مجلة الإنسان والتطور
عدد أكتوبر 1983
مقتطف وموقف
أبو حيان التوحيدى
بين التكثر والتناقض والتمزق
المقتطف:
يناجى أبو حيان التوحيدى فى “الإشارات الإلهية” يقول: ” يا حبيبى: أما ترى ضيعتى فى تحفظى؟ أما ترى رقدتى فى يقظتى؟ أما ترى تفرقى فى تجمعى؟ أما ترى غصتى فى أساغتى؟ أما ترى ضلالى فى إهتدائى؟ أما ترى رشدى فى غيى؟ أما ترى عيى فى بلاغتى؟ أما ترى ضعفى فى قوتى؟ أما ترى عجزى فى قدرتى؟ أما ترى غيبتى فى حضورى؟ أما ترى كمونى فى ظهورى؟..”.
وقد جاء إستشهاد د. زكريا إبراهيم (1) بهذا المقتطف فى معرض حديثه عن شخصية التوحيدى التى “إتسمت على وجه الخصوص بالإزدواج والتناقض والصراع والتوتر النفسى” وكان تعقيبه على هذا النص (ومثله) أنه “ليس من قبيل الصدفة أن تتكرر فى عبارات التوحيدى ألفاظ التناقض والتضاد وشتى أنواع التقابل. فقد عاش صاحبنا دائما متأرجحا بين النشاط والكسل، بين الرجولة والفسولة، بين القوة والضعف، بين القدرة والعجز”.
الموقف:
نشعر أنه قد آن الآوان أن نقرأ التراث بشكل آخر، وأول ما نراه هو أن تكون البداية من “النص” دون الإلتزام بقولبته فيما نحكم به مسبقا، فتكون إعادة إكتشاف التراث هو إضافة لما نعرف، وليست تحقيقا وتأكيدا لما نتصور أننا نعرف، أو تكرار لما نكتفى بمعرفته، بل لما فرضت علينا معرفته دون غيره، ويجب هذا أحتم ما يكون الوجوب فى الترجمة لرائد هو غزير الإنتاج متعدد المواهب موسوعى المعرفة متفتح الوجود مثل أبى حيان، وكنا ننتظر من د. زكريا إبراهيم بغزارة إنتاجه وصحبته الطويلة لأعمال هيجل خاصة أن يلتقط من هذا النص الذى إستشهد به عمقا يريه سبق أبى حيان للوعى بعمق الديالكتيك فى مسيرة نموه الذاتى الرائعة المحيرة، أما أن يفعل مثل غيره فيستسلم لظاهرة “الإستقطاب السماتي”، التى تنبع من مأزق العقل العربى المعاصر الذى تنازل عن قدرات لغته، وتكثيفات تاريخه، ليتسطح فى هذا الموقف الشبه الأخلاقى فيذهب يتمادى فى إطلاق الأحكام ذات البعد الواحد على الناس والوجود، فهذا ما لم نستسغه، فكان الموقف.
ومرجع الصعوبة أن وعى المبدع – مثل أبى حيان – بحركة ذاته أثناء نموها هو أكبرمن قدرة الألفاظ على إحتواء الأضداد، فإذا ترجمها بكل هذه الشجاعة والدقة، كان لزاما على الناقد والفاحص والمترجم أن يواكبه بمثل ما عاشه لا أن يكتفى بفهمه بمنطق عقله الظاهر، فإذا أحسن المواكبة والمعايشة تفتحت أمامه آفاق الإضافة حين يلتقط ما يعينه من اللاحق من المعرفة والتنظير (مثل ديالكتيك هيجل فى هذه الحالة) يضيء به النص، ويضيف إليه من النص، هنا يصبح للتراث وظيفة معاصرة، لا لنعلن سبق أبى حيان لهيجل، ولا لنثبت رأى هيجل بحدس أبى حيان، وإنما لتتكامل المعرفة الإنسانية فى مستوى أرفع من الوعى بوحدة البشرية فى تضافر عطائها، والذى دفعنا إلى هذا الموقف أن د. زكريا إبراهيم أحب أبا حيان كما أحب هيجل – هكذا أثبت فى مقدماته – وكتب فيهما ما كتب – مع الشكر – ولا نشعر أننا نبخسه حقه – رحمه الله – إذا أعلنا أننا كنا ننتظر منه ما يتوقع من مثله، ولكن: فلنأمله فيمن بعده غير ناسين فضله.
مرة ثانية: موضوع الديالكتيك – الذى يترجم عادة إلى الجدل – مما يحتاج إلى المراجعة – هو موضوع شديد الصعوبة إذا قصدنا عمق الوعى بحركته، فهو مفهوم قد ننجح أن نحكى عنه، أو نتناقل تفاصيل حركته، أو ندرسه ونسمعه ونصححه، ولكن يبدو أننا لكى نعرفه لابد أن نخاطر بمعايشة “تكثر” لم نعتده، وتحمل غموض نفضل ألا نعيه، ومن هنا نشأت الهوة بين ما نعيده وننقله بهذا الشأن. وما يمكن أن نلتقطه ونستوعبه من معايشة حقيقته، ومن هنا قد نفسر – مع إحتمال الخطأ – كيف نجح د. زكريا أن يسرد لنا فكر هيجل، وفى نفس الوقت كيف لم يلتقط عظمة حركة وعى أى حيان برحلته الذاتية ذات الأبعاد المتناقضة فى تفاعل تصعيدى سبق به فكر هيجل بقرون، إن على الناقد والمترجم – بعد أن يتسلح بالأدوات المعرفية الجديدة، وهو يسير على أرضية ثقافية معاصرة أن يقتحم النص القديم بإبداع متجدد، وقد كان هذا – ومازال – ممكنا فى مثل أبى حيان. وهنا كان الناقد سيتردد كثيرا قبل أن يستعمل ألفاظ التناقض والتمزق والتكثر كمترادفات تصف نفس الظاهرة فى هذه الشخصية الزاخرة. “ولكن شخصيته كانت فى صميمها، متكثرة، متناقضة، ممزقة” (2).
ذلك أن التكثر (3) يجدر أن يكون إلى التعدد وتفكيك التكثيف أقرب، فهو خطوة لازمة فى عمليات النمو والإبداع، وفى نفس الوقت هو خطوة خطرة معجزة فى الإتجاه الآخر (الجنون والتدهور) وموقعه فى مفترق الطرق هذا، وخوفنا من “الإتجاه الآخر” ذلك، هو الذى يدفعنا إلى الإسراع بإعتباره ظاهرة سلبية فحسب. أما التناقض(3) فيستحسن أن يشمل التضاد إبتداء، ولكنه خليق بأن يستلزم التفاعل والحركة والتداخل الجزئى ثم يأتى التمزق(3) ليعلن بداية السير فى “الإتجاه الآخر” إذ يشير حتما إلى التجزيء إلى قطع وليس إلى التعدد فى كيانات مواجهة.
وأبو حيان الذى برع فى تحديد الفرق بين المترادفات، (بين الألفة والصداقة، بين الفعل والعمل، بين التمام والكمال… الخ) هو أولى الناس بأن ندقق فى إستعمالنا للألفاظ إزاء ما كانه وما يمثله، وقد أوضح أبو حيان فى أكثر من موقع ما يؤكد إيجابية معايشته رحلة نموه بين الواحدية والتكثر كمراحل متداخلة متبادلة فى آن، فهو القائل “الإنسان إن كان واحدا بوجه، فهو كثير بوجه آخر” (4) وهو أيضا القائل “وكللك مستغيث من بعضك، وبعضك هارب من كلك” (5) إذن فهى ليست عملية تمزق وصراع شخصى غير ثابت على حال، وإنما هى وعى برحلة لا يجرؤ أن يعيها إلا من غامر بتقبل المشاركة فى إبداع ذاته متجددا مخاطرا أبدا، ويبدو أن هذا من أعظم أسرار صلة أبى حيان بالحياة، تلك الصلة النابضة الهادفة التى أعاشته أكثر من مائة عام دون ظاهر ما يربطه بزائل سطح الحياة، مرة أخرى.
إن دور التراث فى حياتنا ليس ضئيلا ولا ثانويا، شريطة أن يكون “شيئا آخر”، فلن يفيدنا أن نعيد ما سبق قوله، ولا أن نقيسه بما حبسنا عقولنا فيه، وإنما تظهر قوته ويغمر عطاؤه إذا إستعملنا أدوات المعرفة الجديدة – دون إلتزام بحكم مسبق أو محتوى براق – فى كشف طبقاته مما لم نعتد أن نواجهه، هنا نضيف ونسبق من واقع قديم متجدد فى آن.
[1] – زكريا إبراهيم (1974) أبو حيان التوحيدى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ص 116، 11&.
[2] – نفس المرجع ص 74.
[3] – حتى ولو لم تسعفنا المعاجم بما يعين فى ذلك، فلتحقنا بقدر ما نتخطاها.
[4] – نفس المرجع ص 174.
[5] – نفس المرجع ص 75.