالها حتى تطايرت أفكارى كالحمم وغلت عواطفى كالبركان التدميرى، ترى هل عند نصحى أو محلله أو أى كائن كان اسم مناسب لهذا الذى حدث يوم “إيصال النور”؟ يوم نفخ فى الصور؟ مزيد من الاستفسار لن يضر.
- هل يشمل ما تسميه القلق يا أستاذ نصحى أن ينقلب كيانك كله وتزدحم رأسك بالأسئلة مثل النافورة التى تقذف ماء النار؟
- نعم هو القلق، لكن وصفك له هو الغريب.
قلت فى تسليم ظاهر، ..
- قلق، أرق، كله مثل بعضه، أشكرك على اهتمامك.
- لا شكر على واجب يا عبد السلام، نحن زملاء، أصدقاء.
تراجعت عن التسليم ورجعت أسأل فى تخابث:
- أنت خير صديق، وأطيب رئيس يا أستاذ نصحى، هل يمكن أن تخبرنى كيف سيكون حالى حين يأخذ الله بيدى، كيف سأكون أنا؟
قال فى فخر وثقة .
- ربما ساعدك الحظ وأصبحت مثلى.
أخرج لى عقل بالى لسانه فى شماته وغنى:
”تعالى يا شاطر، نروح القناطر”.
قلت لعقل بالى.
“إخرص يا غبى قد يسمعك”
رد عقل بالى:
= لا تخف، إنه لا يسمع ولا يرى ولا يحس،
= إنه رزين عاقل، .. وأنت تغار منه يا أرعن،
= إنه أسطوانة مشروخة لن أسكت حتى أكسرها.
= إخرس يا قاتل، أنا أعرف جبنك.
= أنا لست قاتلا، أنا أحاول أن أريك الحقيقة.
= أية حقيقة؟ لقد أحس بى ونصحنى بالذهاب إلى المختص.
= لما كثرت التأشيرات الحمراء وابتدأ المدير فى لومه.
= بفضل نصيحته تحسنت الأحوال وتحسن أدائى الوظيفى.
- لم لا يكون هذا بفضل الشاى الكشرى، لا بفضل صاحبه المحلل النرويجى.
- يهيئ الأسباب.
لم أسمح بالتمادى فى هذا النقاش العقيم خاصة بعد أن لعب لى عقل بالى حواجبه وهو يهم بتسفيه الأسباب ومهيئها، خشيت أن يسألنى، من هذا الذى يهيئها.
دأبت بعد ذلك أن أوثق أواصر الصداقة بينى وبين الأستاذ نصحى، وكأنى أحتمى به من عقل بالى، يستقبل الأستاذ نصحى ذلك بترحاب شديد، ويسألنى بين الحين والحين إن كنت مازلت أذهب إلى صاحبه، فلا أستطيع إلا أن أكذب عليه بطريقة تحتمل الصدق، فأشير من طرف خفى إلى أن هذه – على العموم – أسرار لا يصح التحدث فيها إلا بعد الشفاء، أعجب بقدرته على التصديق والتمادى فى استعمال هذه اللغة طول الوقت، أتعجب من مثابرته وإيمانه بهذا الذى يقول وأحاول أن أجد فيه ما يغرينى على بيع حلى زوجتى لأخوض هذه التجربة كاملة بشكل ما، أحسبها فأجدنى سأتوقف فى أول الطريق، أحاول أن اتغلب على صعوبات الليل بالصبر والتدخين، وعلى صعوبات النهار “بالفرجة” واصطناع الفلسفة، صحبة الأستاذ نصحى أصبحت مصدرا جديدا للتأمل والتعجب، كانت محاولاته لإقناعى بالاستمرار لا تتوقف وهو يشرح لى أسرارا جنسية تتصل بحكايات إغريقية عن ملك اسمه أو ديب، وواحدة أخرى لا أذكر اسمها، وهو يتكلم عن جسم المرأة بطريقة غريبة إذ يقول أنه رمز للقضيب لأن البنت تحسد الولد على أن له قضيبا، وتثور أعماقى حين أتصور جسد البنت قضيبا، هذا علم جديد به قدر مريح من المسخرة اللذيذة!!
…………………
…………………
ونواصل الأسبوع القادم فى استكمال الفصل الخامس “عقل بالى”
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] – يحيى الرخاوى: رواية “الواقعة” الجزء الأول من “ثلاثية المشى على الصراط” الرواية الحائزة على جائزة الدولة التشجيعية سنة 1980 (الطبعة الأولى 1977، الطبعة الثانية 2005، الطبعة الثالثة 2019) والرواية متاحة فى مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة وفى منفذ مستشفى د. الرخاوى للصحة النفسية وفى مؤسسة الرخاوى للتدريب والأبحاث العلمية – المقطم – القاهرة.
[2] – المفروض أن تاريخ هذه الأحداث هو أوائل الستينيات.