“نشرة” الإنسان والتطور
17-2-2008
العدد: 170
“لعبة الذل”
بين المرضى والأسوياء (1) المرضى
هل يمكن أن أقبل الذل على نفسى أو أن أذل “نفسى”؟ لماذا، وكيف؟
الأرضية التنظيرية:
الشائع أنه لا أحد يقبل على نفسه الذل، وأنه إذا كان ثمَّ ذل فهو قادم من الآخرين، من السلطة بالذات، سواء كانت سلطة أبوية أو سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، ولكن هذا الشائع ليس هو الحقيقة الوحيدة فى القضية، حيث أن الإذلال من الخارج لا يسرى أو يستشرى إلا على من يقبله، أو ينحنى له، والمذل – فى الخارج – لا يتمادى فى الإذلال إلا لمن يرضخ له، وأحيانا يستطيب المذلول ذلــه وهو يدعى العكس (كل ذلك دون أن يدرى عادة).
الأخطر من ذلك، هو أنه فى كثير من الأحيان يبادر الواحد منا إلى إذلال نفسه مجانا، أو احتياطيا، أى بدون داع ظاهر لذلك، وغالبا هو لا يدرى أنه يفعل ذلك، ثم هو يروح يسقط هذه العمـلية (عملية الإذلال) على العالم الخارجى، وكأن العالم الخارجى هو الذى يقوم بإذلاله، وحين تكون القوة الـمـذلة فى داخل النفس فإن الكشف عنها -فى سياق علاجي- يصبح الخطوة الأولى فى تحرير الذات والانتقال بها إلى درجة من الرؤية، مع أمل فى نصيب من التصالح بين الواحد ونفسه.
اللعبة.
بدأت اللعبة فى إحدى جلسات العلاج الجمعى، قصر العينى (1) حين ذكر المعالج الأساسى (د. يحيى) زبيدة بأنها قالت فى الجلسة السابقة أنها مستعدة أن تركع تحت الأقدام وتطلب المساعدة، وذكرها الطبيب المعالج كيف أنه، والمجموعة، رفضوا هذا الوضع، وكيف أنهم تحدثوا فى أنه لا جدوى مما تفعله بنفسها هكذا، وأنها تمارس هذه الطريقة على “العمال على البطال” مع كل الناس، وعلى الرغم من أنها لم تحصل منها إلا على نتائج سلبية فإنها تتمادى فيها.
ولم تنكر زبيدة ذلك – تقريبا- لكنها راحت تتساءل ماذا تفعل بديلا عن هذا التصرف؟
وحين، قيل لها أن هذه المسألة لاتتم بالنصح والتوجيه المباشرين وإنما بالرؤية والممارسة، لم ترفض، فأضاف المعالج شارحا: إننا -بقية أفراد المجموعة، وسائر الناس، بما فيهم من تستجديهم هى شخصيا- ربما يفعلون مثلها بدرجات مختلفة، أو بأشكال أكثر خفاء عنا، وعنها، ولإيضاح ذلك: اقترح المعالج هذه اللعبة:
كان على كل واحد (أو واحدة) أن يقول العبارة المقترحة موجها كلامه لزميل أو معالج (علما بأن كل الأسماء مستعارة كما ذكرنا) ثم يكمل الكلام بعد العبارة المقترحة، أى كلام، يخطر (أولا يخطر!!) على باله، وكانت العبارة المقترحة هي:
يا فلان، أنا مضطر أذل نفسى علشان: (” ” ” ” ” ” ” ” ” ” ” “)
(ثم يكمل أى كلام يخطر -أو لا يخطر- على باله)
ثم يقول بعد ذلك مباشرة:
يا فلان، أنا مش حاذل نفسى حتى لو (” ” ” ” ” ” ” ” “)
(ثم يكمل أى كلام يخطر – أو لا يخطر- على باله)
وقد جرت اللعبة على الوجه التالى:
1- بثينة:
” يا (…) أنا مضطرة أذل نفسى علشان مــش قوية”
ثم: يا (…) أنا مش مضطرة أذل نفسى حتى لو ضعيفة”
2- نادية:
”يا (…) أنا مضطرة أذل نفسى علشان أحقق اللى أنا عايزاه”
ثم: “يا (…) أنا مش حاذل نفسى حتى لو هاموت”.
3- نهى:
يا (…) أنا مضطرة أذل نفسى علشان أحقق ذاتي”.
ثم: يا (…) أنا مش حاذل نفسى حتى لو ها أضعف.
4- باسم:
يا (…) أنامضطر أذل نفسى علشان أعمل اللى أنا عايزه.
ثم: يا (…) أنا مش حاذل نفسى حتى لو هايوصلنى للى أنا عاوزه (الذل).
5 – د. حسن:
يا (…) أنا مضطر اذل نفسى علشان أكمل.
ثم: يا (…) أنا مش حاذل نفسى حتى لو بقيت لوحدى.
6 – سامية:
يا (…) أنا مضطرة أذل نفسى علشان غبية.
ثم: يا (…) أنا مش هاذل نفسى حتى لو أخذوا أحلى حاجة عندى.
7 – زبيدة:
يا (…) أنا مضطرة أذل نفسى علشان أعيش والناس تحبني.
ثم: يا (…) أنا مش هاذل نفسى حتى لو عشت فى صحراء لوحدي.
8 – د.يحيى:
يا (…) أنا مضطر أذل نفسى علشانك (موجها كلامه للدكتور حسن)
ثم: يا (…) أنا مش حاذل نفسى حتى لو ماقدرتش أكمل.
9- مديحة:
يا (…) “أنا مضطرة أذل نفسى علشان أعيش”
ثم: يا (…) “أنا مش حاذل نفسى حتى لو هأموت”
10- أحمد
يا (…) أنا مضطر أذل نفسى عشان أدارى ضعفى، أدارى إللى جوايا”
ثم: يا (…) أنا مش حاذل نفسى حتى لو “كان ده وهم بالنسبة لي”
11- د. أكثم
يا (…) أنا مضطر أذل نفسى عشان أتعيـن”
ثم: يا (…) أنا مش حاذل نفسى حتى لو”رمونى فى الشارع”
ملاحظات عامة مبدئية:
(1) كان الاستغراب فى البداية عاما، فلم يكن أحد من المجموعة يتصور أن هذا الكلام يمكن أن يكون حقيقة، وكانت المقاومة واضحة لكنها سرعان ما خفت بعد البداية حتى زالت تماما تقريبا.
(2) لم يتوقع (المعالجان أساسا) من بثينة أن تشترك بأى كلام له معنى حيث أنها كانت فى حالة من التفسخ الفصامى شديدة، وكان انتباهها الإيجابى بادى الانسحاب ومع ذلك بادرت هى وطلبت أن تبدأ اللعبة فجأة، على عكس توقعاتنا.
(3) جاء دور زبيدة متأخرا (بالصدفة) علما بأنها هى التى كانت سببا فى ابتداع اللعبة، وبدا أن هذا قد أعطاها فرصة أحسن لترى عمومية ما كانت تتصور أنه خاص بها دون سواها.
تأويلات فردية (لكل استجابة على حدة):
1-بثينة:
يا (…) أنا مضطرة أذل نفسى علشان مش قوية”
ثم: يا (…) أنا مش مضطرة أذل نفسى حتى لو ضعيفة”
كررت بثينة كلمة مضطرة فى الجزء الثانى من اللعبة، رغم أن الكلمة لم تكن موجودة فى النص، وقد يكون فى هذا ما يفسر التناقض الظاهر جزئيا، فلأول وهلة يبدو الكلام متناقضا إذا ساوينا بين عدم القوة (مش قوية) والضعف، ولكن يبدو أنهما ليسا مترادفين، فعدم القوة هو نفى للقوة، وبالتالى يترتب عليه مشروعية الإذلال، وكأن بثينة حين تتنازل عن قوتها لايبقى أمامها إلا أن تذل نفسها، أمـا الضعف، فيبدو أنه يشير إلى الضعف الطبيعى (وليس كف القوة)، وبالتالى فهو (الضعف الطبيعي) ليس حائلا دون أن يرفض الإنسان الذل.
المهم أن هذه التفرقة المحتملة -التى هى تأويلنا الآن- جاءت من مريضة فصامية فى حالة شديدة من التفسخ، ومع ذلك لعبت اللعبة بهذه الصورة.
وتناقض المريض الفصامى هو من أهم أساسيات مرضه، ولا تصح المبادرة برفض تناقض المريض والاكتفاء بمجرد اعتباره عرضا من أعراض مرضه، بل ينبغى أن نغوص فى احتمالات التفرقة الدقيقة التى لا تخطر على منطقنا العاد ى، بل إن الجدل السلبى الذى يتدهور إليه الفصام ى، هو أساس الجدل الإيجابى الخلاق لو أحسن إعادة توجيهه، أى لو لم نسارع بطمسه أو إنكاره.
2- نادية:
يا (…) أنا مضطرة أذل نفسى علشان أحقق اللى أنا عايزاه”
ثم: يا (…) أنا مش حاذل نفسى حتى لو هاموت”.
نلاحظ هنا كيف يرجح الموقف بين الوصولية المباشرة فى صورة الصفقة المعلنة، وبين الرفض الأبى، ولا ينبغى أن نختزل الموقف إلى ادعاء صراع لا بد أن يحل بترجيح أحد شقيه كما يحب الناس أن يتصوروا، وكما أشاع المفهوم الدينامى السطحى لسوء استخدام التحليل النفسى، ذلك لأن وجود هذا التناقض الحيوى هو جزء لا يتجزأ من الطبيعة البشرية.
وهنا يبدو أن نادية تعرف أن إذلال نفسها بمحض إرادتها هو أمر وارد لتحقيق مأرب بذاته، أى أنه تكتيك، وأن إذلال النفس من حيث المبدأ قضية مرفوضة حتما، وكأن الإنسان يمكن أن يستعمل الذل من الخارج، دون أن يذل نفسه حقيقة وفعلا، ولعل هذا هو بعض ما يعنيه المثل العامى الذى يعلن بألم أنه “والكلب لما حكم، قاله الأسد يا عم”.
وهذا الموقف التكتيكى يأباه عادة أدعياء المثالية الأخلاقية المطلقة، والنتيجة أن يتمادى إذلال النفس لا شعوريا بما يترتب عليه تشويه الذات، وعدم تحمل التناقض أصلا.
ويمكن تصور أن الطمأنينة إلى قوة الإصرار على رفض الذل حتى الموت (الجزء الثانى من الاستجابة) هو الذى يسمح بقبوله تكتيكيا، ولو أننا سمعنا الجملة الثانية وحدها، لتصورنا أن الجملة الأولى يستحيل أن توجد أصلا، لكن وجود الجملتين عند نفس الشخص وإعلانهما بهذه القوة قد يشير إلى أن قوة الجملة الأولى هى مستمدة من يقين الجملة الثانية، أى أن الذى يقدر أن يقرر أن يذل نفسه ليحقق ما يريد (ليس من الضرورى أن يكون وصوليا)، هو هو الذى يقدر أن يحمى نفسه من الذل حتى لو مات، إذن فلا تناقض فى الموضوع مادام الفعل إراديا محسوبا.
3- نهى
يا (…) “أنا مضطرة أذل نفسى علشان أحقق ذاتي”.
ثم: يا (…) أنا موش حاذل نفسى حتى لو هاضعف.
وتفاعل نهى فى اللعبة يظهر كيف أنها شديدة الوضوح فى السعى إلى تحرير نفسها من الاعتمادية، والصفقات الزوجية القاهرة، (أحقق ذاتي)، لكن كيف يتأتى تحقيق الذات مع الذل؟
مسألة تحقيق الذات هذه قضية أسئ فهمها دوما، ذلك أنها نتاج طبيعى للعلاقة بالواقع، ولتنمية الفعل الإراد ى، والحرية المحسوبة، وربط قبول الذل -اضطرارا- بتحقيق الذات ربط دال، لأنه ربما يشير إلى أن الخطوات الوسطى التى تبدو عكس الهدف النهائى، هى جزء لا يتجزآ من مسيرة النمو.
أما الجملة الثانية، فهى إعلان لتحذير الذات من أن الضعف هو دافع خفى أن يتراجع الإنسان عن المواجهة اللازمة للاختيار والاستمرار، بأن يذل نفسه استسلاما وهربا من هذا وذاك، إلا أن رفض ذل النفس هنا مقابل تحمل الشعور بالضعف، هو مصدر قوة فى ذاته، لأن تدهور الإنسان وتراجعه ليسا بسبب ضعفه، وإنما بسبب رفضه لضعفه، وغروره بادعاء قوة غير مناسبة فى غير موضعها، وقبول الضعف البشر ى، وتحمل آثاره هو قوة تسمح برفض الذل، اللهم إلا ما يختاره مضطرا حاسبا واعيا (الجملةالأولي)
4- باسم:
يا (…) أنامضطر أذل نفسى علشان أعمل اللى أنا عايزه.
ثم: يا (…) أنا موش حاذل نفسى حتى لو هايوصلنى للى أنا عاوزه (الذل).
التناقض هنا أصرح، ويكاد يكون متكافئا تماما، ولا يسهل بعضه بعضا مثل الحال فى الحالة السابقة، ثم إن ثمة فرقا بين “أعمل اللى أنا عايزه”، و”هايوصلنى للى أنا عايزه”، ففى الجملة الأولى قال باسم “أعمل”، وفى الجملة الثانية قال “يوصلنى “، وقبول الذل -اضطرارا- المصحوب بعمل، غير أن يتنازل الإنسان بغية”الوصول”، الموقف الأول يوحى يتخطيط مدروس به تنازل فى مرحلة متوسطة على مسار عمل هادف ممتد، أما الموقف الثاهى فهو رفض أن يكون الذل هو وسيلة “الوصول”، وليس خطوة تكتيكية على مسار الفعل.
ومع ذلك، ولأننا فى موقف مرضى قد يحل الوصول محل الفعل، ويختلط الفعل بأوهام الوصول، وهنا يصبح التناقض معطلا، وليس مطاوعة متناوبة، فيها يسهل كل ذراع حركة الذراع التالية، وقد بدا لى أن تكافؤ الذراعين، وتضادهما -رغم اختلاف الألفاظ- هو أحد أسباب توقف باسم ومرضه.
5 – د. حسن:
يا (…) أنا مضطر اذل نفسى علشان أكمل.”
ثم: يا (…) أنا مش حاذل نفسى حتى لو بقيت لوحدى.
القراءة فى لعب الأسوياء أصعب من تأويل خطاب المرضى، وقراءة لعب الطبيب المتدرب هنا يحتاج إلى معرفة أكبر للسياق الذى يجرى فيه هذا النوع من العلاج والتدريب، وإليكم بعض ذلك:
د.”حسن” يتحمل فى سبيل هذا التدريب الخاص أن يختار هذا النوع من الممارسة ضد النهج التقليدى للطب النفسى، وهو فى سبيل استمراره، دون مضاعفات عقابية، معلنة أو خفية، يضطر أن يتنازل للسلطة التقليدية كثيرا أو قليلا، وهو يرى أن ذلك لازم إن كان له أن يواصل تدريبه ونموه واستشكافه ذاته، ويمكن – إذن- أن نفترض أن الذل فى الجملة الأولى هو تنازل أمام الضغوط ليكمل مسار مرانه فى مجال محوط بمقاومة سلطوية معلنة أو خفية.
أما رفض الذل فى الجملة الثانية فهو بمثابة الإصرار فى مواجهة احتمال فشل تنازله، واستمرار السلطة التقليدية فى التلويح بالرفض أو التهديد أو المساومة، فإذا تمادوا فى ذلك-وهم كثر- فهو لن يقبل تنازلا أكبر حتى لو بقى وحيدا ليكمل طريقه الذى اختاره وغامر باجتياز أولى مراحله.
6 – سامية:
يا (…) أنا مضطرة أذل نفسى علشان غبية.
ثم: يا (…) أنا موش حاذل نفسى حتى لو أخذوا أحلى حاجة عندى.
حين قالت سامية عبارتها الأولى كانت جاهزة أكثر من المتوقع، وإعلانها غباءها هو نوع من اللوم الخفى على اضطرار محتمل، وكأنها تقول: إنها لو كانت أذكى لما قبلت ذلك أصلا، مع أن الذكاء العملى هو الذى يعرف طريق المناورة المحسوبة كما رأينا خاصة فى استجابة نهى أو د.حسن، وبالتالى فإن رفضها الذل بالصورة الواضحة فى الجملة التالية مشكوك فيه وكأنه إعلان كلامى أكثر من أى شئ آخر.
وقد تأكد هذا الافتراض لأنها -دون غيرها- حين أنهت اللعبة سارعت بإمساك ناحية قلبها، شاكية: “آه مش قادرة آخذ نفسي”، وهذا كثيرا ما يشير إلى احتجاج الجسد، بلغته، على كذبة خفية. كما أن إعلان الضعف الجسدى فى هذه اللحظة هو دليل على أن جرعة الادعاء كبيرة “حبتين”.
فنلاحظ أن هذا الموقف المثالى أحادى الجانب، هو الذى يصاحبه لغة مرضية محتجة.
7 -زبيدة:
يا (…) أنا مضطرة أذل نفسى علشان أعيش والناس تحبنى.
ثم: يا (…) أنا مش حاذل نفسى حتى لو عشت فى صحراء لوحدى.
الصفقة هنا أصرح، وأوضح من أى تصور، فكثيرا ما يكون التنازل مقابل أن يتم “الرضا”، والقبول، فالإنسان يحتاج أن يكون محبوبا، ومطلوبا، ومرغوبا، وفى سبيل ذلك يدفع كل شيء، حتى كرامته، وهذا الموقف مألوف فى العلاقات التى تسمى الحب السائد فى أغلب الأحيان، (أنا عايزه حد يعوزنى، وأعوز عوزانه)، لكنها صفقة خاسرة، لأنه بمجرد أن يتم هذا التنازل المبدئى تتمادى اللعبة وتضطرد التنازلات، فلا يتحقق القبول، ولا “العيشة” التى تصورها التنازلات (أى التنازل والرضى بهذا الذل)، وحين تفشل اللعبة ( رضينا بالذل، والذل مارضيش بينا) يقفز الاختيار البديل (الأب، لكنه شيزيدى، أى انعزالى انسحابي).
الاختيار البديل هو ما ورد فى الجملة الثانية، وهو ليس اختيارا مناقضا، وإنما هو يوضح مبرر التنازل الأول، لأنه إذا كان عدم الذل قد يؤدى إلى هذه الوحدة المطلقة (صحرا لوحدى) فإن الذل للحصول على الرضا، والحب، والقبول له ما يبرره.
وزبيدة كانت هى التى أعلنت فى جلسة سابقة استعداداها للركوع تحت الأقدام طلبا للمساعدة،، وبناء على رفض المجموعة ذلك، اقترحت اللعبة لتريها مدى فساد ولا جدوى ما تطلب، وزبيدة هى التى تراجعت عن ذلك آسفة ولم يقبل أسفها شكا فى عدم عمق ذلك وثقة فى لاجدواه، فجاءت استجابتها فى اللعبة تؤكد مدى جوعها للرضا، ومدى اعتماديتها على قبول الناس لها (عشان أعيش والناس تحبني)، ومدى تصورها للوحدة الجدباء (..لو عشت فى صحرا وحدى) إذا هى لم تتنازل عن كل شئ فى سبيل هذا الرضا والقبول.
فنرى هنا كيف أن المبالغة فى تصوير آثار رفض الذل، والرعب منها (..صحرا وحدي)، هو هو الذى يدفع الإنسان للقبول بكل هذا الذل.
وبألفاظ أخرى: إنه إذا كان عدم الذل سوف يؤدى إلى الوحدة المطلقة هكذا فى صحراء، فإن الذل يصبح اضطرارا مشروعا لأنه الوسيلة (الوحيدة إذن) حتى تعيش زبيدة، ويحبها الناس.
8 – د. يحيى:
يا (…) أنا مضطر أذل نفسى عشانك (موجها كلامه للدكتور حسن)
ثم: يا (…) أنا مش حاذل نفسى حتى لو ماقدرتش أكمل.
هذا الموقف من المعالج الأكبر (المدرب) مكمل لما سبق ذكره فى ظروف هذا التدريب لهذا النوع من العلاج، ضد التوجه الغالب للسلطة التقليدية فى هذه المؤسسة (قسم الطب النفسى، قصر العينى) ذلك أن استمرار إتاحة الفرصة لتدريب الأصغر (مثل الدكتورحسن) يحتاج إلى تنازلات كثيرة يمكن أن تدرح تحت ما يسمى “ذلا”، أو على الأقل يستقبلها هذا المعالج الأكبر بوصفها كذلك، ويبدو أنه قد وجد فى هذه اللعبة فرصة ليعلن بها للمتدرب (د.حسن) أن تنازلاته ومأزقه فى مواجهة السلطة التقليدية ليست قاصرة عليه، بل إن قهر السلطة موجه لهذا النوع من العلاج أساسا، وليس لشخصه (د.حسن)، وأن المعركة مشتركة، والتنازلات الضرورية حتمية على كل من أراد الاستمرار.
والجملة الثانية تنبه أن لهذه التنازلات حدودا، لأنه إذا كان التهديد سوف يصل إلى إيذاء الأصغر تماما وحتما، أو تشويه الجار ى، فالتوقف الاختيارى وارد لا محالة.
9- مديحة
يا (…) ” أنا مضطرة أذل نفسى علشان أعيش”
ثم: يا (…) “أنا مش حاذل نفسى حتى لو هاموت”
تناقض آخر، جيد ودال، يؤكد أن الأصل فى الوجود البشرى هو مثل هذا التناقض، فقد نجحت اللعبة فى أن تظهره فى كل واحد بلا استثناء، والتناقض غير الصراع، إذ هو تحريك للبدائل معا، وتناوبها حسب السياق والظروق، فاللعبة هكذا تنبه أحاديى النظرة إلى غباء الاستقطاب وفساد تسطيح الإنسان، فمديحة تدرك أنها لكى “تعيش”; عليها أن تتنازل قليلا أو كثيرا حتى لو بدا هذا التنازل ذلا، ولكنها، كما لاحظنا فى أغلب الاستجابات، تضع احتمالا آخر يمنعها من التماد ى، فهى تعلن استعدادها أن ترفض الحياة ذاتها فى مقابل رفض الذل، وهذا ليس صراعا كما قلنا، فالصراع يستلزم والتذبذب، والتصادم ثم ربما التوقف، أما حضور النقائض معا بهذا التبادل الرائع فهو ما ينقصنا إدراكه، والاعتراف به، والنمو من خلاله.
مرة أخرى، هذا لا يعنى أن هؤلاء المرضى أقرب إلى التناقض الجدلى الخلاق، لأن كونهم مرضى يعلن فشل هذا التناقض فى الاستمرار “معا”، والنتيجة هى التوقف أو التراجع أو التذبذب أو الصراع، وهذا هو المرض، نعم: إن المريض النفسى يرينا الحقيقة العارية، الرائعة، لكنه لا يكمل مسارها الأروع.
10- أحمد
يا (…) ” أنا مضطر أذل نفسى علشان” أدارى ضعفى، أدارى اللى جوايا”
ثم: يا (…) “أنا مش هاذل نفسى حتى لو كان ده وهم بالنسبة لى”
على الرغم من أن الذل من أشهر وأفضح مظاهر الضعف، إلا أن أحمد، هنا، يرينا فيه بعدا آخر، يرينا أن التنازل -حتى ذل النفس- قد يسهل الانسحاب وبالتالى يعفى من المواجهة فالمعركة، وبالتالى بخفى الضعف الصريح المرتبط بإعلان الهزيمة، وكما يقال: الناس من خوف الفقر فى فقر، قد يصلح أن يقال هنا: الإنسان من خوف الضعف، فى ذل.
أما الجملة الثانية فهى تمارس صراحة أصعب، وهى أن الإباء الذى يرفض الذل أصلا قد يكون وهما مطلقا، وحتى لو كان كذلك، فإن أحمد يتمادى فى إعلان قدرته على التمادى فى الوهم.
11- د. أكثم
” يا (…) ” أنا مضطر أذل نفسى علشان أتعيـن”
ثم: يا (…) “أنا مش حاذل نفسى حتى لو رمونى فى الشارع”
هذا الزميل الآخر غير منتظم فى التدريب، ولا فى المشاركة فى حضور هذه الجسات، وهو من “الشطار” الذين يعرفون طريق “الوصول” بإرضاء السلطة أولا وقبل كل شيء، وهو صريح مع نفسه كل الصراحة، إذا حضر أى جلسة بدا وكأنه كتابا مفتوحا، وكان هذا طيبا ومفيدا فى الجلسات التى حضرها. لكن ميزة انفتاح الكتاب كانت سرعان ما تقل إذا ما التفتنا لمحتوى الكتاب.
واستجابة د.أكثم هنا، إنما تعلن موقفه العملى فى الحياة، وهو أنه أدرك أن السلطة سوف ترضى عنه وتعينه فى الدرجة الدائمة والثابتة إذا هو مالأها حتى الذل، وفى نفس الوقت هو يعرف أنه مهما قبل الذل، فلا ضمان لشيء، فهو يضع حدا (وهميا) لدرجة الذل، لأن إعلانه هذا لا يعنى استعداده للتنازل عن ذل نفسه مقابل الوظيفة، وإنما هو أقرب إلى تبرير التنازل والذل كما ورد فى الجملة الأولى (بنفس القياس الذى تحدثنا فيه فى تفسير استجابة زبيدة حين قالت إنها لن تذل نفسها “حتى لو عشت فى صحراء لوحدي”، بمعنى أن المبالغة فى تصوير ثمن “عدم الذل” (سواء كان الوحدة فى الصحراء – زبيدة-، أم الإلقاء فى الشارع (د.أكثم) هو المبرر الأول للتمادى فى قبول الذل.
وبعد
هذه المحاولة المحدودة جرت بين مرضى ومعالجين، ولم تكن بها إلا لعبتان أحدهما عكس الأخرى كشفت ما كشفت كما رأينا.
دعونا الآن نتساءل
هل هذه الإجابات خاصة بالمرضى دون الأسوياء، وهل شجاعة التعرى هكذا، وهى جزء من أزمة المرضى هى التى سهلت الإقدام على المصارحة إلى هذا الحد؟
تُرى ماذا تكون الاستجابات لعينة من الأسوياء، هذا ما جرى تماما فى برنامج “سر اللعبة” (قناة النيل الثقافية) وهو ما سوف نعرضه فى يومية قادمة حتى ربما أمكن مقارنة استجابة المرضى بالأسوياء بأنفسنا.
وفيما يلى اللعبات العشرة التى عرضت بالحلقة الخاصة بـ “لعبة الذل” ندعوك للإجابة عليها بنفس الطريقة التى ذكرناها فى (يومية 14-9-2007 “لعبة الخوف” 1)، (يومية 2-10-2007 يا خبر اسود، دانا لو اتجننت، يمكن ……) (انظر الأرشيف) .
لعبة الذل:
مثال توضيحى
أهم حاجة عندى إنى أحافظ على كرامتى…، بس ساعات
مثال للإجابة
أهم حاجة عندى إنى أحافظ على كرامتى بس ساعات….ما باقدرشى!!!
الألعاب العشرة:
ويمكن مشاهدتها فى الموقع صوتاً وصورة كما تمت فى البرنامج لحين عرضها ومناقشتها
(“لعبة الذل” عرضت ببرنامج سر العبة – قناة النيل الثقافية بتاريخ 16-4-2004)
1) أنا مستحيل أذلّ نفسى… حتى لو…
2) أنا خايف الظروف تخلينى أذل نفسى، بعد كده يمكن ….
3) أنــا لو كنت رضيت من زمان انى أذل نفسى..، كنت..
4) هوّا فيه حد يقدر يعيش من غير ما يضطر يذل نفسه؟ لكن بقى …….
5) طيب وليه نسميه ذل، ماهو ممكن يكون ……
6) لو ضمنت انى ما افقسشى نفسى وانا باتنازل لدرجة الذل ، يمكن …..
7) ذلّ بــْـذُلّ..، أنا بقى …..
8) دانا لو ضبط نفسى باذل غيرى ولو من غير قصد، يمكن ……
9) أنا مستعد أذل نفسى بخطرى فى حالة واحدة بس، هى إن ……
10) كلّه إلا الذل…! يا ساتر !! عشان كده …….
[1] – جميع الأسماء ماعدا المعالج الرئيسى غير الأسماء الحقيقية.