أبو حيان التوحيدى(1)
فيلسوف التساؤل ورحالة النفس
د. رفعت محفوظ
نقدم فى هذا المقال أبا حيان التوحيدى كرائد مبدع يتميز بطريقته الخاصة فى التفكير وأعمال العقل، مما يحدد موقفه المعرفى التساؤلى فى الحياة، ونحاول عرض موجز لنماذج من كتاباته التى تندرج تحت ما استحدث حديثا مما يسمى “علم النفس” أو” الطب النفسى”.
أبو حيان الانسان… المبدع فى نفسه… المبدع فى انتاجه:
يذهب بعض المفكرين الى ان حياة أبى حيان التوحيدى كانت قائمة على الازدواج والتناقض والصراع والتوتر النفسى، وانعكس كل ذلك على كتاباته. وهذا الرأى يستحق المناقشة… فابو حيان عاش أبعاد انسانيته بكل مافيها من تناقضات، كما عايش أنسانية الآخرين، ثم أحسن التفكير فى كل ذلك، وأجاد التعبير عنه، فبدى لنا ما بدى من حياته وشخصيته وكتاباته.. وهذا شرف ما بعده شرف.. شرف المعايشة ومعرفة النفس ومعرفة الآخرين، ثم التعبير عن كل ذلك ليصل الى من يهمه الأمر، وأبو حيان التوحيدى يقول فى هذا الصدد: “زعمت الحكماء على ما أوجبته آراؤها ودياناتها أن من الوحى القديم النازل من الله قوله للانسان: أعرف نفسك؛ فان عرفتها عرفت الأشياء كلها. وهذا قول لا شئ أقصر منه لفظا، ولا أطول منه فائدة ومعنى. وأول ما يلوح منه: الزراية على من جهل نفسه ولم يعرفها. واخلق به اذا جهلها أن يكون لما سواها أجهل، وعن المعرفة به أبعد، فيصير حينئذ بمنزلة البهائم، بل أرى أنه اسوأ منها واشد انحطاطا..” (الاشارات الالهية)(2) .
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فان معايشة التناقض ورؤيته فى الانسان الفرد، وليس العمى عنه أو الهروب منه أو اظهار عكسه، هى البداية الصحيحة لحل ذلك التناقض، وذلك عن طريق النمو(النفسى) المبدع والخلاق، والذى تتجلى مظاهره فى الذات وفى السلوك وفى الانتاج الأدبى والفنى… أن ثروة المبدع هى معايشة التناقض فى نفسه ورؤيته فى الآخرين.. بل فى مظاهر الوجود المختلفة، مع تحمل كل ذلك، ثم التعبير عنه بما يمتلك من أساليب أدبية وفنية.
فاذا تأملنا هذه العبارة لأبى حيان: “ياحبيبى! أما ترى ضيعتى فى تحفظى؟ أما ترى رقدتى فى تيقظى؟ أما ترى تفرقى فى تجمعى؟ أما ترى غصتى فى اساغتى؟ أما ترى ضلالى فى اهتدائى؟ أما ترى رشدى فى غيى؟ أما ترى عيى فى بلاغتى؟ أما ترى ضعفى فى قوتى؟ أما ترى عجزى فى قدرتى؟ أما ترى غيبتى فى حضورى؟ أما ترى كمونى فى ظهورى؟… أما ترى دائى فى دوائى؟ أما ترى بلائى من مولائى؟ أما ترى على هذا الى أن يفنى الورى، وينفذ الثرى، ويفقد السرى؟”(الاشارات الالهية). اذا تأملنا هذه العبارة، وغيرها كثير كثير عند أبى حيان، وجدنا أنها تدل على عمق التجربة الانسانية، ويقظة المعايشة، والسعى المتصل فى طريق التكامل، والمعنى العويص، فى حين أن التناقض الموجود ما هو الا تناقض ظاهرى فقط… ولقد نبهنا الى ذلك أبو حيان نفسه حين قال: “اياك أن تقف مع اللفظ القصير فتسحر به عن المعنى العريض، فان اللفظ للعامة، والمعنى للخاصة”.
والتوحيدى كان يسعى دائما الى حل المتناقضات، والبحث عن الوحدة فيما وراء الكثرة، والربط بين الاشياء والأحداث، وتوثيق الصلة بين المعارف المختلفة. ففى أسلوبه يمزج الحس بالعقل، والأدب بالفسلفة، ويجمع بين اللفظ المجرد والصورة الذهنية الصرفة وبين اللفظ المجسم والصورة الحسية الملموسة… اهتم بالعلاقة بين الجزئى والكلى، والعلاقة بين الفكر واللغة، والعلاقة بين المنطق والنحو، والعلاقة بين المعنى واللفظ.. كذلك كان يربط بين العلم والعمل، ومن مقولاته: “الانسان الذى لا يعمل بعلمه كالشجرة المورقة لا ثمر لها”… وموسوعته خير دليل على ذلك، أى الربط وايجاد العلاقة، فهو كان فيلسوفا ومتكلما، أديبا وعالما، فقيها ومتصوفا، نحويا ومنطقيا، فنانا ومفكرا.
يبدو أذن ان ما يظهر لنا من تناقض عند أبى حيان هو نتاج لعملية بحث ولافية ترابيطة لحل ذلك التناقض وليس الوقوف عنده…..
التوحيدى وعقليته الفلسفية المتفتحة:
يقول الفيلسوف الألمانى شوبنهاور: “أن الشخص الذى يملك عقلية فلسفية حقة أنما هو ذلك الذى يتمتع بالقدرة على التعجب من الأحداث المألوفة وأمور الحياة العادية بحيث يتخذ موضوع دراسته من أكثر الأشياء ألفة واشدها ابتذالا.. وكلما قل حظ المرء من الذكاء، بدا له الوجود أقل غموضا وأدنى سرية، ومعنى هذا أن كل شئ أنما يبدو وللرجل العادى أمرا طبيعيا يحمل فى ذاته تفسير اصله ونوعه وغايته”.
من هذا المنطلق، يعتبر أبو حيان التوحيدى نموذجا لصاحب عقلية فلسفية مستنيرة، لاحقت مظاهر الوجود وأحوال الناس ومظاهر اللغة بالتساؤل… لقد كان ابو حيان متقد الذهن، يندهش لكل ما يلاحظه، ويتساءل عن كل شئ، وتساؤلاته هذه كانت تؤدى دائما الى توليد الدهشة واشاعة روح الاستفهام… وبذلك قدم لنا الدليل على أن “التساؤل” هو صميم “عملية التفلسف”.
وموقف التوحيدى من “عملية التساؤل” موقف رائع وعظيم…. فهو يراه على أنه جوهر الوجود البشرى نفسه……. وهو محق فى هذا… فالتساؤل هو المفتاح الرئيسى لأعمال العقل وتحريك التفكير، واكتشاف العلاقات بين مظاهر الوجود، وهو المحافظ على يقظة العقل البشرى، ولب “عملية الابداع” أو الموقف الابداعى” فى الحياة.
كان أبو حيان التوحيدى لاينزع الى التصديق السريع، أو التسليم بالرأى مجرد تسليم، كذلك كان يرفض الجمود الفكرى، والتمذهب، والتحجر العقلى عند رأى بعينه.. وفى هذا يقول: “أن النفوس تتقادح، والعقول تتلاقح، والألسنة تتفاتح”. ويصبح الاختلاف فى الرأى عنده مظهرا من مظاهر خصوبة الفكر البشرى، فالحقيقة لن تكون فى يوم من الأيام وقفا على مذهب بعينه. كان يعمل عقله فى دراسة ما يعرض له من مسائل، دون أن يقتصر على ترديد ما قاله الغير، ودون الاكتفاء بمجاراة العامة من الناس فيما تدين به من معتقدات، وكان يقول أن “الحق لا يصير حقا بكثرة معتقديه، ولا يستحيل باطلا بقلة منتحليه”، وكان يدعو أن يحترم المفكر الحقيقة التى انكشفت له فى صميم تجربته حتى ولو كان وحده الذى يؤمن بها… احتراما للعقل البشرى وفضلية التفكير، واحتراما للرأى الآخر.
وكان التوحيدى يثير السؤال تلو السؤال، وكانت اسئلته متلاحقة، وقليلا ما تلتقى عنده بأجوبة شافية أو حلول جاهزة، ومن هذا المنطلق استطاع أن يحيل التراث الفلسفى الى ثقافة حية نامية ومتطورة، كما أنه استطاع أن ينزل بالفسلفة الى مستوى الجمهور. وموقفه هذا من الفلسفة يذكرنا بموقف الفيلسوف اليونانى العظيم سقراط، والذى كان يعايش الفلسفة، وينزل الى الناس لمحاورتهم وأثارة دهشتهم وتفكيرهم وتوليد الأفكار من داخل رؤوسهم.
أبو حيان العالم:
وأبو حيان التوحيدى يتصف فى موقفه المعرفى فى الحياة بمقومات العالم الباحث بالمعنى الدقيق لهذا المفهوم. وأول مايميزه فى هذا المجال هو القدرة الفائقة والدقة المتناهية فى ملاحظته لجوانب الحياة من حوله، والوقوف أمامها، والتساؤل عن أصل كل شئ، وهويته، وكيفيته وعلة وجوده.. ثم استقراء الظواهر المختلفة وخصوصا ما يخص احوال الناس والنفس البشرية، وذلك لمعرفة مدى توافر ظاهرة معينة، وكان فى كل ذلك يحسن الانتقال من الجزئيات الفردية الى ما هو كلى، أو ما يشبه القاعدة العلمية التى تنصف بالتعميم.
كذلك كانت لديه مقدرة عجيبة على حسن صياغة جوانب المشكل الذى هو بصدد بحثه، أى حسن صياغة الفروض العلمية، وهذه هى الخطوة الأولى والهامة فى البحث العلمى المنتج.. ويتصل بهذه الصفة اهتمام التوحيدى الشديد بتحديد المفاهيم، وتوخى الدقة فى التعبيرات اللفظية، والاهتمام بالنص على الفروق الدقيقة التى تفصل بين الكلمات المترادفة، فنراه – على سبيل المثال – يتساءل: “ما السبب والعلة؟ وما الواصل بينهما أن كان واصل؟ وهل ينوب أحدهما عن الآخر؟ وأن كانت هناك نياية، أفهى فى مكان وزمان؟ أو فى مكان دون مكان أو زمان دون زمان؟ “ثم يستطرد:” وعلى ذكر الزمان، هل الوقت والزمان شئ واحد؟ والدهر والحين واحد؟ وان كان كذا فكيف يكون شيئان شيئا؟ وان جاز أن يكون شيئان شيئا واحدا، هل يجوز أن يكون شئ واحد شيئين اثنين؟”
نلاحظ هنا فى تساولاته المتلاحقة تحليلا دقيقا للوقوف على الفرق بين السبب والعلة، وكأننا أمام عالم معاصر يقوم بوضع تعريف اجرائى Operational Definition لمفهوم محدد للانطلاق فى استخدام ذلك فى بحوثه العلمية، وعندما يأتى ذكر كلمة قد تستخدم فى توضيح ذلك الفرق فأنه يلاحقها بتساؤلاته لمحاولة الوصول الى معنى محدد يفرقها عن اللفظة المردافة لها فى الاستعمال العادى. وهنا نجد العقلية الدقيقة التى تسعى الى الوضوح والحذر فى استعمال الألفاظ والمفاهيم، وهذا منتهى الاحترام لما هو كلمة، وما هو كلمة، وما هو بحث علمى. ويتضح لنا أهمية ذلك. اذا ما تذكرنا أن أهم المسائل فى البحوث العلمية فى العصر الراهن هو مشكلة التعاريف الاجرائية، والاتفاق على معنى المصطلحات العلمية المتداولة فى أى مجال من المجالات العلمية. وكأن أبو حيان التوحيدى من خلال تساؤلاته فى مجال اللغة، يعطينا المفتاح الذى من خلاله نسعى الى التحديد والتمييز…. وهذه الروح هى حقا علمية خالصة، أهتمت بشكل حاد بالعلاقة الوثيقة بين الفكر واللغة.
فاذا أضفنا الى كل ذلك أنه قال بنسبية المعرفة، وأن من طبيعة كل مفكر بشرى أن يقصر نظره على ناحية واحدة من نواحى الوجود، وبالتالى فقلما يصيب من الحقيقة أكثر من جهة، فى حين تفوته منها جهات أخرى فطن اليها غيره، وأن على المفكر أو العالم أن يجمع بين وجهات النظر المختلفة حتى تكتمل الرؤية. اذا أضفنا ذلك الى ما سبق، فاننا بذلك نضيف صفة التواضع العلمى، واحترام وجهات النظر الأخرى، ومحاولة الاستفادة من كل نتاج مفيد أنتجه عقل بشرى.. ولذلك فأنه عاش طوال حياته يسائل المفكرين، ويأخذ عنهم، ويقتبس منهم، ويضارب آراءهم بعضها بالبعض الآخر.. وفى هذا يتجلى ايمانه بقصور العقل البشرى (الفردى) عن الاحاطة بكل جوانب الحقيقة.. وفى هذا يقول: أن الحق ليس مختلفا فى نفسه، بل الناظرون اليه اقتسموا الجهات، فقابل كل منهم من جهة ما قابله، وأبان عنه تارة بالاشارة اليه وتارة بالعبارة عنه، وظن الظان أن ذلك اختلاف صدر عن الحق، وأما هو اختلاف ورد من ناحية الباحثين عن الحق…. (المقابسات).
نماذج من آراء التوحيدى فى النفس .. فى الصحة والمرض:
سجل أبو حيان التوحيدى الكثير من الملاحظات والأفكار والرؤى التى تندرج فى العلوم الحديثة تحت علم النفس والطب النفسى، وذلك لأنه أهتم بمشكله الانسان، واعتبر معرفة النفس الانسانية أسمى ضروب المعرفة، وهو فى هذا تميز بمعايشة خبراته الشخصية، وتمرس بأحوال الطبقات المختلفة من الناس، والمقدرة على النفاذ الى أعماق النفس الانسانية، فجاءت ملاحظاته متمسة بالدقة، وجاء كلامه عن العقل والجنون، والصحة النفسية، ذا أبعاد عميقة، وكل ذلك يستحق منا النظر والدراسة، وذلك للاستفادة منه فى مجالى “علم النفس”، ”الطب النفسى” لأن كلام التوحيدى سبق الكثير من النظريات العلمية الحديثة فى هذين المجالين.
فتراه -ابتداء – يحاول أن يقيم تفرقات هامة بين الحياة والبقاء والعيش، فيقول: أن البقاء أعم من الحياة، لأننا نقول فى الحى باق وفى غير الحى أيضا نقول: باق، والحياة أدخل فى الحس لأنها أعلق بالحركة، والباقى قد يكون بحركة أو بغير حركة، فأما العيش فأنه أشد لطاقة بمادة الحياة، وكذلك يقال خرج فلان فى طلب المعاش. فأما الحياة فقد كانت قبل هذا الخروج، ولذلك يقال فى الله تعالى حى ولا يقال عائش (الهوامل والشوامل).
والتوحيدى يهتم بتعريف الانسان فنراه يقول: “الانسان هو الشئ المنظوم بتدبير الطبيعة للمادة المخصوصة بالصور البشرية. المؤيدة بنور العقل من قبل الاله، وهذا وصف يأتى على القول الشائع عن الأولين أنه حى ناطق مائت: حى من قبل الحس والحركة، ناطق من قبل الفكر والتمييز، مائت من قبل السيلان والاستحالة. فمن حيث هو حى شريك الحيوان الذى هو جنسه، ومن حيث هو مائت شريك ما يتبدل ويتحلل، ومن حيث هو ناطق هو انسان عاقل حصيف، ومن حيث يبلغ الى مشابهة الملك بقوة الاختيار البشرى، والنور الاله، أعنى ينعت فى حياته هذه التى وهبت له بدءا، بصحة العقيدة وصلاح العمل وصدق القول – هو ملك فان لم يكن ملكا، فهو جامع لصفاته، ومالك لحليته: ولما كان جنسه مشتملا على التفاوت الطويل العريض، ومن كان نوعه كذلك كانت آحاده كذلك، وكان أن الجنس يرتقى الى نوع كامل، كذلك النوع يرتقى الى شخص كامل (الامتاع والمؤانس، الجزء الثالث). ونلاحظ فى هذا المفهوم التحديد الدقيق، والوضوح، والتسلسل المنطقى، ومحاولة جمع كل الجوانب التى تدخل فى تعريف الانسان فى هذا المفهوم. وفى نهاية التعريف فأنه يفتح الطريق أمام الانسان الفرد على طريق التطور والتكامل، ولا ينسى أن يثير الى وجود الفروق الفردية.
كذلك نجد أن أبا حيان التوحيدى عنى فى أكثر من موضع بالتفرقة بين النفس والروح، على الرغم من اعترافه الصريح بأن الكلام فى النفس والروح صعب شاق، ومن الحقيقة بعيد، بدليل أن الله ستر معرفة هذا الضرب عن الخلق حين قال: ”ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربى“. فتراه يتساءل: ماالنفس؟ وما كمالها؟ وما الذى استفادت فى هذا المكان؟ وبأى شئ باينت الروح؟ وما الروح؟ وما صفتها، وما منفعتها؟… وما الانسان؟ وماحده؟ وهل الحد هو الحقيقة أم بينهما بون؟… وما العقل؟ وما أنحاؤه، وما صنيعه؟.. وما الفرق بين الأنفس أعنى نفس عمرو وزيد وبكر وخالد (الامتاع والمؤانسة، الجزء الثالث). ويقول أبو حيان التوحيدى: لقد ظنت العامة وكثير من أشباه الخاصة أن النفس هى الروح، وأنه لا فرق بينهما الا فى اللفظ والتسمية، وهذا الظن مردود، لأن النفس جوهر قائم بنفسه، لا حاجة بها الى ما تقوم به، وما هكذا الروح فأنها محتاجة الى مواد البدن وآلاته (الامتاع والمؤانسة: الجزء الثانى). ويعود أبو حيان إلى هذه التفرقة فى موضوع اخر “أن الانسان ليس انسانآ بالروح، بل بالنفس، ولو كان انسانا بالروح، لم يكن بينه وبين الحمار فرق، بأن كان له روح ولكن لا نفس له، فليس كل ذو روح ذا نفس، ولكن كل ذى نفس ذو روح ” (الامتاع والمؤانسة، الجزء الثالث).
وفى كل تعرفاته السابقة، الحياة – البقاء – العيش، والانسان والنفس – الروح، نجد أنه يتطرق لموضوعات هامة، مازالت تعريفاتها حتى الآن محل تساؤل وبحث ونظر، ولا يوجد لدينا تعريفات لها متفق عليها وتكون جامعة مانعة، وبالرغم من الصعوبات فأنه اجتهد فى تعريفاته، وحاول أن يكون منطقيا ودقيقا. وما أحوجنا اليوم فى العلوم الانسانية بصفة عامة، وفى علم النفس والطب النفسى بصفة خاصة، الى تطوير محاولات الأولين بناء على الحقائق العلمية الجديدة، والنظريات الحديثة، والاستفادة بما فيها من مضمون جيد يستحق النظر.
ولم يكتف أبو حيان بالتنظير فى مجال التعريفات العامة، بل حاول استقصاء الكثير من الظواهر النفسية، والتساؤل عن عللها وأسبابها. فمثلا لاحظ أن الناس يذمون البخل مع غلبة البخل عليهم، ويمدحون الجود مع قلة ذلك فيهم، كما قرر أن الانسان حريص على ما منع، وأن الرخيص مرغوب عنه، والغالى مرغوب فيه، كذلك نجده يسأل: ما علة الانسان فى سلوته اذا كانت محنته عامة له ولغيره، وما علة جزعه واستكثاره وتحسره اذا خصته المساءة، ولم تعده المعيبة. وملاحظته هذه هى عبارة عن ملاحظة عامة موجودة فى علاج النفسى الجمعى لدرجة أنها تحسب من بين العوامل التى تساعد المريض النفسى على الشفاء عن طريق مثل هذه الجلسات، وهو هنا لا يكتفى بالملاحظة وأنما يتساءل عن العلة وراء ذلك.
يقول أبو حيان – فى كتابه المقابسات – على لسان أستاذه أبى سليمان: “إن كثيرا من أخلاق الإنسان تخفى عليه، وتطوى عنه وذلك جلى لصاحبه وجاره وعشيرته، وهو يدرك أخفى من ذلك عن صاحبه وجليسه ومعامله وقريبه وبعيده، وكأنه فى عرض هذه الأحوال عالم جاهل، ومتقظ غافل، وجبان شجاع، وحليم طائش، يرضى عن نفسه فى شئ هو المغتاظظ على غيره من أجله”. وهنا نلاحظ الكلام عما يسمى “بالحيل النفسية الدفاعية”، التى تؤدى إلى “العمى النفسى” أو “قلة بصيرة” الفرد بما فى داخل نفسه، مع قدرته على رؤية الآخرين بدرجة أوضح بكثير من رؤيته لنفسيه. ومن هنا تكون حاجة الإنسان إلى الآخرين لتبصيره بما خفى عنه من أحوال نفسه وغرائب سلوكه، فهم بالنسبة له “كالمرآة” التى يرى فيها نفسه، وهذا يعتبر من العوامل الهامة التى تساعد فى العلاج النفسى بصفة عامة والعلاج النفسى الجمعى بصفة خاصة.
ونراه يقول فى موضع آخر: “إن الخواطر والسوانح، على لطفها ودقتها، وشدة حقائقها، وعموم مشاريها، تبدو وتظهر، وتقوى وتكثر، حتى يعرف فيها الشئ بعد الشئ، باللحظة والسحنة والتلفت وضروب أشكال الوجه. فكيف ما ابتذله اللسان، ونسجته العبارة، وظعن من مكان إلى مكان؟” (المقابسات). وهنا نراه يجمل طرق التعبير عما هو “داخلى”، فنراه يقرر أن الحقائق النفسية الداخليه مهما بلغت دقتها فإنها سوف تفصح عن نفسها عن طريق ما يسمى بلغة الجسم ”Body Language أو “اللغة غير اللفظية” Nonverbal Language بالإضافة إلى التعبير بالكلام عن مثل هذه المكنونات. ونلاحظ أن هذه العبارة توضح بعض جوانب العبارة السابقة، حيث أن طرق التعبير “هذه تساعد على التواصل، ومن خلالها يستطيع الآخر الاحساس به وفهمه ورؤيته وإعانته على رؤية نفسه. وهذا أيضا من العوامل الهامة فى مجال العلاج النفسى، بالإضافة إلى الاستعانة بها فى مجال تشخيص الأمراض النفسية.
وللتوحيدى مقولات كثيرة متعلقة بالأمراض النفسية، فنراه يقرر وجود هذه الأمراض النفسية، كما يؤكد على أنها أشد خطورة من أمراض البدن، وأنه يجب الاهتمام بالنفس وأمراضها مثل الاهتمام بالجسد وأمراضه، كذلك نلاحظ أنه يشير إلى اختلاف نوع الرعاية والعلاج فى النفس وأمراضها عن نوع الرعاية البدنية. فنراه يقرر فى أحد المواضع أن “للنفس أمراضا كأمراض البدن، إلا أن فضل أمراض النفس على أمراض البدن فى الشر والضر كفضل النفس على البدن فى الخير” (الامتاع والمؤانسة، الجزء الأول). ثم هو يقول: “وإذا كان الإنسان قد علم إنه مركب من شيئين: أحدهما شريف وهو النفس، والآخر دنئ وهو الجسم، فاتخذ للدنئ منه أطباء يعالجونه من أمراضه التى تعروه، ويواظبون على بأقواته التى تغذوه، ويتعاهدونه بأدويته التى تنقيه، وترك أن يفعل بالشئ الشريف مثل ذلك – فقد أساء الاختيار عن بينة، وأتى الغلط على بصيرة، وأطباء هذه النفوس هم أهل الفضل، وأقواتها الغاذية لها هى الآداب المأخوذة عنهم، وأدويتهم المنقية هى النواهى والمواعظ المسموعة عنهم” (الاشارات الالهية).
ومن أقوال أبى حيان عن العقل والجنون، وعلاقة الواحد منهما بالآخر، ما سوقه فى كتابه (الامتاع والمؤانسة، الجزء الثانى): “… وكما قد يبدو من العاقل بعض ما لا يتوقع إلا من المجنون، كذلك قد يبدو من المجنون بعض ما لا يتوقع إلا من العاقل، ولا يعتد بذلك ولا بهذا، أعنى أن العاقل بذلك المقدار لا يرى مجنونا، والمجنون بذلك المقدار لا يسمى عاقلا”. وهذه العبارة القصيرة – التى تدل على دقة الملاحظة وحسن الصياغة والاستنتاج – تقرر الكثير عن علاقة العقل بالجنون فى تركيبة النفس البشرية، فى الصحة والمرض، كما أنها تقرر مبدأ تشخيصيا(3) هاما. فالجنون فى داخل كل إنسان عاقل، ولكنه لا يظهر فى السلوك نتيجة لنشاط الوسائل النفسية الدفاعية المتحكمة فيه، وفى بعض المواقف، كالإجهاد الشديد مثلا أن الضغوط الخارجية العنيفة، تضعف هذه الوسائل فتظهر على الشخص السوى بعض علامات الجنون، ويكون هذا الظهور مؤقتا، ومرهونا بموقف محدد، وكذلك المجنون فإن بداخله مقومات العقل، وفى ظل ظروف وعلاقات خارجية ذات نوعية خاصة تظهر عليه بعض علامات العقل، ويكون هذا الظهور أيضا مؤقتا، ومرهونا بظرف بعينه. وعلى ذلك فلا يسمح بتشخيص الجنون إلا إذا استمر ذلك لفترة معينة وكان هو الغالب على سلوك الشخص. وهذه الملاحظة الدقيقة وذلك المبدأ التشخيصى لا جدال اليوم على أنهما من الحقائق العلمية الأساسية فى مجال الطب النفسى.
ومرتبط بكلام التوحيدى عن العقل والجنون، بل ويفسره ويوضحه، هو كلامه عن التكثر داخل تركيبة النفس البشرية، وكلامه عن الوحدة أو التكامل النفسى. فنراه يقول فى المقابسات: “الإنسان إذا كان واحدا بوجه، فإنه كثير بوجه آخر…”. ويقول أيضا فى الاشارات الإلهية: “يا هذا ! إنما احتجت إلى تهذيب الأخلاق لأنك معجون من عقاقير كثيرة، ومركب من أضداد متعادية، وأشكال متنافية. وكانت قبل كأنها أنت، وكنت بها لأنها فيك، فلهذا احتجت إلى ضم نشرها، ولم شعثها، وتأليف شاردها، وإصلاح فاسدها، وتقويم اعوجاجها، وارشاد أهوجها…”.
والتوحيدى يحاول تفسير العقل بسيادة مبدأ الوحدة أو التكامل على الكثرة أو التعدد، كما يحاول تفسير الجنون بسيادة مظاهر التعدد أو الكثرة على مبدأ الوحدة أو التكامل. وتعدد الذوات (الكيانات النفسية) Ego States فى تركيبة النفس البشرية من النظريات المعاصرة فى علم النفس والطب النفسى، كما أن مبدأ التكامل Integration وما يشتمل عليه من تنظيم Organization وفى مقابل ذلك التفسخDisorganization والتناثر Disintegration، من العلميات الهامة التى تفسر بها الظواهر النفسية فى الصحة (سيادة المبدأ الأول) وفى الجنون (سيادة المبدأ الثانى).
فاذا نظرنا الى كلام أبى حيان التوحيدى من الانتحار فى كتابه الهوامل والشوامل نجده يقول معقبا على حادثة انتحار رآها: من قتل هذا الانسان؟ فاذا قلنا: قتل نفسه، فالقاتل هو المقتول، أم القاتل غير المقتول فان كان أحدهما غير الآخر، فكيف تواصلا مع هذا الانفصال؟ وأن كان هذا ذاك، فكيف تفاصلا مع هذا الاتصال؟. ونلاحظ هنا أن أبا حيان يحاول تفسير الانتحار على أساس الكثرة أو التعدد داخل النفس البشرية، وعجز هذه الكثرة عن الارتباط بوحدتها الأصلية أو عجزها عن التكامل. وهذا تأكيد أخر على رؤية أبى حيان للتكثر والتعدد فى تركيبة النفس البشرية، واستخدامه لهذه الرؤية فى تفسير الانتحار، كما حاول من قبل أن يفسر بها العقل والجنون. ومرة أخرى فأن تفسير أبى حيان للانتحار سابق لبعض النظريات الطبنفسية المعاصرة والتى تقترض نفس التفسير.
أما بخصوص كلام أبى حيان المتعلق بعلاج الأمراض النفسية فهو كثير، وبالأضافة الى كثرته وعمق معناه، فان له فوائد عملية وتطبيقية فى الوقت الحالى. فهو يقول فى الاشارات الالهية: ياهذا! اذا وجدت طبيبا يجمع بين الحذق والنصح، فأرفع اليه داءك، وأعرض عليه علتك وأصدقه عما تقدم من غيبك فى مطعمك ومشربك، حتى يصدقك عن ويخبرك منك، ويتلافاك لك، ويسقيك ما ينفعك، ويحميك ما يضرك. هذا أن كنت تحس بدائك، وتحن الى شفائك، وتعلم أنك مطبوب ومحتاج الى قيم بك مرفق لك.. وهنا فى هذه العبارة نراه يدرك الكثير من مبادئ العلاج بصفة عامة، والعلاج النفسى بصفة خاصة، فالطبيب واجب عليه أن يجمع بين أن يكون حاذقا فى مهنته، وناصحا أمينا لمريضه، والمريض يجب عليه أن يكشف كل شئ للطبيب، وأن يكون ذا بصيرة بمرضه، وعنده الدافع للشفاء منه، وأنه محتاج الى من يساعده على ذلك الشفاء.
كذلك نجد أن التوحيدى يقرر فى المقابسات: أعلم فى الجملة أنك داؤك، ولكن فيك دواؤك.. فاذا تسلط داؤك على دوائك، غار داؤك بداؤك. وفى الاشارات الالهية نجده يقول: هل لك مرجع الااليك، وهل لك بك مستعان الا عليك! دع عنك أمسك فان فكرك فيه وسوسة، ودع عنك أيضا غدك فلست على بينة من ظفرك به. خذ بعنان نفسك فى ساعة وقتك…. وهنا أيضا يقرر التوحيدى بعض مبادئ العلاج النفسى، وأولها مبدأ الهنا والآن – خذ بعنان نفسك فى ساعة وقتك – وعدم الهروب فى الماضى، أو التأجيل للمستقبل، بل يجب أن تعاش الخبرات النفسية ويبدأ الفعل المسئول فى اللحظة الراهنة وكذلك يؤكد التوحيدى مسئولية الفرد تجاه ما يعانيه، وكذلك مسئوليته فى التغيير الى الأحسن. وهذه المبادئ، هى من مقومات الكثير من مدارس العلاج النفسى المعاصرة.
أما بعد ..
فهذه هى بعض ملامح علم فذ من أعلام تاريخنا الفكرى وتراثنا الحضارى.. ذلك التراث الذى يحوى من الكنوز الكثير.. وأبو حيان يعتبر بحق كنز ثمين من كنوزه، وهو يستحق منا اعادة القراءة والدراسة والاستفادة، لا لمجرد تقرير فضل السبق، وأنما نهلا من أصول لا تنضب قد تكون أحوج ما نكون الى اعادة معايشتها فى هذا الوقت الحرج من تطورنا الصعب.
المراجع
1 – د. زكريا ابراهيم (1974) أبو حيان التوحيدى: أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء. سلسلة الاعلام، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
2 – د. عبد الواحد حسن الشيخ (1980) أبو حيان التوحيدى وجهوده الأدبية والفنية. الاسكندرية: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
3 – د. يحيى الرخاوى (1983) أبو حيان التوحيدى بين التكثر والتناقض والتمزق: مقتطف وموقف. الانسان والتطور – العدد السادس عشر . ص 78 .
[1] – عاش على بن محمد بن العباس التوحيدى، المكنى بأبى حيان التوحيدى، معظم سنوات عمره – التى زادت على المائة – عام ابان القرن الرابع الهجرى. اى أنه عاش فى العصر العباسى الثالث… عصر الارتباك والانقسام وفساد أمور الخلافة، وبالرغم من كل ذلك، فان هذا العصر شهد ازدهار العقلية العربية.. ومع ان فكر أبى حيان يتسم بالعظمة وعقله بالاستنارة وعلمه بالموسوعية، فان الرجل عاش مغمورا خامل الذكر، فاختلف العلماء والمؤرخون فى تاريخ مولده ووفاته، وفى نسبه واصله، كما انه عانى الفقر الشديد والحرمان، وعانى غربة من يتقدم على اهل عصره، واتهم بالكفر والزندقة، وأحرق الكثير من مؤلفاته فى أواخر أيامه.. أنصفته الأجيال اللاحقة، فاعتبره البعض أنه رائد حركة” الفلسفة الأدبية” أو” الأدب الفسلفى” فى تاريخ الفكر العربى الاسلامى، ووصف با،ه”كان فيلسوفا مع الفلاسفة، ومتكلما مع المتكلمين، ولغويا مع اللغويين، وصوفيا مع المتصوفين”.
[2] – المقتطفات الورادة فى هذا المقال مأخوذة من كتاب د. زكريا أبراهيم (1974). أنظر المراجع.
[3] – متعلق بتشخيص الأمراض النفسية