نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 29-2-2020
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4564
(رباعيات.. ورباعيات) (1) (12)
(صلاح جاهين – عمر الخيام – نجيب سرور)
الفصل الثانى: الدراسة المقارنة: (* رباعيات جاهين * عمر الخيام * نجيب سرور)
ثالثاً: رباعيات نجيب سرور (3)
………………
الفخر.. والهجاء
وسرور يصبـِّر نفسه بين المعارك، وبعضها وهو يستعد ويشحن ذاته للجولة القادمة، يصبر نفسه بقصائد الفخر التى تُخفى جروح الألم؛ فهو لا يتحدث عن نفسه كما يراها، وهو لا يشكو، ولا يحتار علانية؛ فإذا اضطر أن يتحدث عن نفسه، فهو يبالغ فى الفخر حتى لنتذكر الشعراء العرب الأقدمين مثل المتنبى، وهو لا يخفى بهذا الفخر ألمه فحسب، ولكنه ينكر وحدته بإعلان استغنائه عن أى آخر، وأية مساعدة، ونلاحظ أن فخره، هو من النوع الذى يعبىء “للحرب المقدسة”.
ولكنه أبدا لم يستطع أن يخفى عنا – من بعدٍ نفسى- احتمالات جذور هذا الفخر، تلك الاحتمالات التى لا تستبعد العكس؛ فعادة ما يتناسب علو الصوت، وحدَّة النبرة مع احتمالات مناقـِضـَة لظاهر القول، وقد وجه انتباهنا إلى هذا الاحتمال، استعماله المتكرر والـُمـِلحّ لصيغة النفى فى فخره:
لم أقف يوما بأعتاب الملوك
(106/46)
لم ألـُذْ يوما بباب الرؤساء
(107/46)
لم أكن يوما لسلطان نديم
لا ولم أقصد بأشعارى الحريم
(108/47)
لم أسل كالكلب رفد الأغنياء
لم أكن كالبوق فى رهط الرياء
(109/47)
لم أخف فى رحلة الأهوال حاكم
(110/47)
والمقابل للفخر هو الهجاء، ولا يكاد سرور يكف عن الهجاء طوال الرباعيات، بل إنه يدعو إليه مباشرة، ويعتبره المَنْجَاة الحقيقية من أى هجوم مضاد أو ابتدائى.
وتهاجوْا أخطأ السيف جرير
بالتهاجى مثلما عدى الفرزدق
(221/85)
الوحدة.. والانتماء
وحدة سرور مُرَّةْ.. لعلها أكثر عمقا وقسوة من ألمه الدفين، وهى مثل ألمه، لا تعلن مباشرة، ولكنها تُطل طوال الوقت من السطور، ومن بين السطور، والهجوم الدفاعى هو أحد أساليب كسر الوحدة، وإن كان كسرا مكسورا، فهو يؤكد وجود الآخر بهذه المَقْتَـلَـة. فالقتل فعلٌ موجّه تجاه “آخر”، وهو يختلف عن الإلغاء ابتداء، فى القتلِ ثَمَّ آخر “يهاجَم”، وها أنذا أدافِع فى مواجهة هذا “الآخر”، ومن دفاعى أن أهاجِم هذا الآخر، حتى القتل، ومشاعر الشك وفرط “التوجس” هى مشاعر نحو “آخر” وهذا هو ما يبرر التفسير الذى وضعناه لرباعيات سرور التى تصوّرنا أنها ليست إلا تعبيرا ملاحِقا عن: علاقة شاكة، وشائكة، بمن هو “آخر”، وهى ما يسمّى عادة بقدْر من الاختزال، علاقة “الكر والفر”، وهى علاقة تَحْفَظُ مجرد البقاء، لكنها لا تثرى أو تُرضى أو تؤنس.
وحين يحاول سرور أن ينتمى إلى آخر؟ يفعلها بطريقته؛ فلننظر لمن يمكن أن ينتمى؟. وكيف؟. وهو شديد الحذر من أى اقتراب، ومن أية مهادنة، ومن أية ثلة، نبدأ بهذا الإعلان المبدئى:
حـزَّبوا الأحزاب حتى فى الرياضة
مذهبوا الشمس ليصطادوا القمر
فاحذروا التمساح فى قاع المخاضة
إنـــه يقعـــى خداعـا للنظر
(211/81)
فماذا هو فاعل؟
سرور ينتمى وبمنتهى الاندماج حتى التقمص أو التلاشى إلى حزبٍ خاص، حزبٍ كل أعضائه فى ذمة التاريخ، وهذا هو أسلم أنواع الانتماء؛ لأنه انتماء من جانب واحد، الأشخاص تحددت هويتهم بما قاله عنهم التاريخ (وليس ما يقوله التاريخ مطابقاً بالضرورة لما كانوه)، وهم لم يعودوا يملكون أن يكونوا إلا ما كانوه، وهناك يصبحون بعيدا عن أى احتمال يجعلهم مصدرا للخطر، وخطر الانتماء لمن هو مثل سرور ليس فى الانتماء ذاته، وإنما فى مفاجآت المنتمـَى إليهم (خوفا من خيانة الهجر، أو جرح الإهمال.. بوجه خاص)، حزب سرور أعلنه وسماه، ويكاد يكون سجَّـله فى محضر رسمى.
جاءنى الضابط إجراء ” تحرى “
أنا يا ضابط من ” حزب المعرى “
(99/43)
وهذا الحزب: “حزب المِعَرِّى” حائز على كل الشروط القانونية!! وسرور يكاد يحدد أسماء أعضائه المؤسسين ولجنته المركزية… إلخ (من بينهم: الجبرتى ولينين وغاندى وامرؤ القيس ولومومبا ولوركا وعمر بن الخطاب وتولستوى وفردى وجيفارا وشيلدر وإخناتون وهوميروس وبوشكن وابن سينا وأرسطو وابن الهيثم وجاليليو وأبو ذر وإبسن.. إلخ إلخ).
ولكن سروراً لم يكتف بالانتماء إلى حزب المعرى التاريخى هذا، فهو ظاهر الانتماء إلى الجغرافيا (الأرض)، وهو يعلن بوضوح مصريته وانتماءه، بل يكاد يجعل مصر رمزا للأرض كافة (أو للرحم أصلا ) وانتماؤه لوطنه بهذا الوضوح يسهل له تحديد عدوه، عدو وطنه، كيانا جغرافيا وبشريا محددا.
كل حرب هى من أجل الهرم
إنها مصــر.. حرامٌ.. وحرم
(74/33)
وقد فعل، وتوجهت مدافعه فى أوقات كثيرة نحو اليهود بالذات، فَعَلَ ذلك بوضوح حتى وصل إلى إعلان شجاع عن عنصريته؛ باعتبارها الحل الوحيد الذى يواجه به عنصريتهم، فهذه هى القاعدة عنده. وبالتالى لا يفل العنصرية إلا العنصرية؛ ليقضى فى النهاية عليها:
عنصرى أنا.. حقا يا زعيمى
طالما نحفر قبر العنصرية
(145/59)
ولكن هذا الانتماء “الجغرافى” يبدو- أيضا- بديلا عن العلاقة المغامِرة بالآخر المحدد لحما ودما، الآخذ العاطى دون تقديس أو ضمان.
أما علاقته بزعيم الحزب (المعرى)، فهى علاقة تقديسية تقمصية اعتمادية بشكل مباشر، إلى درجة أنه كاد يوحى أن المعرى، شخصيا، هو الذى كتب هذه الرباعيات؛ فكلمة الكتاب تقول:
هـذا جناه أبو العلاء
وما جنيت على أحد
(بدلا من الإهداء: ص 3)
أما خطابه ونداؤه ومناجاته لأبى العلاء طوال الرباعيات، فهى لا تحتاج إلى تعليق، والأمر يأخذ أحيانا شكل التحية الرقيقة:
“عـِمْ صباحا يا إمامى يا ضرير“
(91/40)
وشكل الاستغاثة والاستشهاد فى أحيان أخرى:
يا إمامى كيف فى لدغ الضمير
يهــنأ النـوم لمن خان الأمانة
(93/41)
ويصل إلى التأليه أحيانا:
يا إمامى ثُمَّ مجـَّدتك بعده
(94/42)
وسرور بهذا الانتماء قد انفصل عن “الآن”، وانتمى إلى التاريخ والجغرافيا بديلا عن الواقع الحالىّ.
وذلك بعكس الخيام الذى حاول أن يستغرق فى “الآن”، والذى، بالرغم من توجسه من الناس والأصدقاء، كان يحلم طول الوقت بالساقى الطيب والنديم السمح، والوجه الصبوح،
لكن “الآن” عند سرور كانت مصنوعة من حلمه القتالىّ المستِعر أو على الأقل مغلّفة به، أكثر منها معيشةَ بنبضها الحىّ الحالى المواجِه.
أما جاهين فقد كان يعيش “الآن” بنبضها المتمثل فى مرونة المسافة ” بينه وبين آخر حقيقى، كما كان دائب المحاولة للتقليل من هذه المسافة، وأيضا لمخاطرة اجتيازها، فى اتجاه الآخر بموضوعية مؤلمة نتيجة لحدة الرؤية طول الوقت.
التعميم والوثقانية (الدوجما)
وإذا كنا قد أشرنا فى عجالة إلى حيرة الخيام وشكه وما صاحبهما من حلول عدمية وأحلام الهرب واللذة، كما أشرنا أكثر إلى حيرة جاهين، وشكه بما يصاحبهما من تحمل الغموض والألم الخلاّق للحفاظ على الآخر، فإننا إذا نظرنا بإمعان فى موقف سرور لا نجد أثرا لمثل شك الخيام أو حيرة جاهين.
إن رباعيات سرور تكاد تخلو من الشك الصريح تماما، وتفسير ذلك يمكن أن يكون كالتالى: إن سرور لا يتحمّل أن يعيش الشك، من فرط شكّه، وبالتالى فإنه حين يلوح له أى شك فى أى قضية يسارع بحلّه بالحسم اليقينى، فهو يصدر فرمانات الوثقانية والحكم الفوقى الذى لا يقبل المراجعة، فالموقف الذى يقفه سرور من أغلب القضايا التى تعرض له، وجودية أو تكيفية أو علاقاتية، هو موقف حاسم جازم، فهو يبدو وكأنه لا يشك فى شىء، ولذلك فما أسهل عليه أن يـُصدر أحكامه وهو يعمم ويجزم بشكل يخيل معه للسامع أنه أمام ” قانون دامغ لتفسير الظواهر”. نسمعه يقول:
كل خضر خلفه موسى اللئيم
كل موسى هو فرعون المشبه
كل فرعون هو الكبش العظيم
(74/33)
وهو لا يهمد من فرط استعمال”كل” هذه:
كل حكم كان حكما للقرود
كل قرد هو من جنس اليهود
(73/32)
*****
…………….
وسوف نعرض الأسبوع القادم (ملاحق الفصل الأول) (رثاء وعديد)
[1] – المقتطف من كتاب “رباعيات ورباعيات” (الطبعة الأولى 1979، والطبعة الثانية 2017) والكتاب متاح فى مكتبة الأنجلو المصرية وفى منفذ مستشفى دار المقطم للصحة النفسية شارع 10، وفى مركز الرخاوى: 24 شارع 18 من شارع 9 مدينة المقطم، كما يوجد أيضا بموقع المؤلف www.rakhawy.net وهذا هو الرابط.