نشرة الإنسان والتطور
نشرة الأثنين: 22-5-2017
السنة العاشرة
العدد: 3551
مقتطفات:
إرهاصات الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى،
منذ نصف قرن: (1968)
من كتاب “عندما يتعرى الإنسان”
من حكاية: “فى القفص” (3)
مقدمة:
ما زلت انتهزها فرصة لتوفير الوقت لحمل الأمانة الأخرى لأصحابها، وفى نفس الوقت تأصيل فكر الطبنفسى الإيقاعحيوى التطورى، باقتطاف ما يدعمه مما نشرت عنه قبل تسميته كذلك منذ نصف قرن.
ونواصل اليوم الاقتطاف من نفس الحكاية “فى القفص” لنعرض قوة منطق وشجاعة من يسمى المريض، وصلابة موقف وصبر من هو الطبيب (الحكيم).
المقتطف: (من فصل: “فى القفص”)
وهو استمرار للحوار كما يحكيه الحكيم (الطبيب) للفتى عن هذه الحالة كالتالى:
قلت:
وحين فعلت ما فعلت ماذا أحسستَ لحظتها؟
قال:
لحظتها؟ لحظتها؟ كانت سيدة عجوز لم أحاول إيذاءها ولكنى تعمدت أن آخذ الحلى أمامها، بل أقول لك الحقيقة، لقد أرغمْتُهَا أن تناولها لى بيدها من داخل الصوان، لماذا لم آخذها أنا بنفسى، لا أدرى، ولكنى ساعتها كنت أريد أن تعطينى هى أغلى ما لديها، أن تعطينى جزءاً من نفسها وبالإكراه، أنت تعلم كيف تكون الحلى قريبة إلى نفس عجوز، وحيدة، إنها تصبح جزءاً منها، وقد أخذت هذا الجزء، بل لِلدّقة لقد اضطررتها أن تعطينيه، ولكنى حين استوليت عليه وخرجتُ، لم أحاول أن أبيعه… فقد العمل كله معناه، لم يعد له قيمة، شعرت أنى احمل ثقلا من النحاس والزجاج، وذهبت إلى اقرب قسم بوليس، وأبلغت عن نفسى وانا ممتليء بشعور التفاهه: ما فائدة أن أرغم امراة عجوزاً وحيدة أن تمنحنى جزءًا منها؟ لماذا؟، ما فائدة كل هذا، ما فائدة ان ترغم أحداً أن يعطيك؟ العطاء لا يكون عطاء إلا إذا خرج من نفس إنسان لآخر تلقائيا، برضى، باختيار، بحب، نعم بحب… هذا هو الموضوع.
قلت:
نعم… هذا هو الموضوع “العطاء… والأخذ… بحب”.
وسكت قليلا وتغيرت نظرته وأخذ يتأمل وجهى مليا ثم قال:
قال:
ولكن كيف عرفتَ أن “هذا هو الموضوع؟”
قلت:
لأن هذا فعلاهو الموضوع… ليست السرقة ولا التهمة، ولا الجنون ولا شىء يهم سوى هذا الموضوع.
قال:
نعم.. ولكن لابد أن تعيش مأساتى حتى تشعر أن هذا هو الموضوع.
قلت:
أو أن أعيش مشاعرك وأنت معى… أن أنبض مع ألفاظك.. أن أصدّقك، هذا هو الطريق إلى فهم مأساتك.
قال:
إذن هى ليست مناقشة عقلية أو تمرين هندسة تحاول أن تحله لتأخذ عشرة على عشرة.
قلت:
بل هى مأساة إنسان أحاول أن أعيشها معه ولو لحظات.. لأشعر بخفق مشاعره فأفهم. فأحس… فأحب. فأساعد، فيتقبل.. إن استطعنا.
قال:
وهل نستطيع؟
قلت:
نحاول.
قال:
ولكن إذا كانت والدتى التى أنجبتنى لم تستطع.. فكيف تستطيع أنت.
قلت:
والدتك لم تقصد.
قال:
ولكن الأطفال حين يقذفون الضفادع بالحجارة لا يقصدون قتلها، وحين تموت الضفادع تموت جِدًّا لا هَـزْلاً، أليس هذا مثلٌ صينىُّ على ما أذكر؟
قلت:
هو كذلك… ولكنا نعيش لحظة “الآن” و”أنت”.
قال:
فهل تعيشها معى، وهل تستطيع.
قلت:
ما رأيك؟
قال:
أراك تحاول.
قلت:
فهل نتفاهم؟
قال:
ربما… ولكن…
قلت:
ولكن ماذا؟
قال:
- أنا بردان.
(وأكمل:)
قال:
اريد الدفء… لقد ولدت فى شهر ديسمبر وما زالت الحياة كلها ليلا طويلا باردا… انا ارتجف احيانا واحس بالبرد فى عز الصيف، الستَ طبيباً مثل الأطباء؟. ربما كان عندى “ملاريا” وهى أسهل فى التشخيص مما تحاولون إثباته، عينة من الدم… شريحة من الزجاج و”ميكروسكوب” وسلامتك وتعيش، أما ما تفعله أنت… كان الله فى عونك، ولكن قل لى يا دكتور: ما الذى دفعك لاختيار هذه المهنة؟.. هل تتمتع بالفرجة على مأساة البشرية، وإلا فلماذا أنت تتعب كل هذا التعب؟ وانت تستطيع ان تكسب أضعافا مضاعفة من مهنتك الأصلية.
قلت:
ولكن هذه هى مهنتى الأصلية.
قال:
ماذا؟!!
قلت:
أن اكون إنسانا بالقرب من إنسان يحتاجنى.
قال:
طبيب يترك مهنة الطب ليكون إنسانا.. هل هذه وظيفة؟
قلت:
حين يفتقر الناس لإنسان يفهم… من خلال مشاركتهم مأساتهم… لا لمجرد أنه يحفظ الكتب، تصبح للأسف صفة الإنسان مهنة.
قال:
ما أعجب كل هذا… ومن هو الإنسان.
قلت:
هو الشخص الذى يستطيع أن يمنح الحب الدائم الدافئ… ويستقبل المشاعر بصدق وأمانة حتى يذوب الجليد الذى نعيش فيه، برغم كل شىء.
قال:
وهل يذوب؟
قلت:
لا بديل لذلك.
قال:
وبعد أن يذوب… ماذا أفعل بالخوف من الناس لو تكررت المأساة: حين أحتاجهم لا أجدهم، وحين استغنى عنهم بالبرود العاطفى، لا أجد لأى شىء معنى ولا جدوى، حتى إذا عادوا فأعطونى، يكون قد فات الأوان، وأرجع إلى بلادتى.
قلت:
إذا ذاب الجليد فعلا… دبت فيك الحياة… وأصبحت أنت مصدرا للحرارة… والحرارة ستذيب الجليد الذى يفصلك عن الآخرين حتى ولو كان يحيط بهم هم، لأنك تستطيع أن تمنح الحب فى قوة وثقة وأمان، ولن تنتظر الكثير بل أنت ستتأكد من الاستجابة المخلصة مهما طال الزمن.
قال:
لا تعدُنى بما لا يكون، بما لن يكون.
قلت:
ولكنك تشعر الآن بشىء جديد.
قال:
قد تستطيع أن تحكم على نفسك، ولكن الناس شىء آخر.
قلت:
أنا من الناس.
قال:
ولكنك تمتهن مهنة “إنسان” ربما أثناء تواجدك فى العيادة، وربما تعود بعد ذلك مثل الناس.
قلت:
ولكنى مثل الناس فعلا… كل ما فى الأمر أن قسوة الحياة جعلتك لا ترى فى الناس إلا الشر والخيانة.
قال:
ولكنهم كذلك.
قلت:
ليس تماما.
قال:
كيف؟
قلت:
حين تحب… تمنح دون حساب ودون رجاء… وحين لا تنتظر الكثير… يتجمع القليل ليصبح كثيرا، الناس جميعا رغم قسوتهم الظاهرة “مساكين” لا يدركون ما يفعلون ببعضهم البعض، وفى نفس الوقت لا يكفون عن أن يعطوا بعضهم بعضا حتى وهم لا يقصدون.
قال:
أنت بتصورك هذا أجنّ منى، لعلك تتصور أنك أنت الذى سوف تصلح الكون؟
قلت:
بل أنت.
قال:
أنا؟
قلت:
نعم أنت… حين تحب وتعطى ستشعر بالقدرة التى لا حدود لها… وسيصبح لكل شىء معنى.
قال:
كيف أعطى وأنا لم آخذ… وحين سرقت وسموها “سرقة” بالإكراه” كان الدافع أن أجعلها -هذه السيدة المسكينةتعطينى حليَّها… أنا أريد أن يعطونى، أريد أحدا يعطينى ذاتى.
قلت:
إن أحداً لن يعطيك ذاتك… إنك أنت الذى ستخلقها من جديد…
قال:
كيف؟
قلت:
لو استوعبنا معا ما تحسُّه الآن هنا… سوف ترى رؤية جديدة وتتعلم أشياء جديدة، ثم تمارس مشاعر جديدة… ثم تنطلق إلى رحاب الناس بما هم، كيف هم، فيصلك القليل كثيرا، فتجدك أنت الكسبان.
قال:
ما أبعد ذلك.
قلت:
وأروعه.
قال:
لعل… لعل للأمر وجه آخر
قلت:
دعنا نحاول.
****
قال الفتى للحكيم:
آه لو تم كل هذا، إذن لتغير وجه الحياة، ولكن حديثنا عن ذلك الفتى الهارب إلى السجن، الذى فشل فى أن يجن، لم يُنْسِنِى حديثنا الأول عن ذلك الفتى الثائر الذى آمن بكل شىء، بحثا عن الشىء الحقيقى، وحين لم يجده فقد نفسه… واضطربت عليه الأمور… فحدثنى عنه، فقد طال بى الشوق إليه.