إعادة قراءة: مصطلحات شائعة
هذا الباب كان يصدر تحت إسم “الموسوعة النفسية”، إلا أننا راجعنا أنفسنا نتيجة ملاحظات زملاء التحرير الجدد، ووجدنا أنه أقرب إلى النقد العلمى منه إلى الجمع الموسوعي، فهو يتناول مصطلحا شائعا، سواء كان عرضا نفسيا ، أو ظاهرة، ثم ينظر فى طبيعته الأساسية ، وكذا استعمالاته التطبيقية، ثم يقرأ بحروف مطبوعة.
حرف الباء
بصيرة
البصيرة لفظ شامل محيط يشير إلى معرفة أعمق وأشمل بالذات أساسا، وإن شمل المعرفة عامة أحيانا، و فى الطب النفسى يستعمل اللفظ لتحديد مدى إدراك المريض لمرضه وطبيعته.
ولفظ البصيرة عموما متعلق بظاهرة أو وظيفة عقلية وجدانية، تتصل بالإلمام بأحوال الذات، فهى مرتبطة بكل من: المعرفة ، والدراية، والرشد، والحدس الصادق، بما يشمل طبعا الوعى والفهم والإدراك، ولذلك فإنه يصعب تعريفها إبتداء، بل إنه قد يكون مناسبا أن نصل فى النهاية فى هذه القراءة إلى تعريف مناسب.
ففى الوسيط: البصيرة: قوة الإدراك والفطنة، وأيضا: العلم والخبرة.
لكن ثمة إشارة إلى العقيدة والرأي، فيقال: فعل ذلك عن بصيرة، أى عن عقيدة ورأي، بل إن الأمر يتجاوز الرأى إلى الحجة، والعبرة (واللفظ الأخير أقرب إلى ما يسمى بالإنجليزية البصيرة فى الماضي، أو البصيرة للخلف Hindsight . وقد يكون مناسبا أن نطرح الإستعمالات العكسية جانبا، لأن هذه الاستعمالات تجعل البصيرة غطاء وليست كشفا، مثل أن البصيرة هى الستارة، أو هى كل ما اتخذ من جــنه، فهذه الإستعمالات العكسية لها قصتها فى تاريخ اللغة، وهى لا تنفى الأصل أى “الكشف” “والنظر بعمق فى..”.
وأحيانا تتصل البصيرة بالفعل حين يقال: فعل ذلك على بصيرة، أى عن عمد (لسان العرب)، وأحيانا ما ترتبط بالقلب، إذ جاء فى لسان العرب أيضا أن البصيرة هى: عقيدة القلب (وليس بالضرورة عقيدة العقل).
وفى الإنجليزية، يشير اللفظ المقابل insight إلى عمق ما، ورؤية داخلية فنلاحظ إستعمال تعبيرات مثل “الرؤية في” Seeing in أو الإلمام بـ” الطبيعة الداخلية للأشياء” inner nature of things .ثم إن البصيرة تشير أيضا إلى القدرة على معرفة الصفات الحقيقية للأشياء true nature .
البصيرة فى الطب النفسي
البصيرة فى الطب النفسي- تختص بقدرة الإنسان على فهم حالة مرضه فهما موضوعيا ، وعلى الإلمام بطبيعته ، وعلى استيعاب الظروف الملائمة للبرء منه.
وحين يحكم على أن مريضا عنده بصيرة كاملة فإن ذلك يعنى:
1- إنه أدرك أنه مريض
2- وأن مرضه مرضا نفسيا
3- وأن هذا المرض يحتاج مساعدة مهنية بطريقة علمية
4- وأنه يقبل التعاقد للمساعدة فى تنقيذ خطة علاجية ما، فى اتجاه الشفاء.
ومن البديهى أن هذا موقف مثالى يصعب تحقيقه وخاصة فى مجتمعاتنا المصرية والعربية، ويعتبر المريض محتفظا ببصيرته إذا حقق الشرطين الأولين.
وعادة ما ترتبط البصيرة بتمييز الحالة الراهنة، لكنها تمتد إلى المستقبل وتسمى بعد النظر، كما تشمل التعلم من الخبرة السابقة وتسمى البصيرة فى الماضي، حتى أن أنواع العلاج النفسى يطلق عليها إسم العلاج النفسى البصيرى لتحقيقها هذه الأبعاد، فهى ليست مجرد تفسير عقلاني، كما يساء فهم التحليل النفسى.
ويمكن إيجاز أهم مظاهر وأنواع إضطراب البصيرة(1) كما يلي:
1– إنعدام البصيرة: وهنا ينكر المريض أنه مريض أصلا.
2- الاضطراب الجزئى للبصيرة
ويمكن تصنيفه كالتالي:
ا- الإقرار بالمرض دون اقتناع حقيقى: وقد يكون مثل ذلك لإرضاء الأهل أو الطبيب أو للتخلص من الموقف، أو التعرف عن “ماذا بعد “ويتحقق عدم الاقتناع بالتوقف عن التعاون منذ البداية، أو فشل الامتثال للخطة العلاجية مبكرا.
ب-الإقرار بالمرض ولكن مع تبريره بما لا يقبل المناقشة: مثل لوم الآخرين أو تأويل ظهوره بأسباب لا يمكن إزالتها.
جـ – الإقرار بالمرض مع عدم الامتثال ، أى مع عدم إتباع التعليمات المؤدية للتحسن أو الشفاء.
ء – البصيرة الانتقائية: وهنا يبدو المريض حاد البصيرة ولكن فيما يتعلق بجزء دون الآخر من المشكلة ، فقد يقر أن أفكاره ليست واقعية ، إلا أن ما يترتب عليها ضرورى لحمايته ، أو قد يقر أن مرضه يضر أسرته ولكنه لا يقر أن ذلك يتطلب علاجا أصلا ،
3- البصيرة الكاذبة: (بلا فاعلية)
قد يقر المريض أنه مريض، بل يتمادى فى شرح أعراض مرضه وضرورة علاجه، وأحيانا بعض عوامل إمراضه، أى أنه قد تصل رؤيته إلى حد تأويل صحيح -علميا- لطبيعة تكوين أعراضه، وحتى غايتها، ولكن كل ذلك دون أن يصاحبه أو يتبعه أى دافع للتغيير أو حفز للتعاون ، وتسمى هذه البصيرة أحيانا البصيرة المعقلنة ، Intellectualized وهذا النوع من البصيرة قد يخدع الطبيب من ناحية ، ثم إنه قد يكون عائقا حقيقيا لاكتساب بصيرة دافعية موضوعية، والبصيرة المعقلنة نقابلها خاصة فى بعض حالات الشخصية الشيزيدية وأحيانا فى الحالات المتبقية من مرض الفصام أو الذهان عامة .
وقد يصل كذب البصيرة إلى درجة التمويه المزدوج: حيث يقر المريض بوجود أعراض ما على أنها مرضية وهو يخفى بذلك الأعراض الأخطر والأهم، حتى لو كانت نفس الأعراض، ولكن لحضورها الحقيقى دلالة أخرى. ومثال ذلك أن يتصنع المريض أنه مجنون ليخفى جنونه الحقيقي، فإذا بدا عليه التصنع وخدع فيه الطبيب فإن الطبيب هو الذى سيقرر أنه يتصنع ، وبالتالى فهو غير مجنون، وهكذا يخفى مرضه الحقيقى.
ولا بد من الانتباه إلى مثل ذلك فى مواقف التقييم فى الطب الشرعى النفسى لتحديد المسئولية
4- إستعمالات أخرى لكلمة بصيرة: (وخطأ استعمال اللفظ)
ا- بصيرة فرط الدراية ( فرط الرؤية – فرط الانتباه للداخل):
يتعلق هذا النوع من البصيرة بما يتصف بعض المرضى الذهانيين خاصة فى بداية المرض، وأيضا بعض المبدعيين من حدة فى الوعي، وعمق فى الإنتباه، وهنا تشتد الدراية لدرجة أن يصف المريض بداية التغيير وطبيعته وطريقة تكوين الأعراض، وذلك بدرجة من الدقة والأمانة، قد تتجاوز علم بعض الممارسين الأصغر أو المهتمين بالوصف الظاهرى فحسب، وهنا قد يتصور الممارس أن هذه الرؤية ليست إلا ضلالات أو أن المريض يعانى من العرض المسمى “أفكار شبه فلسفية”، يحدث ذلك خاصة عند الأطباء الذين يستبعدون الأسباب النفسية، وغائية المرض كلغة دالة، وعلى أى حال فهذه الرؤية ليست إيجابية بشكل مطلق لأنها سرعان ما تنقلب إلى بصيرة معقلنة، أو تختفى بعد تمادى العملية الذهانية.
ب – البصيرة الذهانية:
حين توصف البصيرة بأنها ذهانية فهى ليست بصيرة أصلا، لكن سيلفانو أريتى استعمل هذا الوصف ليشرح به مرحلة باكرة من مراحل تطور الفصام، حين يصل المريض الفصامى فجأة إلى تفسير شامل كامل لما اعتراه من ربكة وتناقض وتساؤلات وتوتر، فإذا به بعد فترة من الحيرة والغموض يقفز فجأة إلى حل شامل، ورؤية حاسمة، يفسر بها كل ما مر به من مقدمات وحيرة وخلط، يفسرها فجأة تفسيرا ضلاليا بحتا، فيحل بذلك كل ما كان يعانى منه فى فترة البداية، إذ يجد إجابة (ضلالية) لكل ما كان يحيره ويشغله، وذلك نوع من سوء التأويل الضلالى الذى يحدث تلقائيا (موازيا للإدراك الضلالى أو الضلالات الأولية) ، فكيف بالله يسمى ذلك بصيرة أصلا ؟ (حتى لو وصفت أنها ذهانية)
جـ – بصيرة المحو:
فى بداية الفصام (وبعض أنواع الذهان) قد يصف المريض ما يعتريه بأنه تصنع، وبالتالى فإنه قد يطلب من الطبيب ألا يصدق كل ما يقول، وقد يضيف بعد ما يشكو مما يعانى من كل ذلك “يمكن أن يكون مجرد وهم ” وهكذا، وعلى الطبيب – خاصة الممارس المبتدئ- ألا يسارع بتصديق المريض أو باتهامه بالتصنع والمبالغة فعلا، وذلك ببساطة لأن المتصنع لا يقول عادة أنه متصنع، وإنما يدل هذا النوع من الاعتراف على أن بصيرة المريض من الحدة بدرجة مازالت تسمح باتخاذ موقف نقدى يفسر الفرض القائل إن الفصام(والذهان) ليس مجرد رد فعل بل هو فعل وقرار، وبالتالى يكون شك المريض فى أن ما طرأ عليه ليس مرضا بل هو قرارمن جانب آخر لوجوده، قرار صدر من داخله ، وبالتالى يصبح هذا النوع من البصيرة تأكيدا لجدية المعاناة وليس إثباتا لتصنعه أو تمثيله.
د- البصيرة الحقيقية فى بعض الأعراض الذهانية:
من السائد أن يعتبر الفاحص أن البصيرة فى أن الهلاوس هى هلاوس لا وجود لها: دليلا على أن هذه الهلاوس أقل صدقا حتى يسميها البعض هلاوس كاذبة، وهذه تسمية خاطئة ، ونفس الأمر قد يسرى على الضلالات ، بمعنى أن المريض يعتقد اعتقاد خاطئا (مثلا: العناية الإلهية – لإصلاح الكون) لكنه يعرف – أحيانا أو غالبا – أن هذا خطأ، أو قد يكون خطأ، وفى هذه الحال فإن خطورة الضلالات ودلالاتها ليست أقل مما لو كانت ثابتة غير مهزوزة، وبصفة عامة فإن مثل هذه البصيرة – فى الضلالات أو الهلاوس مثلا- قد تتولد أثناء العلاج النفسى خاصة ، ويمكن أن يستفيد المعالج من ذلك فليس معنى أن يدرك المريض أن الهلاوس هلاوس أو أن الضلالات ضلالات أن تختفى تلقائيا; بل إن الأمر يحتاج إلى “ترجمة علاجية” وبدائل صحية حتى يمكن الإستغناء عن أى من الضلالات والهلاوس وغيرها من الأعراض.
خلاصة القول:
إن مجرد إعتراف وإقرار المريض أنه مريض، أو وصفه لحالته، أو تفسيره للأعراض، ليست دالا على بساطة المرض، ولا على إمكانية العلاج، ولا على سلامة المسار، بل على المحيطين، كما على الطبيب أن يتعمق دلالات ذلك، وأن ينظر بحذر من كل الإحتمالات لصالح مسيرة العلاج.
[1] – ننتهز الفرصة لتحديد بعض الألفاظ التى تختلط مع البصيرة وخاصة وان الاستعمال الشائع لها فى الطب النفسى (وعلم النفس) أكثر شيوعا بلغة اجنبية هى الانجليزية
وحتى نعود إلى محاولة التفرقة بين الالفاظ المتداخلة الدالة على الرؤية والحكم والمعرفة والادراك والتمييز والوعى نكتفى هنا بالاشارة إلى محاولة مبدئية (قابلة للمراجعة) على الوجه التالى:
الوعى: Consciousness وهو حالة كلية من الحضور الحيوى المتكامل فى منظومة دالة متوجهة، وأن هذا الحضور الحيوى يمكن أن يصل – عادة – إلى ظاهر السلوك مما يسمى الشعور
الشعور: هو الجزء من الوعى الظاهر فى السلوك المتاح.
الدراية: Awareness وهى حالة الانتباه الكلى لموجه للذات أو للموضوع
الرشد: Reason وهو الفهم الناضج الذى يتبع المنطق العقلى العام والسليم
الحكم على الأمور: judgement وهو عملية عقلية منطقية أقرب إلى التفكير الواقعى الموضوع الرشيد وإذا كان هذا الحكم على قضايا ومسائل غير الذات فإن هذا التعريف يكفى أما إذا كان الحكم على حالة الذات للشخص نفسه الذى يصدر الحكم فهو اقرب ما يكون إلى موضوع اليوم وهو البصيرة.