الحــوار … والقضية
د. السماحى- مرقص فايز
محمد جاد الرب- يحيى الرخاوى
كدنا نتصور ونحن نقدم الحوار العدد الماضى أن معالم الحوار قد تحددت، وأن وظيفة الحوار قد استبانت باعتبار أنها إثارة “الجانب الآخر” فى داخل المتحاور المتحمس للجانب الأول لتتاح له الفرصة أن يرى نفسه من خلال محاوره مرتين، الأولى كما كان يظن والثانية كما استطاع محاوره أن يجعله يظن، وقد حاولنا أن نرسم لمثل هذا الأمل طريقا للتحقيق من أول الحماس المبدئى الصادق فى البداية، وحتى السماح الإحتمالى الصادق فى النهاية، والسماح كما حاولنا شرحه هو تقبل نشط للجانبيين لفترة تطول أم تقصر، تسمح بتوليد كيان جديد.. ، وقد أملنا أن نعرف قيمة الحوار المعايشة من حيث هو استكمال للمحاورين لا سبيل لهم إليه إلا به، إلا أن السائد على عقولنا (بالرغم مما يجرى بها) أن الحوار نقاش، وأنه مكسب وخسارة، وأنه إعلان لما “هو أنا” أكثر منه إستكمال “لما يمكن أن أكونه”، أقول هذا بعد أن بلغتنى بعض الإعتراضات المحقة التى أشرت إلى وجاهتها فى المقدمة، مما ألزمنى أن أعيد إيضاح ما يعنيه الحوار فى هذا العدد أيضا- وربما أضطر أن أفعل كل مرة- فالقضية التى يحاول هذا الباب أن يتناولها هى “ضرورة الآخر” حتى نكتمل.
فنحن ندور حول قضية، وليس حول أشخاص، والمقتطفات التى فى الحوار ليس لها وظيفة التعريف بماهية المحاورين وتأكيد ذواتهم بقدر ما هى دائرة حول قضية ما، يسعدنا إختلاف الآراء حولها حتى نستطيع أن نواصل تقليبها لتنشيط وعينا تجاهها، لعلنا نصل إلى بعض أبعادها فنزداد بها ثراء وننمو من خلال كل ذلك، ولكن الإشكال ينشأ حين يتصور القاريء أنه فى مناظرة مسطحة، مثل المناظرة بين “المذياع والحاكي” أو بين “القطار والسيارة” أو ما شابه ذلك، فبدلا من أن نكتسبه مشاركا فى هموم الوعى وصديقا على طريق المعرفة، يضع نفسه متفرجا مصفقا لذكاء محاور دون آخر أو حدق مناور تجاه آخر، وحتى الآن، فإن أغلب من اشتركوا- وأولهم صديقنا صاحب الفضل فى هذا الباب جاد الرب- قد إرتضوا أن يسمحوا للمحاور المحرر أن يأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء خدمة لقضية الحوار حسب ما سمحت لهم به حسن نيتهم، وقد تعلمنا من الإعتراضات القليلة التى وصلتنا أن نكون أكثر حرصا على توضيح طبيعة تحرير هذا الباب والهدف منه بشكل لا يسمح بتصوره ندوة أو حوارا يشترك فيه المتحاورون لحما ودما وجها لوجه، فما هو إلا فرصة تجمعنا حول قضية نحاول أن نتعارف عليها- وربما علينا- من خلال صدق المحاولة.
ولعل الكاتب لا يستطيع أن يفصل نفسه، وهو يوضح المرة تلو المرة معنى الحوار وطبيعة الخلاف وضرورة الإختلاف، أن يفصل نفسه عن أزمة الديمقراطية فى كافة بلاد العالم، وعسر مسارها فى بلدنا هذا فى وقتنا هذا، فإذا كانت جدوى الرأى الآخر لا تتم إلا إذا إلتزم المتحاورون بقدر خاص من الأمانة، وقدرة خاصة على المراجعة، وصبر خاص على التغيير، فمتى تتوفر هذه الأسباب فى الممارسة المسماة بالديمقراطية على المستوى العام؟ وإذا كانت مثل هذه الصفات لا تتوفر لعامة الناس وخاصة الشباب الذين يتنافس المتبارون على رشوتهم أولا بأول حتى كاد سن الإنتخاب يصل إلى الرابعة عشرة (هكذا.. والسلام !!) فما هذا الذى يمارس من على المنابر شرقا وغربا تحت عناوين الحرية والديمقراطية؟ و لكن صبرا… فأى مقياس تحت يدنا نقيس به النضج فضلا عن الأمانة الذاتية؟ أهو مجرد السن؟ فماذا عن التقليديين الذين هم فى عز سن النضج ويرتجفون رعبا من أى إحتمال آخر، وماذا عن الأوهام الثابتة والمزعجة التى تتيه فخرا “بالثبات على المبدأ” وتمارس الجمود تحت كل شعارات التقدم؟ إن الصعوبة أكثر من كل تصور.
والرأى الآخر ضرورة لنمو العقل حتى ليكاد يكون ألزم من الغذاء لنمو الجسد.
والحركة المرنة فى المعرفة هى طاقتها الخلاقة، وهى تحتاج دائما أبدا إلى مواجهة ونشاط مميز مغامر…
وليس للصعب إلا إقتحامه…
فتعالوا نسمع للصديق السماحى وهو يحاول أن يفعل.
د. السماحى.. يغازل الحدس ويخاف منه
السماحى: تعودنا الحديث حول المعرفة فى هذا الباب إلى درجة أن نشأت لدى عاطفة نحو هذا الحوار، لأنه يدور حول أكثر قضايا الفكر جدية على الإطلاق.
الرخاوى: الحمد لله يا صديقنا أننا إستطعنا أن نلتقى حول قضية جادة، وأنك شعرت بصدق المحاولة، رغم ما أصابك كشخص من مخاطر ظلم مقص المحرر، وأن كنا نميل إلى أن نتجنب نشر أى مديح خالص، إلا أنه من حق القاريء أحيانا أن يشاركنا بعض عواطفنا مثلما ندعوه لأن يفعل مع أفكارنا، لذلك سوف استثنى القاعدة التى إرتحنا لها وهى تجنب نشر أى مديح خالص لأسمعك وأنت تقول:
السماحى: لقد أصبحت أشعر بالفخر أن أسجل خواطرى حول أخطر ما فى الفكر من تساؤلات فى هذا الباب الذى يجب أن يفخر به المحاور، والمتحاور معه، والقاريء، بل وحامل المجلة وبائعها ومشتريها (!) إذ أنه تجسيد جميل لتقابل الأفكار ونقائضها دون هذه الحروب السفيهة بالكلمات..
الرخاوى: إذا فقد إلتقينا لتكون الكلمات وسيلة إلى بعضنا البعض، أو هى وسيلة بعضنا البعض إلى المعرفة معا” ، ونجحنا – من وجهة نظرك على الأقل- ألا تكون حربا، وألا تكون سفاهة، وهكذا نفخر نحن بدورنا بالمحاولة، ونتعاهد على الإستمرار مهما قل عددنا أو ضاع صوتنا وسط زحام المبارزات الذهنية والأحكام المسبقة، فهات قضيتك اليوم يا شرف الفكر، متى تحملت مسئوليته، ودعنا نأمل أن نستمر لننمو معا.
السماحى: سبق أن وقفنا حول الحدس، تطلب منى مراجعة موقفى المتجاهل له، وتسوق لى مثل ديكارت الذى لجأ إلى حدس موضوعي، فى الواقع أن موقع الحدس فى التفكير هام جدا، ولكنه رغم إحتفاظه بمكانه فى موضع الفروض، ووضع المقدمات، وطرح عدد من الحلول لبدء المفاضلة بينهما، فقد بدأ مكانه يتقلص منذ عهد عصر التنوير كوسيلة لمعاملة هذه الفروض منطقيا أو تجريبيا لصياغة أحسنها فى شكل حل نظري.
الرخاوى: دعنا إبتداء نتفق على بعض المباديء الهامة اللازمة للوصول إلى تقابل نشط، فلعلك توافقنى أن تقلص وسيلة معرفية لا يعنى فسادها أو خطأها، بل لقد يعنى عدم توافقها مع عصر بذاته، أو عدم إرتقاء فريق من الباحثين إلى متطلباتها، أو صعوبة ما تلقيه على صاحب الهم المعرفى من مسئوليات وجهاد، فإذا إتفقنا على أن تقلصها ليس – فى ذاته- دليل فسادها، فلنتساءل عن سبب تقلصها أولا وقبل كل شيء.
السماحى:.. رأيى الشخصى فى سبب ذلك هو نفور الفلسفة والعلم تدريجيا من الفردية، فالحدس كما أراه عمل شخصى فردي، لأنه مهما كان سليما وموضوعيا لا يمنحنا أدنى دليل مكتوب وموثق على صحة إجراءاته إجراءا إجراءا.
الرخاوى: أحسب أنى لابد أن أوافقك على النفور من الفردية، فلو كنت متشيعا لها لما تحاورت معك أصلا، ولكن دعنى أختلف معك بعد لحظة على ضرورة الفردية، ويمكنك فى ذلك أن ترجع إلى بحث سبق نشره على صفحات هذه المجلة (عدد أكتوبر 1980 ص 26 – 47)، عن أنه كيف يكون الباحث هو هو أداة البحث، بل وحقله، فى مجالى دراسة الطفولة والجنون (كأمثلة متحدية)، وقد أوضحت حينذاك أن المسألة تحتاج إلى إعداد وتقييم وتقويم ونضج وتدرج، قبل أن نأمل فى حدس ما، أو نقبل حدسا ما، والحدس قديما كان يقبل من واقع الحادس وتاريخه، فليس مقبولا بداهة أن يأتى أوطيفرون ويقول لسقراط: “أنى رأيت حدسا أنك ذاهب إلى جحيم مقيم مهما تصورت غير ذلك وحتى لو حكموا عليك بالبراءة”، ولكنه قد يقبل وفورا أن يقول سقراط: “أنى رأيت حدسا أنه لا ينبغى أن أغادر سجنى إحتراما للقوانين لا للقائمين عليها”، وسواء تجسد هذا الحدس فى هاتف يسمع، أو وحى ينزل من السماء، أو صوت داخلي، فهو حدس إبداعى يقبل ممن هو أهل للقبول منه، بحسب تاريخه ومعاناته وتناسقه وإصراره..، ولا يفتح الباب على مصراعيه، وليكن قبوله يا سيدى على مستوى الفرض والبدايات، فدعنى أذكرك أننا فى زحمة الأرقام “والأدلة الموثقة المكتوبة” !! نسينا إفتقارنا إلى فروض حية جديدة ومقدمات نبدأ بها من الأول، بعد أن ساحت بنا الساحة بالعرض، حتى صار التفاضل لا يجرى إلا بين الحلة الزرقاء أو الصفراء فى حين أن المشكلة قد تكون أصلا فى أن الحلة ذاتها لباس لا يصلح للمهمة، وأنى لا بد أن أبدأ من “فرض” الجلباب أصلا أو العرى ذاته، إن المشكلة عندى هى فى “من ذا الذى يستطيع أن يتلقى الحدس أو يمارسه…؟ ثم ماذا؟” ولعلك توافقنى أن إختفاء أهل الحدس لا يقلل من قيمة الحدس ذاته وضرورته معا.
السماحى: (الحدس يا سيدى) هو على عكس الإستنباط deduction or inference، لا ينتقل فى تواضع من خطوة إلى خطوة، بل من نصف خطوة إلى نصف خطوة سائقا مبررات هذه النقلة الصغيرة، والحدس لذلك لو كان عادلا، لكان كالامبراطور الصالح أو الحاكم العسكرى غير الظالم، فهو يصدر أحكامه دون التقيد بحرفية الدستور أو القانون المدني.
الرخاوى: شكرا يا سيدى أنك قارنت بين الامبراطور الصالح فى مقابل استعمال القانون المدني، ذلك أن المقارنة كانت تجرى عادة بين من يسمى “المستبد العادل” وبين “حكم الشعب”، والتناقض فى الجمع بين الإستبداد والعدل واضح، ولكن الخدعة فيما يسمى حكم الشعب غير واضحة، المهم نرجع إلى المثل الذى ضربته وهو الامبراطور الصالح، والحاكم العسكرى غير الظالم، فأرفض أن تعتبر الصلاح للامبراطور ذات نفسه هو المبرر لقبول وجه الشبه بينه وبين صاحب الحق فى الحدس، ولعل صفة “غير الظلم” تذكرك بأن اللاظلم ليس هو “العدل” على كل حال، إن الحدس فى شكله الحديث هو المنهج الفينومينولوجي، وهو منهج أصعب من كل تصور حتى أنه يكاد يضيع فى الشرح والكتابة بالألفاظ، ولعلك تابعت صديقنا د. مجدى عرفه وهو يلهث لايضاحه دون طائل، إلا لمن عرفه قبلا ومارسه فعلا، ولعلك قد لاحظت تخوفى من هذا المنهج وأنا أقدم لباب حالات وأحوال (عدد أكتوبر 1980 ص 78)، حين قلت عنه “.. فان هذه الطريقة تفتح بابا قد يفضى “لأى كلام”…” وضربت لذلك أمثلة منشورة تصورتها وصورتها على أساس أنها “إساءة إلى المنهج والمحتوى جميعا.. إذا فأنا أشاركك الخوف من الفردية أضعافا مضاعفة، ولا أشاركك التراجع والرفض تحت أى تبرير أو حجة وجيهة أعلم تماما مدى صدقها، لأن الحق حق ولو لم يعرفه أحد، ولو لم نجد وسيلة إليه لقصورنا عنه، وهو سيظل حقا ينتظر أهله، وأملى هو فى أن يصدق وعينا ونحن نحاول فى أمانة المعاناة، مهما بدا منطقك وجيها وأنت تقول:
السماحى: أما الإستنباط، فإنه لو أخطأ، فإنه كالقاضى يبرر أسباب حكمه بالمستندات، ويعطى فرصة للإستئناف والمراجعة، ومن ثم فإن زملاءه من رجال القضاء لا يعترضون على السلطات المخولة له، طالما أنهم يطمئنون بقلوبهم إلى تقييده بمنهج غير فردى اتفقوا عليه.
الرخاوى: أرجو أن تقبل إعتراضا سريعا وهامشيا بالنسبة لحكاية “يطمئنون بقلوبهم”، إذ يبدو أنها خرجت منك بالرغم عنك، ثم نرجع إلى قضاتك وحيثياتهم التى على “العين والرأس” ولكنى لا أخالك نسيت قضاة الحلاج ومن قبله سقراط، والأدهى يا سيدى أن حيثيات هؤلاء القضاة لم تستند فقط إلى نصوص قوانين لها حيثيات، ولكنها استندت ضمنا إلى حكم الكثرة، ومع ذلك فلا القوانين القضائية ولا حكم الكثرة قد ثبت صدقها فى مقابل حدس الحلاج وقد رآه هو هو، أو حدس سقراط وهو يهديه إلى أن عليه أن يدفع ضريبة منحه الإله له أن يكون أحكم الناس، يدفعها هداية وإرشادا، وأعرف أنك قد حرصت منذ بداية الحوار على عدم الخلط بين الأخلاق وبين العلم، وأنا أضرب لك أمثلة نابعة مما يسمى التصوف، وما هو يدخل تحت الدعوة إلى الفضيلة، وأنت تدافع عن ما هو علم، إلا أنى أدعوك لإعادة النظر إلى أن البداية واحدة دائما أبدا، أما الخطوات التالية فهى التى تستأهل النقاش والمراجعة.
السماحى: (نعم… ف ) من الفيزيائيين يملك الدفاع عن حدس أينشتاين بأن سرعة الضوء مطلقة؟ إنه لم يجرب قياس سرعات أنواع أخرى من الإشعاع النووي، فلم يقس سرعة الضوء فى بعض الظروف الفيزيائية التى تؤدى إلى نقصها، أن الفيزيائيين على قدر إعجابهم بحدس أينشتاين، يدركون تماما مدى ضعفه، لذلك لم تندمج نظرية النسبية فى داخل شبكة الفيزياء حتى الآن لتكون معها فى نفس القارب، بل أنها لا تزال تسبح موازية لقارب الفيزياء وأحيانا تتخلف عنه، أو تتجه إلى تيار آخر إلى حين.
الرخاوى: لا أعرف ماذا ستقول عن جهلى حين أعتذر عن الرد فيما لا أعرف، فلا أنا أعرف حدس أنيشتاين الذى تتحدث عنه ولا أنا أستطيع متابعة نقاط الموازنة أو نقاط الإختلاف، ولكنى أعرف أن القوانين الرياضية يمكن أن تؤرخ إلى مرحلة ما قبل القوانين الإقليدية ثم مرحلة ما بعدها، شاملة قوانين أينشتاين وروزنبرج، وقد تورطت فىهذه المعرفة حين سقط فى يدى كتاب بعنوان “بحثا عن الجمال” (تأليف فالديمار سميلجا)، وكنت أحسبه كتابا فى الجمال فى التناسق الرياضي، أقول لك أنى تصورت أن هيراركية القوانين التى قال بها أستاذنا د. محمد كامل حسين فى وحدة المعرفة، ليست صادقة فقط بالنسبة لمختلف العلوم، ولكنها تصدق فى نفس العلم ذاته، بمعنى أن لكل علم قوانينه المتصاعدة، وأن وسائل البحث الآمنة ذات الحيثيات تقع فى نطاق طبقة القوانين القائمة، أما النقلة من طبقة قوانين إلى طبقة أخري، فهى تحتاج إلى حدس فائق من شخص فائق يكون قد استوعب الجرعة الكافية من الطبقة القائمة، ثم عايش قصورها وتناقضاتها بأمانة كافية ثم عانى من جراء هذا وذاك المعاناة الكافية، ثم ألقى عليه القول الثقيل حدسا ثقيلا، والمصيبة تبدأ يا سيدى حين نحاول تحقيق هذا الحدس الناقل إلى الطبقة التالية من قوانين المعرفة فى علم بذاته..، نحاول تحقيقه والتحقق منه بقوانين الطبقة الأدني، وما ظهر هذا الحدس إلا تخطيا لمرحلتها، فهل يا ترى يصح هذا التفسير لذلك التنافر الذى أزعجك بين أينشتاين وعلماء الفيزياء الحذرين، وهل يرد هذا على حذر سلفانو أرييتى فى مجالنا وهو يخاف أن يطبق قوانين الكون الأعظم المتعلقة برؤية أينشتاين وروزنبرج…، يخاف أن يطبقها على الكون الأوسط (الذى يشمل الإنسان) إذ يخضع للقوانين الإقليدية الكانطية، ولا أخفى عليك أنى لا أعرف تفاصيل ما تتحدث عنه، إلا أن الفكرة الأساسية لدى شديدة الوضوح، وما يتعلق منها بموضوعنا حالا، هو أن الحدس وسيلة معرفية خاصة، لفرض خاص، لازمة لنقلة معرفية خاصة من مرتبة إلى مرتبة، والخصوصية هنا لا تعنى الفردية ولا تمييز وإنما تشير إلى مواصفات ضرورية بذاتها لا بد من توافرها قبل أن نسمح لأنفسنا بالحديث عن الحدس، فضلا عن إدعاء ممارسته كطريقة معرفية ليست بديلة أبدا عن الإستنباط والتحقق..، مع تذكر أن الحدس الجديد يتطلب ما يتفق معه من تجديد فى القوانين التى تتعامل معه.
السماحى: فى العلم أمثلة على حدوس شهيرة أقامت الدنيا فى وقتها وأقعدتها ثم لما طالت فترة البحث عن وسيلة إستنباطية لتبرير هذه الحدوس هدأت الأحوال وأصبحت مجرد تاريخ فى متحف الأفكار .
الرخاوى: ليكن يا سيدى كلامك صحيحا…، وهو صحيح، ألا أن قيام الدنيا وقعودها لا يعنى صحة الحدس من خطئه، كما أن متحف الأفكار الذى تتحدث عنه قد يحوى من الحق والحقائق أصدق مما نحاول الإختباء فيه على أنه العلم الأصدق والحق الآكد، نحن نعيش فى ظل بعض القوانين وتحت أسر بعض المعلومات، هذا صحيح، أما أن هذه القوانين وتحت أسر بعض المعلومات، هذا صحيح، أما أن هذه القوانين والمعلومات هى هى الحقيقة فهذا ليس صحيحا بالضرورة، بل أنه ليس صحيحا بدلائل إحصائية تشير إلى فشلنا النسبى (وأحيانا المطلق) فى تحقيق ما نرجوه، أو حتى فى إطلاق ما نملكه من قدرات، أو تعميق ما يمكننا من رحابة وعي… الخ، أما والأمر كذلك… ألا يجدر بنا أن نراجع أرشيف متحف الأفكار، أو على الأقل نحسن الإنصات لحدس الذين يعانون معنا ويمارسون أعمق ويجتهدون أصدق؟
السماحى: إن خطورة الحدس تكمن فى أنه يأخذ الشكل التالى:
س هى ص وهذا يفسر الظاهرة فى حين أن الإستباط يأخذ هذا الشكل: بما أن كذا وكذا… إذن إذن فى النهاية نصل إلى أن س هى ص وهذا يفسر الظاهرة.
لذلك فالحدس يصلح فقط لإعطاء مقدمات premise أو معطيات وفروض لبداية التفكير ولا يصلح لإعطاء تفسيرات.
الرخاوى: ليكن .. ولكن لنذكر أنه لا معرفة بدون هذه البدايات وهذه الفروض، والمصيبة كل المصيبة، حين يعجز علم مثل علمنا (الطب النفسى مثلا) عن الوفاء بما طلب منه من واقع الفروض القائمة أو السالفة، فإذا بنا نزيد فى جهدنا فى محاولة تطبيقها هى هى بل إننا نحاول أن نغير الظاهرة ذات نفسها لتماشى الفرض، لمجرد أن الإستدلال يريد هذا، نفعل ذلك إستسهالا ولا شعوريا واختباء فى دقة القياس وإمكانية الإستدلال، أما الحدس الذى يحتاج للتدليل عليه البحث عن قوانين جديدة من بينها “من الذى حدس…”، فهذا أمر بعيد عن إهتمامنا كعلماء، أما موقعه فى الفلسفة فأمر أقرب إلى الإزاحة باعتباره تسوية وترضية بشكل أو بآخر.
السماحى: (فعلا) إن (كل) هذا لا يقلل من مكانة الحدس فى الفلسفة، فبه وحده ندرك أن العالم موجود، حتى عندما نعجز عن التدليل على ذلك، وبه تصاغ معظم القضايا الأولية فى الرياضيات، وخاصة المتعلقة بالكميات كالأكبر والأصغر والأعداد وحسابها، ولكن موضوع الحدس لم يلق الدراسة الكافية ولا الجديرة به بعد، رغم أنه يبدو قريبا من الدراسات السيكولوجية والفسيولوجية المتعلقة بملكة تكوين الأفكار. إننى آمل أن يجعل أحد العباقرة رسالته تحليل ودراسة ملكة الحدس، حتى يعوض على الأقل الضرر الذى لحق بها من تهور برجسون الذى تسبب فى سمعة سيئة للحدس بما جرؤ عليه من دعوة نبوية إلى تسليم مسئولى كشف الحقائق إلى هذا الحدس وحده (أو أساسا).
الرخاوى: ياصديقنا المسامح، إن دراسة الحدس لا بد أن يتضمنها بشكل أو بآخر المنهج الفينومينولوجي، وهو منهج وعر إذ يحاول أن يستغل الكليات فى مواجهة الظواهر المتداخلة فى كل أكبر بحيث لا تخرج كليتنا عن كلية الظاهرة الأكبر قيد الدراسة، فهذا العبقرى الذى تحلم به لا وجود له فى عالم الفكر البحت، وهو لن يوجد إلا فى عالم الممارسة الكلية، والمسألة فى تصورى تحتاج إلى إعداد جيل من محبى المعرفة محترمى المنهج معا، الذين يغامرون بطريقة مدروسة ومدرجة للخوض فى مظهر المعرفة الممارسة، ثم تملك قدرة ترجمة نتاج هذه المغامرة إلى لغة (لتكن ألفاظا أو غيرها) قابلة للفهم، قادرة على التوصيل، وقد ينشأ ذلك فى مجال العلوم الإنسانية ولكنه لن يقتصر عليها بحال، والأمر لا يتعلق ب “ملكة تكوين الأفكار”، بل إن حكاية ملكة هذه لا بد أن تراجع، فعملية التفكير بكل مستوياته هى وظيفة كل عقل بشري، ونحن نحتاج إلى النظر إلى الحدس باعتباره تفكيرا بشريا قائما عند كل فرد بوعى أو بغير وعي، وليس ملكة خاصة ولكن مرتبته مكثفة، ومطالبه جادة وعنيفة والوعى به حمله ثقيل فعلا، ولعل دراسته لن تتم إلا من خلال إزالة الوهم الفاصل بين العلم والأخلاق… (وهذه قضيتنا الأولى منذ بداية الحوار)، فالحدس هو ظاهرة فردية حين يمثل الفرد المجموع، إذ يمثل الظاهرة المشتركة مع المجموع (أو فى المجموع)، وهنا يصبح وجود الفرد هو “وجود موضوعي” بحيث لا يعد الفرد هو ذاته، بل هو ما يمثله، واعتراضك ضد الخلط بين العلم والأخلاق يرجع أساسا لتعريف كل منهما ، أما على المستوى الأعمق للمعرفة، فإن “الفضيلة” تصبح هى هى “الموضوعية” لا أكثر ولا أقل، وهل العلم إلا الموضوعية ( بمعنى نقيض الذاتية، وإنما بمعنى تمثيل الذات للظاهرة الأشمل)، وأما عن حدس برجسون ومبالغاته فلعل ذلك يرجع جزئيا إلى سوء فهمنا أو لعله يدل على مبالغة مرحلية لجذب البندول إلى الناحية الأخري، أما ديكارت فروعته تكمن فى إهتمامه الأقصى بالحدس، فى نفس الوقت الذى ركز فيه بلا بديل على لزوم المنهج والإلتزام به، الأمر الذى يبدو لأول وهلة أنه تناقض إذ يتصور العامة أن الحدس هو تأمل نقيض حجما معينا للممارسة الإكلينيكية مع تتبع نوعية النتائج (وليس مجرد النتائج) مع التعرى العلاجى المعالجي، مع التغذية المرتجعة، مع الإشراف المسئول، مع التسجيل الملاحظاتي، مع النقاش المستمر والمراجعة، مع مقاييس الصدق بالإتفاق، وأخيرا اختبار التناسق والزمن جميعا، فما أصعب هذا فى مقابل استدلال مسطح يقول أن هجر الأم لطفلها فى الشهور الثلاث الأولى هو المسئول عن إصابته بنوع خاص من الإنزواء أو الإكتئاب (!!)… الخ (!!)
شكرا يا صديقنا لعطفك على الحدس وانتظاراً لتعميق الموضوع وإيضاحه أكثر فأكثر.
د. مرقص عوض… يفتح ملف “ست البيت“
الرخاوى: أهلا بك أيها الصديق المتحمس، وأرجو أن تكون قد قرأت الرد على إقتراحاتك فى الإفتتاحية، فقد خصصنا باب الحوار “للقضية” دون كلمات المديح أو الإقتراحات التنظيمية، فهات ما عندك حول القضية.
د. مرقص: بخصوص ما أثير حول قضية “ست البيت” فأذكر أن فرويد (1905) – وقبل بلويلر- تحدث عن حالة مماثلة فى كتابه عن “دورا” (والطبعة التى تحت يدى هى طبعة بنجوبن لمؤلفات فرويد 1977 الجزء الثامن ص 49، 50) ، فقال فى بداية عرضه للحالة عن والدة مريضة “دورا”، وإن لم تتح له فرصة رؤيتها ومقابلتها إلا أنه استنتج من كلام دورا وكلام والدها، أنها سيدة غير متعلمة، بل وغبية، كرست كل إهتمامها للأعمال المنزلية، وخصوصا بعد مرض زوجها بالسل، ومانتج عن هذا من إغتراب فى علاقتهما، وقال أنها تكاد ترسم صورة لما يمكن أن يسمى “ذهان ست البيت”- ولم يحدد فصام بسيط مثل بلويلر-، فهى لا تفهم إحتياجات ولا إهتمامات أطفالها، ومشغولة طوال النهار بتنظيف المنزل وموبلياته وأدواته، وتحاول الإحتفاظ بها نظيفة دائما إلى درجة تجعل استعمال هذه الأشياء والإستفادة منها مستحيلا.
الرخاوى: لست واثقا من سبب تذكرتك لنا بسبق فرويد على بلويلر فى وصف هذا المستوى الأدنى من التكيف باعتباره ذهانا، هل تريد بذلك تأكيد سبق فرويد أم تفتح لنا قضية شديدة الخطورة شديدة التعقيد تدور حول الحد الغامض بين السواد والمرض، ولا بد على كل حال من أن هناك فرق بين أمي، وهى ست بيت يمكن أن توصف بالصفات السابقة، وبين زوجتي، وهى أيضا يمكن أن تكون ست بيت بنفس المواصفات، فهل يحق لفرويد (أو للجن الأزرق) أن يصف نفس المرأتين بنفس الصفة المرضية، فإذا ما قلنا أن إعتراض فرويد الضمنى على هذه الظاهرة التى تلغى الجزء الأرقى من إنسانية المرأة قد أعلن منذ ما يقرب من قرن من الزمان ولذلك فإنه يدمغ أمى وزوجتى على حد سواء، لقلت لك حذاري، ففرق البيئة يستحيل الإستهانة به، ولا أكذب عليك إذا قلت لك أنى تحيرت حول هذه المسائل أشد الحيرة منذ بداية إشتغالى بفرعنا هذا، وأن أول مقال كتبته ونشر فى مجلة عزيزة توقفت أخيرا (مجلة الصحة النفسية/ العدد 3،2/ سنة 62) كان عن ظاهرة “الفصام فى الحياة العامة” وألمحت فيه إلى مثل ما وصفت ولكنى سرعان ما تراجعت عنه حين وجدتنى أكاد أصف أغلب من حولى بالفصامية فأعجز عن التعامل معهم حذرا أو شفقة أو تخوفا، لقد رجعت وتراجعت لمجرد أن أستطيع، لكنى فى قرارة نفسى لم أتراجع حتى لو شمل الوصف أقرب الناس إلي، وقد ذكرنى أحد طلبتى النابهين ذات يوم بأنى لم أضمن ما يسمى بالفصام البسيط (وهو أخطر أنواع الفصام) فى تقسيم الفصام، قال لى إنه يبدو أنى أعتبر الحياة العادية الراتبة هى هى الفصام البسيط، كما أنتهز الفرصة يا صديقنا لأقول لك أن هذا الكلام إنما يصدر من فرويد بالذات صاحب الفكر الأبوى (الذى قيل أنه موسوى أو يهودى على المستوى اللاشعوري)، والذى يعتبر المرأة ذات وجود ثانوى فى هذه الحياة، ثم أذكرك بعلاقته الباردة بزوجته، وأنت الذى قدمت فيلهلم رايخ على صفحات هذا العدد، وأنصحك أن ترجع إلى نقد رايخ لحياة فرويد الجنسية مع زوجته بوجه خاص، وقد تجد تفسيرا لوصف هذه المرأة المسكينة (والدة دورا) بالغباء، ثم هذه المظاهر المفرطة فى النظافة، ألا يحتمل أن تكون هذه السيدة مصابة بوسواس النظافة أساسا؟
مرقص: رغم أن هذه الحالة – التى كثيرا ما نرى آثارا منها عند ست البيت العادية- تذكرنا بصورة التنظيف القهرى الوسواسي، إلا أنها تختلف عنها فى فقد المريضة لبصيرتها فى حالتها المرضية هذه، وهو عنصر أساسى فى تشخيص العصاب.
الرخاوى: بالذمة !! هل يحق لنا أو لفرويد أن نتهم السيدة شديدة النظافة التى لا تنكر على نفسها حق النظافة، نتهمها بالذهان أو الفصام؟ أما تلك التى تفعل نفس الفعل وتقول “غصبا عني” تصبح مريضة بالعصاب الوسواسى فحسب؟ ألست معى أنه ملعونة تلك البصيرة التى لا تمنع فعلا ولا تحمى صاحبها؟ وإنما هى مسميات تحلو للأطباء النفسيين، ألست معى أن هذا العصاب الوسواسى قد يكون أرحم على صاحبه من الفصام ذاته؟ المهم إنك فتحت لنا باب النظر فى الأمراض النفسية فى الحياة العامة دون الذهاب إلى طبيب، وهذا باب خطر قد يمر فيه كل الناس والعياذ بالله، لقد وصل بى الأمر فى بعض الشطحات أن أعتبر كل الناس أما فصاميين، وإما مخفين لفصامهم حتى يظهر، ومن يستره ربه يموت قبل أن يحدث، وهل الحلم إلا فصام صريح ولكنه يحدث فقط ونحن نيام؟ واحدة واحدة يا سيدى فى الحماس لهذه اللافتات المرضية لمن يعيشون مختبئين فى ملابسهم كما يقول أولاد البلد.
مرقص: أقترح يا سيدى أن نفتح باب المناقشة فى قضية ست البيت كظاهرة مصرية وعالمية مرتبطة أصلا بقضية المرأة تاريخيا، فما حالنا الآن إلا إمتداد لما كنا عليه بالأمس، وما أشبه الليلة بالبارحة.
الرخاوى: نفتح يا سيدي، ماذا وراءنا؟ ونناقش، ونقول، ولكن أن نفعل.. هذا أمر آخر، فظاهرة ست البيت هى قضية المرأة المصرية أساسا وعليها أن تقرر موقفها منها قبل أن نناقشها نيابة عنها، وفى خبرتى الشخصية والمهنية، وجدت أن الذى يتمسك بهذا الدور الخطير هو المرأة دون الرجل، وأن كل الشباب والشابات الأحرار، حين يتراجعون عن حريتهم بالزواج والزمن إنما يتراجعون بناء على طلب ست البيت” من داخل المثقفة، و “التشاتشاتية”، والدكتورة، والأستاذة جميعا، والمرأة عامة مخيرة بين إختيارين قبيحين كليهما: وهما إما أن تسترجل (ويا قبح الرجل بغروره فما بالك إذا كان ذا ثديين وبدون شارب !!.. الخ)، وإما أن تتستت بيتيا فتقولون عليها فصامية والعياذ بالله، ولكن من ناحية المناقشة، فالى أين سيصل صوتنا، وإلى متي؟..
مرقص: (نعم) يا ترى هل سيصل صوتنا إلى ست البيت هذه، ومن خلال مجلتنا الأصيلة والمحدودة تلك، والتى لا يكاد يعرفها سيد البيت فضلا عن سته، أم علينا أن نبلغها ما نرى عن طريق “مسلسلات التليفزيون” اللهم لطفك.
الرخاوى: بصراحة أنى أحيانا أحمد الله على توزيعنا المحدود، فهذا يتيح لنا عمقا أكبر بقدر ما يلزمنا بمسئولية أضخم، ولا أرغب إطلاقا أن يقرأنا سيد البيت أو أى سيد، فنحن نصدر للسائرين على أرجلهم كتفا لكتف فى طريق الحقيقة الوعر، أما أوهام حرية المرأة وحرية الرجل، وصفقات التصفيق المتبادل بين سيدة لم تنجح أن تكون أنثى رائعة ورجل لم ينجح أن يقبل أنثاه داخله..، هذا التصفيق وغيره ليس من أهداف صدورنا، أما مسلسلات التليفزيون فلا تسخر ياسيدي، فلعلك تذكر سلسلة “بيوت من زجاج” فقد كتبت سيناريو هذه السلسة وأشترطت ألا يظهر الطبيب النفسى فى الحلقات حتى لا تسطح، وإذا بالمادة تؤخذ وتشوه، وإذا بالحلقات تظهر مشوهة وفيها طبيب أبله، وإذا باسمى يظهر باعتباره مشرفا علميا، وأكاد أحس باليأس من هذا الجهاز الخطير، ولكنى أبدا لا أفعل، وإلا كنت كمن يحاول منذ قرنين أن يصنع حضارة مع إهماله أهمية القراءة والكتابة، أطلب لطف الله كما تشاء، وسيلطف بنا لأنه رحيم، ولكن هذا لن يعفينا لو أغفلنا الإستفادة من هذه الأداة ومثلها، فلا مجال للتعالي، ولا فائدة من الحكم على التفاهة دون بديل يستعمل التفاهة لغير التفاهة، ولعلك تتبع معنا صديقنا جاد الرب وهو يعمل نوادى القرية ومؤتمرات الترانسستور بلا كلال… لتعرف ضرورة التواصل مع كافة البشر بكل لغة ومن أى نافذة.. وهأنذا أدعوك لمائدته حالا.. تفضل.
جاد الرب.. والزمان الصعب.. والحلول إياها
الرخاوى: جاء الوقت يا جاد الذى إحتجتك فيه، صدقنى أو لا تصدقني، فحين هممت أن أكتب هذا الحوار رجعت إلى كل حوارنا السابق، وقلت لنفسى: من لى بمن يقول لى ما كنت أقوله لجاد الرب، فهل نتبادل الأدوار فأحكى لك أنا عن أملى فى نوادى أدباء القرية وأحلامى حول مؤتمر بوسطن ومعهد بريستد وأدباء الترانسستور، لقد قفزت إلى خيالى كل هذه الصور لما أحسست أن شيئا ما قد يهدد حرية الحوار الممكن وإن كنت أستبعد ذلك أملا وإصرارا ، ولكن مخاوفى جعلتنى أقول لنفسى يا جاد “هكذا يحق لجاد الرب ولى أن نهرب فى اللاممكن، ما دام الممكن غير ممكن” وفى زحمة احترامى لألمك وصدقك، وعذرى لك من إدراكى الجديد لمعنى ضغط الواقع والتهديد فى الرزق، وتكميم الفم.. فى زحمة هذه المراجعة رحت أقلب فى أوراقك، وتاه منى آخرها وجعلت أبحث عن خيط مناسب أبدأ منه فوجدت أن كل ما تحت يدى هو مناسب وغير مناسب- مناسب لأنه تجوال عقلى بلا حدود وأمل مؤكد مشرف رغم كل شيء، وغير مناسب لأنه- هكذا بالخط الفحل وهو ملقى على الورق الأخضر ( ورق الرسم البيانى المربعات الذى تحب أن تكتب عليه)- ولا قيمة له ولا جدوى منه، إلا أنى إنتهزت الفرصة لأقدم إعتذارى عن جرعة النصح التى قلتها لك فى أعداد سابقة، فما أسخف النصح فى متاهة القهر، فهات ما عندك اليوم فما أحوجنى إلى السباحة معك كيفما أتفق، واسمح لى أن أمد يدى كيفما اتفق أيضا لأبدأ بتأمل إهدائك لأحد كتبك التى ليس أمامى إسمها (الورقة الأولى ليست فى متناولى حتى أعرف ما هذا الكتاب المهدي) ! فأسمعنا أهداءك وما تلاه .
جاد الرب: إلى جين الأيرلندية زوجة صديقى وحفيدة جورج برناردشو وإلى صوفى الفرنسية زوجة صديقى وحفيدة فرانسوا شامبليون
وإلى براء الخطيب صديقى الذى سألنى خلال لقاء أخير فى بيرة ستيلا بشارع سليمان بالقاهرة السؤال التالى “هل صحيح أن المصريين هم أقدم من عرف التقويم تقويم الزمان” ؟
إلى الأخ الخطيب أقرأ هذه الفقرة من كتاب تاريخ التربية والتعليم فى مصر تأليف د . أحمد بدوي، د. جمال الدين مختار:
”من العلوم التى برع فيها المصريون علوم الفلك، وإن كانوا لم ينبغوا فيها نبوغ البابليين الذين كانوا من أقدم الشعوب التى إهتمت بالعلوم الكونية، ….. وكان أول من إهتم منهم (المصريين) بالفلك كهان هليوبوليس الذين توصلوا إلى التقويم الشمسى وهو أقدم التقاويم …… وحينما..
الرخاوى: (مقاطعا) لو كنت فى موقفى السابق وأنا ممتليء حماسا وأملا لقفزت أقول لك تقويم ماذا وإهداء ماذا؟ وكيف خرجت هكذا دون إستئذان من الإهداء إلى الإقتطاف إلى التقويم إلى ما قاطعتك دونه. .، عد بنا إلى الواقع يا صديقى مهما كان الشوك مدميا، كان هذا هو أسلوبى معك فى قديم الأعداد، ولكنى اليوم وقد كاد الشوك أن يدخل قدمي، بل أعيش أخشى أن يفقأ عيني، أقول لك ليكن التقويم هو الحل، فمن يدري؟ مادمنا كلما هممنا بخطوة نحاول أن نثبت الأرض تحتها إهتزت الأرض أو كادت، ليكن التقويم على ورق الرسم البيانى الأخضر هو الحل، ولتسم أكتوبر باسم يوليوس قيصر، والشهر باسم النهر، وليكن رمضان هو الفيضان، أو الغيضان، (غاض الماء غيضا ومغاضا: نزل فى الأرض وغاب فيها، والغيضان اشتقاق جديد سيسرك فكما نقول فاض فيضا وفيضانا، ما المانع أن نقول غاض غيضا وغيضان، وأن شاء الله ما حد حوش”)، وإذا تساوى يا جاد الفيضان والغيضان فقد تساوت الزيادة والنقصان، ألا توافقنى أنى قادر على مجاراتك . . هيا عليك الدور.
جاد الرب: لقد كان أخناتون يحاول توثيق عرى الوحدة بين الدلتا والصعيد من جانب، كما يحاول إنشاء ديانة عالمية تحل بواسطتها المنازعات بين المصرى وجيرانه، وبين الجيران وجيرانهم، ولكن جسد مصر الروحى كان قد سقط بالفعل سقطته الأخيرة بعد أن كتمت أنفاسه فلسفة “الأنامالية”، وهى نفس فلسفة “ونامالى” التى انتشرت مع ظهور 23 يوليو وحتى اليوم، بعد أن تم تلفيق عشرات بل مئات التهم لوطنيين من شمال ويمين، حتى أن عبد الناصر بنفسه كان يفتخر بحنكته فى القبض على 18 ألف عضو بجماعة المسلمين فيى ليلة واحدة وإلقائهم فى المعتقلات وتعذيبهم دون أدنى داع لذلك.
الرخاوى: عندك يا سيدي، فلعلك لا تهاجم بذلك ثورة 23 يوليو، ولا عبد الناصر، وإن كنت غير متأكد تماما متى يحل الهجوم ومتى يحرم، وفى نفس الوقت فأنى أميل فى هذه المرة من حوارنا ألا أعترض عليك، وأن أسير معك فى أحلام الحرية، حتى لو حال دونها القابض والمقبوض عليه معا، ودعنا نتذكر المثل القائل “قال: إيش رماك على المر قال: اللى أمر منه; ثم دعنا نسرح ونقول “قالوا: إيش رماك فى السجن، قال أنى كنت أنوى أن أرميك فيه” فالسائد يا أخ جاد هو نداء عجيب يصدر من كل معارض فى كل مكان فى بقاع الدنيا، يقول هذا النداء “أعطنى الحرية لأحاربك بها وأحرمك; منها بإذن خيبتك البليغة”، وتدور الحلقة الدوارة، والشاطر هو من يرشو غرائز الأغلبية، وقابلنى عند التقويم البنسلين أو “أيبو” هاتها فيبدو أن هذا وقتها.
جاد الرب: إننا بحاجة إلى حزب عالمى جديد يدعو إلى إسقاط تقويم الزمان الجريجورى الرومانى وإحلال تقويم جديد محله، ولقد اقترحت أن نؤسس “تقويم البنسلين” على أساس العام الذى أعلن (132) فيه أيبو ثورته ضد الملك “بيبى الثاني” وضد ثورات العوام فى نفس الوقت، (وقد) شرحت دائما فى مقالاتى كيف أن العوام الذين خربوا الأهرامات وحرقوا أوراق البردى قد نسفوا ثلاثة آلاف عام من تاريخ مصر كما يقول “أيبو”، حينما عاد بناة الأهرام (بواسطة ذلك الفعل الشائن) عادوا فلاحين، إننا نؤسس التقويم الجديد على ذلك العام الذى أعلن فيه أيبو حكيم مصر القديمة ثورته ضد الملك الطاغية الذى ترك ميزان العدالة وراح يتصور أرض مصر ضيعة خاصة به وبأولاده وأسرته فحسب..، ثورة أيبو ضد العوام الذين لم يجدوا أى وسيلة أخرى للثورة سوى نسف مظاهر الحضارة المصرية العظيمة.
الرخاوى: أهلا يا عم جاد أهلا، هكذا يكون الكلام، وإن كنت لست فاهما شيئا بذاته، إلا أنك سببت الفلاحين ضمنا إذ تقول عادوا فلاحين نتيجة فعل شائن، فهل كنت تريدهم أن يظلوا “فواعلية” يبنون الهرم تلو الهرم، ومع ذلك فأنت عليك “ضربات معلمين” حين تطبق الدنيا على رأسى بكل هذا الحديث عن الثورات ثم تحلها بخط سحري، وتقويم جديد وحزب أخناتونى ودمتم، ألم أقل لك أنى فى أشد الحاجة إلى مثل هذا اليوم، فليكن يا أخي، ومستعد منذ هذه اللحظة أن أمهر روشتات عيادتى (لأنها أوراق غير رسمية تابعة للقطاع الخاص) بتقويمك الذى تقترحه ولو أنى لا أعرف عنه شيئا ، وعلى فكرة فإنى معجب بايبو صديقك حين يضرب فى إتجاه الملك والعوام معا مما يذكرنى بسقراط وهو يصارع سوء إستعمال القانون والرأى العام أو رأى الكثرة فى آن واحد.
جاد الرب: أقول أن العالم اليوم يحتاج إلى “حزب إخناتون” الذى يتبنى أمر إعادة بناء تقويم الزمان على هذا الأساس الجديد.. وهو أساس أعرض من أساس التقويم الجريجورى (1981 عام ) لأن الأساس الخاص بالحكيم أيبو هو 4281 سنة”
الرخاوى: وهل جئت فى جمل يا خير البشر 0هذا تعبير يتكرر فى محاورات سقراط دون أن يعنيه فعلا) ليسقط الأساس الجريجورى ويذهب فى ستين داهية تأخذه هو ومن مثله (ولو أنى لا أعرف من هو جريجورى هذا، ويستحيل أن تكون له علاقة بجريجورى بيك الذى كنت أحسب وأنا صغير أنه قد أخذ لقب الباكوية من جلالة الملك فاروق على مهارته فى الرماية بالمسدسين معا..) وإذا كان الفرق الذى يشغلك هو 2300 سنة، فهم ليسوا خسارة فيك ولا فى مصر ولا فى أخناتون، بناقص ألفين وثلاثمائة، بجملة يا سيد ولا تزعل (لا حظ أن زعل كلمة عربية وهى إن كانت تعنى النشاط أساسا، إلا أن الواحد منا- حسب القاموس الوسيط- لو زعل من المرض أو الجوع : فان ذلك يعنى أنه تضور وتلوى “بشدة على الواوين”، فلا تزعل سيدى وحياة مقام السيد البدوى جاركم العزيز) وإياك أن تتصور أنى أسخر منك، لأنك عندى اليوم من أهم الأصدقاء، إن لم تكن أهمهم جميعا (أهمهم قد تصلح للإهتمام أو للهم الثقيل… كما تختار).
جاد الرب: لقد قالوا لنا ونحن صغار أن العالم جميل وينبغى أن نزدهر نحن بمحبة العالم حتى يتم تنسيق البطل داخل الإطار.
وكبرنا..
واكتشفنا دائما أننا نحتاج إلى قوى مضاعفة فى كل يوم كى نحتفظ بأنفسنا داخل دائرة الهلاك، الهلاك من الجوع، أو الهلاك من إحتمال حصول شبهة العمل بالسياسة، إلى أن مات عبد الناصر فكتب دكتور لويس عوض “أقنعة الناصرية السبعة” وفيها يقول أن الذى مر من هنا ليس الثورة وإنما الثورة المضادة، ذلك ما يقول به دكتور لويس عوض السؤال التالى: وما رأيك فى ثورة 15 مايو هى الأخرى ذلك لأننى أعتقد أن ثورة 15 ما يو قد تخلت..
الرخاوى: (مقاطعا) بصفتى رئيس تحرير هذه المجلة الثقافية العلمية فإنى أرجوك أن تحيل سؤالك إلى الدكتور لويس عوض شخصيا الذى لا أرتاح لعضلات عقله التى تذكرنى بعضلات الرجل الأخضر التى تتراقص تحت أضواء سفح الهرم دون أى فائدة، فمنك للويس عوض مباشرة ودعنا نكمل الحوار يهديك الله ويستر عرضك.
جاد الرب: .. حينما أجتهد فى تسييد رأيه وحده وفكره وحده ومزاجه وحده دون باقى الآراء دون باقى فكر الأمة دون الرأى للشعب، وهو ما يضيف من الأعباء على عربة الروح الديمقراطى المصري، مما هو كفيل بتفجير محركها، واشعال النار فى مقاعدها وركابها ثم إلقائها فى النهاية طعاما سائغا لحلف الأطلنطى أو حلف وارسو أو حلف خالد بن عبد العزيز.
الرخاوى: أت تصر.. وأنت حر، لقد حاولت ولكنك صدقت أننا سنتبادل الأدوار ، ولنفعل، فقل ما شئت يا خير البشر، وسأذهب أنا لأعد النتيجة الجديدة لتقويم أيبو العزيز، وقد يحتاج رد لويس عوض- أى لويس عوض- لبضعة عشرات من السنين قبل أن يكون ذا معنى أو جدوي، ولن أذكرك بصعوبة عمق الصدق الحقيقى فى مواجهة الرأى الآخر، وإذا سمحت فسأحيلك لمقدمة هذا الحوار، ولمقدمة حوار العدد الماضي، ولن أكرر ثانية أنه “إيش رماك فى السجن قال أنى كنت سأسجنك”.. لن أقول شيئا من هذا لأننا تبادلنا الأدوار، ومازلت متمتعا بالحل التقويمى الأيبوى الأخناتوني، وإن كنت أتحفظ على كلمة “حزب أخناتون” فى المرحلة الحالية إذ من يدرى يا عم جاد، من يدري؟
جاد الرب: أوقفوا هذا العالم نريد أن ننزل…
الرخاوى: ماذا جرى يا عم جاد، تنزل وتتركنى وأنا ما صاحبتك بحق إلا فى هذا العدد، وهل قالوا لك أنى الكمسارى الذى ضرب الولد – فى العدد الثانى من هذه المجلة- فجعل وجهه يشلب دما حتى نزفت أنف بريستيد شخصيا دما، تنزل وتتركنا يا عم جاد تحت أى دعوى وبأى مبرر؟..
جاد الرب: يعلم الله أن هذا الشعار هو أصدق الشعارات اليوم، وبعبارة أخرى أن الإنتحار هو الشيء الوحيد المعقول اليوم ولعل الرئيس ..، وهو يقول بانضمام مصر إلى الحلف الأطلنطي، يود أن يحدد طبيعة عالم اليوم الذى إنغلقت فيه أبواب الرحمة إلى هذه الدرجة التى تدعوك فيها نفسك إلى ركوب قطار اليأس قطار حلف الأطلنطى “قطار الإنتحار”.
الرخاوى: يا عم جاد، يا عم جاد، والله العظيم أنا معك، وإن كان لم ينم إلى علمى بهذا الوضوح أن الرئيس قال بما تقول به وإن كانت قضيتى بينى وبينك ليست فى الإنضمام إلى حلف وارسو أو حلف الأطلنطى أو حلف بركة السبع، قضيتى هى فى الوضوح والعلانية، وأنا مستعد أن أنضم إلى الجن الأزرق شرقا أو غربا، شريطة أن يكون فى هذا الإسراع إلى أن يستعمل أكبر عدد من البشر عقولهم بالقدر الكافى الذى يجعلنا بشرا، ياجاد الرب… لقد قلبوا الموازين حتى صار الشجار على البردعة (كلمة عربية، وتجوز أيضا بالذال: برذعة) وتركوا الحمار الجائع للمعنى حتى يصير إنسانا، المصيبة فى تصورى أكبر من السياسة، رغم أن السياسة تصعب علينا الحل بلا أدنى جدال، أما حكاية الإنتحار هذه، فإنى أدمغك بالأنانية وأرفضك لو تجرأت على ذكرها ثانية.
جاد الرب: رغم كل هذا الإلتهاب الواضح وسط القرية الواحدة، فلا تزال الآمال باسقة ولكن فى حالة واحدة هى أن نخرج من هذا اللهب إلى شاطيء نهر الفكر نحاول، وبدون أن ندعى الكمال، نحاول تأسيس حزب أخناتون المصرى العالمي، هذا الحزب الذى يهدف أساسا إلى تغيير الدم الحالى فى جسد الروح الديمقراطى العالمي، فهو دم ملوث بالسرطان، فقبل أن يسقط كوكب الأرض جثة هامدة بشرقه وغربه وشماله وجنوبه، يجب أن ينهض حزب أخناتون بتجديد النفس الإنسانية بمزاج عقلى جديد، ما دمنا لا نريد للإنسانية ولا لكوكب الأرض الدمار.
الرخاوى: نعم.. نعم.. هكذا عد إلى قواعدك وخلك معنا، تنزل وتذهب إلى أين؟ عليك بالأحزاب الأخناتونية والكلام، ماذا وراءنا، لقد أنسيتنى حكاية تبادل الأدوار التى هممت بها فى هذا العدد ولم أنجح تماما فهببت أتمسك بك حتى لا تنزل، وأطلب منك أن نواصل طريقا موازيا للسياسة، وهو الإعداد المستمر لمن هو قادر على أن يكون حرا من موقع كفاءة عمله العقلى وتنمية قدراته على الإختيار والممارسة، إن الجريمة ستصبح أبشع وأسحق إذا ما أضير العلم الجاد أو النشر الأعمق أو الفكر المجتهد بحق.
جاد الرب: إن أول ما إستهدفه الغزاة الأسبان فى المكسيك هو القضاء على العلم وأهله، ولهذا سارعوا بعد الغزو بالقضاء على تلك الجماعة الصغيرة المتعلمين الذين كانوا يصونون هذه المعرفة، فجمع “دييجو دى لا ندا” (مطران يوقوطان فى عام 1562) مئات من كتب التاريخ والفلك والرياضيات وأحرقها فى الميدان فى بلدة “مريدا”، مما جعل حضارة شعب المايا طلسما لا ينتظر “شامبليون”..
الرخاوى: ألم أقل لك أنه متى احتدت المسائل وجب علينا أكثر فأكثر أن نزيد عملنا إتقانا، وأن نحافظ على فكرنا ونعمقه ونصر على الحركة الكاملة لإعداد أشمل، ولا نؤخذ بالمؤقتات، وليكن حزبك عالميا أو حاراتيا ولكن لنكمل ما بدأنا، سعيا وراء إحياء فضيلة التفكير بأى فرصة متاحة للتعبير.
جاد الرب: إن تجديد المزاج العقلى للإنسانية يتطلب أن ينهض حزب أخناتون المصرى العالمى بالتالى:
1- إعادة بناء تقويم الزمان على أساس العام الذى أعلن فيه “أيبو” ثورته ضد “بيبى الثانى 2- أن يصبح الحزب صاحب حق مطلق فى مباشرة العمل السياسى فى أى قطر من أقطار القرية الواحدة الملتهبة.. شارع فرنسا…، شارع بريطانيا..، شارع إسرائيل..، وهكذا وهكذا..
الرخاوى: نعم.. نعم.. هكذا تسمح لى بصحبتك ثانية، ولا تنسى حارة الكوت دازير وعطفة سان سباستيان والقناطر الخيرية وفينيسيا (والبندقية وإن كنت لاأعرف الترجمة)، ولكن قل لى بربك، كيف ستنجو فى كل هذه الشوارع بحزبك المزعوم من البصاصين، هل ستنثر عليهم ما هو نشوق البنج مثل عمنا على الزيبق المصري، سامحك الله ولعن أبو مخابرات العالم المتحضر لصالح حزبنا المصري، ولكن قل لى كيف سنسير فى شوارع إسرائيل وهم هناك يبيعون الرمال دون تسجيل، يقبلون الأوراق الثلاثة للمارة وعبر الأثير؟..
جاد الرب: (إن) الأجدر أن نقبل اليهودى الذى يقبل إنتقاد أدب الأنبياء القدامي، إن حزب أخناتون يرفض كل آداب الحقد اليهودي، ومع ذلك فهو يعتمد من كلمات أشعيا أبى الأنبياء الإسرائيليين الصورة التالية لأنها صورة أخناتون اليوم وسط العالم.
هو ذا عبدى الذى أقصده
مختارى الذى سرت به نفسي
وضعت روحى فيه فيخرج الحق للأمم
قصبته مرضوضة لا تقصف
وفتيلته خامدة لا تطفأ
إلى الأمان يخرج الحق، لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق فى الأرض..
الرخاوى: شكرا يا جاد، عذرا لما بدا فى بعض أجزاء الحوار من شبهة سخرية، فو الذى قلمى يهديه ما قصدت إلى ذلك أبدا، ولكن فاض الكيل يا جاد حتى ذكرتنى بما كتبته يوما من أننا لسنا فى حاجة إلى دين جديد (لأن المخابرات لن تسمح به) ولكن لملايين الأنبياء، ولنبدأ دائما من أى موقع.. ولا ننزل برضانا أبدا شكرا يا جاد شكرا..