نشرة “الإنسان والتطور”
الثلاثاء: 2-2-2016
السنة التاسعة
العدد: 3077
حالات وأحوال (30)
تابع: رحلة التفكيك والتخليق(26)
إيقاف قـَـسْرى: لحالة “محمد طربقها:!” (2)
(من بقية المقابلة: بتاريخ 16-10-2008)
مقدمة:
هذه هى آخر حلقة من حلقات حالة (وأحوال) محمد طربقها: “من التفكيك إلى التخليق”، حيث قررت، أو اضطررت أن أقرر، كما أشرت أمس أن أتوقف تماما عن مواصلة تقديم ما تبقى عندى، وكنت قد وعدت أننى سوف أقدم الأسباب، لكن بصراحة لم أجد أسبابا وجيهة
عذرا
وقد تجدون السبب ضمن هذه النشرة(1)
وقد لا تجدونه
وهذا لن يغير موقفى على أى حال
شكراً
وعذراً مرة أخرى
والحمد لله دائما أبدا.
……
……
نواصل المقابلة:
د.يحيى: كنت لابس هدومك ولا لأه؟
“محمد”: كنت لابس الهدوم
د.يحيى: انت متأكد إن ده حصل هنا وفى البيت؟ يعنى أيه “هنا وفى البيت”؟، قصدك إيه
“محمد”: هنا، وفى البيت أيوه
د.يحيى: يعنى مرتين
“محمد”: أيوه مرتين
د.يحيى: قول كده، وامبارح؟ اللى حصل امبارح كنت فين؟
“محمد”: انبارح كنت فى البيت
د.يحيى: والست اللى غسّلتك دى هى اللى كنت بتحبها مش كده، هى دى ست ولا بنت
“محمد”: محدش غسلنى أنا مُتّ كده وإيدى فى إيديها، وفـَرَشِتْ عليّا الملاية، يعنى عادى
د.يحيى: انت متأكد من الواحده دى؟
“محمد”: أيوه هى الست اللى أنا كنت باحبها دى اللى هى قريبتى
د.يحيى: اللى هى قريبتك اللى حكيت عنها فى الأول خالص
“محمد”: آه
د.يحيى: كنت بتحبها من إمتى؟ أنا نسيت
“محمد”: من فتره
د.يحيى: قد أيه
“محمد”: من فتره كبيرة
د.يحيى: قد أيه
“محمد”: يعنى 3 سنين حاجة زى كده
د.يحيى: آه، هيا دى اللى مشيت وراها هى واختها اللى كانت مخطوبة، افتكرت
“محمد”: كتير كنت بافكر فيها وكده، برضه قبل ما أجى هنا كنت بحلم بيها وكده
د.يحيى: قبل ما تيجى هنا خالص؟
“محمد”: أيوه، قبل ما أجى هنا خالص
د.يحيى: يعنى قبل ما تتعالج خالص، وإمتى بطـَّلت تحلم بيها؟
“محمد”: لأ هو الحلم كان مره واحده قبل ما أجى هنا خالص لما الموقف ده حصل معايا وأنا تعبت وقعدت فى البيت لوحدى وكده
نلاحظ هنا:
- كيف أنه مات وإيده فى إيدها، (مع التوصية بالنظر فى الفرق بالمقارنة بما حدث مع المريض أحمد الذى شاركنا إحدى المقابلات (نشرة 25-1-2016) و(نشرة 26-1-2016) حين سحبت منه الحياة وهو وحيد (نشرة: 26-1-2016 )
- استحضار الخيالات وحبيبته تمسك بيده فى البيت يمكن أن يكون له ما يفسره أو يبرره، أما استحضار نفس الخيالات فى المستشفى فهذا ما دهشت له ثم إنى رجحت أن المستشفى (وامتدادها فى خبرة الجروب) قد جعلها بمثابة يبته التانى (من حيث أنه الرحم أو القبر أو الأمان الآخر)
- هذه النقلات التبادلية: الحلم والهلوسة والتخيل، لها دلالتها عن حركية إعادة التشكيل، من حيث أنه مع بداية الذهان يتراجع الحلم ثم يختفى ليحل محله الذهان، لأن الداخل أصبح منفتحا على الخارج، ثم مع العلاج يتراجع الذهان حين يصبح فى متناول الوعى البينشخصى ثم الوعى الجمعى، ليحل محله التخيل، وهى تبادلات ذهابا وإيابا، لكن المحصلة فى حالة الصحة أو مع العلاج النمائى هى فى صالح: التخليق لا التفكيك.
- إن طريقة حكى محمد لا تشبه الحكى عن ما يسمى “حلم يقظة”، كل ما نقدمه إنما يعرض حركية بعض مستويات الوعى بالتبادل وإعادة التشكيل مع الوعى البينشخصى على مسار العلاج من منطلق استعادة حركية إطلاق النمو.(2)
د.يحيى: هى الست دى جارتكم ولا قريبتك، ولاّ لا ده ولا ده
“محمد”: ما انا قلت لك هى قريبتى: أمها تبقى بنت عمتى
د.يحيى: أمها تبقى بنت إيه ؟
“محمد”: أمها تبقى بنت عمتى
د. يحيى: يعنى انت ابن خال أمها
“محمد”: آه
د.يحيى: وهى دلوقتى اتجوزت ولا لأه
“محمد”: ما أعرفش
د.يحيى: طيب، أمها بنت عمتك وماتعرفش خلال 3 سنين إذا كانت أتجوزت ولا لأه
“محمد”: ماعرفش، إحنا مقاطعينهم من زمان
د.يحيى: هوّه مش من عادات الأسر عموما انهم بيعزموا القرايب والصلح خير، يعنى ماحدش عزمك على فرحها أو سمعت إنها اتخطبت أو إنها أتجوزت
“محمد”: أنا سمعت من أبويا
د.يحيى: سمعت من أبوها
“محمد”: لأ من أبويا
د.يحيى: قالـّك إيه
“محمد”: قالى دى إتجوزت وكده
د.يحيى: طيب دلوقتى بقولك بتقول معرفش ليه
“محمد”: معرفش إيه مش فاهم، عاوز أقعد هنا أرتاح شوية
د.يحيى: نعم؟ نعم؟ تدخل القسم يعنى
“محمد”: آه
“محمد”: عاوز أرتاح شوية
د.يحيى: يامحمد يابنى هيا دى طريقة راحة إنك تهرب، ولاَّ أنت عايز تتخيلها هنا براحتك؟ ولا إيه؟
“محمد”: انت مش عاوز ترَّيحنى ليه؟
د.يحيى: هيا دى راحة؟ الهرب راحة؟ احنا لما فتحنا السيرة دى واتربطت بحلم الموت والكفن والغسل، رحت ناطط وقايل الحقنى: عايز ارتاح شوية، أدخل القسم، هو القسم ده القبر اللى انت كنت بتتغسل عشان تدخله؟
“محمد”: مش قوى كده
د.يحيى: أنا سألتك إتجوزتْ ولا لأه قولت ماعرفش، بعد كده قلت إن أبويا قالى إن هى إتجوزت، مش كده؟ رجعت تانى تقول ماعرفش، بعدها مافيش دقيقة رجعت قلت إن أبويا قالى إن هى إتجوزت، مايترْسَى لك على بـَرّ يا ابنى
“محمد”: بس أنا مش مصدقه
د.يحيى: ليه مش مصدقـُهْ؟ حايكذب عليك ابوك ليه؟ دى أخبار عاديه خالص، مش أبوك يبقى خال أمها
“محمد”: أيوه
نلاحظ هنا:
- إنكار محمد زواج محبوبته يبدو منطقيا أكثر من اعترافه بما أخبره به والده، وهو إنكار يدل على استمرار غلبة منظومة خيالية على مستوى آخر هو مستوى تحقيق الرغبة، وكأن محبوبته حين تكون لم تتزوج بعد، تصبح احتمالا قائما لعلاقة لم تبدأ أصلا، فلعلنا نتذكر أنها كانت طول الوقت علاقة من جانب واحد، وأن شعوره بالترك وعدم الرؤية احتدَّ قرب بداية الذهان من حادثة زيارته لتلك الأسرة، وفكرة تصوّر توصيله للمحبوبة وأختها (المخطوبة)…الخ (انظر نشرة: 22-12-2015 ).
د. يحيى: طيب روّق روّق واضح إنك إنت النهاردة حزين جداً، تعبير الحزن النهارده باين عليك حتى قبل ما تدخل وإنت قاعد لوحدك بره كان واضح واضح، يعنى مش محتاج تقول أنا حزين
“محمد”: أنا حزين على طول (اغرورقت عيناه)
د.يحيى: إنت عارف أنا مابكرهش الحزن أوى ثم ده ألم أكتر منه حزن، أنا ماباحبش العياط، إنما عنيك لمّا ترغرغ كده حاجة تانية، بس لما الألم بيزيد وبيبقى ثقيل أوى، باخاف منه
“محمد”: بيأثر على جسمى أصلاً، بيخلينى مش قادر أمشى زى دلوقتى، أهو أنا دلوقتى برضه مش قادر أمشى
د.يحيى: بس هو أحسن من الجنون والفركشه، هوّه مؤلم مؤلم وإبن كلب بس أحسن
“محمد”: ما هو أنا حاسس إنى أنا قربت أتفركش تانى أصلاً
د.يحيى: لأه بقى، لأه، بعيد عن شنبك، ما عادشى ينفع، يعنى عارف إمتى تتفركش؟ إمتى تقدر تتفركش
“محمد”: إمتى؟
د.يحيى: لما تلغينا كلنا، تروح شاطب علينا كده تتفركش، وممكن تبوظ منك، ثم انك حتى ماعدتش تقدر تلغينا من أصله، أطْلَعْ لَكْ زى العفريت كده وأقول لك عيب.
“محمد”: إن شاء الله
نلاحظ هنا:
- أن ظهور الحزن الحقيقى مع استمرار تطور العلاقة يعتبر فى كثير من الأحيان إعلان لحركية تطوير علاقة حقيقية موضوعية مع موضوع إنسانى آخر ذلك أنه يحمل خبرة ثنائية الوجدان ليس بمعنى التناقض وإنما بالمعنى النمائى: أى أن مصدر الحب هو هو مصدر التهديد بالترك، لذلك فأنا أعتبر هذا الحزن الألم فى هذه المرحلة إعلان آخر عن مزيد من التواصل، ولا أرجح أنه بسبب ذكرى فقدان حبيبته التى لم يكن بينه وبينها أية علاقة أصلا من البداية، إلا فكرة احتمال التقدم لها.
- ولعلنا مازلنا نذكر تعبير محمد عن آلامه وهو يحكى عن بداية المرض فى الجيش وما قبلها، وخاصة فيما يتعلق بهذه الفتاة وأسرتها.
- ثم إن هذا الألم (الحزن) الجديد الذى حضر به اليوم هو أقرب ما يكون إلى الوجدان المؤلم الذى عبر عنه أنه أكثر من كل تصور وهو يقول: “مريار مريار” (3) (نشرة: 27-10-2015 ).
- ونؤكد هنا من جديد كيف أن معايشة هذا الحزن يشير – بالإضافة حركية نشوء علاقة- أنه ظهر كدفاع ضد التفسخ، كما جاء فى قول الطبيب “هو أحسن من الجنون والفركشة، مؤلم مؤلم بس أحسن”
- أن وجود الآخر والآخرين فى الوعى يمنع أيضا من التفسخ والتمزق حيث أن ذلك إنما يعنى حضور الوعى الجمعى الضام مشاركا وعى محمد طول الوقت حتى وهو يتخيل، وهذه وقاية أخرى تحول دون اختياره التفسخ (فركشنى) كما قال له الطبيب “بعيد عن شنبك” “ماعادشى ينفع”، اللهم إلا إذا استطاع أن ينفى هذا الوعى الجمعى من داخله “حاتلغينا كلنا وتروح شاطب علينا كده تتفركش” (لاحظ كلنا هنا)، وهكذا يبدو أن الطبيب يمارس المشاركة فى الوعى البينشخصى، وأيضا لعله يمثله بالأصالة عن نفسه والنياية عن الوعى الجمعى الذى بدأ يتكوّن فى “الجروب”، وهو إشارة فى نفس الوقت إلى دعم فروض دور المريض (الذهانى خاصة) فى قرار الجنون، وأن الوقاية الممكنة هى إعادة تشكيل مستويات الوعى (والمخ يعيد بناء نفسه طول الوقت) ليتخلق وعى وقائى جديد لا يستطيع أن يقدم على قرار الجنون بنفس الطريقة، ولا بنفس الظلام الذى كان حين اختار الجنون سابقا.
د.يحيى: لما تحاول تتفركش مرة تانية مش حاتقدر، أدى العيب، الحزن ده بالذات بيقول أدينا أهه سوا سوا ومش قادرين نخفف منه قوى، وعلى فكرة مفيش دوا يخفف الحزن ده بالذات، وبينى وبينك أنا مش مستعجل رغم إنى معاك زى ما انت شايف، وإنت فى منتهى الصدق، ومش مزودها ولا حاجة، يعنى حزين حزين بصراحه “مريار مريار” زى ما بتقول، وبعدين زى مايكون لو ماكنتش أحزن معاك، ولو قريب من ده شوية، وأشيله معاك يبقى زى ما يكون باتفرج عليك، تصور؟
“محمد”: إنت بتعمل اللى عليك
د.يحيى: والله مش أوى يا محمد يابنى، أنا بعمل اللى اقدر عليه، بس مش أوى برضه، ساعات من كتر الزحمه باخاف أكون باتفرج فعلا، والله باكلمك بجد، وخصوصاً لما يكون واحد عايش حزن زى حزنك ده، وأنا أشوفه كده،
أنا أسف يابنى معلشى أشوفك الجمعه الجاية، فى نفس الميعاد وتكون اشتغلت، الشغل على فكرة بيطلع الطاقة اللى لو كتمناها الحزن يزيد وبما إنك مش قادر تتفركش حايزيد حايزيد، يا للا مع السلامه ميعادنا الساعه السابعه مش سابعه وربع هه
“محمد”: ماشى
د.يحيى: كتر ألف خيرك، مش عاوز تسلم عليا ياله ياندل، مع السلامه، أقولك بقى مثل من بلدنا؟: “عيش ندل تموت مستور”، ده علاج برضه خصوصا لما تستعمله مع الأندال بس
“محمد”: ياريت أبقى ندل
د.يحيى: هؤا انت تقدر، لو كنت تقدر ما كنتش عييت.
****
وبعد
حين وصلت إلى هذا المقطع ووصلتنى روح المقابلة وخصوصية استعمال لغة الثقافة الشعبية التى ينتمى إليها محمد وأمارس من خلالها هنا ما يسمى العلاج (ليس بالضرورة تسميته العلاج النفسى)، قررت:
أولاً : أن أتوقف دون تعليق على هذا المقطع الأخير .
ثانياً: أن أتوقف تماما عن إكمال الحالة، وقد بلغت حتى الآن (252) صفحة من الحجم الكبير A4 واستغرق ما عرضناه منها من تاريخ 19-10-2015 إلى 2-2-2016 حوالى ثلاثة أشهر.
ثالثاً: ألا أعود بمواصلة تقديم باب حالات وأحوال: بهذا التفصيل وربما أكتفى بحالات مختصرة، أو مقتطف من حالة تكشف جزئية محدودة أريد أن أعرضها من النفسمراضية (السيكوباثولوجى) .
رابعاً: أن أنتظر اقتراحاتكم فيما يشعل نشرتى “الأثنين والثلاثاء” ويحل محل “حالات وأحوال”، وذلك ليس مقتصرا على المواضيع التى طرحتها فى نشرة: 26-1-2016)
خامساً: هل يا ترى قد آن الأوان لعرض النظرية الإيقاعحيوية التطورية بعد تطورها حتى الآن؟!
لا أعرف
وما قُدِّر يكون!!
[1] – أو لعلها موجودة ضمن بريد الجمعة: ما وصل وما لم يصل.
[2] – (قارن وعى الحلم مع حلم اليقظة فى نشرات: 16-8-2015، 4-10-2015) ونعمل حلم (نشرات: 21-9-2015، 22-9-2015) ومقال دورية نجيب محفوظ، بعنوان: حركية الزمن، واحياء اللحظة فى إبداع (أحلام) نجيب محفوظ، المجلس الأعلى للثقافة، العدد الثالث: ديسمبر 2010)
[3] – هذا هو التعبير الذى استعمله محمد ليصف مدى آلامه وأحزانه نشرة: 27-10-2015، ويقصد به “مليار مليار”.