المتهم(1)
فؤاد حجازى
حث محاميه على الاسراع. استقلا عربة، وجملا يمرقان فى شوارع المدينة.
– لابد من الاهتداء الى المكان الذى ستنعقد فيه المحاكمة بسرعة.
وكان كاتب المحامى،قد استعرض فى اليوم السابق، كشوف القضايا التى ستنظر أمام المحاكم المعروفة ولم يهتد الى اسمه.
وحاول المحامى ارجاء البحث، حتى يصله أعلان بموعد ومكان المحاكمة، ولكنه لم يأبه له. وقال أنهم فى المرات السابقة لم يرسلوا له. لذلك ينبغى اللحاق بالمحكمة، قبل انعقادها، حتى لا يفاجأ بحكم جديد. وهو لا يريد التقصير فى الحضور أمامهما مرة أخرى. مرا بجميع المبانى، المحتمل انعقاد المحكمة فى أحدها، دون جدوى. ولما مط المحامى شفتيه، شبك يده بذراعه، ودفع به الى الشوارع الضيقة، فى الأحياء القديمة.
أشرفا على باحة بين البيوت، بها جمهرة من الناس. وثمة آثار فى وسطهم، تدل على أن حاويا، انهى العابه، وأنصرف منذ قليل.
– لقد أجادوا التمويه، والأدهى من ذلك أن المحاكمة تمت وسط الناس فأى حجة بقيت لنا لندفع بها.
واستفسر المحامى من الواقفين. وعندما علم أن الحاوى، لم تكن تساعده سوى فتاة واحدة، طمأنه بأن القاضى لو كان متنكرا فى هيئة حاو، فأين عضوا اليمين واليسار. ولما حاول مجادلته، بأنها ربما كانت محكمة جزئية ولا تضم سوى قاض واحد، وأن الفتاة هى كاتبة الجلسة، نفى المحامى هذا الاحتمال بشدة، وذكره بأن من المستحيل أن تنظر تهمته محكمة جزئية. لابد أن تكون محكمة جنايات على الأقل.
نطق “ على الأقل” بنبرة خاصة، وسأله: هل سبق أن أبديت رأيا فى اى شئ.
– للمرة الألف تسألنى، وللمرة الألف أجيبك…. يحدث أحيانا أن…..
فقاطعه المحامى :
– كفى…. أردت فقط أن أؤكد لك بأنها لابد أن تكون محكمة جنايات وليست جنايات عادية، لابد أن تكون أمن دولة.
ولفت نظره الى أنه طوال عمله بالمحاماه، لم يجد فتاة تعمل كاتبة جلسة.
ولما أخبره بأنهم ربما أحضروا الفتاة للتعمية، صاح المحامى :
– فأين الحكم الذى صدر بحقك، ها نحن نقف هنا من مدة ولم يعترضنا أحد.
– ربما أصدروا حكما ببراءتى.
عندئذ لم يملك المحامى نفسه، وأراد الانصراف غاضبا. وعندما رجاه البقاء قال بأنه سيكتفى بعدم الرد عليه، فأمن بينه وبين نفسه أن المحامى على حق.
اقتربا من سور الجامعة. خبط كتف المحامى، وأبدى عجبه لغفلته مرا على المدرجات، وجعلا ينصتان للمحاضرين. واستطاع المحامى استعارة تسجيل من صديق له ولما كانت القاعات كثيرة، فقد اتصل المحامى بمكتبه، وسرعان ما حضر مساعدوه،ومعهم آلات تسجيل، وانبثوا فى مختلف القاعات. ودفع بالشرائط الى كبير مساعديه، وبعد فترة، أخبره بأنه لم يجد أى اجراءات للمحاكمة مدسوسة بين كلمات المحاضرين.
– ربما عقدت المحكمة فى يوم سابق
عندئذ صارحه المحامى، بأنه منذ علم من تحرياته الخاصة، بأمر ذهابه الى بعض ندوات الجامعة، وهو يرسل رجاله للأستماع الى المحاضرات وتسجيلها من حين لآخر
صاح فجأة كأنه وجدها : السوق
– لم يغب الأمر عن بالى. ربما تكون قد تفوهت بشئ ما عن مستوى المعيشة.
لذلك فقد انبث المحامون تحت التمرين بمكتبى، فى مختلف اسواق المدينة، وتحروا عن جميع الباعة. واستعلموا عن أى باعة جدد وقاموا بعمل التسجيلات اللازمة، فربما استغل حاجب المحكمة نداءات الباعة المتتالية على بضاعتهم، ونادى اسمك فى غفلة من الجميع. وربما جرت المحاكمة بينما مساومات البيع والشراء تحدث لغوا مختلطا وزيادة فى الحيطة. استاجرت بعض المصورين، ويجرى يوميا التقاط صور الباعة والمشترين. ويعمل فى مكتبى الآن، بشكل دائم، خبير فى التنكر وآخر فى فن التصوير، يقومان بفحص الصور أولا بأول. ومما يزيد الأمر صعوبة. أننا لا ندرى على وجه التحديد هل ستنكر هيئه المحكمة فى زى الباعة أم فى زى المشترين.
مع كل هذا، ونظرا لقولك بأنه ليس من عاداتهم ان يصبروا كثيرا دون ان يصدروا حكما ما، ولاحساسك الداخلى بقرب صدوره، فهيا بنا وجعلا يتجولان فى سوق الخضروات الرئيسى بالمدينة حتى كلت أقدامهما وبغتة قال المحامى كمن آفاق من كابوس سخيف.
– كيف تقولون بالحداثة وتعقد المحكمة فى السوق القديم!
– “ السوبر ماركت “
– لم يعد هناك شك.
واستقلا تاكسيان وذهبا الى هناك، جو أنيق، بضائع مستوردة، كل يخدم نفسه ولا ضجيج.
– قال بامتعاض :
– محال أن تعقد المحكمة هنا، فهل يعلمون أننا لا نحبذ البضائع المستوردة.. الا اذا كانوا يودون السخرية بنا….
وبعد فترة صمت :
– لا… ليس هذا جو محاكم.
وأصر المحامى :
– بل هذا هو الجو الجيد.
وشرع المحامى ومساعدوه فى العمل. وبينما يحتسى مشروبا ساخنا فى مقهى قريب، أنباه المحامى بعدم عثورهم على شئ ملموس. ولكن… ثمة احساس لم يتأكد بعد… بوجود شئ ما… تألق بالفرح… ولما طلب منهم سرعة اليقين، اعتتذر المحامى بأن الأمر ليس سهلا، فقد يستغرق عدة ساعات، وقد يستغرق عدة سنوات. عندئذ غامت الدنيا فى عينيه، وخيل اليه لبعض الوقت، أنه لا يوجد أتهام ما ,ان الأمر لا يعدو أن يكون وهما. ولكن كيف يفسر الأحكام التى صدرت ضده… وقف ترقيته فى العمل، وعدم توليه منصبا قياديا رغم استحقاقه له من زمن بعيد، ومنعه من السفر الى الخارج، ومنعه من الكتابة فى صحف المدينة. والمرات التى قبضوا عليه فيها.لابد أن المحكمة موجودة فى مكان ما……
ولكنه عاجز عن الوصول اليها.
شعر لحظة – باليأس……. آه… لو كان الموت يحل المشكلة. طافت بذهنه قراءاته التاريخية، ومعاصرته لكثير من الأحداث، والاتهامات التى تلاحق الناس بعد موتهم.
ومن زجاج المقهى، رأى عمال محلات البقالة، يعملون فى هدوء دون أن يتوقع أحدهم خبطا على بابه وأمرا بالقبض عليه. لشد ما يحسدهم وفزع من حسده لهم…..
أيعنى هذا اتهاما لهم بالتقاعس…؟
فكر برهة فى تغيير محاميه. هذا هو المحامى الخامس أو السادس الذى يوكله.
نصحه احدهم بالذهاب الى طبيب نفسى، ليحدثه عن طفولته وشبابه الباكر، لعله يجد شيئا يقود الى ماهية الاتهام بالضبط، ربما لو عرفه، أستطاع الوصول الى المحكمة. وذهب الى منوم مغناطيسى وبعد عدة جلسات نصحه بالذهاب الى قاض عجوز سماه له. وما أن علم خبايا حياته حتى اخبره أنه لم يجد شيئا يؤاخذه عليه القانون. ولما كانت مشكلته لا علاقة لها بالقانون، فقد توجس منه شرا ولجأ الى مستشار كفء فى مدينة أخرى، فنصحه بعرض نفسه على أخصائى أجتماعى. ولما كان متخصصا فى الدراسات الاجتماعية، فقد أيقن أن الرجل يسخر منه.
نهضا من المقهى، واستأذن المحامى فى الانصراف، متعللا بأن المحاكمة لايمكن أن تجرى فى المساء.. وكمن وقع على جسده ماء نار، انتفض وقال :
– ولم لا…؟… أليس من الجائز أن تعقد فى احدى دور اللهو وكلما كان المكان مشهودا له بالخلاعة والمجون، كان ذلك افضل من ناحية التمويه، ولتتم الأمور فى سهولة ويسر….
ولما كان بعض هذه الأماكن يشترط الدخول بالملابس الرسمية الكاملة، فقد المح المحامى الى رغبته فى تغيير ملابسه. وعندما وجد نظرة فى عينيه لم يرتح لها، خشى تزويغه وعدم عثوره عليه فى هذه الليلة. وهون الأمر على نفسه بانه ينبغى الاستغناء عنه، فلم يفده كثيرا حتى الآن.
ولكن من يدافع عنه لو عثر على المحكمة فجأة….!
سمح له بالانصراف، وهز كتفيه استهانة. بالتأكيد لن يصمد معه حتى يجد المحكمة. وحتى اذا صمد فليس معقولا ان يلاصقه كجلده فى بيته وعمله. ولما كان لايعلم فى أى وقت سوف تنبثق المحكمة، ونظرا لأنه يجب التحسب لأى طارئ.فلابد أن يعد نفسه للدفاع، بل أنه كان ينبغى أن يتولى قضيته من زمن بعيد.
[1] – انظر أيضا، أو قبلا، قصة المحلفون : الانسان والتطور العدد الرابع السنة الثانية (سنة 1981) ص 107 – 110.
– وانظر أيضا، وقبلا ، قصيدة “المرافعة” ديوان قصاقيص ورق، دواوين صلاح جاهين الهيئة العامة للكتاب (1977) ص 277.