يضبطنى متلبسا، فيخلع عنّى ما تبقّى
د . عصام اللباد
لا لم تكن رسالة، وإنما كانت مقدمة لدراسة عن قراءة الحواديت المصرية الشعبية الأربع التى كتبها د. يحيى الرخاوى بعنوان” أربع حواديت لطفلة أميّة شغالة” (الانسان والتطور، عدد أبريل 1987).
فاستأذنا الزميل كاتبها أن نجعلها رسالة مستقلة، لحاجتنا إلى مثلها الآن فى هذا الباب.
وقد تفضّل فسمح بذلك، بما قد يرد على بعض ما ورد فى الرسائل السابقة حول غموض كتابة الدكتور الرخاوى، التى صبغت سائر كتابات المجلة بصبغتها حتى كادت تصبح ظاهرة( مرفوضة على ما يبدو)، فتعالوا نرى كيف يقرؤها د. عصام، مع التحفظ الواجب أنه من هيئة التحرير، ومن تلاميذه، ولكن الرسالة – رغم ذلك – تنطق بما يخترق هذا وذاك بشكل أو بآخر، (لعل كذلك).
كتب الدكتور عصام اللباد يقول:
كتابات الدكتور الرخاوى، كما رأيت، تتميز بأنها:
1- غير قابلة للقياس ابتداء، بأى من مناهج القياس الفنية أوالعلمية، بل إنها غير قابلة للقياس على كتاباته نفسها.
2- متعددة فى رؤاها، ومستوياتها ، اتجاهاتها، والأهم من ذلك أن موقف الكتب من الموضوع يتعدد ويختلف بل ويختلط أحيانا، او كـأنما هو يتنقل حول وداخل موضوعه، فتأتى رؤاه وكأنما هى بانورامية، أو كلية تستعصى على القياس الذى يعتمد أساسا على ثبات نقطة القياس، فكيف يستطيع أى منهج قياسى قياس المسافة بين نقطتين دائمتى الحركة؟.
3- أنها تثير من الدهشة والرضا (الذاتى – الإنسانى) بقدر ما تثير من الخوف والرفض (التقليدى – الأكاديمى – العقائدى – الثابت) إلى درجة أنها تثير دهشته ورضاه، وانزعاجه ،ورفضه هو نفسه فى أحيان كثيرة.
4 – أنها شموليّة من التساؤلات والاحتمالات الغائبة (وربما الغيبية) أكثر مما تقدم من إجابابات وتفسيرات حاضرة.
5- أنها شموليّة، متحركة، إذ تعتمد أساسا، كما أرى، على قوانين الاحتمالات والنسبية والتطور الدوامى، مما يعجز الثوابت (حتى لو كانت فكرة الأمس) فى مجاراتها وقياسها.
وهكذا وجدتنُى فى نهاية الأمر , أو قبل النهاية بقليل, عاجز تماما عن إقامة دراستى، ولم تعد أمامى حواديت اربع أو دراسة، وإنما أنا فى مواجهة يحيى الرخاوى ( بحاله) وما يمثله لى كقارئ وتلميذ له, وما يمثله عموما قى حياتنا, وفى قلب الحركة الفكرية المعاصرة، وصرت فى مواجهة كم هائل من الاسئلة والتساؤلات.
وقد وجدت أن المنهج الرخاوى, وما يتخلق فيه من رؤى وأفكار إنما هو نابع أساسا من الدم واللحم، بعيدا قليلا عن المبادئ التقليدية والمدارس، والأكاديميات، والقواعد الجامدة، فهو وفكره ليسا جامدين قابلين فقط للزيادة والنقصان عن طريقة عمليات الحساب، وإنما هما حياة تنمو وتزداد وتتغير وتتحرك، وربما كان هذا هو بالتحديد سبب ومعنى تلك العزلة التى يعيشها فكر – رؤية/ دم – لحم يحيى الرخاوى، فما الذى يجعله، وهو على هذا بعيدا عن طبطبات أو ركلات قبول أو رفض المفكرين والمثقفين والنقاد والمهتمين بالفكر عموما، رغم أنى أعرف وأرى فرط اهتمامهم به، وبما يمثله، وبرغبتهم فى استمراره، وأسمع كثيرا همهماتهم(التىلا أبدا على ما أعتقد) بذلك بين أنفسهم وبعضهم البعض ولم اجد لذلك إجابة إلا ما وصلت إليه: إن ما يمثله الرخاوى هو اللحم والدم. وأن المنهج الوحيد أو السبيل الأوحد للاقتراب منه (الاقتراب المشاركة، أو الوعى، أو التناقض، أو التعلم) هو أيضا اللحم والدم، بما يحمله هذا الاقتراب أو التوجه من تماس، وجرح ، وعناق، وركل، وعلاقات قبول ــ رفض – تناقض، لا تنفع فى الحماية منها دروع المناهج والمدارس والأكاديميات والقواعد الجامدة ذات المنطق الواحد ووجهة النظر الواحدة.
وهنا يأتينى الشطر المنطقى الآخر من السؤال: ما الذى يبعد به عن الآخرين؟ ما الذى يحجم به عن التواجد إلا بالمنهجى الثابت الذى يرفض اعتباره المسلم به الوحيد، بما فى هذا الاقتراب من نفس احتمالات التماس والجرح والقبول والرفض.
هكذا صارت وحدته، على ما أعتقد، وعزلته، فلا هو قادر على الحياة دون تناقضات اللحم والدم وحركتيها وحريتها، ولا الاخرون قادرون على قبول هذا التناقض الحى، ولو مرحليا لحين منهجته فى طريق الجدل المؤلم الشائك المؤلم
ولكن أين هذا من الناس؟ الذين يودونّ فتح مسرح هذا الصراع علّه ينير بقعة ما ، فمن حقنا عليه أن نقول له: ضع منهجا حسبما تريد، من لحمك ودمك” و نقول للآخرين” اتركوا مناهجكم قليلا، ولكن لا تفرطوا فتخافوا ونخاف” وهذا حقنا عليكم فجوهر أفكار وكتابات الرخاوى هو الإنسان وأفكاره وثقافاته، وليست معتقدا ثابتا حتى تصبح مواقف الأطراف وكأنما” لكم دينكم ولى دين” أو ” لك دينك ولنا ديننا” فالمشكلة – إن صح تعبير مشكلة – هى فى اللحم والدم: الإنسان.
خلاصة تلك المقدمة، أن الرخاوى بما يمتكله من رؤية( غير مكررة) وبصيرة، ووعى، وقدرة على إثارة الدهشة والتساؤل، وبما يمتلكه من منهجية خاصة، ومنطق خاص/ عام، له حق التوقف عند خط المناهج التقليدية، وأن رؤاه
وأفكاره تكتسب شرعيتها وصلاحيتها، بل وصلاحية تطبيقاتها، ما دامت دوائرها تمس محيطات ومراكز دوائر العديد من البشر، تماما كما مست دراسته التى نحن بصددها أعماق كل من قرأها ممن قمت بسؤالهم عنها. إن تعدد نقاط ومستويات التماس، والتاثير الانتشارى لكتاباته ورؤاه هو قانون شرعيتها، والمدافع عنها ضد النقد الأكاديمى المعتقدى المنهجى الجامد(….. الغائب!!).
ولكن ……….
فأقول، وما كان ينبغى أن أقول :
كسرتّها يا رجل، كسرتها وما كنتُ أنها تنكسر، وحدتى، فوجدتنى أتعرى دون تحسبُّ وكلما أملت أن أختبئ منك فى السطر التالى، كشفتنى أكثر، حتى غُصتّ تحت جلدى – يا رجل – هكذا، …….. أهكذا؟.
من أين لك – ياعصام – ما سمح لك بالغوص إلى هناك،كذا؟ مددت بوعيك دون تردد فأمسكت لحما حيا ولم يخُفك النزفُ، فكيف عرفت أنها الحياة تتولد بما بلغك؟.
كيف رأيتنَى – بالله عليك – وأنا أتحرك بين نقط متحركة، بكل جدوى/ جسدى، يفرز فكرا/ وجدانا، فيتهمونى بالغموض مرّة، وباللامنهجية دائما؟.
صدّقنى يا عصام أنى انزعجت حتى العرق خوفا وخجلا من رؤيتك هذه، فقد كنت أحسب أنى سأمضى حتى نهاية رحلتى، طالت أم قصُرت، دون أن يرانى أحد، ناهيك عن أن كل من رأى جزءا أخافه فرفضه، فراح يقربنى لأقرب واحد صحيح، فيخبئُّئ، فأختبئ فيتهمنى بالغموض واللامنهجية……… إلى آخر ما قلت ورأيت.
وما دمتّ قد وصلت إلى هناك، هكذا، فلابد أنك عرفت استحالة الاستجابة إلى مطلبك” ضع منهجا حسبما تريد” لأنك نقضته بالتعبير اللاحق” من لحمك ودمك” ولعلك تعلم أنه لم يضع أحد منهجا محددا – هو أو تلاميذه من بعده – إلا ضاعت معالم الخبرة الأولى، (من مولانا الغزالى، حتى فرويد)، وفى نفس الوقت أنه لم يمتنع أو يعجز – عن وضع منهج محدد (من النفرى إلى هيجل)،إلا وأسئ فهمه أو شرح بالشئ ونقيضه.
لكننى كما تعلم صاحب حرفة، وحرفتى هى نخاع معرفتى، فهل ياترى ينفع أن أخرج من هذا المأزق بأن أصنع بشرا، لا منهجا؟.
لا أظن، فهذا طريق ٌ صوفى مغلق إلا الخاصّة، وهمّى كما تعلم لا يقف عندهم أبدا.
أريد أن أتوقف، فلم يعد عندى ما أقوله وأنا أقف هكذا أمامك – فالقراء – دون ساتر، لكنّى أقول لك قبل أن أحاول أن أختبئ فى كلمات أخرى: سنفترق يا عصام، فلا تنسّ هذا، أما عزلتى فلعلك خير من تعلم أنى لم أخترها تماما، لكننى رضيت بهاحالا، حيث لا أجد لها بديلا واضحا أو قريبا، اللهم إلا طرق أبوابكم بكل اللغات.