الرئيسية / مجلة الإنسان والتطور / عدد يناير 1984 / يناير 1984- التفسير “الدوائى” للفكر “الطبنفسى” الحديث

يناير 1984- التفسير “الدوائى” للفكر “الطبنفسى” الحديث

التفسير “الدوائى” للفكر “الطبنفسى” الحديث

(حول مفهوم الانسان … والتداوى النفسى)

يحيى الرخاوى

من خواطر رحلة “الشهر واليوم”

حين كنت فى رحلتى الأخيرة (والأولى) إلى الولايات الأمريكية (!)، كان يراودنى حلم غير محدد المعالم، وهو أن أجد شيئا آخر يفيقنى من أوهامى، وآمالى معا : أوهامى التى تدور حول أن فرع تخصصى (الطب النفسى) يسير فى غير الاتجاه الصحيح نتيجة لألعاب اقتصادية سرية ومعلنة = تمثل جزءا من مخطط خطير يساق اليه انسان العصر بوعى أو بغيره : نحو تدهور منظم، لحساب تفوق وتسلط قلة من “أصحاب المصلحة” الذاتية المحدودة، وآمالى : أن هذا الطب النفسى هو نافذة مضيئة ترينا طبيعة مسيرة التدهور، وبالتالى: امكانية عكسها الى ضدها، أى امكانية تعديل المسار الى “الفوق” و “الأمام” و “الكلى”.

وفى افتتاحية العدد الماضى اعلنت أنى فشلت فى تحطيم آمالى بسبب ما احاطنى من يأس وما شعرت به من ضآلة، وهأنذا آعلن فى هذا المقال فشلا آخر فى أن أحطم ما كنت أحسبه أوهامى الخاصة حول ما يجرى لتخصصى وبسببه، ولابدأ من البداية :

* * *

فور وصولى الى مانهاتن[1] استقبلنى أحد زملائى الاصغر (طلبتى) من المتخصصين فى فرعنا هذا، ودعانى – فورا – الى احد مطاعم الأكل السريع الرخيص التى تقدم اليك الطعام “على الواقف” أو “جالسا كالواقف” من مجموعة محلات “ماكدونالد”، واخذ زميلى يحدثنى عن انتشار مجموعة هذه المحلات بشكل متزايد، وكيف أن مالكها زنجى أمريكى.

شديد الذكاء، استطاع أن يقتحم معدة الأمريكى العادى، وأن يوفر له الوقت وحدود الاختيار، مستعملا ارخص الأيدى العاملة من الزنوج (وأرخص الزنوج من الطلبة والنساء)، وكيف أنه استطاع بذلك أن تتزايد قوته الاقتصادية، حتى يكاد يصبح “اللوبى” الثالث فى الدوائر السياسية التى يعمل الكونجرس لها ألف حساب، وكنت استمع له بفهم محدود وأنا أضع صلصة الطماطم المركزة (الكتشاب) على شطيرة (سندوتش) “ماك الكبير”، ذلك أنه بالرغم من غلبة الظن عندى كفلاح قادم من قرية مصرية، فأن أقصى ما يصل اليه ارتياب أبناء قريتنا هى أن يتصوروا أن فى الأمر “شيئا ما” (أنه : بتسكين النون) حين يتزوج كاتب وكيل النيابة ابنة المأمور، أما أن يصل الشك الى تصور أن زنجيا يبيع وجبات الأكل السريع يضغط على الكونجرس بجلالة قدره، فهذا شئ أكبر من ظنونى وريبة أهلى : فأخذت أستفسر منه فى دهشة قروية غير ساذجة = أنه اذا كان السيد ماكدونالد الزنجى هو اللوبى الثالث، فماذا عن “اللوبى” الأول و “اللوبى” الثانى؟ قال صاحبى بهدوء (وكأنه قد اكتسب الاستسلام والفرجة من “أميركى نموذجى” : “اللوبى” الأول أنت تعرفه(!)، والثانى هو شركات الأدوية بلا جدال – ولم أرد أن أتمادى فى الالحاح بالسؤال فيظهر جهلى صريحا : بما يحرمنى من الخيال والادعاء معا، فتصورت أن “اللوبى” الأول هو شركات السلاح، أو اسرائيل، أو يهود أمريكا بصفة عامة، أو أصحاب الصحف والبلايين : (وأحسب أن كل هذه الاسماء مترادفات)، ولكن الذى أوقفنى هو أن تكون شركات الادوية هى “كتلة الضغط” الثانية مباشرة على سياسة دولة مثل أمريكا، اذ كيف أن الشركات التى تقدم الدواء للحفاظ على صحة الناس وشفاء أمراضهم (!!) تضغط على  الكونجرس؟؟، تضغط عليه من أجل ماذا؟ ولمصلحة من؟

ولأنى لا أستطيع أن أتخلى عن طفولتى “وفلحى” بسهولة، فقد قفزت الى مخيلتى صورة استاذ اللغة العربية : يسألنا ونحن فى السنة الثالثة الالزامية (الابتدائية) اسئلة تقوى البديهة وتؤكد المنطق عن مهمة رجال البناء، فنجيب كالشطار : “أن يبنوا المبانى”، ثم عن مهمة بائع الحلوى،  فنفرح ونرد ونحن نتلمظ “أن يبيعنا الحلوى”، وبالقياس – حالا – فقد تصورت أن مهمة شركات الأدوية هى أن تساعدنا أن نتداوى : لنصح، ونصحو، فلماذا تضغط؟ ولماذا هى “لوبى” اصلا؟.

وقبل أن يقرصنى الاستاذ (زميلى الاصغر) من أذنى، أخذت أتجاوز سنوات طفولتى، وأجواء فلحى، بخطى سريعة رغم أنها غير منتظمة = لأستطيع أن أستنتج فى هدوء أنه يتحدث عن قوة ضغط اقتصادية تمارسها هذه الهيئات بما تملك من أموال = تحسن توظيفها فى لعبة السياسة ووسائل الاعلام معا، بغض النظر عن محتوى النشاط الأصلى، ولكن لابد أن هذا الضغط سيؤدى فى النهاية الى ترويج بضاعتها بشكل أو بآخر، فتزداد ثراء، فتزداد قدرة على الضغط، وهكذا .. وهكذا .. حتى …. = حتى ماذا؟ لم أعد أدرى : لأنى لو حاولت أن أدرى فسوف تزداد مخاوفى فأعلن : حتى نروح – كبشر – فى ستين داهية : فريسة للعب النووى.

لجمت خيالى، وفضلت الا أدرى، وتراجعت الى دائرة محدودة فيما يهم صاحبى وشخصى، فسألته : “اذا كانت شركات الادوية تستطيع ان تضغط على السياسة الامريكية يا صديقى، اذن: فماذا تفعل فى الاطباء زملائنا : فى الممارسة العلاجية اليومية وفا معامل الابحاث على حد سواء؟؟ – ولم يجب صديقى، وتصورت – لسبب ما – انه استنكر سؤالى، اذ يبدو أنه من السهل علينا أن نرى الضغوط البعيدة عنا، من أن نرى الضغط المباشر على مراكز عقولنا البعيدة عن تناول وعينا المرتد، ولعل هذا ايضا من حركات “اللوبى” الحاذقة كى تصبح المواقف الناقدة والثائرة مجرد رؤية “عن بعد”، قد تولد مخاوف مشلولة، أو على الأكثر : قد ينتج عنها “موقف فنى” عاجز، حيث هناك ضمان مسبق الا تتعدى هذه الرؤى مرحلة الفرجة الى مراحل المواجهة فالرفض بالكف.

لكننى شخصيا كنت قد ذهبت الى “هناك” أملا فى أن أعيد حساباتى بشأن ما يتصل بتخصصى المحدود، وهذه هى الفرصة، ولا بأس أن تكون نتيجة اعادة الحسابات هى تأكيدها، حيث تجسد أمامى تأثير هذه  الشركات فى فرع تخصصى (الطب النفسى) مداواة وتنظيرا، وما يترتب على ذلك من تغير نظرتنا الى ما هو انسان فى “مسيرته ومصيره”.

واليكم ما كان :

***

عصر الدواء النفسى:

لا شك أننا نعيش فى عصر “الدواء النفسى” فيما يتعلق بمداواة المرض النفسى أساسا، وما يتفرع منه تباعا، فمنذ ظهور عقار اللارجاكنيل حول سنة 1950، ودور العقاقير يتعاظم (أو يتفاقم) فى مداواة المرض النفسى، وقد بلغ الحماس لهذا الاتجاه مبلغا لا أشك فى أنه أفاد المرضى والاطباء على حد سواء، فأطلق سراح كثير من المعتقلين صحيا نتيجة لهياجهم، أو هياج أفكارهم المعلنة الشاكة المشككة، ولكن يبدو أننا – الاطباء – تحت تأثير “ما” قد استحلينا الحكاية، فتمادينا فى تعبئة المرضى بهذه العقاقير طول الوقت، ناسين بالضرورة طبيعة المرض الدورية المتناوبة من ناحية، وطبيعة المخ النشطة المتعددة المستويات من ناحية أخرى، وآظن أن عوامل كثيرة تداخلت لتبرر هذه الاغارة الدوائية على أمخاخ البشر التى تجرأت فنشطت بطريقة مخالفة للمألوف، وكنت أحسب أن ما دفعنا الى هذه المبالغة عاملان اساسيان :

العامل الأول : يتعلق بنا (الاطباء) كبشر محدودى القدرات، من حقنا أن نحمى أنفسنا فى مواجهة الاختلافات “بالتعرية”، الأمر الذى يهددنا به المريض النفسى / العقلى [2] طول الوقت، وأتذكر ذات مرة : حين دخل على مريض قديم يعالجه أحد زملائى الاصغر تحت اشرافى، دخل على وهو يمسك بيده أحدى كتاباتى التى أتحدث فيها عن “الكون الأعظم” والاتجاه الى التناسق معه فيما يسمى “الايمان”، واذا به يقول لى : الن تكف عن هذا “التخريف”؟ ماكونك الاعظم وربك هذا الا عضو جنسى كبير، و …. و “سلامتك” (!) وانصرف مسرعا – ولم استطع أن أخفى عن  نفسى قشعريرة خوف، وهياج رفض، وميل شديد الى توصية زميلى الاصغر بالاسراع  فى “علاجه”، ودعوت على “فرويد” (هذا العبقرى العدوانى الخائف) أن يجازى بما أفسد به عقول التفكير فيما قاله مريضى رغم كل سلبياته (المريض) واعتماديته وتناثره المهدد، وفى تلك اللحظة : عذرت زملائى الذين يسارعون باغلاق باب مثل هذا التفكير المهدد بفقد التوازن، وذلك باطفاء لهيب مصدره بالاسراع فى اعطاء مركبات الكيمياء الحديثة للمريض، ثم يتضاعف الخوف فيستمر الاعطاء “طول الوقت”.

خلاصة القول : ان التمادى فى اعطاء العقاقير هو حماية لنا (الاطباء والأهل فالمجتمع الأوسع) “طول الوقت” مما هو ليس كذلك، مما هو ليس “نحن” (كما ارتضينا خوفا)، مما هو نحن الأعمق والتمس العذر : فأقول فى نفس الوقت : ان من حقنا على انفسنا – فى البداية على الأقل – ان نفعل ذلك، ولكن أن تمتد البداية فتصبح هى النهاية فهذا هو الخطر الأكبر ويا فرحة شركات الدواء، اذ المفروض أن يعقب البداية الخائفة تدريب منظم يهدف الى تعليم الطبيب الممارس كيف يتحمل الاختلاف، ويتقبل التناقض، ويصبر على المواكبة، لكن يبدو ان الطب النفسى الاحدث قد كف عن الانتباه الى ضرورة هذه التربية الطويلة المنظمة التى تساعد على تخطى هذه المرحلة الأولى الخطرة، واحل محلها تدريبا على رصد جزئيات السلوك الظاهرة، وضبط جرعات ما يمحو شذوذه، استجابة لتفسير المرض النفسى بنظريات وفروض كيميائية تبرر هذه الاغارة الدوائية.

وهنا يقفز العامل الثانى والأهم، وهو دور شركات الادوية فى تدعيم هذا التفسير والترويج له، وقد ظل هذا الشك يراودنى وأنا أتساءل عن التدهور “العلمى” المنظم الذى ننزلق اليه باتباع ما يسمى ظلما “النموذج الطبى” Medical Model للمرض النفسى، على اعتبار أن هذا النموذج الطبى هو الذى يتبع الترتيب  المنطقى القائل :

سبب (جرثومة أو ورم أو تهتك خلوى أو اضطراب ايضى … الخ) — خلل خلوى – عجز أو تشوش وظيفى –> تشخيص –>اعراض –>دواء (أو اجراء جراحى) يصلح الخلل السببى –> شفاء

ويشتد الحماس لهذا “النموذج” بشكل متواتر بين اطباء النفس حتى يصبغ تفكير الجميع (تقريبا) مما يستتبع أن يزهو به بعضنا أمام زملائنا المختصين فى الفروع الأخرى، وكأننا نقول: “وهكذا .. (!!) فنحن – ايضا – اطباء” نقول ذلك رغم أن الاطباء فى الفروع الأخرى يحاولون التخلص من ضيق أفق النموذج: السببى / الخطى المسطح” حتى جراحوا السرطان يعرفون كيف يتدخل “الهارمونى” الاشمل للجسم والعقل والكون فى الحد من سرعة اغارة الخلية المجنونة.

محاولة فاشلة للحد من الشك :

ويذهب بى الظن الى الاعتقاد بأن تضافر هذين العاملين (خوف الاطباء من المرضى، ومصلحة شركات الدواء) قد اديا الى ما آل اليه موقف الطب النفسى الاحدث، ولكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل تمادى خوفى الى ان تصورت أن مصلحة شركات الادوية وقوة تأثيرها قد لا يقتصران على القرار السياسى الاقتصادى الخاص بالتصدير أو التسعير أو التصنيع المتلعق بمنتجاتها، بل قد يمتد الى الفكر الطبنفسى، ثم الى البحث العلمى النفسى فى الصحة والمرض، واخيرا الى “مفهوم” الانسان ذاته.

قيل وكيف يمكن ذلك؟

قلت هاكم تسلسل ظنونى :

ولكنى أحب أن اعترف ابتداء انى احاول دائما أن أقاوم هذه الظنون المنظمة، وذلك بأن استبعد أن يكون المكسب المادى وشبق السلطة كافيين أن ينحرف أصحابهما بمسيرة العلم الى الاتجاه “المطلوب اثباته” لصالح قرش أو سلطة فى يد فئة معدودة على حساب ما هو بشر، وما هو تطور، وما هو ابداع، واتذكر نفس التخفظات التى كانت تراودنى حين يذهب اصدقائى من الشيوعيين يفسرون السياسة الامبريالية من منطلق رغبة شركات السلاح فى التسويق، وكنت – حينذاك – لا أتصور (مجرد تصور) أن يكون ثمن دم الانسان – أى انسان – هو ثراء ثلة، أو سيطرة طبقة، فكنت أتهمهم بالمبالغة والشعور المنظم بالاضطهاد … و … ولكن ..

لكن يبدو أن هذه التحفظات والاستبعادات المنطقية لم تعد تكفى، ويبدو – فعلا – أن ثمة نفرا من البشر قد تشوهت طبيعتهم البشرية حتى انفصلوا عن نتاج فعلهم، فصارت حياة الانسان لديهم لا تساوى مجرد التفكير فى الحفاظ عليها وسط سعار السلطة والثروة، فاذا كانت ضحايا شركات السلاح هى أرواح البشر، فان ضحايا شركات الدواء النفسى هى ابداعات البشر بما يشمل ضمنا تشوه مفهوم ما هو انسان.

وكيف كان ذلك؟

تضاءل نشاط شركات الادوية بعد القضاء على الامراض المعدية، والاقلال من العلاج بالدواء وتفضيل الوقاية بالاساليب الطبيعية، مثل الامتناع عن التدخين وممارسات الجرى المنظم والنشاط الطليق  (Aerobics)- فكان لابد للشركات أن تبحث عن بدائل من المنتجات التى تلائم سوق الامراض المستحدثة، وقد وجدته فيما يسمى المرض النفسى (الحديث)، وكان هذا المرض قد استشرى نتيجة لتدهور مواز بعد أن تباعدت المسافة بين البشر “المتحضر”، فزادت الوحدة، وزادت الأوهام، وزاد اليأس، وزاد الاغتراب.

فى نفس الوقت : أصبح اعتماد الانسان (الغربى ابتداء، ونسخته المشوهة فى العالم النامى) ليس على اخيه الانسان (نتيجة لأوهام الاستغلال الفردى والغزو الوجودى الذاتوى) ولا على الله (هارمونية الانسان مع الكون الاعظم، وامتداد الاصل الى المصير) بعد أن ضربت هذه العلاقة فى الغرب المتقدم : بالمادية والتصنيع والعلم المجهض، وفى الشرق المتخلف: بالاغتراب والجذب والاستسلام القدرى، بعد هذا وذاك اصبح اعتماد الانسان (موهما نفسه بالحرية والاستقلال) على الألة والكيمياء فى صورة الكحول والمخدرات والعقاقير النفسية، فى هذا الجو الذى فرض على الانسان الفرد العزلة والاغتراب ظهرت صورة واعدة لما هو طب نفسى وعلاج نفسى تغرى بأن تملا الفراغ الناتج عن الوحدة المتسببة عن قطع الاتصال الطولى والعرضى، فبدأنا نسمع عن العلاج النفسى “كصداقة” معروضة فى سوق التواصل الحرفى البشرى، وعن دور “الحكيم الطبيب”، وعن نمو بشرى صناعى على اريكة (تحليل نفسى) تعويضا لبرودة معامل التفريخ البشرية فيما يسمى “بالتربية الحديثة”، وظل هذا الدور الواعد للطب النفسى يلوح للانسان المعاصر بالأمل حتى حدث هذا “الانحراف” الاخير نتجة لالتقاء ورطة شركات الدواء مع ميل  الانسان المعاصر الىاليقين بوهم الحرية بالاعتماد المطلق على الكيمياء والآلة دون البشر، فعقدت صفقة سرية خبيثة بين الطرفين، كان نتاجها ما نحن فيه الان : فمن ناحية : تولى علم النفس والطب النفسى مهمة صياغة “النموذج الصحى” لما هو انسان، وتراجعت الفلسفة عن الاسهام فى هذا المجال، اللهم الا بين قلة محدودة من المفكرين المنعزلين عن ايقاع الحياة اليومية [3]، فراح علم النفس يرجح الاهتمام بما هو سلوك ظاهر، أو بما هو سبب ماض، وتصور علم النفس انه بذلك قد اعفى نفسه من مسئولية الخوض فى “متاهات”، وراح الطب النفسى يتبنى الاعتقاد فى أن الانسان ليس سوى تركيب كيميائى معقد، وأن عواطفه وانفعالاته ليست سوى التعبير المباشر عن نقص هذه المادة أو زيادة تلك، وأن فرط هذا المركب أو نقص ذاك هو السبب للاضطراب أو الانطلاق (!!‍‍‍‍‍‍‍) وبالتالى فالاصلاح (العلاجى) لا يأتى الا بتعديل هذه النسب الكيميائية الى سوائها المفروض، وهكذا تصور الطب النفسى أنه قد عاد الى “حظيرة” الطب بعد أن كاد أن ينفى منها جزاء استعماله لغة “انسانية” غريبة.

ولم يقتصر هذا الموقف على تسطيح مفهوم الانسان فى الموقف المرضى فحسب، وانما امتد الى اعلان نوع الحياة التى ساقتنا اليها قيم “السوق” و “الشطارة”، فمن اجل ان يكسب “لوبى” الدواء مالا كثيرا وأرض ضغط واسعة : استطاع أن يختزل الانسان الى هذه الدمية الكيميائية المضحكة، وينتج عن ذلك ان يستعمل اصحاب المصلحة الاكبر هذه الدمية فى اغراض لا يعلمها هو، بل انى اشك احيانا فى أن يكون القائمون على شركات الادوية مدركين مدى خطورة ما سخروا من اجله، وكأنهم يقومون بدور مرسوم كجزء من آلة متعاظمة الضخامة لم يعد فى الامكان تحديد من يديرها، أو حتى من يملكها، ناهيك عن المستفيد من نتاجها المرعب

نموذج للحياة المعاصرة :

فاذا تماديت فى التصور من موقع مشاهد عابر لقلت :

أن نموذج الحياة المعاصر السائد “هناك” (والمطروح علينا “هنا”) يقول :

انت حر – فلتستعمل حريتك التى منحناك اياها (بتخليصك من الغيب والمذلة للآخر) فى تحقيق رفاهيتك (الحسية حتما) –> وعليك أن تواصل تجنب كل من هو “آخر” حتى لا يحول دون رفاهيتك، ولكن لابد ان تستعمله، وفى مقابل ذلك دعه يستعملك – لكن دون علاقة فاذا احتدت عليك الوحدة : تأكدت لك حريتك أكثر –> واذا لم تنجح وحدك فنحن فى الخدمة – هذا هو الرحم المخدر –> نم فى حصنه لتصحو أكثر وحدة، أعنى أكثر حرية – ولا يهمك

والرحم المخدر – كما أشرت قبلا – هو الكحول والمخدرات والعقاقير النفسية، وما يخصنى فى هذه الخواطر هو  العقاقير النفسية وأثرها على تخصصى وانسانيتنا.

التأثير على البحث العلمى :

والابحاث العلمية (فى مجال الطب النفسى وما اليه من علوم) توجه فى العالم كله الى خدمة هذا المفهوم المختزل للانسان، فشركات الادوية مستعدة لأن تنفق ملايين الجنيهات (فى اى مكان فى العالم) على أبحاث بذاتها تؤكد المفهوم الذى ترمى اليه، مع ازاحة ضمنية لأبحاث قد تهدد تسويق منتجاتها، ومثال ذلك :

  • فهى ترحب بالابحاث التى تركز على تشخيص المرض بجزئيات السلوك [4] مزيحة بذلك الابحاث المعنية “بمعنى المرض” و “غايته” ودلالته – وبذلك تختفى الصحية الثورية التى يحملها المرض فى طياته بين ثنايا التفاصيل الظاهرة.
  • وهى تمول الابحاث التى تركز على ضعاف العقول وكبار السن، فتروج لنا استيراد نوع من “الرحمة المعلبة” مزيحة بذلك الابحاث المعنية بوسط العمر الذى هو سن تفجر الابداع المسئول وبهذا يتم التركيز على “كم” الوجود البشرى العاجز، وليس على عطاء الوجود البشرى المبدع والناضج، وبهذه الازاحة للطاقة البحثية يطمئن السادة الى سيادتهم بحسابات الحالة الراهنة، والالة الجاثمة.

(جـ) وهى تحفز الاهتمام بالأبحاث التى تستغرق فى جزئ من اجزاء وحدات التركيب البشرى الاولية، مثل ابحاث المشتبك العصبى ومواد النقل النيوروهرمونى  NEUROTRANSMITTERS عبره، وذلك بديلا عن الابحاث التى تعنى بكلية وشمول الكيان البشرى، وكيفية استيعابه لهذه الجزئيات فى علاقته بالآخرين … فالكون، ومن أخطر نتائج مثل هذه الابحاث : هذه الموجة الاملة السائدة بين بعض العلماء وكثير من العامة حول الامل فى اكتشاف تفسير كيميائى مختزل للسعادة، واخر للذكاء، وثالث للذاكرة، وبالتالى تجهيز حبوب مناسبة لزيادة هذه الكميات “المخزنية” عند الافراد القادرين على اقتنائها (‍‍‍‌‌؟؟؟)

الاستدراج؛ والنشر، والاعلان :

والعلماء – بنفعية أو سذاجة (الله اعلم) – يبحثون فى “المتاح” وليس “فيما ينبغى”، فالبحث العلمى اصبح مكلفا ومرهقا، وأى بحث فى المرض النفسى، أو العلاج النفسى أو فى علم النفس هو بحث فى “الانسان”، ومع ذلك فأنه يبدو أن الذى يوجه هذه الابحاث ليس مصلحة الانسان ومستقبلة، وانما تجارة الدواء ورواجه، وهم يمولون الابحاث التى تعنيهم بطريق مباشر أو غير مباشر (راجع بداية المقال، وقوة ضغط شركات الدواء على الكونجرس مانح الاعانات)، ولا تقتصر ازاحة الابحاث الجادة الخلاقة واستبدالها بما هو “ثانوى” أو “كمى” أو “ساكن” على اهتمامات العلماء داخل المعامل، بل ان نتائجها (وهذا هو المراد) تنعكس على الممارسين فى شتى الاتجاهات : بدءا بالطب النفسى، والمجلات العلمية الشائعة لا يملؤها الا نتائج هذه الابحاث، والممارس القارئ – غير الباحث – يستقى معلوماته من هذه المجلات العلمية، بل وكثير منا قد يميل الى تصديق ما جاء بالمجلة العلمية مكذبا “به” ما يراه رؤى العين فى ممارسته الاكلينيكية اليومية، لدرجة تجعلنا نستنتج نوعا من الوصاية على التفكير الاكلينيكى المبدع، وحجرا على الخبرة الحقيقية المباشرة، هذا، فضلا عن أن صدور المجلات العلمية ذاتها هو مرتبط بالاعلان عن العقاقير بشكل عصرى يظهر هذه العقاقير المستحدثة وكأنها نوع من الصابون ذى الرائحة المتيزة، أو كأنها نوع من الجوارب النسائية “المرنة” اللذيذة .. الخ، وقد يؤكد القائمون على هذه المجلات أنه لا علاقة بين الاعلان عن عقار “ما” فى صفحات منفصلة محدودة، وبين ما ينشر داخل المجلة من ابحاث جادة مستقلة، الا أن هذا كلام قد يسمع له من أى واحد الا ممن يشتغل بالعلوم النفسية التى من صلب اختصاصها حيل الاعلان ومداخله ([5]) .

وهكذا يمكن أن نتصور امكان ان يكون البحث العلمى فى حالة استدراج الى ما ينفع هذه الشركات، وأن تكون المجلات العلمية المختصة بهذا الفرع لا تصدر الا بموافقة هذه الشركات وفى رحابها، ويمكن على هذا أن ندرك الى أى مدى تتأثر الممارسة العلاجية (الاكلينيكية) بهذا الذى يحيط بها من كل جانب.

مفهوم الانسان، وموقف من الوجود :

وكما قلنا فأن الأمر لا يقتصر على انحراف سبيل المداواة فى فرع تخصص بذاته، بل ان الخطر يمتد الى تغيير مفهوم الطبيب نفسه عن كنه الانسان وتركيبه، وهنا تثار قضية الموقف المتعادل للطبيب، وما يقال حول عدم تدخل معتقدات الطبيب الشخصية فى العملية العلاجية، فكل من مارس العلاج بأمانة المسئول ووعى اليقظ يعلم استحالة انفصال الطبيب عن مفاهيمه الشخصية المعلنة والخفية (حتى عن نفسه) على حد سواء، وكذلك استحالة انفصال هذه المفاهيم عن التأثر بمجتمعه والتأثير فيه، فاذا تذكرنا أن العلاقة بين المريض والطبيب لا تقتصر على “ما يقوله” الطبيب من الفاظ، أو ما يعطيه من عقار أو ما يستعمله من وسائل فيزيائية، وانما هى تمتد الى التواصل غير اللفظى، والحوار البيولوجى بين كيانات مواجهة، والصراع الجدلى الكامل بكل معنى الوجود، اذا تذكرنا كل ذلك تأكدنا أن ادعاء الموقف التعادلى هو اخطر على المريض من اعلان التحيز وتحمل مسئوليتهن ولا أعنى باعلان التحيز ان يفرض الطبيب على مريضه محتوى معتقد دينى او سياسى محدد، فهذا وذاك مجرد سطح لجوهر غائر، وانما اقصد ان مفهوم الطبيب (بمعنى نوع وجوده قبل ظاهر فكره) عن “ما هو انسان” وما هو “حياة” وما هو “مصير”، هو الذى يهم فى العلاقة العلاجية ([6]) ، وبناء علىما اضطررت اليه من ايراد هذا الاستطراد نستطيع أن نخرج بعدة استنتاجات متتابعة تقول :

1 – يستحيل أن يمارس طبيب نفسى مهنته الا وهو يعيش، ويعايش (والى درجة أقل : يعتقد) “مفهوما ما” حول ماهية الحياة، وماهية الانسان، ومساره، ومصيره.

2 – ان المريض هو اضعف من يتلقى هذا المفهوم ([7]) من طبيبه، حتى لو لم يعلنه اى منهما.

3 – ان الاسلوب الاحدث فى التداوى – الذى تديره وتروج له شركات الادوية – يساهم فى تشكيل مفهوم “تجزيئى / اغترابى” عن ماهية الانسان، ومرضه، والطبيب النفسى فى ذلك مستسلم لعملية غسيل مخ منظمة يستحيل معها “وحده كفرد” أن يقف فى وجهها، اللهم الا اذا تخلى عن مهنته تماما، والهرب ليس افضل الحلول.

4 – ان شيوع هذا المفهوم التجزيئى / الاغترابى لم يعد يقتصر على ما ألت اليه مهنة الطب النفسى، بل هو ينتشر فى قطاعات أوسع فأوسع من المجتمع، بسبب هذه الممارسات الطبية الموجهة ([8]) كما أن الطبيب يتلقى دعما فكريا موازيا من نماذج سلوكية شائعة تنمى هذا المفهوم، وهى كل سلوك ينمى العزلة ويؤكد على السلامة الظاهرة للجسم والرفاهية الحسية الموقوتة ([9]) وكل من هذه القطاعات تغذى بعضها بعضا.

5 – بديهى أن شركات الادوية – ما دامت لها كل هذه القوى الضاغطة فى السياسة والبحث العلمى والنشر والاعلام – يهمها أن تنمى هذه المفاهيم الانعزالية الاغترابية فى كل مجال بلا استثناء.

6 – ان اسباب المرض النفسى بصورته المعاصرة تزداد تبعا لكل ذلك.

7 – ان تجارة الدواء تنتشر وتزدهر، ويتوارى فى مقابلها أى علاج جذرى آخر، وبالتالى يخفت صوت المفاهيم الاعمق والاشمل.

فشل الحركة المضادة :

وكل هذا، أو أغلبه، ليس جديدا تماما، وانما أعدت الكتابة فيه لاركز بوجه خاص على النقلة الخطيرة من الممارسة الاكلينيكية الى المجتمع الاوسع، وقد أدرك هذه العلاقة من قبل رواد ما سمى بالحركة المناهضة للطب النفسى    ورغم البدايات الطيبة لهذه الحركة الا أنها تمادت فى الرفض حتى بدت وكأنها دفاع عن المرض، أكثر منها هجوما على السيطرة الدوائية والتجزيئية، فكانت النتيجة التى آلت اليها أن تحولت الى حركة سياسية محدودة الاثر، أو تجردت الى حركة فنية ترسم ولا تغير، تورى ولا تدفع، بل ان فشلها العلاجى الذريع قد برر نشاط شركات الادوية ومفاهيمها أكثر فأكثر، لأن نتائج تدهور المرضى الذين خدعوا نفى شعارات هذه الحركة كانت أكبر من كل دعاية، بل أن نتائج تدهور الحالة العقلية لأطباء نفسيين انتموا إلى هذه الحركة، وسمحوا لأنفسهم بالمرض الصريح ثم تدهوروا، قد أضافت إلى رصيد شركات الأدوية ما لم يكن فى حسابها، وهكذا خدمت هذه الحركة – من حيث لا تدرى – أعداءها، ومع ذلك، فإن الصدق الكامن فى مفاهيمها ما زال باقيا رغم فشل التطبيق، وبالتالى فهو ما زال مثيرا لمحاولات جديدة تبدأ نفس البداية ولكنها تحذر من نفس النهاية، فتغير أسلوب المواجهة وخطوات التطبيق.

وهذا بعض أهداف هذا المقال.

التحليل النفسى:

ولم تقف هذه  الحركة المناهضة وحدها فى وجه الإغارة الدوائية التجزيئية، فقد كانت هناك “دائما” حركة التحليل النفسى خاصة (والعلاج النفسى عامة)، وما زال التحليل النفسى يغرى بالممارسة، حتى فى شكله التقليدى القديم: أريكة، وتداع حر، وعدة مرات أسبوعيا، وسنوات طويلة، وهو بهذه الصورة لا يسمح للمحلل النفسى أن يعالج أكثر من بضعة عشر حالة جديدة فى العالم الواحد، وبحسابات السوق فلا خطر منه إطلاقا على تجارة الدواء، بل أنى أتصور أن ذكاء هذه الشركات قد يسمح لها بأن تنمى هذه الممارسة التحليلية التقليدية لأنها بذلك تمتص كثيرا من القوى المناهضة فيما لا ينافسها، كما أن التحليل النفسى فى أغلب ممارساته ما زال يركز على المرضى العصابيين دون الذهانيين، والنوع الأخير هو الذى يستهلك أطنان المهدئات العظيمة Major tranquilizers، أما النوع الأول (العصابيون) فأغلبية لا يذهب إلى المحلل النفسى (فتعداده قد إلى 20% من مجموع السكان)، ولكنه يقتصر على استشارة سريعة، أو بدونها، فيذهب إلى الاعتماد – بعد الكحول – على سيل لا ينقطع من المهدئات “اللطيفة (!!)” Minor tranquilizers.

وهكذا تكسب شركات الدواء فى كل حال.

فإذا عدنا إلى ممارسات العلاج النفسى البسيط (غير التحليلى) بالمعنى الأوسع، فإننا نجد أنها أصبحت دعما للعقاقير بعد أن كانت العقاقير هى التى تدعمها، بمعنى أن المريض يعالج أساسا بالعقاقير، وحين يهتم الطبيب بتنمية العلاقة بينه وبين مريضه (علاج نفسى) فأنه يفعل ذلك لمجرد أن يتمكن من الاستمرار فى إعطائه مزيدا من العقاقير، مع أن بداية “الاتفاق العلاجى” لابد وأن تحمل تصور أن المريض يعالج أساسا بالعلاج النفسى بهدف (أ) تحوير موقفه من الحياة، (ب) وتآلف مكونات شخصيته، (د) وإطلاق طاقات إبداعه، وأن العقاقير تستعمل “أحيانا” فى فترات مآزق “النمو العلاجى”([10]) أو فى فترات التناثر المحتمل أو الواقع ، ثم تخف تدريجيا، ويستمر العلاج الأصلى، أقول: انقلب الحال – بضغط لوبى الأدوية – وأصبح العلاج النفسى – من الأطباء – وكأنه “مندوب دعاية” يحبذ السلوكيين المنهجيين وبعض المحللين – فقد أخذ شكل النشاط الاجتماعى الهامشى متجاوزا بيولوجيا الوجود البشرى بلا مبرر، وبصفة عامة فأنه لا يعتبر منافسا حقيقيا فى سوق تجارة الدواء.

التحدى المتربص:

إذن : لم يبقى فى الميدان من منافس حقيقى لتجارة الدواء النفسى إلا قوتين: العلاج التناسقى (الكهربائى والكيميائى) Synchronization therapy والعلاج الجماعى وعلاج الوسط Group therapy & Milieu therapy، ويبدو أن تجار الدواء قد انتبهوا تماما لخطورة العلاج الكهربائى كمنافس حقيقى فأخذوا يشوهونه بالاسم مرة (صدمة)([11] )وبالمبالغة فى المضاعفات مرات، ورغم ذلك فقد عاد يتبوأ مكانه كما ينبغى، وأن كان لم يخط بعد إلى التكامل الحقيقى فى رحلة المواكبة مع نبض الإنسان النموى (وعكسه) فى مسيرة الحياة قفزا وتراجعا، كم لم تأخذ المنظمات الكيميائية المؤقتة حقها فى البحث والدراسة كبديل أخف من الصدمة، أما عن المنافس الآخر وهو العلاج الجماعى، وبالوسط، فيكمن تهديدهما للدواء فى أنهما يعالجان “بالجملة” ([12]) ، ولا تظهر شركات الادوية خوفا حقيقيا من هذه الممارسات باعتبار انها تحتاج الى تدريب طويل شاق، والاطباء (مثل غيرهم) يستسهلون الاعتماد على الآلة والقرص بدلا من الحفر فى داخلهم أثناء التدريب، كما أن التجارب السابقة تطمئن الشركات الى احتمال أن هذه الاتجاهات قادرة على أن تحطم نفسها بنفسها مثلما فعلت الحركة المناهضة للطب النفسى، وذلك لأن الوسط العلاجى “الخاص” (والجماعة العلاجية كذلك) يغرى بخلق مجتمعات صغيرة بديلة عن المجتمع الأوسع، فسرعان ما تنفصل عنه رويدا رويدا ولا تعود منافسة فى السوق الكبيرة التى يمثلها المجتمع الأشمل، ويمكن – اذن – لشركات الدواء أن تشطب هذه المجتمعات العلاجية الخاصة من حسابها أصلا.

والأمل جد بعيد (لكنه موجود) فى أن تنتبه هذه الممارسات المنافسة الى خطورة العزلة، وأن تصر على أن تصبح بمثابة “محطات مؤقتة” لاعادة النظر، أو مرافئ ثابتة للتزود بالطاقة والتنظيم، وتلتزم طول الوقت بأن تصب فى  المجتمع الأوسع تكيفا وتعديلا .. وهنا – كما أتوقع – سوف يفتح النار عليها، ويلتقط “حادث” من هنا ومضاعفة من “هناك” لتشويه دورها وشجبها والتشكيك فى أيديولوجياتها، تحت زعم حرية مسلوبة، أو بالتهويل من حادث انتحار عابر، وكأن دعاية الشركات تنظم جذب الانتباه الى موت فرد عجز عن المرور من المأزق الحياتى التى هى مسئولة ضمنا عن تفاقمه، بعيدا عن “القتل الخفى” المتسرب الى خلايا الجثث المتحركة ممن يرزحون تحت العقاقير المصلبة (بكسر اللام وتشديدها) لكل أشكال النبض الوجودى.

دبيب المراجعة :

ورغم كل هذا التحرك الهجومى، والتشويه المنظم لكل بديل، فثمة دبيب يسرى فى محيط الاطباء يدعو للمراجعة، فقد ظهرت مضاعفات الجهاز الحركى فيما يسمى “اللا توافق الحركى المتباطئ” Tardive Dyskinesia ، وبدأت تتوالى مساءلات “أخطاء المهنة” التى لم تكن فى حسبان هذه الشركات، والتى لن يعفيها (الا من المسئولية العاجلة) أن تعدد فى الوريقة المصاحبة للدواء أنواع المضاعفات المحتملة، لأنه فى نهاية النهاية، ومع تعدد التعويضات، سوف يتراجع الاطباء عن وصف هذه الأدوية، ولابد أن ينتبهوا ضمنا الى ما أسميته قبلا “اللاتناسق العقلى المتباطئ” ([13]) والذى عنيت به أن يصبح عمل العقل البشرى بطيئا مكررا متناثرا غير ذى فاعلية وبلا تلقائية رغم ظاهر استجابته المسطحة وطاعته المشبوهة.

نظرة محلية (شخصية) :

وفى مصرنا العزيزة، يجدر بى أن أفخر (فخر العاجز) بأننا لم نذهب بعيدا فى شوط لعبة الدواء والضغوط، وبداية : فأنه لا توجد احصائيات رسمية، أو أبحاث حقلية، تشير إلى حجم التداوى النفسى بهذه العقاقير فى مصر، وأن كان يمكن الحصول على حجم استهلاك هذه العقاقير عامة، حيث أن كمية استهلاك هذه العقاقير لا ترتبط مباشرة بالتداوى النفسى،  حيث تشمل كل وصفة طبية تقريبا عقارا أو أكثر من هذه العقاقير، فضلا عن تعاطيها المباشر دون وصفات أصلا ( [14]) وسأكتفى هنا بأن أذكر ملاحظاتى الخاصة فى خبرتى المحدودة بشأن موقف المريض النفسى فى مصر من العقاقير النفسية، بما يتعارض مع ادعاءات شركات الادوية وابحاثها :

1 – فمرضانا – عادة – لا يميلون الى كثرة عدد الادوية، ولا الى كثرة عدد الحبات التى يتناولونها فىالجرعة الواحدة.

2- وهم يتوقعون تأثير الدواء من أول جرعة، والا فهو غير ناجع حتما،

3 – واغلب مرضانا – بحكم العادة – لا يواظبون على شئ، فهم لا يواظبون – بالتالى – على جرعات الدواء كما ينبغى.

4 – وهم يرفضون – بشكل ما – الشعور المفتر، ويطلبون مع كل مفتر “فيتامينات” كمعادلة لمفعوله.

5 – وهم لا يحبون، ولا يقدرون على، الاستمرار على الادوية أكثر من بضعة اسابيع أو شهور على الاكثر، أما حكاية مدى الحياة فهذا ضد كل ما تعودوه.

6 – وهم لا يقدرون – ماديا ومواصلاتيا – على التردد المنتظم لضبط جرعة الدواء مما يترتب عليه أن يعتمدوا على الجهود الذاتية فى ذلك.

وعلى هذا، وفى حدود خبرتى الخاصة، فان توصيات شركات الادوية بأن أغلب الأدوية لا يمكن الحكم على مفعولها الحقيقى الا بعد الانتظام فى العلاج بضعة اسابيع: لا تصلح لأغلب مرضانا، كما أن الحاح هذه الشركات على الاستمرار “لعدة شهور” على الأقل هو أمر متعذر تماما مع مرضانا، ومع هذا وذاك فمرضانا يشفون بجرعات أقل وفى مدة أقل، وهذا لا يعنى أن مرضانا أقل مرضا من زملائهم بالخارج، وانما هو يكشف اتجاه شركات الدواء على التركيز على “كمية” التعاطى “وطول مدته” لأسباب “أخرى”.

ثم يأتى الزعم بسرعة عودة المرض اذا لم “يستمر” المريض فى التعاطى، ويظهر من التجربة فى بلدنا الفقير هذا ان عودة المرض ليست دائما مرفوضة، ما دام العلاج ممكنا فى كل مرة، وأن الخوف من عودة المرض هو نتيجة رعب الاهل أكثر منه شذوذا لطبيعة المريض، والأولى أن نملأ ما بين النوبة والنوبة بتحوير عملى فى السلوك وبالتالى فى التركيب الشخصى، بحيث تتحور النوبة القادمة دون خوف رهيب من مجرد عودتها، ونسيان المريض بين النوبات هو المسئول عن عودة النوبة بنفس الحدة، والحل هو أن نستعد للنوبة القادمة بما يمكن من علاج وقائى، لا لآن نحيط كل حركة حيوية بما يعوقها “طول الوقت” من عقاقير خشية شئ قادم ليس أسوا دائما مما نحدثه نحن اثناء توقعنا له([15]) وهنا يجر بى أن أنبه إلى الفرصة المتميزة التى يمنحها لنا فقرنا وتخلفنا، إذ أنى ما وصلت إلى تقرير مدى فاعلية هذه العقاقير إلا من خلال عجز مرضاى عن أن ينفذوا تعاليم الشركات والبحث العلمى حرفيا، وبالتالى علمونى – قصرا فى البداية – أن أعيد النظر فى كل ذلك، ثم بدأت أحور ممارستى بناء على ما علمونى اياه حتى نظمت موقفى، ورتبت شكوكى بهذه الطريقة التى أوردتها حالا، بل انى مع الممارسات البديلة التى اتحمس لها أكثر فأكثر، قد انتهيت الى مفهومى الدورى عن الانسان ([16]) من خلال فشلى ونجاحى فى ممارسات يرجع الفضل فيها الى القصور والفقر والملاحظة العنيدة.

الخلاصة :

واخلص من هذه الخواطر الطليقة الى عدة ملاحظات ادعو للتفكير فيها، بادئا بما هو عملى محدد المعالم ومنتهيا بما هو كلى متجاور :

1 – ان عددا لا يزيد عن أصابع اليد الواحدة من العقاقير زهيدة الثمن يمكن أن يساعد فى ضبط حدة المرض لاغلبية المرضى (فى تقديرى الخاص : أكثر من 90%)، وعلى ذلك، فأن اغراق السوق – وعقول الأول (وان أفادت بين الحين والحين فى اضافة عقار مستحدث له مزية خاصة).

2 – ان العلاجات البديلة التى يأخذ فيها الطبيب موقف المباداة ومسئولية الخطة العلاجية المتكاملة انما تسمح بمواكبة المسيرة الحياتية (البيولوجية) فى شكلها الدورى المتناوب، أكثر من الاعتماد على الاخماد المستمر.

3 – ان تغيير المفهوم الذى تروج له شركات الادوية عن “ما هو انسان” ضرورى وجوهرى، وهو لن يتأتى بتكرار الابحاث المضبوطة أو الاحصائيات المضللة، بل قد يتحقق بعودة الطبيب الى فن المداواة، وابداع الحياة فى ذاته ومرضاه  على حد سواء، لا يطرح وراءه الدواء، ولكنه يعطيه ويمنعه، ولا يخضع له هو ومريضه مغمض العينين تحت شائعات شبه علمية.

4 – ان تجنب استعمال العقاقير اصلا، أو الزعم بضرورة اطلاق سراح المرض منذ البداية هو فى نهاية النهاية دعم لادعاءات شركات الدواء، أما استعمال العقاقير بشكل مؤقت وحاذق لضبط جرعة “البسط الدورى المفرط” ([17]) فهو حتم علمى معاصر يستوعب ايجابيات البحث العلمى الأصلى قبل وصاية شركات الدواء وانحرافاتها.

5 – ان مفاهيم “الانسان” و “الحياة” و “المسار” و “المصير” ينبغى ان تتأكد، وتتولد باستمرار، من واقع القيم المتطورة فى مجالات النشاط الحياتى والفكرى فى أى موقع وكل موقف دون استثناء لابداع الايمان، وعطاء الفلسفة، والوعى الجماعى التلقائى للجموع دون تشويه فالموقف الدوائى العلاجى هو جزئ محدود، والتدهور الذى ادى اليه هو اعلان لتدهور عام، وفى نفس الوقت هو دعم لهذا التدهور العام، ولن تصلح الممارسة العلاجية السليمة فى مسار حياتى واقتصادى واجتماعى غير سليم، وفى نفس الوقت : لا ينبغى الاستسلام لما يجرى خارج نطاق المهنة، والانتظار حتى يتغير، فنتغير، وانما على كل ممارس استشعر الخطر أن يبدأ من موقعه، الآن، وليس بعد، مهما شق المسار.

خاتمة :

وبعد، فهذه خواطر “مسافر” أكثر منها حقائق “باحث”، وهى عندى ليست أقل من نتائج معاملة احصائيا، أعلن من خلالها أنه : لا طب  بغير موقف من الحياة، وأن الطبيب (النفسى خاصة) مسئول عما يأخذ وما يدع من معطيات العلم وشائعات التجارة على حد سواء، وأن المريض، وأهله من قبله، مساهمون (ولو بدرجة أقل) فى نشر  المفاهيم السلبية التى يحرص على تنميتها من يغتنم منها ما يريد، وأنه لا مفر من مواكبة “دورات الحياة” بشجاعة أكبر فى مجال الطب وكل مجال، مستعينين فى كل ذلك بالكيمياء والطبيعة والحكمة والايمان والابداع جميعا.

[1] – أفضل هذا التحديد عن اطلاق الجزء على الكل، والقول : “الى نيويورك”.

[2] – استعمل لفظ المريض النفسى أو العقلى كمترادفين طوال المقال.

[3] – رغم الصحوة المحدودة مؤخرا

[4] – مع ظهور دليل التقسيم الامريكى الثالث DSM III اجتاحت الابحاث اغارة كاملة من التعريفات العاملة مستندة الى تحديدات هذا الدليل التى تفخر بعدم ارتباطها لا ينظرية فكرية، ولا بمفهوم انسانى، وانما بسلوك يمكن الاتفاق على ابعاده، واعتقد ان هذا الدليل وسرعة انتشاره يمثل خطورة شديدة على فهم اعماق المرض النفسى، ويساعد نشاط شركات الدواء فى  التركيز على ظاهر السلوك على حساب طاقات الابداع وقدرات التواصل.

[5] – لعل هذا هو بعض ما دعى هذه المجلة منذ البداية أن ترفض مبدأ الاعلان والمعونة اصلا رغم الخسارة والمخاطر، وتذكرة بحيل الاعلان وخبثه يمكن مراجعة مغزى نشر اعلانات “شويبس” و “علف الشرق الأوسط” فى صحيفة الاهالى وشقيقتنا “أدب ونقد” “مثلا” … الخ.

[6] – قد يجد المتتبع لكتاباتى العلمية تكرارا فى هذا المقطع من المقال، الا أنى تعمدت ذلك للقارئ الجديد من ناحية، ولاهمية ارتباطة بموضوع المقال من ناحية أخرى.

[7] –  كما أن الطفل هو الذى يتلقى مفهوم والديه بنفس الضعف والاستسلام.

[8] – بفتح الجيم

[9] – مثل انتشار “الكاسيت الاذنى الصامت”، ورياضة “الجرى المنفرد” و “هوس” تنظيم الطعام (الرجيم) .. الخ.

[10] – Therapeutic Growth Impasses

[11] – تناولت هذا الموضوع فى مقال سابق فى هذه المجلة، وهو مكمل تماما لهذا المقال، وتوجد أجزاء مكررة فى المقالين ويستحسن الرجوع آليه لمن أراد أن يلم بمدى التنافس وحقيقته: الإنسان والتطور: ابريل 1982 “صدمة بالكهرباء.. أم ضبط للايقاع” ص 44-69

[12]– Cheeper by the dozen.

[13]– Tardive dysharmoniz mentalis.

[14] – يوجد اتجاه لتنظيم تعاطى هذه العقاقير فى مصر بضرورة عدم صرفها الا بوصفة طبيب، ولا أميل الى الحماس لهذا التنظيم، لأنى أعتقد أنهلن يقلل من الاستهلاك ولكنه سيزيد من ثمن التعاطى فحسب، ولا أحسب – بدون تغيير مفهومى شامل لما هو انسان وما هو تخدير – أن طبيبا سيمتنع عن اعطاء هذه العقاقير لمن يطلبها، اذ ان مجرد طلبها هو فى ذاته دليل ضمنى على اضطراب السائل بما يبرر احتياجه لها، كما ان خبرة المنع بالنسبة للكحول والحشيش ليست فى صالح فكرة المنع بالقانون، ولابد من حساب فقر الناس قبل اعلان مزيد من الوصاية.

[15] – للأمانة : استثنى من هذا الهجوم عقارا واحدا هو  أملاح الليثيوم، وهى أملاح تكاد تشبه ملح الطعام، وهى فى الاصل زهيدة الثمن سهلة التناول، حيث لم تقابلنى مضاعفات سلبية شديدة نتيجة لاستعمالها طويل المدى، وان كنت لم أوص باستعمال ابدا اكثر من عامين ثم أعطى فرصة للتوقف فالنظر، ومع ذلك فإن النظر فى مضاعفاتها على الكليتين والغدة الدرقية قد حد من المبالغة فى الحماس لها رغم كل مزاياها.

[16] – انظر المرجع السابق عن الصدمة الكهربائية.

[17] – باعتبار ان بعض نوابية المرض النفسى هى مجرد مبالغة فى حركة النمو النفسى (انظر التفاصيل ان شئت فى “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” – للمؤ لف – دار الغد للثقافة والنشر (1979) ثم تنتج عن هذا البسط المفرط أو عن محاولة منعه اغلب اعراض المرض وخاصة فى مرحلة البسط التى تتحرك فيها مستويات كانت كامنة ومتناسقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *