نشرت فى أخبار الأدب
بتاريخ: 7-7-2013
نبض الناس
ثورات محفوظ طفلا فمبدعا
فى نقد مطول كتبته عن “جدل الإنسان المصرى مع ثوراته عبر قرنين من الزمان” العدد الخامس “دورية محفوظ” ديسمبر 2012 فى رواية “حديث الصباح والمساء”، تناولت فيه الفروق بين أدب المقاومة، وأدب التحريض، وبين فعل الإبداع ثورة فى ذاته، وذكرت كيف وصلنى دائما أن أدب محفوظ يتميز بحيوية دافقة ممتدة بأصالة عميقة، عبر ذراعَىْ “الإيقاع الحيوى” أصل الحياة، ومن ثَمَّ كنت – ومازلت- أرى كيف أن موقفه مما هو ثورة أعمق وأشمل كثيرا مما يسمى أدب المقاومة، الإبداع الحقيقى ليس إلا ثورة كاملة، فهو عملية متكاملة تشمل ما هو إقدام فتفكيك يصل أحيانا إلى حد التحطيم الذى تلحقه اللملمة فإعادة التشكيل فالتخليق، وأهم مثال يوضح ذلك هو عملية إبداع الشعر الحقيقى فى تعامله مع اللغة، وهذا ينطبق على أى نوع من الإبداع الاختراق الخلاق،
الابداع الحقيقى إذن هو ثورة كاملة كما أن الثورة المتكاملة هى إبداع جماعى، هكذا نتعلم من أى أدب أصيل ومن أدب محفوظ خاصة.
ثم إنى أكتشفت لاحقا – الآن- من مراجعة نقدى السابق “لأصداء السيرة” (أصداء الأصداء، المجلس الأعلى للثقافة، 2006)، أن ذكر الثورة جاء فى أول فقرتين فى الأصداء بشكل مختلف متكامل، مما يحتاج إلى إشارة جديدة.
الفقرة الأولى: - دعاء:
“دعوت للثورة،. وأنا دون السابعة ذهبت ذات صباح إلى مدرستى الأولية محروسا بالخادمة، سرت كمن يساق إلى سجن، بيدى كراسة وفى عينى كآبة وفى قلبى حنين للفوضى، والهواء البارد يلسع ساقى شبه العاريتين تحت بنطلونى القصير.. وجدنا المدرسة مغلقة والفراش يقول بصوت جهير: بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضا،
غمرتنى موجة من الفرح طارت بى إلى شاطيء السعادة ومن صميم قلبى دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد!”
جاء فى نقدى لهذه الفقرة: تبدأ الأصداء بطفل قبل السابعة، يحمل بذور الثورة الفطرية الجميلة، التى أسماها “حنين للفوضي”، تواكبها كآبة نتيجة للإحاطة المُحْكمة ما بين خادمة تحرسه، وقهر يسوقه إلى سجن النظام “المدرسة”، فتنقذه المظاهرات من هذا وذاك، لتطير به إلى “شاطيء السعادة” داعيا للثورة بطول البقاء، (وكأن الثورة ارتبطت عنده طفلا بالمظاهرات وتوقف الدراسة).
لكن فى الفقرة التالية مباشرة (رقم 2) بعنوان: “رثاء” يأتى ذكر الثورة بشكل آخر تماما، فبعد مفاجأة زيارة الموت لبيتهم – وهو بعد طفل- ليخطف منه جدته: إذا به ينسحب بعيدا عن أنفاسه التى تتردد فى جميع الحجرات ليجمع نفسه، “…فلذت بحجرتى لأنعم بدقيقة من الوحدة والهدوء”، … وإذا بالباب يفتح وتدخل الجميلة ذات الضفيرة الطويلة السوداء، وهمست بحنان : لا تبق وحدك، واندلعت فى باطنى ثورة مباغتة متسمة بالعنف متعطشة للجنون وقبضت على يدها وجذبتها إلى صدرى بكل ما يموج فيه من حزن وخوف…”
الثورة هنا غير الثورة “المظاهرات” التى أعفته من المدرسة ودعا لها كما ورد فى الفقرة الأولى، هذه الثورة الأخرى التى اندلعت “فى باطنه” كانت حركة حيوية داخلية، آثارها فقد جدته، فكانت ”مباغتة، متسمة بالعنف، متعطشه للجنون”.
هذا طفل وذاك هو نفس الطفل ربما فى نفس السن، انظر كيف يحضران فى وعى المبدع بمعانٍ متكاملة تعطى للفظ “الثورة” حقه من النبض، والحيوية، والعمق، والخطر، والفرحة، والحنين للفوضى، وهى هى المعانى التى قد تصف المرحلة الحالية من الإبداع الجماعى المسمى “الثورة”.
من يا ترى من الثوار أو الحكام يمكن أن يمسك بعصا المايستروا ليبدع لنا لحن “الثورة البعث” إذ يبادر بتشكيل حياتنا الجديدة إبداعا من هذا الوعى الثورى الفائق المتفجر؟