اللغة والفصام
د. هناء سليمان
مقدمة:
تلعب اضطرابات اللغة دورا هاما فى تشخيص الفصام منذ زمن كربلينKraeplin وبلويرBleuler- الرواد الأوائل فى وصف هذا المرض – أما باعتبارها اضطرابا فى عمليات التفكير(وفقا لمفهوم بلوير)، أو اضطرابا فى الكلام(وفقد لنموذج كربلين). وظل الاهتمام بهذه الظاهرة الأدوات المنهجية الملائمة من ناحية، ولضالة المعرفة بعمليات التفكير لدى الشخص العادى والتى يمكن مقارنتها بعمليات التفكير لدى الفصامى من ناحية أخري. ألا أن ظهور فرعين جديدين للمعرفة فى الستينات أدبا الى تغير النظرة للغة عموما ولاضطرابها على وجه الخصوص، وهذان الفرعان هما فعلته المعلومات Information Processing وعلم النفس اللغويPsycholinguistics ومنذ أواخر الستينات تراكمت الأبحاث فى الظاهرة التى أصبحت تعرف باللغة الفصامية، وأصبح لدينا العديد من النتائج المتعارضة والتى ما زالت بحاجة الى دراسة اكلينيكية ونظرية جادة قبل الوصول الى نتائج نهائية فى هذا المجال. وسوف نعرض هنا بعض الفروض النظرية المتعلقة بهذه الظاهرة ومحاولات تفسيرها. وقبل ذلك سنحاول توضيح بعض الفروق بين ظواهر تتعرض للخلط دائما وهى التفكير واللغة والكلام.
العلاقة بين التفكير واللغة والكلام:
تعد المطابقة أو الفصل بين التفكير واللغة مشكلة قديمة جدا فى تاريخ الفكر الانساني. وقبل هيجل كان المناطقة ينظرون الى الكلام بوصفه تعبيرا عن الفكر سواء كان منطوقا أم مكتوبا، داخليا أو خارجيا. ،من الواضح أن المشكلة لن تحل اذا قلنا أن التفكير داخلى باطن، وأن الكلام واللغة تعبيران خارجيان عنه. وقد كان هيجل أول من أوضح بوعى تصور مثل هذا التحيز، وبين أن اللغة ليست الوسيلة الوحيدة التى يعبر الفكر عن نفسه من خلالها، بل أن الفكر الانسانى ككل – لا الفردى بالطبع – يتجسد فى خلق الانسان للواقع الخارجى والأحداث. والآن يجئ التفكير الوضعى ليحدثنا بمنتهى الغرور – عن تحيز بال وقد أعيد فى زى جديد بوصفه أحدث انجازات القرن العشرين، فيطابق الوضعيون بين الفكر والنشاط اللغوي، كذلك وبين المنطق والتحليل اللغوي.
واذا انتقلنا الى علم النفس نجد أن هناك شبه اتفاق معلن على وجود علاقة بين الوظائف النفسية المختلفة: الانتباه والادراك الحسي، الادراك الحسى والذاكرة، الذاكرة والتعلم، الذاكرة والتفكير، التفكير واللغة. ولكن هذا الاتفاق يقوم – فى بعض الأحيان – بوظيفة الالغاء فاذا ما قلنا أن هناك علاقة ما بين ظاهرتين، أصبح من الضرورى أن نبحث فى نوعية هذه العلاقة. الا أن البحث يتم غالبا فى احد اتجاهين: الاتجاه الأول: هو اختزال وظيفة الى الأخري، فالتفكير عند السلوكيين مثلا – هو الكلام مطروح منه الصوت، والاتجاه الثانى هو دراسة كل من الظاهرتين على حدة، كأن العلاقة بينهما خارجية وميكانيكية.
هناك اذن – علاقة بين الفكر واللغة، وبين اللغة، والكلام، ولكنها ليست علاقة هوية فالتفكير معطى نظرى يمكن استنتاجه من خلال اللغة بوصفها نشاطا انسانيا، سواء كانت لفظية أم غير لفظية، وكذلك من سائر الأنشطة الانسانية الأخري، وتظهر أنماط التفكير عند الانسان بوضوح فى شئونه الواقعية أكثر مما تتبدى فى تعبيره عنها بالألفاظ. واللغة هى أحدى صور وجود الفكر وشكل من أشكال التعبير عنه.
أنها الواقع المباشر للفكر. ويمكن التمييز بين اللغة الطبيعية، أى تلك التى يستخدمها الانسان فى الحياة اليومية كوسيلة للتواصل، واللغة الاصنطاعية كلغة الرياضيات والعلوم مثلا. ويمثل الكلام الجانب المنطوق للغة،بينما يمثل الاستيعاب الجانب الآخر. وقد أوضحت الدراسات التى أجريت على مرض الحبسةaphasia أن هناك مناطق فى المخ تقوم بوظائف الاستقبال والاستيعاب وأخرى تقوم بوظائف التعبير عن طريق الكلام، وهناك بالطبع اتصال بينها.
اضطرابات اللغة فى الفصام:
ظل البحث التجريبى فى اضطراب اللغة عند الفصاميين متأثرا باعتقادين رئيسيين: الأول هو أن تلك الاضطرابات ظاهرة منتشرة بشدة لدى هؤلاء المرضي، ويمكن التعرف عليها وقياسها بسهولة، والاعتقاد الثانى هو أن هذه الاضطرابات تعكس خللا معرفيا ينتج عنه عدم القدرة على تنظيم الأفكار وكذلك اضطرابها على نحو ظاهر فى لغة المريض الى درجة تجعل التشخيص واضحا جدا. وقد شهدت السنوات الأخيرة رد فعل مضاد لهذين الاعتقادين دفع ببعض الباحثين الى فرض أن اضطرابات اللغة فى الفصام لا تعكس بالضرورة اضطرابا فى عملية التفكير ،أنها قد تنشأ عن خلل فى مناطق المخ الخاصة بالتعبير بواسطة الكلام. وقد أسهم تقدم علم اللغويات فى تطوير أدوات دراسة اللغة عند الفصاميين، وأمكن تحليل كلامهم المنطوق تحليلا لغويا.
شهدت السنوات الأخيرة أذن مراجعة للكثير من الاعتقادات الشائعة عن اللغة الفصامية، وأحد هذه الاعتقادات هو أن الفصاميين يظهرون استجابات شاذة شديدة الخصوصية(idiosyncratic) فى اختبار ترابطات الكلمة Word Association وباستخدام مستوى آخر من التحليل، أوضحت تشابهان وأخرونChpman et al. أن أخطاء الفصاميين ليست سوى تضخيم للاستجابات(العادية، حيث لا يستطيع المريض أن يكف(inhibit) المعنى السائد لكلمة متعددة المعانى فيستخدم المعنى الأكثر شيوعا للكلمة بصرف النظر عن السياق. ويعتقد(برندان ماهر) أن هذا الميل نتيجة متوقعة لفشل السياق فى التأثير على ما يقوله المريض.
ومن الافتراضات النظرية الأكثر شيوعا وقبولا فى تفسير لغة الفصاميين فرض العيانية – التجريدabstract- concrete، حيث يعزى جولدشتين اضطراب اللغة فى الفصام الى الميل نحو العيانية، وعدم المرونة فى الانتقال بين العيانى والمجرد حسب مقتضيات الموقف. ولم يسلم هذا الفرض من المراجعة وأعادة النظر، حيث دوس بنجامين وواتBenjamin and Watt قابلية مرضى الفصام لنوعين من الخلط هما التجريد مقابل العيانية، والمعنى لا العيانية هى التى تؤثر على استجابة المريض للكلمات. ونود أن نوضح أن نتائج هذه الدراسة غير حاسمة بالطبع، الا أنها تشير الى أهمية مراجعة المفاهيم القديمة مهما كانت ثابتة ومقنعة، كما تظهر أن استخدام أكثر من متغير فى البحث يمكننا من المقارنة واختبار الفروض على نحو أفضل.
اللغة الفصامية وعلم اللغويات:
دخل اللغويون مؤخرا مجال البحث فى اللغة الفصامية، حيث قامت تشيكا(2) بتحليل لغوى قادها الى الزعم بأن هناك ست خصائص تميز الانحراف اللغوى فى الفصام وتعزله – اذا ما وجدت مجتمعة – عن ذلك الموجود عند الأشخاص العاديين أو فى الشعر مثلا، وهذه الخصائص هى:
أولا: عدم القدرة على التوفيق بين الخصائص الدلالية(semantic) للمعنى المقصود وبين الخصائص الصوتية لتركيب الكلام، الا أن الكلام لا يخرق القواعد الصوتية للغة.
ثانيا: هناك ميل لأن ينحرف انتباه المريض نحو خصائص دلالية غير ملائمة لمضمار القول
ثالثا: تبدى اللغة الفصامية ميلا الى انحراف الانتباه فى اتجاه الخصائص الصوتية على نحو غير ملائم.
رابعا: صعوبة المحافظة على موضوع بعينه فى مضمار القول.
خامسا: انقطاع فى القدرة على تطبيق القواعد النحوية
سادسا: عدم القدرة على الاكتشاف الذاتى للأخطاء ومن ثم تصويبها.
وتمضى تشيكا فى القول بأن هذه الخصائص المميزة الفصامية ناتجة عن خلل فى مناطق تكوين الكلام بالمخ لا عن اضطراب فى عمليات التفكير.
وقد توصل كرومويل ودوكيكى فى بحث مستقل – سبق تحليلات تشيكا – الى وصف خصائص مشابهة الا انهما نسباها الى اضطراب فى الوظائف المعرفية وبخاصة الى خلل فى الانتباه، لا الى خلل لغوى منفصل عن الوظائف المعرفية الأخري.
علاقة الاضطراب اللغوى بالوظائف المعرفية الأخري:
يعتقد برندان ماهر أن الاضطرابات اللغوية الموجودة عند بعض الفصاميين يمكن فهمها باعتبارها ناتجة عن عدم القدرة على تركيز الانتباه مما يؤثر على فعلنة المدخل الحسى ويؤدى الى عدم القدرة على كف الارتباطات غير اللازمة فى الوعى وبالتالى دخولها فى تيار الكلام.
ويربط بعض الباحثين بين اضطرابات اللغة وعمليات التذكر حيث وجد نايت ونايت (5) أن الفصاميين أقل كفاءة فى استخدام استراتيجيات التذكر من الأشخاص العاديين وبالتالى تقل قدرتهم على خلق الترابط بين الأفكار.
الاضطراب اللغوى بوصفه خللا فى التواصل:
قد يقودنا التحليل اللغوى الى نسيان وظيفة هامة للغة، الا وهى التواصل. ويعتقد بعض الباحثين أن اللغة الفصامية تظهر اضطرابا فى التواصل لا خللا فى اللغة بوصفها كذلك. وقد لاحظ راتر (8) أن أحاديث الفصاميين تظهر أن الصعوبة الحقيقية لا تتبدى فى الخلل المعرفى وتنظيم الأفكار بقدر ما تتبدى فى العمليات الاجتماعية للتعبير وتوصيل الأفكار على نحو يجعل المستمع غير قادر على الفهم والمتابعة. فالصعوبة الحقيقية تكمن فى عدم قدرة المريض على تقمص دور الآخر وبالتالى التواصل معه.
اللغة الفصامية والأمراض الأخرى:
يبقى فى النهاية تساؤل مهم وهو: هل هذه الاضطرابات الموصوفة فى مرض الفصام مقصورة على هذا المرض أم أنها موجودة بدرجة أو بأخرى فى بعض الأمراض النفسية الأخرى – وظيفة كانت أم عضوية – بل وفى حالات السواء أيضا؟
لا حظ البعض أن هناك تشابها بين الاضطراب اللغوى الموجود فى مرض الحبسة، وكذلك فى مرض الهوس، وبين ذلك الملاحظ فى الفصام، الا أن الأمر مازال بحاجة الى المزيد من الدراسة والبحث. كما ربط البعض بين اللغة الفصامية وبعض الانتاج الشعرى الحديث (1).
الخلاصة:
- قدم علم اللغويات أدوات جديدة لتحليل اللغة الفصامية، الا أن البحث فى هذا المجال مازال بحاجة الى عمل اكلينيكى ونظرى واسع قبل الوصول الى نتائج قابلة للتعميم.
- أن رؤية اللغة فى علاقتها بالوظائف المعرفية الأخرى كالوعى والتفكير والانتباه ضرورية، دون اختزال احداها للأخري.
- تغفل معظم الدراسات تقسيم الفصام على ابعاد مختلفة مثل:
1 – وجود الأعراض البارانوية أو غيابها.
2 – الحالة قبل المرضية والقدرة على التكيف.
3 – بعد النشاط – الثبات Activity. Establishedness.(2)
- تهمل الدراسات المتاحة العلاقة بين الاضطراب فى انتاج الكلام والاضطراب فى الاستيعاب (أى جانب الاستقبال).
- قد يفيد التحليل اللغوى فى دراسة العلاقة بين اللغة الفصامية وبعض أنواع الانتاج الشعرى كالشعر الحديث مثلا.
المراجع
1- Benjamin T.B and watt، N.F(1968) Psychopology and Semantic Interpretation of Ambiguous Words. Harvard University.
2 -Chaike، E(1974) A linguist looks at Schizophrenic – language Brain and Language، I: 257 – .276
3 -Chapman L.J.Chapman J.P and Daut R.L(1976) Schizophrenic inability to distend from strong aspects of meaning J. Abnormal Psychology، 85: 33 – .40
4 – Ilynkov، E،V(1977) Dialectical Logic Moscow: Progress Publishers.
5 – Knight، R.A. and Sins Knight J.E.(1979) Integration of linguistic ideao in Schizophrenics. J. Abnormal Psychology، 88: 91 – 202 .
6 – Maher B. (1972) The language of Schizophrenia: A review and interpretation، British J. Psychiatry، 120: 3 – 17 .
7 – Rosenrhal، M. and Yudin، P.(1967) A Dict i onary of Philosophy. Moscow: Progress publishers.
8 – Rutter، R.D. (1985) Language in Schizophrenia: The structure of monologues and conversations. British،J. Psychiatry، 146: 399 – .404
9 – Vygotsky، L.S.(1962) Thought and Language. Cambridye: MIT Press.
[1] – وهذا موضوع نأمل أن تقدمه المجلة قريبا.
[2] – هناك رسالة دكتوراه عن “اضطراب التفكير فى الفصام” للدكتورة يسرية أمين – اشراف أ.د. يحيى الرخاوى أثبتت أهمية هذا البعد فى فهم الفصام.