يحيى الرخاوى طبيب نفسى
مثل وموال:
العلاقة بالواقع (1)
من خلال الأمثال العامية
فى: مصر، والبحرين
مقدمة:
العالم العربى له موقعه الخاص والدقيق، وهو ليس بالضرورة متميز أومميز، و هو لم يعد من العالم الثالث لأنه لم يعد هناك عالم ثالث، لكنه ما زال عالما تجمعه لغة ذات تاريخ خاص، وتركيب غائر، ثم هو من وجهة نظر ذاتية هو عالمنا الذى يفرزنا، فنصبح مسئولين عنه.
وفى دراسة سابقة فى محاولة تقديم اقتراب جديد لتقسيم الأمراض النفسية- أشرت إلى ما ينبغى الإهتمام به ودراسته حول ماهية الفروق الحقيقية عبر المجتمعات المختلفة (الحضارات).
فقد أوضحت أن هذه الدراسات عبر الحضارات لا ينبغى أن تركز (فقط) على نسبة تواتر أو حدوث مرض نفسى بذاته أو على اختلاف صوره، أو على توزيع أعراض بذاتها فى وعى المريض وسلوكه، أو على تباين محتوى ضلالات هنا وهناك، أو على طبيعة العلاجات الشعبية غير التقليدية، وإنما يجب أن تمتد إلى ما هو أكثر أهمية وأقدر على الإضافة الحقيقية للمعرفة الإنسانية.
وقد بينت أن ذلك يتطلب أن تكون الدراسات عبر الحضارات متعلقة أساسا (و ابتداء) بطبيعة الفروق فى: (1) طريقة إدراك المشاكل وصياغتها فى مفاهيم مختلفة ذات تركيب خاص، ويكون هذا أشد ما يكون إلزاما فى طبيعة النظر فى ماهية الإضطرابات النفسية التى تمثل بالضرورة لغة متكاملة- رغم كونها سلبية فى ناتجها- هى لغة المرض الغائر فى عمق الوجود الإنسانى فى تعقد علاقته بالتاريخ من ناحية، وبالأرض من ناحية أخرى. كما ينبغى أن تهتم هذه الدراسات(2) بوضع أولويات تصاعدية لما هو جدير بالدراسة المنظمة- كذلك فإن عليها (3) أن تبحث فى دراسة الأفكار المحورية والغائية التى تدور حولها ترتيبات الوجود الفردى والجمعى، وبما يلحق ذلك من تغيرات نوعية فى بنية مجموعة من الناس، على قطعة من الأرض تتكلم لسانا متميزا، عن غيرها كما أنها قد تعبر عن تاريخ مختلف حتما، وهذا كله لا ينفى ثبات الطبيعة المشتركة للكيان البشرى فى كل مكان، كما أنه لا يبرر بداهة أية شبهة انفصال نوعى للإنسان عن أخيه الإنسان لمجرد أنه ينتمى إلى حضارة مختلفة، أو بقعة أرض بذاتها.
وكل ذلك يرتبط حتما بما “هو لغة“.
وبمحض الصدفة، أثناء رحلة فى الخليج عثرت فى مطار البحرين على كتاب فى الأمثال الشعبية البحرينية، كتاب متواضع، إذا قيس بمصادر الأمثال المصرية التى أعايشها فى المجتمع المصرى، بالإضافة إلى المجموعة الأم التى جمعت فى مصدر راسخ عندنا، هو كتاب أحمد باشا تيمور.
وحين رحت أبحث فى هذا الكتاب البحرينى. وجدت أننى أكثر اقترابا من الفرض الأحدث، وأكثر ائتناسا بما وجدته موازيا لأبحاثى السابقة، رغم صعوبة اللهجة واختلاف النطق.
ومع أنه لا مجال للمقارنة من حيث العدد، إلا أننى اعتبرت هذا الكتاب من البحرين دعوة لبعض المقارنات التى حفزنى إليها لقائى المواكب ببعض المرضى البحرانيين، فضلا عن دعوتى للاشتراك فى مؤتمر الجمعية الملكية البريطانية للأطباء النفسيين المنعقد فى البحرين فى أكتوبر 1990 ثم المؤجل إلى أكتوبر 1991. والتى وعدت فيها بتقديم بحث مقارن فيما يتعلق بظاهرتين نفسيتين أساسيتين فجاءت هذه الدراسة، التى أعتبرها دراسة استطلاعية،
فهى تخطيط مبدئى، ودعوة عامة لكل أهلى من العرب لإكمالها والاسهام بإرسال ما يقابل، أو ما يناقض، أو ما يكمل ما ورد فيها من أمثال حول مختلف الأفكار والآراء، آملا أن تصدر فى صورتها النهائية بما يفيد ويعدد مصادر وتنوعات الدراسة.
وقد غيرت العنوان المبدئى من دراسة “مقارنة” فى الأمثال العامية المصرية والبحرينية إلى دراسة “من خلال”، والفرق ليس هينا، ثم غيرت العنوان من أن الدراسة تتعلق بمبدأ الواقع بما قد يشير إلى موقف سيجموند فرويد من هذا المبدأ، (مبدأ الواقع فى مقابل مبدأ اللذة) إلى الإشارة أن هذه الدراسة تتعلق بمفهوم الواقع بمعنى مدى الإقتراب من موضوعية الإدراك فى شتى نواحيه.
الهدف من الدراسة (البحث):
1- أن أستلهم جذور المواقف الكيانية لأهلى ومجتمعى من واقع هذه القطرات الحكيمة المركزة فى صورة أمثلة يتجمع فيها الوعى البشرى كما تتجمع الأشعة الضامة فى بؤرة الضياء.
2- أن أواصل سعيى فى البحث عن مناهج بديلة تقربنى من موضوع البحث: الإنسان مريضا وصحيحا.
3- أن أعرض منطلقا خاصا لدراسة الفروق الثقافية كمدخل لفهم النفس الإنسانية فى الصحة والمرض.
مصادر البحث:
1- ممارستى للطب النفسى والعلاج النفسى مع مرضاى من المصريين والعرب .
2- معايشتى الخاصة لأهل فى قرى متعددة وخاصة فى الفترة قبل الحالية (قبل خمس سنوات) حين كانت طبيعة إهتماماتى تسمح لى بالاختلاط المباشر والعميق بالفلاحين من قريتى والقرى والأحياء التى انتميت إليها فيما بعد.
3- كتاباتى السابقة فى الموضوع، والتى نشرت أساسا فى مجلة الإنسان والتطور .
4- كتاب: مجموعة أحمد باشا تيمور فى الأمثال العامية المصرية- الطبعة الرابعة 1986- الهيئة العامة للكتاب (والمكونة من 3188 مثلا شعبيا)
5- مجموعة الأمثال الشعبية فى البحرين جمع وتعليق منى الخليفة الطبعة الأولى لسنة 1989 (والمكونة من 428 مثلا بحرانيا)
تحفظات منهجية:
لا بد فى البداية من أن أحدد تحفظاتى تجاه المنهج المتبع فى عرض هذه الدراسة الحالية بما يلى:
أولا: إن هذه الدراسة ليست دراسة مقارنة بالمعنى التقليدى وإنما هى دراسة مستوحاة من بعض المتاح من الأمثال، التى يستحيل بالتالى أن تعتبر دليلا أو قرينة على تأويل بذاته.
ثانيا: إن المقارنة المحكمة بين الأمثال هنا وهناك تزداد صعوبتها إذا اختلف عدد الأمثال التى فى متناول البحث من كل من البلدين، وحتى لو تساوى العدد فى الأمثال فإن الدراسة المقارنة تظل عاجزة، ما لم تتح نفس الفرصة للباحث أن يعيش ويخالط الناس على الجانبين بقدر متقارب.
ثالثا: إنه فى حدود المتاح يمكن أن يعتبر المثل العامى مجرد مثير ثرى يحرك موقف الباحث الخاص كما يحفزرؤاه العلمية أو الإبداعية على حد سواء، وهذا فى ذاته له دلالته وفائدته.
رابعا: إن كل مثل فى ذاته، لايمكن تأويله بعيدا عن كل مما يلى:
(أ) تواتر استعماله حاليا.
(ب) درجة بقائه (مقاومته الاندثار).
(ج) موقف استعماله فى السياقات المختلفة.
(ء) أبعاد شخصية الذى استعمله فى موقف بذاته.
خامسا: لاحظت فى دراستى السابقة للحيل النفسية فى الأمثال العامية المصرية، ثم فى دراساتى اللاحقة، أن المثل العامى قد يقوم بوظيفة إيجابية بالنسبة للتعريف بهذه الدفاعات النفسية والاقتراب من الوعى الأعمق، كما قد يقوم بدور سلبى فيما يتعلق بنفس هذه الدفاعات النفسية المسماة بالحيل.
وعلى ذلك، فإن التأويل لا ينبغى أن يؤخذ من جانب واحد، بل إنه قد يؤخذ من الجانب وعكسه تماما، فاستعمال مثل ما بالنسبة لحيلة (أو ميكانزم دفاعى) قد يكون له دور إيجابى بمعنى:
(أ) إنه يعرى هذه الحيلة النفسية ويكشفها فتصبح أقرب إلى الشعور.
(ب) إنه يعادل طبيعتها فيقلل من التمادى فى استعمالها.
(ج) إنه يساهم فى تجاوزها باستعمالها هى هى فى درجة أقرب من الوعى، أو باستعمال أساليب واعية بديلة أكثر قدرة على التكيف .
وعلى الجانب الآخر، فقد يكون لاستعمال المثل الكاشف لحيلة نفسية بذاتها أثرا سلبيا من حيث أن هذا الإستعمال :
(أ) قد يكون تبريرا لموقف غير نافع، أو غير ناضج (كما يقول صلاح جاهين: إفعل أى شيء تقرره وستجد مثلا يبرره)
(ب) كما قد يكون المثل عقلنة للحيلة النفسية فبدلا من أن يستعمل الميكانزم بعيدا عن دائرة الوعى، يعلن طبيعته بألفاظ معقلنة، ثم يتمادى الفرد فى استعماله فى نفس الإتجاه، وكأن مجرد المعرفة العقلانية لطبيعة ما يجرى ينفى أنه يجرى، فى حين أنه يكاد يتخفى بهذه العقلنة .
(ج) وأخيرا فإن إستعمال المثل العامى فى ضبط (أو رصد) حيلة نفسية قد يثبت هذه الحيلة ويؤكدها، لا يتعتعها، ولا يتجاوزها.
من كل ذلك وجب التنويه- منهجيا- أن ظهور مثل بذاته، فى مجتمع بذاته، وتواتره، وعمقه، ليس دليلا بالضرورة على أى نوع من الوظيفة يقوم بها هذا المثل.
ولهذا، فإن فى ميلى إلى ترجيح إيجابيات المثل عن سلبياته هو موقف شخصى مبدئى، أنا أعيه تماما، ولا أتمسك بالتمادى فى أحقيتى فى الدفاع غير المشروط عن ما ذهب إليه، وليس هناك بديل عن ذلك مرحليا، إلا بدراسات لاحقة مماثلة أو محاورة، أو مناقضة وهكذا.
سادسا: مهما أوحت القراءة، وأغرى التأويل، فإن تعميم الأحكام يكاد يكون مستحيلا.
سابعا: تعتبر المعرفة الإنسانية من خلال الحدس الشعبى (فى صورة الأمثال الشعبية) أسبق من النظريات النفسية الأحدث، وعلى ذلك فإن المصداقية متبادلة بالإتفاق، بمعنى أن المثل يثبت النظرية التى تشرحه، كما أن النظرية التى تجتهد فى تأويل المثل، تترسخ أقدامها أكثر باتفاقها مع عمق هذا المثل أو ذاك.
الدراسة: الجزء الأول : إدراك الواقع والتعامل مع أبعاده
الواقع الذى تتناوله الدراسة هنا:
ليس (فقط) واقع فرويد بمعنى ما هو ضد اللذة، أو ما هو مرتبط بقانون التكيف، واحترام متطلبات الحياة العملية والتفكير الناضج المسلسل .
وهو ليس (فقط) العالم الخارجى المحيط بنا دون داخل الذات (ما ليس أنا)
وهو ليس (فقط) الشعور الواعى (بمعنى أنه ما ليس لا شعوريا فهو واقع)
وهو ليس (فقط) المكان والأشخاص (بل هو أساسا الزمن والزمان)
لكل ذلك وجب التنويه ابتداء على أن كلمة الواقع التى أستعملها إنما تستعمل بشكل فيه فرط تضمين overinclusion، وفى نفس الوقت هى تكاد تستعمل بمعنى أنها مرادف لكلمة “موضوعية objectivity كما الموضوع الذاتى —- الموضوع الحقيقي
مصر: (1) القرد فى عين أمه غزال (2) حنفسة شافت بنتها عالحيط قالت دى لولية ف خيط
البحرين: حسين ف عين أمه زين (2) إنشوف كبه تحسبها
ينبغى أن تكون الموضوعية، وأقرب تعريف للواقع كما يستعمل فـى هذه الدراسة هو ما تفيده دعوة السيد البدوى فى قوله: “اللهم أرنى الأمور كما هي” وهو المعنى الأقرب تماما إلى ما يسمى فى دراسات الإدراك والتحليل النفسى: الموضوع الذاتى ← فى مقابل الموضوع الحقيقى Self object versus Real object فحين نرى الأشياء كما نرجو، أو كما نخاف، أو كما نسقط عليها من ذواتنا فهذا ما يشير إليه تعبير ” الموضوع الذاتي” أماحين نراها كما خلقها الله، كما هى، فإنها تسمى الموضوع الحقيقى، وعلى هذا فسوف تشمل الدراسة فى هذا الجزء الأول كلا من:
1- موضوع إدراك العالم الخارجى واحتمالات الخداع الذاتى خوفا أو رغبة أوكليهما (الموضوع الذاتى فى مقابل الموضوع الحقيقى)
2- إدراك الفروق الفردية: فى الأفراد، أو المواقف، أو التفاعل.
3- التناسب الموضوعى من حيث أن الواقع (الموضوعية) يرتبط بضبط جرعة ماذا يناسب من، أو يناسب ماذا …. إلخ.
4- إدراك الزمن، وتناسب التوقيت.
5- الحسم الإرادى (عادة فى: هنا والآن)
6- البصيرة والحكم على الأمور والأشياء.
وسوف أقوم بعرض هذه الأبعاد من خلال لوحات متتالية ويكون المتن تعقيبا محدودا عليها باعتبار هذه الدراسة إستهلالية.
وسوف أقوم بعرض هذه الأبعاد من خلال لوحات متتالية ويكون المتن تعقيبا محدودا عليها باعتبار هذه الدراسة إستهلالية.
1/1
الخداع (الوهل Illusim)
نلاحظ فى المثلين المصريين الواردين هنا أنه قد تحدد بشكل قاطع التناقض الشديد بين حقيقة الشكل وخداع الادراك، ما بين القرد والغزال “القرد فى عين امه غزال“، وما بين الخنفسية واللولية. “خنفسة شافت بنتها عا الحيط قالت دى لولية ف خيط“
فى حين أن المثل البحرينى يقدم الأمور بشكل أقل تعارضا بين الموضوع الذاتي، والموضوع الحقيقى،“حسين ف عين امه زين“
الموضوع الذاتى ← الموضوع الحقيقى
مصر: (1) القرد فى عين أمه غزال (2) حنفسة شافت بنتها عالحيط قالت دى لولية ف خيط
البحرين: حسين ف عين أمه زين (2) إتشوف كيه تحسبها
أما المثل البحرينى الآخر “تشوف كبة تحسبها مزار“ ، فهو أيضا دال على قرب المسافة بين الموضوع الذاتى (المزار) والموضوع الحقيقى (القبة)، لكن هذا الخداع البصرى يمكن أن يحدث بدون رغبة فى الزيارة، فلا يكون موضوعا ذاتيا تماما.
فالفرق هنا أيضا بين الخداع والحقيقة لايرجع بالضرورة إلى ما هو موضوع ذاتى أو موضوع حقيقي.، وإنما هو خداع بصرى وارد، يمكن أن يكون له أكثر من سبب.
ثم نعثر فى أمثال مصر أمثلة فى الاتجاه العكسي، أمثلة تحاول أن تذكرنا بأن الشيء هو الشيء (رغم أن هذه الأمثلة تضرب فى سياق آخر ، مثل الحد من المساومة فى البيع والشراء مثلا ..إلخ)، يقول مثل ما: “بخمسة بصل، بصل بخمسة”. فيبدو أنه تحذير من نوع من الخداع، فى حين يعلن المثل الآخر أن الشيء ليس إلا هو ذات الشيء لا أكثر ولا أقل، وأنه لن يغيره رغبة أو ملاحاة أو إعادة شاكة أو راجية “كلمة رطل وعشرة رطل”.
ضد ← الخداع:
مصر: (1) بخمسة بصل.. بصل بخمسة (2) كلمة رطل وعشرة رطل
1/2
إدراك الفروق الفردية
نحيل القارىء – ابتداء- إلى بحث سابق أكثر إسهابا فى هذا الشأن، لكننا نلاحظ من خلال المقارنة* هنا أن المثل الأكثر شيوعا المتعلق بهذه القضية هو الذى يلفت النظر إلى اختلاف الأصابع “صوابعك مش زى بعضها“. وهو يكاد يتكرر بنفس الألفاظ “أصابعك مب سوى“.فى البحرين مع تغير طفيف فى النطق والترادف.
ثم نرصد إضافات مصرية دالة حول هذا الموضوع :
1/2/1
إدراك الفروق الفردية
مصر: (1) صوابعك مش زى بعضها (2) لا زول زى زول ولا الصلاية زى دق الهون
مصر: (1) إيش جاب التين للتنتين (2) إيش جاب أحمد للحاج أحمد (3) إيش جاب لجاب، العايقة لام حجاب (4) إيش جاب العبد لسيده، قال لده طالعه ولده طالعه.
(4) غيش جاب العبد لسيده، قال لده طالعه ولده طالعه.
البحرين: (1) أصابعك مب سوى (2) الناس أجناس
فمثل يقول : “لازول زى زول ولا الصلاية زى دق الهون”، وزول يعنى شخص ، ويستعمل هذا اللفظ فى السودان أساسا، ويبدو أن أصله من السودان أو النوبة، والبدء بالتأكيد على الفروق الفردية بين كل فرد وآخر، يستتبع حتما التفرقة فى االأداء، (ولا الصلاية زى دق الهون)
أما فى البحرين فثمة مثل يقول إن “الناس أجناس” مما قد يشير إلى بعض ما يفرضه مجتمع البحرين من التفرقة على أساس قبلى وعرقي، لكنها تشير أساسا إلى الفروق الفردية حتما، حتى لو رجعت هذه الفروق إلى اختلاف الجنس.
1/2/2
ثم نرصد التأكيد على الفروق الفردية من وجهة نظر طبقية أساسا، إذ نلاحظ فى المثل الأول التمييز ابتداء بين المبنى اللفظى بدون معنى حقيقى (معجمى أو شائع) للفظ الثاني، “التنتين” يقول المثل”إيش جاب التين للتنتين” ثم يقارن المثل الثانى الحاج بغير الحاج “إيش جاب أحمد للحاج احمد” ثم يقارن المثل الثالث المحجبة بالمتزينة “إيش جاب لجاب، العايقة لام حجاب” وأخيرا بين العبد وسيده “إيش جاب العبد لسيده”، وإن كنت قد تحفظت فى دراسة سابقة على أن يعتبر المثل الأخير بمثابة تفضيل مطلق للسيد على العبد، حيث أن تكملة المثل يقول: “قال لده طلعه ولده طلعه” وهكذا ترك لكل طلعته المميزة دون إشارة إلى طبقية معينة، رغم أن السياق كله يرجح تلك الطبقية.
وفى تطوير لتأكيد الفروق الفردية بما يتفق مع إيجابية فكرة الطبقية السليمة، يقول المثل الأخير أنه
مايترتب على إلغاء الفروق:
مصر: إنت أمير وأنا أمير ومين يسوق الحمير
البحرين: إنت تمير وأنا أمير من يسوق الحمير.
لابد من ترتيب هيراركية الناس- فى العمل خاصة- تبعا للفروق الفردية، وقد ورد نفس المثل فى مصر “إنت أمير وانا أمير ومين يسوق الحمير” ، بنفس الألفاظ التى ورد فيها فى البحرين “إنت تمير، وأنا أمير من يسوق الحمير”.
1/2/3
تناسب الفروق مع الواقع الخارجى
مصر: (1) كل دقن ولها مشط (2) كل واحد له بدنجان شكل
على أن ثمة وعى بأن ما ترتب على الفروق الفردية هو بالضرورة يؤثر على التلاؤم والانتقاء فى العالم الخارجي، والمزاج، والدورات الذاتية، فالمثل المصرى يقول رمزا لذلك “كل دقن ولها مشط”، ثم “كل واحد له بدنجان شكل” ، وقد يكون لهذا المثل دلالة خاصة فى التأكيد على التفرقة فى تشخيص الجنون رغم اتفاق الاسم، حيث يطلق لفظ الباذنجان فى مصر إشارة إلى المرض العقلى الذى يظهر فى صورة دورية فى موسم نضج الباذنجان خاصة وكأن المثل يقول: أن كل واحد جنونه يختلف عن جنون الآخر، حتى لو كان الاسم واحدا (باذنجان).
1/2/4
وعكس إدراك الفروق الفردية هو اللجوء إلى التعميم العشوائى لمجرد تشابه جزئية من أجزاء موقف ما مع جزئية مماثلة من موقف مغاير مما يؤدى إلى خلط استسهالي.
نبدأ بالمثل من مصر الذى يعلن طبيعة هذا التعميم بصراحة وبساطة: أنه”كله عند العرب صابون” وكلمة العرب فى مصر قد تعنى العرب كما يعرفهم الناس كأمة تتكلم العربية وهذا مالا نرجحه هنا، حيث أن الشائع فى الريف المصرى والصعيد خاصة هو أن يطلق لفظ “العرب” على بعض تجمعات الرحل التى تدق خيامها هنا وهناك، وتسمى أحيانا غجرا وهؤلاء يستعملون التراب، والرمل، والقش أحيانا بمثابة الصابون لتنظيف الأوانى والأيدي، ولذلك فإن نشأة المثل لاتشير إلى إستعمالاته البعدية.
وثمة مثل آخر ينبه على الحذر من التعميم العشوائي، فحين يحكم على أحدهم بالجلد ثمانين
التعميم
مصر: كله عند العرب صابون
التحذير من التعميم
مصر: (1) الى ياكل الضرب مش زى اللى بيعده (2) اللى إيده فى الميه مش زى اللى إيده فى النار
(3) مش كل الطير اللى يتأكل لحمه.
البحرين: (1) اللى ما يعرف الصكر يشويه.
جلدة مثلا، لابد أنه يعد الجلدة تلو الجلدة وهو يعانى منها، فى نفس الوقت، فإن المكلف بمراقبة تنفيذ الجلد سوف يعده أيضا، وبديهى أن وجه الشبه هو أن هذا يعد وذاك يعد، لكن الفرق هو فرق السماء من الأرض، يقول المثل المصرى “إللى ياكل الضرب (الجلد) مش زى إللى بيعده” بحيث يستحيل الخلط، مثلما يستحيل الخلط بين الماء والنار، وبالتالى بين واضع يده هنا وواضع يده هناك “إللى إيده فى المية مش زى إللى إيده فى النار”.
ثم نرى فى البحرين مثلا رقيقا ينبهنا بطريقة دقيقة إلى أننا إذا وقعنا فى التعميم، فأغفلنا الفرق بين الصقر والحمام أو حتى بين الصقر والبط، لو حدث هذا لأخذنا الصقر ذلك الصائد الماهر.. ملك الطيور، وشويناه طعاما رخيصا، لمجرد أنه طائر “إللى ما يعرفش الصكر يشوية” ثم نجد مثلا مصريا يدرك هذه الحقيقة لكنه لايصورها بنفس الدقة فهو ينبه تنبيها عاما على أنه ما كل طائر قابل للأكل أو للشواء “مش كل الطير إللى يتاكل لحمه”، ولكن هذا المثل لايبين إن كان ذلك بسبب علو شأنه (مثل الصقر) أم بسبب عدم صلاحيته للأكل أصلا.
1/3
التناسب (النسبية الموضوعية)
ولا تكفى معرفة الفروق لذاتها، إذ أن الأهم فى التعامل مع الواقع بما هو، هو أن تساعدنا معرفتنا بالفروق الفردية على الإقلال من الخداع، والتمييز الفارقي، على أن تتلاءم القدارت مع الفعل، وأن تتلاءم الجرعة مع التحمل، وأن تتلاءم المهمة مع الغرض منها، وهكذا.
والأمثال الشعبية المتعلقة بدقة التلاؤم، والنهى عن تجاوزه (بما يقربنا من الواقع) كثيرة، نكتفى منها بالأمثلة التالية:
1/3/1
تلاؤم المعرفة والخبرة (بعض التخصص):
فى مصر ينبه المثل على تلاؤم يتناسب مع صدق العاطفة وعمق الخبرة وليس مع الإجتهاد النظرى أو الاكتفاء بإسداء النصح. “أم الأعمى أدرى برقاده” وكذلك “إدى إبنك للى له ولد” ثم يؤكد على خبرة صاحب الشيء بما يلائم الشيء مكانا وغير ذلك، “إربط الحمار.. مطرح ما يقولك صاحبه” رغم أن هذا المثل الأخير له جانب آخر غير التلاؤم فى المكان
وثمة مثل مصرى آخر يقابله مثل بحرينى يبدو أكثر دقة فى التركيز على التلاؤم والخبرة معا، لأنه أكثر تحذيرا، إذ أنه يستعمل صيغة النفى الحاسم: ” لاتودع عيالك إلا من عنده عيال“، ثم يضيف مثل ذلك للمال “لاتودع مالك إلا من عنده مال” وإن كان المثل الأول يشير إلى التلاؤم وضمان الحنان والخبرة، فالمثل الثانى يضيف إلى التلاؤم عوامـل مساعدة تبرر النصيحة مثل الأمانة والشطارة.
تلاؤم المعرفة والخبرة
مصر:(1) ام الأعمى أدرى برقاده (2) إربط الحمار مطرح ما يقولك صاحبه
(3) إدى إبنك للى له ولد
البحرين: (1) لا تودع مالك الا من عنده مال (2) ولا اعيالك إلا من عنده عيال.
1/3/2
تلاؤم فيما يتعلق بالجرعة المناسبة:
وورود مثل ذلك فى الأمثال لا يقتصر على معنى التوسط moderation أو التسوية compromise وإنما يؤكد أساسا على معنى ضبط الجرعة الفاعلة المناسبة Just effective dose
وتبدأ الأمثلة المصرية بالتنبيه على جرعة التعب والراحة، فالمثل المصرى ينصح ببذل الجهد بالدرجة التى لا تنهك، وأن يعاود العمل قبل التعود على الكسل، وذلك لإتمام دورات العمل والراحة،“حط قبل ما تتعب وشيل قبل ما تستريح” والتناسب هنا ليس فقط فى كم الجهد أو طول المهمة وإنما أيضا فى احترام القدرة وتقدير الضعف البشري، الضعف أمام التمادى فى الغرور بقدرة لاتنتهي، والضعف أمام الإغراء براحة تغرى بالتعود واللاعودة للعمل.
دورة التعب – الراحة (ضبط الجرعة)
مصر: (1) حط قبل ما تتعب وشيل قبل ما تستريح (2) قال يارب سلم وغنم، قال يارب سلم وبس
البحرين: شفيك ياحظى كاعد، كال اسكت ولا بانسدح
ثم يمتد الوعى بضرورة ضبط الجرعة إلى دقة الرضا بالقدر الدقيق فى الموقف الصعب، فطالب السلامة عند الشدة لا ينبغى أن يتمادى فى طلب النفع حتى من الله سبحانه “قال يارب سلم وغنم، قال يارب سلم وبس”، فهو تنبيه على أنه فى الموقف الصعب ينبغى الحرص على دقة الجرعة وتناسبها حتى فى الدعاء
وفى البحرين قابلت التناسب فى موقف شديد الطرافة حيث يعرض لوحة فنية للحظ وقد حضر بجرعة معقولة وجلس بجوار صاحبه، فاستزاد صاحبه منه، فضجر الحظ وهدده إن لم يرض بهذه الجرعة فإنه قد يمضى كلية عنه”شفيك ياحظ كاعد، قال اسكـت ولا انسـدح”
وفى نفس الوقت نرى أن التنبيه على التلاؤم الذى هو أساس فى إدراك الواقع كما هو، قد يتأتى من النهى عن الإفراط، بصفة خاصة.
وفى الأمثال المصرية وفرة من التحذير من فرط الجرعة حيث يفسد فرط القسوة العلاقة “كتر القسية… تقطع عروق المحبة” أو يرخى فرط الشد التوتر اللازم لاستمرار الدفع “كتر الشد يرخي” أو يفسد فرط اللين المحبة “كتر الدلع يكـره العاشق”أو تخل الثرثرة بالقيمة والاحترام. “كتر الكلام يقل القيمة”
أما فى البحرين فلم يتواتر كثيرا النهى عن الإفراط، وحين ورد كان يحتمل الإيجابية ولو فى الخلفية، “كتر الدكـ إيفج للحام” فكثرة الدق إذ تفك اللحام يكون منهيا عنها إذا كان المطلوب أن يظل اللحام متماسكا، أما إذا كانت المهمة هى نفسها أن يفك اللحام لسبب أو لآخر فيصبح المثل هنا دافعا إلى المثابرة مثل بيت الشعر العربى “…أخلق بذى الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا”
لا تلاؤم (فرط الجرعة):
مصر: (1) كتر القسية تقطع عروق المحبة (2) كتر الشد يرخى (3) كتر الضرب يعلم البلادة
(4) كتر الكلام يقل القيمة.
البحرين: (1) كثر الدكـ إيفح للحام
1/4
الواقع: من خلال بعد الزمن
1/4/1
إدراك بعد الزمن والوعى به من أهم أنواع الإدراك المرتبطة بالعلاقة بالواقع من جهة، وبالفكر النمائى من جهة أخرى، وهو مرتبط كذلك بالمبدأ الأساسى فى بعض أنواع العلاج النفسى الجمعى، خاصة الجشتالتى، وبعض الفكر الوجودى عامة والفكر النفسى الوجودى خاصة.
وسوف نلتقط فى هذه الفقرة ما يرتبط إبتداء بمبدأ الهنا والآن وهو، وإن أخذ شكل القناعة أو النصح بالصبر، فإنه يتضمن – من هذا المنطلق- معنى الوعى بالوقت، وأيضا أهمية أن يملأ الآن بالمتاح دون التسليم بأن هذا هو نهاية المطاف، ففضلا عن ثراء الآن، فهو الأب الشرعى للمستقبل شريطة أن يمتليء بالحاضر فعلا واقعيا
1/4/2
بعد الزمن (إدراكا، وتناولا)
(هنا والآن): ( أنظر أيضا الإدارة واتخائ القرار)
مصر: (1) إقنع بالحاضر على ما ييجى الغايب (2) تجمز بالجميز حتى يأتيك التين
(3) إلبس خف واقلع خف على ما تلاقى خف (4) إحينى النهارده وموتنى بكره
وفى الأمثال المصرية المتاحة كان هذا البعد (الهنا والآن) بعدا شديد الظهور والتحديد بل والمباشرة “إقنع بالحاضر على ما ييجى الغايب” وتعبير الغايب هنا له أهمية خاصة لأنه لم يقل على ماييجى الغائب غدا أو فى المستقبل، ولا على ما ييجى المرجو (اللى انت عايزه) وإنما اعتبر ضمنا- أو هكذا تلقيت إيحاءاته- أن الغايب هو حاضر كامن، لا يخرج إلا إذا بدأنا بالحاضر الظاهر، وفى هذا ما فيه من إشارة إلى المبدأ الجشتالتى الذى يعمق الشكل قبل أن يلتفت إلى الأرضية، ذلك أنه متى تأكد وتحدد الشكل Figure إنتقل الوعى إلى الأرضية Background لتصبح شكلا (حاضرا) وهكذا. (وسيأتى تأكيد ذكر هذا المبدأ وعلاقته بالواقع فيما بعد.)
بعد الزمن (إدراكا، وتناولا (هنا والآن: التحذير من التأجيل)
مصر:(1) اللى ما يرضى بالخوخ يرضى بشرابه.(2) موت ياحمار على ما يجيلك العليق
(3) لوكانت ندت مالعصر.
البحرين: (1) اللى ما يمشى بالولم يمشى بالفالع.(2) بيضة اليوم ولا دياية (3) اصبر يا حمار لين اييك الربيع. (4) اصبر يا حمار لين ينبت المرانى. (5) اصبر يا حمار لين يطلع لك اكرون.
ثم يأتى المثل الثانى ” تجمز بالجميز حتى يأيتك التين“ ليؤكد نفس المعنى، ولكن بطريقة غير مباشرة من جهة، وبتحديد مستقبلى بنسبة أكبر من جهة أخرى، وفى مصر بوجه خاص يستعملون ظهور فاكهة (فى المشمش) أو توقيت خدمة زراعية بذاتها (قطع جريد النخل): “على ما ينقطع الجريد يفعل الله ما يريد“ يستعملون هذا وذاك فى تحديد الوقت بالذات، فهنا تعبير: يأتيك التين قد يشير إلى “الغائب“ بقدر ما يشير إلى “الآتى”.
أما المثل الرابع “إلبس خف واقلع خف على ما تلاقى خف“ فقد استعرته هنا لتأكيد معنى التعامل من “الآن “الموازى للمثل السابق “تجمز بالجميز” مع علمى بأن علاقته بالتجربة والخطأ أوثق من علاقته بإدراك الزمن.
لكننا نعلم من علمنا، ومن الحياة، أن المبالغة فى التركيز على “هنا والآن” له وجهه سلبية حين يصل الأمر إلى طلاق الماضى وإنكار المستقبل، فلا تصبح لحظة” الآن” هى الحلقة الظاهرة من سلسلة متصلة، وإنما تصبح هى الحلقة الوحيدة فى وعى متخثر، نشاهد ذلك عند الأطفال أحيانا وفى أنواع اضطرابات الشخصية “السيكوباتية” التى لا تتعلم من الخبرة السابقة، ولا تتصرف ببعد نظر.
وقد يشير المثل المصرى الثالث هنا إلى هذا المعنى حين يكون التركيز على الآن حتـى لو كانت النتيجة هى الهلاك غدا. “إحينى النهارده وموتنى بكره“ مع ملاحظة أننى قمت بتأويل هذا المثل بشكل إيجابى فى موقع آخر (13).
1/4/3
ثم ثمة تحذير واضح تماما لمن لا يحترم الواقع الآنى، تحذيرا أنه سوف يضطر لقبوله محورا هو هو، وإن كان فى شكل آخر، “اللى ما يرضى بالخوخ يرضى بشرابه“، على أساس أن المصرى – الفلاح المصرى خاصة- قد يعتبر أن الأصل والطزاجة “الآن” هى الأفضل من المعلب والمحفوظ ولو كان من نفس النوع، وبهذا يتميز الخوخ عن شرابه كما تتميز “الطماطم” عن “الصلصة”.
1/4/4
وفى العينة المحدودة أمامى من أمثال البحرين لم أجد هذا التحديد والتحذير المتعلق مباشرة بالآن إلا فى مثل يقول “بيضة اليوم ولا دياية باجر” وهو صورة أخف لكنها أدق، وإن كانت تحمل نفس الإتجاه (سلبا وإيجابا) الذى يحمله مثل “إحينى النهارده…” ثم قابلت مثلا يقول “إللى ما يمشى بالولم يمشى بالفالع” وهو التطبيق البيئى لطبيعة البحرين البحرية، وهو ما يقابل المثل المصرى “اللى مايرضى بالخوخ.. الخ” مع الفارق.
ثم لم يترك المثل الشعبى الأمور هكذا فى إتجاه واحد، هو التركيز على الآن سلبا وإيجابا، وخاصة حين يكون “الآن” مليئا بالوعود لا أكثر، وهذا ما يشير إليه ضمنا الوجه الإيجابى للمثل السابق الإشارة إليه “إحينى النهاده … الخ”، إذ أن تفسيرى الإيجابى هو أنه رفض ضمنى للموت انتظارا، كما يقول المثل المصرى “موت ياحمار على ما يجيلك العليق“ وهو موقف ينشأ حين يطول الإنتظار بلا طائل، ولاحتى مجرد إرهاصات تعد بتحقيق الوعد حيث”لو كانت ندت كانت ندت مالعصر”.
وفى أمثال البحرين يوجد تصعيد طريف ودال لمثل الحمار والعليق حيث توجد ثلاثة أمثلة تحمل بداياتها نفس الألفاظ، ولكن المثل لا يقول موت يا حمار، ولكنه يطلب من الحمار أن يصبر، ثم يصـاعد بالأمر درجة درجة، فهو يصبر انتظارا لمن يأتيه بالعليق، وهذا قد يستغرق ساعة أو بضع ساعات، لكنه قد يصبر حتى ينمو البرسيم، وهذا يتطلب شهورا، فنبدأ نشعر بلهجة السخرية الناهية عن الصبر، ثم يتضح الأمر حين تصل درجة التصعيد إلى فرض المستحيل، فهذا التدرج من“أصبر يا حمار لين يجيلك الربيع”، ثم ”لين ينبت البراني” ثم “لين يطلع لك قرون“ يتضمن تنبيها إلى أن التأجيل الواقعى هو محتمل، أما التأجيل المخادع واللانهائى، فهو وعد بالمستحيل، وبالتالى.
نقترب ضمنا من المثل المصرى المباشر “موت يا حمار.. وليس اصبر يا حمار“.
واستعمال الحمار هنا فى كل من مصر والبحرين هو متضمـن حتما لما عرف عنه من صبر وماله من تاريخ. التراث الشعبى والوعى الشعبى عامة.
1/5
الإرادة “الآن” و حسم القرار:
ويرتبط بهذا البعد الآنى “هنا والآن” بـعد آخر هو حسم القرار، فقيمة الآن لا تأتى بأن يمتليء بالممكن الجاهز، الممكن بل يستعمل فى شكل قرار يصبح فعلا آنيا فى نفس الوقت تقريبا.
1/5/1
ويأتى المثل المصرى المتصاعد الدرجات يقول: إن ما تريد أن تفعله، فلتمض الآن فتفعله، “اللى بدك تقضيه إمضيه” “والمضاء” هنا استعمال جميل، ففضلا عن أنه يحمل لمحة لمعة السيف وهو يقطع، لكنه أيضا قد يحمل الحفز ليس فقط أن يصبح الحاضر حاضرا ، وليس أملا ملوحا مؤجلا. ولكن أن يصبح ماضيا بالإنجاز، ثم الانتقال إلى حاضر تال حالة كونه يطلب الإنجاز ليمضى، وهكذا نستشعر الوعى بالآنية المتلاحقة.
ويتدعم هذا الاتجاه بالشطر الثانى حتما “اللى بدك ترهنه بيعه“، ولا يحتاج هذا الشطر إلى تفسير، فهو بمثابة عرض نموذج عملى محـدد تفسيرا لما سبقه حالا ، إذ هو رفض عملى أن يترك أى حاضر كالمعلق، فالراهن: لا هو يملك، ولا هو لا يملك، وهذا ضد المبدأ الجشتالى السالف الإشارة إليه، والذى يرفض الخلط بين المواقف المتداخله.
لكن الشطر الثالث قد لا يسير فى نفس الاتجاه إلا قليلا، لأنه أقرب إلى موضوع التكيف والتشكل الذى سيرد ذكره فى حينه
وقد يؤكد مبدأ التبادل الجشتالتى لتحديد الأرضية من الموضوع أمثلة أخرى أقل مباشرة وأقل ارتباطا بالهنا الآن، إلا بطريق غير مباشر. مثل المثل المصرى “إن قلت ما تخافش وإن خفت ما تقلش“ فالحفز هنا لاختراق المقاومة وكسر التسوية المعطلة واضح فى أن على الإنسان أن يختار، وهو واع بالجانب الآخر، ومتحمل مسئولية ما يترتب على اختياره. هنا يصبح الحسم جيدا وصحيا، وله علاقة بتعميق اللحظة
الحسم الأإرادى: (وعلاقته بالـ “هنا والآن”.، وتحديد الأرضية
من الشكل (جشتالتيا)، وبعض النفعية)
مصر: (1) اللى بدك تقضيه إمضيه. (2) واللى بدك ترهنه بيعه. (3) واللى بدك تخمه طيعه.
(4) إن سرقت إسرق جمل، وإن عشقت إعشق قمر (5) إن قلت ماتخافش وإن خفت ما تقولش.
(6) الإيد إللى تتمد،و لاتضربشى تستاهل قطعها.
وتحديد حدود الواقع بجانبيه، فالقول الصريح-نقدا عادة – قد يعقبه لوم وعتاب، بل ورفض وتهديد، فإذا رجحت كفة ضرورة إعلان الرأى فليكن، وليحدث كل ذلك ولنواجهه أولا بأول، ثم نورد هنا دليلا أكثر مباشرة على رفض الموقف النصف نصف، رفضا حتى العقاب الحاسم “الإيد اللى تتمد، ولا تضربش تستاهل قطعها”،
وقد شعرت أن هذا المثل أقوى من سابقه، وكأنه يقول مادمت لست قادرا على الضرب فعلا فلماذا مددت يدك، لماذا هممت به؟ إذن فلتقطع. فبداية المثل قريب من “إن خفت ما تقلش” لكن تكملته أقوى لأنه يعلن فورا وحسما أنك فعلت (مددت يدك) وأنت خائف، فدفعك الخوف فى منتصف الطريق إلى التراجع عن الحسم، فلتدفع الثمن، وهو لم يقل نقطع، وإنما نبه أنها “تستاهل القطع“.
وفى تحذير أرق يقول مثل مصرى آخر أن هذا الموقف المائع يجعل الفعل بلا جدوى، “زى اللى رقصوا على السلم، لا اللى فوق شافوه ولا اللى تحت دريوبه“.
لكن ثمة شلل قد يصيب الإرادة نتيجة لموقف مائع أيضا ، إلا أن مصدره يكون من خارج ، وكأن المثل هنا يشير إلى ما يقابل”العصاب التجريبي”، لإعلان أنه ما كل ما يقال ، حتى بسماح ظاهر، هو واقع قابل للتنفيذ. يقول المثل المصرى “ صحيح ما تكسرى ومكسور ما تاكلى، وكلى يا حبيبتى لما تشبعى” والمثل هنا عادة يقال على لسان الحماة تقوله لزوجة ابنتها لتعلن السماح الظاهر مع وقف التنفيذ، وهى تشير بـ “صحيح” إلى رغيف الخبز الجاف المتكامل، وهو موقف لشلل الإرادة من الخارج، كما ذكرنا .
اللاحسم الأإرادى، وشلل الإرادة المقحم
مصر: النهى عن ميوعه الموقف: زى الى رقصوا على السلم، لا اللى فوق شافوه ولا اللى تحت دريوبه.
السماح الفارغ (مع استحالة الفعل): صحيح ما تكسرى، ومسكور
ما تأكلى، وكلى يا حبيبتى لما تشبعى.
1/5/2
الحسم الإرادى +
مصر: (1) ساعة الفلوس فيه خلوص.
البحرين: (1) إخبز خبزك مادام التنور حار. (2) أبرز من دراهم الغوص.
أما فى البحرين: فإن الأمثلة المقابلة لم أعثر عليها بقدر كاف، وإن كان ثمة إشارة إلى “الهنا”، و”الآن” فى حسم انتهاز الفرصة قبل فوات الآوان “أخبر خبزك ما يوجد كلام هنا ناقص فى البراوز يكتب
دام التنور حار” وهو مثل أقرب إلى الدعوة لاغتنام الفرص منه إلى الحسم فى اتخاذ القرار، وثمة مثل آخر ربما يشير إلى حسم آخر بطريق غير مباشر وهو المثل الذى يعلن علاقة الجزاء الواضح والسريع والمدفوع مسبقا بإنجاز الفعل المراد دون تلكؤ أو مساومة “ أبرز من دراهم الغوض” – ويبدو أن علاقة أهل البحرين بالغوص كان لها تأثير خاص فى علاقتهم بالحسم والمغامرة، وبالواقع، علاقة امتدت من أعماق البحر إلى سطح الأرض، وإنى أعترف أننى أتعسف فى اعتبار هذا المثل قريب من أمثلة الحسم، لأنه يشير أساسا إلى سرعة الحفز بإظهار المثير جاهزا جاذبا، وهو يوازى (ولا يساوى) مثلا مصريا يقول “ساعة الفلوس فيه خلوص“ إذ يشير هذا المثل إلى أن ظهور الفلوس عند عقد صفقه يشوبها تردد ومساومة قد يكون دافعا لحسمها وإنهائها، بما يقرب هذه الصورة أيضا من الحسم.
1/6 البصيرة والحكم على الأمور.
1/6/1
تهتم الأمثال الشعبية بصفة عامة بتوسيع رقعة المعارف بلا استثناء، فتعمق المعرفة بالداخل والخارج. لكن للمعرفة ثمن باهظ، يزيد كلما عمقت طبقات الرؤية وها هو المثل المصرى يعلنها منذ البداية: “آفتى معرفتى راحتى ماعرفش“، وهذا المثل له وجهان: حيث قد يعنـى أن من يعرف أكثر فى حرفة أو مهمة يكلف أكثر بأدائها بعكس من لا يعرف أو حتى من يدعى العجز. لكننى أفضل أن أقرأ هذا المثل باعتباره إعلانا عن مسئولية المعرفة وصعوبة الرؤية، وهذا هو المعنى الذى التقطته مباشرة لأول قراءة للمثل.
أما فى البحرين حيث يقولها مثل بحرينى أكثر صراحة: “حط راسك فى الخداع، واسلم من الصداع“ فتعبير حط راسك فى الخداع شديد الدقة من حيث إعلان صعوبة ما يترتب على البصيرة المخترقة، كما يشير إلى الوعى بوظيفة الحيل النفسية التى هى مقابل ما يسمى الخداع هنا.
1/6/2
مصر: (البصيرة والتقدير)(1) قالوا يامرة أنت سمينة وعورة، قالت قيم ده جنب ده
(2) قالوا للقردة اتبرقعى، قالت دا وش واخد عالفضحية. (3) قالو للأعمى زوق عصاتك،
قال يعنى من حبى فيها؟ (4) وحشة وعاجبة نفسى وأشوف الناس تقرف نفسى.
على أن البصيرة فى الذات أو رؤية الذات، قد تشمل جزئيا قدرا من التعرية فى الأمثال عامة، ففى الأمثلة المصرية، حين تقول المرأة السمينة (حيث كانت البدانة علامة الرفاهية والجمال معا) لمن يعايرها بأنها عورة تقول له بأن يقبل الصفقة “على بعضها” “قالوا يا مرة إنت سمينة وعورة، قالت قيم ده جنب ده”. فهى ترى نفسها- هكذا- رؤية ناضجة وحادة، وهو نفس الموقف الذى يشير إليه ضمنا رؤية القردة لوجهها ليس فقط وجهها القبيح وإنما وجهها المتعـود على الفضيحة،” قالو للقردة اتبرقعى، قالت دا وش واخد عالفضيحة”. وأيضا رؤية الأعمى لنفسه ليس فقط لعجزه أو لآلامه من جـراء عجزه، وإنما رؤيته لعصاه وموقفه الطيب الساخر الناقد لمن ينسى هذه العلاقات جميعا ” قالو للأعمى زوق عصاتك، قال يعنى من حبى فيها”. على أن ثمة مثل آخر يعلن رؤية الذات بعيوبها، ثم يلحق ذلك نوع من القبول حتى التحدى “وحشة وعاجبه نفسى واشوف الناس تقرف نفسي” فها هو التحدى يتمادى ليعلن هذا الموقف المعتز (الذى يلامس الغـرور) ، فكأن المثل يصل إلى أعماق تقول إن “وحاشتي” هذه التى تعايرونى بها ليست هى أنا، بل إنها جزء منى، وهى فى السياق الكلى لرؤيتى ذاتى تذوب فى كل (ذاتى) أفتخر به، وإذا لم يعجبكم، فأنتم أدنى ومقززون وعميان (بدليل هذا العجز عن الرؤية مثلا)، ورغم تناقض هذا المثل مع أمثلة أخرى تؤكد على لزوم الحرص على إعجاب الناس مثل “كل ما يعجبك والبس ما يعجب الناس” أو “أمشى على عدوك معرش ولا تمشى عليه مكرش” إلا أنه تناقض ظاهرى فحسب، فالمثل الذى نستشهد به هنا هو متعلق بالبصيرة والرؤية الكلية للذات، أما المثليين الآخرين، فهما يشيران إلى نوع من التكيف من ناحية وإحترام رأى الآخرين منعا للشذوذ الخاصمن ناحية أخرى ، وأيضا فى تفضيل الإنفاق على المظهر الدال على العناية بالذات عن الإنفاق على نهم غذائى خاص.
1/6/3
فإذا انتقلنا من التركيز على البصيرة إلى موضوع الحكم على الأمور وعلاقة ذلك بإدراك الواقع والتعامل معه لأمكن أن نـعمـم قائلين إن معظم الأمثال، هى نوع من الحكم الصادق وبالتالى هى دعوة للتفكير النقدى والحكم الموضوعى، لكن ثمة مثلا بسيطا فى مصر ينبه إلى قيمة المعرفة
البصيرة والتقدير (تكملة)
مصر: (1) قال فلان ده تعرفه،قال: أعرفه، قال: عاشرته: لأه قال ماتعرفوش. (2) إللى تعرفه أحسن من اللى ماتعرفوش. (من أدوار الجشتالت: وأنا مسئول عن ذلك) (3) إللى شايل قربة تنزعليه
(4) إللى شايل قفة مخروقة تخر على راسه.
البحرين: مجنون إتعرفه ولا عاكل إتخبط فيه.
وطبيعتها وجدواها فى التعامل، وشروطها، فالمثل الأول يقول “فلان تعرفه قال اعرفه، قال عاشرته قال لأ، قال ماتعرفوش”، وهنا يجعل العـشرة اختبارا للمعرفة، فيعلى من بعد التجربة والمعاملة المادية والسفر، كما فى سياق دينى آخر ( عن عمر بن الخطاب :كرر السؤال لمن يزعم معرفة آخر : هل سافرت معه؟ هل عاملته بالدرهم والدينار ؟ …إلخ..
والمثل الآخر القائل “اللى تعرفه أحسن من اللى ما تعرفوش” لا ينبغى أن يؤخذ ببساطة ظاهرة، وإنما هو يدعو إلى عدم المغامرة فى التعامل أو الاعتماد إلا بعد الحصول على المعلومات الكافية.
1/6/4
وقد آن الآوان للنظر فى علاقة البصيرة بالمسئولية إشارة غير مباشرة فتقابل التنبيه على أن كل إنسان مسئول عن فعله، وأن النقص أو العيب الذى قد يكون فى ذاتى أو فعلى فى أو نتيجة تقصيرى أنا،وبالتالى فإنى مسئول عن النتائج بشكل أو بآخر يقول المثل “إللى شايل قربة تنز عليه” أو “إللى شايل قدرة مخروقة تخر على رأسه”.
وهذا المثل يذكرنا بأحد أدوار الجشتالت فى العلاج الجمعى التى تطلب من المريض أو المشارك أن يقول: ” ….وأنا مسئول عن ذلك” بعد كل شعور أوإحساس أو قول أوإعلان موقف.
***
إلى هنا ونتوقف لنعود فى العدد القادم إلى مقارنة أخرى من خلال أمثال أخرى حول العلاقة بالموضوع.
[1] – ظهر هذا البحث فى مجلة متخصصة هى المجلة العربية للطب النفسى، بعد أن ألقى فى مؤتمر فى البحرين عام 1992 وهى مجلة محدودة الانتشار بطبيعتها لأنها متخصصة، وقد رأينا أن هذه الدراسة أولى بالظهور فى هذه المجلة فقارئها قد يكون أكثر اهتماما به من المتخصصين وقد أجريت عليه تعديلات واختصارات محدودة.
وهذا الجزء الأول، وسوف نلحقه بالجزء الثانى عن “العلاقة بالموضوع” من نفس المنطلق فى العدد القادم.