نشرة “الإنسان والتطور”
الخميس:8 -9-2016
السنة العاشرة
العدد: 3296
أصداء الأصداء:
الدراسة الجامعة (1)
الطفولة نبضٌ وتجدد باستمرار..”2″ (1)
استهلال
أنهينا الحلقة السابقة بوعد بتجديد ما سبقت المحاولة فيه من هذه الدراسة بنص يقول:
إن هذه الأصداء: قد صاغت نبض الطفولة الحاضرة حالا (حال كتابة الأصداء) فى تجليات مجسدة راحت تتردد كرجع الصدى، لتعلن عدة مستويات معا (على الوجه التالى):
أولاً: حضور طفولة المبدع شخصيا، فى تجليات تعاش أكثر منها ذكريات تحكى، بمعنى أن الطفل الذى “نراه” فى الأصداء نراه “حاضرا” وليس “ماضيا”.
ثانياً: الحفاظ على كم الطزاجة والدهشة حتى (وخاصة!) فى مواجهة الكوارث والموت.
ثالثاً: انسياب الخيال الخصب الموجز الذى يجمع بين شدة البراءة وعمق الرؤية.
رابعاً: تناول ما هو طفل، وطفولة، وطفلى، بشكل يكشف عن معلومات أساسية (الكشف المعرفى بالإبداع الروائى) بما يمكن أن يضيف إلى المعارف النفسية ما تحتاج إليه.
ونكمل اليوم كالتالى:
أولاً: حضور طفولة محفوظ منذ البداية:
ظل الطفل “نجيب محفوظ” (وليس طـفل نجيب محفوظ) رائعا حاضرا متكاملا طول الأصداء، حتى بعد أن احتواه الشيخ عبد ربه التائه، ويبدو أننى تحسست ذلك فى الدراسة التشريحية حين عنونت الفصل الأول هكذا “الطفل يرحب بالشيخوخة ويغازل الموت”، ثم كان الفصل الثالث (الممتد فى الفصل الرابع) بعنوان “إبن حظ”: طفل تائه (ياأولاد الحلال) فى ثوب كهل يعبد ربه.
كتبت فى الفصل الأول: شارحا أول فقرة: “دعاء”(2)(1) ما يلى:
تبدأ الأصداء بطفل قبل السابعة، يحمل بذور الثورة الفطرية الجميلة، التى أسماها، تواكبها كآبة نتيجة للإحاطة المحكمة ما بين خادمة تحرسه، وقهر يسوقه…إلخ
وأكرر هنا الآن أن الحضور الحى للطفل بهذه الصورة الصريحة لا يعني- مباشرة- أن هذا هو محفوظ طفلا، فعلينا أن نستقبل هذا الطفل الذى سنتحدث عنه باعتباره تجليات الطفل الآنى عند محفوظ حالة كونه يكتب الأصداء، فالفرض الذى نحاول إثباته هو أن طفل محفوظ تكامــل فى كاتب الأصداء، حتى يمكن أن نرجح أننا نقدم طفلا آنِيًّا حاضرا، وليس ذكريات مضت يستعيدها مبدع يتذكر.
ثانيا: حضور الطفل حتى النهاية:
تنتهى الأصداء، أو تكاد تنتهى (فقرة الطائر الأخضر 208) بخيال طفلى رائق فى مواجهة “المغيب”، وذلك حين يوجز الشيخ عبد ربه التائه حياته، وكيف أنه قضاها فى حب ونجاح وغناء فى الليالى البدرية، إذا به يعلن حلاوة النهاية، وبدلا من أن يطلق علينا قذيفة وعظ حكيمة، يستدعى طفله (وقليلا مايفعل ذلك الشيخ عبد ربه، عكس الطفل محفوظ – أنظر بعد)، يستدعى طفله ليستعيد إبداع الطفولة الفخور بالجهل المعرفى
“وعند المغيب هبط الطائر الأخضر فغرد وأشجانى دون أن أفقه له معنى”
إن من أكبر ما يميز الطفولة هو ما يمكن أن يسمى الجهل المعرفى، ولعله هو هو الغيب الذى على المسلم (والمؤمن) أن يحافظ على “الإيمان به” حرصا على طزاجة فطرته، وقد أشرت فى الدراسة التشريحية إلى قراءتى مغزى الطائر الأخضر فى هذه الفقرة، متصورا أنه يقابل بشكلٍ ما: ”ما كان أهلنا يقولونه لنا صغارا فى قريتنا: من أن “الذبابة الخضراء” التى تحوم أحيانا حولنا، هى “روح عزيز”، فأحببناها، وصالحنا الموت من خلالها”. (3)
لا أريد أن أسبق الأحداث لأعلن اختلاف حضور الطفل فى الأصداء قبل وبعد ظهور الشيخ عبد ربه التائه، فسوف يأتى هذا فى حينه، فقط أريد أن أنبه هنا إلى أنه بالرغم مما سنرى ماذا فعل الشيخ عبد ربه بطفل محفوظ، فإن حضور الطفل لم ينقطع أبدا ولو بشكل غير مباشر.
ثالثاً: الطفل يعيش الجدل، ويتحمل التناقض، ويصالحنا على الموت
نفاجأ فى الفقرة (2) التالية مباشرة “رثاء” بإظهار قدرة الطفل على استيعاب ما لا يستطيعه الناضج، فهو فى حضوره فى مواجهة الفقد (موت الجدة) يتعرف، ويستكشف، ويجزع، ويشارك، ثم يتجاوز، حتى نشعر أننا لو تعلمنا منه كل ذلك فى مواجهة الموت، لهان الموت. الطفل فى هذه الفقرة استطاع أن يتحمل غموض التناقض، ليثبت لنا أن الطفولة أقدر على التعرف على الموت وتجاوزه، وأن الموت الذى يتحدث عنه الكهول وينتظرونه ليس مطروحا على من استطاع أن يحتفظ بطفولته نابضة متجددة، بل إن هذا الموت الذى استوعبه هذا الطفل ليتجاوزه إنما يعلن -ضمنا- أن الطفولة الدائمة المتجددة هى بعث متكرر، وأن الموت هو التمهيد الضرورى للبعث، إذ لا يوجد بعث بلا موت، وهنا يظهر المقابل، حيث تقفز الولادة (التغير) من خلال الموت!!!
فعلى الرغم من هول الصدمة الأولى التى عاناها طفلنا هذا وهو يتعرف على الموت فى أول زيارة له باعتباره “عملاقا له أنفاس تتردد فى كل الحجرات“، إذ راح شبحه يطارد طفلنا دون هوادة، على الرغم من ذلك فقد راح الطفل يجرى أمامه: لا ليختبئ، ولكن ليلتقى بالحياة، “الجميلة – ذات الضفيرة”– ..إلخ
هذه البداية الواضحة التى تتوثق فيها الحركة بين الحياة والموت، إنما تعلن بشكل مباشر أن الذى ينقذنا من الموت (الموت/الفناء) هو الاندفاع المتجدد نحو إعادة الولادة (تجديد الطفولة فينا)، ومحفوظ يعبر عن ذلك من خلال وصفه لاندفاعة الطفل الهارب من الاستسلام لأسى الفقد (الموت/الاختفاء) إلى الجميلة ذات الضفائر فى وصفه لحركته بأنها حركة “مباغتة، متسمة بالعنف، متعطشه للجنون”.
أى طفولة حية هذه التى يسترجعها صاحب الأصداء بهذا الوضوح حتى يعلمنا جمال انفجارات وعى الأطفال الداخلية، تلك الانفجارات التى تـغلف بالجنس دون أن يكون بالضرورة جنسا وإنما حياة (لا تستبعد الجنس)، فها نحن نفاجأ بطفلنا وهو يجذب الجميلة إليه قادرا، ولا يرتمى فى حضنها هربا، يجذبها بكل ما يموج به صدره من “حزن وخوف”!!
طفل الأصداء، هكذا منذ البداية، ليس ذلك الطفل الذى مسخناه بأوهامنا عن تقديس البراءة، وحلاوة النكوص، لكنه الطفل الفطرة، الطفل العملاق الطيب الذى راح يدور حولنا ويأخذ بيدنا بينما الأصداء تتردد، ليمارس أمامنا ما لا يستطيع الشخص العادى (وبالذات المفرط فى العادية) أن يمارسه، وكأن محفوظ راح ينبهنا إلى أن الطفل فينا إذا ما حافظنا عليه، هو الذى يمكن أن يؤلف بين المتناقضات فى سهولة ويسر، فنتذكر-رافضين-أولئك الذين يتحدثون عن “الجدل” حتى يحرموا من ممارسته وهم ينسون أو يجهلون أن جدل الحياة فى التوليف بين المتناقضات هو قبل الكلام وقبل التنظير، وبعدهما على قمة حركية النضج، فالجدل هو قانون الطبيعة وليس من علوم الكلام أو الكتابة، وهو – بالتالي- أقرب إلى الطفولة المتكاملة هذه.
رابعاً: تفجرات الولادة الجديدة منذ الطفولة
ما زلنا فى الفقرات الباكرة، فنرى فى الفقرة (3) “دين قديم” – كيف خرج الطفل من أزمة المرض بعد أن فرح بالرعاية المفرطة حتى كاد يستمرئـها، كيف خرج إنسانا آخر أكثر التزاما “خُلِقَ بين جوانحى شخص جديد”، – علما بأن التفكير المنطقى العادى السائد يحذرنا من مثل هذه المواقف التى قد تـعلم الطفل فرط الاعتمادية – تعلمنا: كيف خرج طفلنا هذا من إغراء الاعتمادية والتمادى فى العجز، خرج ملتزما مدينا بما ينبغى، “هكذا”، فراح يتفوق غير مُكْره على “ذلك”!
تحفظت- فى القراءة التشريحية- على احتمال “إعادة الولادة ” فى هذه السن الباكرة، إلا أن هذا الاحتمال قد نبهنى إلى أن إبداع محفوظ يقترح -صادقا- أن النمو يتفجر حلقات بعضها من بعض فى أى سن، ومع أية فرصة، وأنه لا توجد فترة كمون طويلة كما صور لنا فرويد فى هذه المرحلة من العمر (وهى الفترة من عمر خمس سنوات حتى البلوغ)، وأن الطفل إذ يشبع مما يشبه السلبية (إغراء الاعتمادية والتمادى فى العجز)، قد ينطلق إلى التزام ناضج غير متوقع يعلن طفرة محدودة على مسار النمو، كما رأينا فى هذه الفقرة!!، هذا فضلا عن ما أضافته فروضى (مؤخرا 2006 – 2016) بعلاقة الإيقاعحيوى بالنمو من أن هذه المراحل هى أطوار مستعادة طول العمر ليلا ونهار.
خامساً: الطفل الفيلسوف الحائر:
نعرف علاقة نجيب محفوظ بالفلسفة، ونتذكر حيرة اختياره الباكر بين المسار الأكاديمى فى الجامعة فيلسوفا أو أستاذا للفلسفة وبين الأدب (والوظيفة التقليدية)، وهو يزعم أنه ترك الفلسفة إلى الأدب بصعوبة، ولكن بحسم لا رجعة فيه، لكن فى رأيى أن كثيراً من أعماله ترفض هذا الزعم، ثم تأتى الأصداء لتدعم هذا الرفض، ثم يحضر طفل الأصداء ليؤكد مباشرة أن نجيب محفوظ لم يترك الفلسفة أبدا، فإن كان قد تركها، فقد تركها إلى أصلها، أعنى “حب الحكمة، بتطوير تساؤلات الطفل”.
ذلك أننا نعرف أن أسئلة الأطفال هى هى أسئلة الفلاسفة، لكن الطفل يسأل ويتساءل ولا يلتزم بمنهج رصين فى محاولة الإجابة، أما الفيلسوف فهو يسأل ويتساءل ويجتهد ويلتزم ويثابر ويولد الأسئلة من الأسئلة والفروض من الحيرة.. أما المبدع فتثيره التساؤلات فى أعماق إبداعه فيتشكل منها جمالا وإجابات غامضة تحفز إلى مزيد من العمق والإبداع النقدى أيضا إلخ
الطفل فى الأصداء لم “يدع فرصة” إلا ورمى فى وجهنا أسئلته التى تجاوزت مرحلة الفجاجة والاستفهام السلبى، إلى مرحلة التساؤل الذى يحمل إجابته، كما يحمل مخاطرة التصادم من فرط الإدهاش.
ا- ففى فقرة “مفترق الطرق” فقرة (5) تصورت أن مفترق الطرق هو الذى جعل أحد الشقيقين (إبنا العمة)”بيها” (من بيه!!، بك) والآخر فلاحا “لم يتبوَّهْ”، وعلى الرغم من أن الذى كان يحضر بانتظام لزيارة أمه (عمة الطفل الراوى) هو الفلاح وليس البيه، فقد كانت تساؤلات الطفل عن “الذى يحضر” لا عن “الذى يغيب”، وكأنه يعترض أن صاحب الواجب هذا نكرة، وأن الغائب المتمنظر هو الأصل الذى يـنـسب إليه هذا الحاضر، وأهم ما شدنى فى هذه الفقرة هو عنوانها “مفترق الطرق”، حتى تصورت أن ما شد الطفل هو سؤال يقول: “متى افترقت الطرق بالشقيقين؟ حتى أصبح هذا “بيها” يُحترم تلقائيا حتى فى غيابه، وأصبح شقيقه فلاحا تطلب العمة له الاحترام بالأمر من ابن شقيقها- حالة إعلان وجوده بالحضور العيني!!
فالذى يتحدث بهذا العمق تحت هذا العنوان الغامض نسبيا عن مفترق الطرق هو طفلنا الحكيم: (الفيلسوف المبدع تماما).
ب- وفى فقرة “الأيام الحلوة”(6): يصلنا تساؤل الطفل عن معنى وقيمة “العمر الافتراضي” للقوة الغاشمة، وكيف أنها تلغى “الآخر” بعيدا أو منفيا أو مُجَهَّلاً حتى نهاية العمر. إلا أن طفل الأصداء لا يجعلها تمر هكذا، فهو بادى التسامح إزاءها عكس ما اعتدنا من إعلاء شأن المبالغة فى مصارعة القهر وكلام من هذا، هنا طفلنا بالغ التسامح يحكى عن هذه “القوة الغاشمة” وكيف بلغت نهايتها وهو يتابعها حتى يرينا محدودية عمرها الافتراضى، وكيف استمر عَمَا صاحبها حتى بعد أن زالت القوة، ولم تبق غير ذكرياتها التى مازال يعتبرها هذا الغشيم “أياما حلوة”!!!
جـ – إلا أن هذه الحكمة المباشرة -نسبيا- تتضاءل بجوار الحكمة التى تصلنا خفية رائعة من فقرة مثل فقرة “المليم” (33)، فالطفل هنا يعلمنا من خلال نسيانه ما كلفته به أمه أن يشتريه بمليم، وفى نفس الوقت يقينه أن ما كان مفروضا أن يشتريه لا تزيد قيمته على مليم، يعلمنا أن علينا أن نمارس الحياة ما دمنا فيها، وأنه ليس ضروريا أن نحدد “محتوي” ما تتيحه لنا الحياة بقدر ما هو مهم أن نتيقن أننا لن نحصل منها إلا بما تسمح به هذه الأدوات التى أعطتنا إياها، لا أكثر ولا أقل.
سادساً: الطفل الشيخ:
حين التقى “بها” وهى تلاعب حفيدها وهو يبنى قصره الرملى (فقرة “فرصة العمر” -24)، بدا لى أن الشيخ قد توحـد بحفيدها، ثم إنه حين تحسر على الفرص التى ضاعت منه، بعد أن حكت له ما حكت، بدا لى وكأنه يبنى قصورا طفلية جديدة من رمال أقل تماسكا، فعاد هذا الشيخ الجميل الشبقى، عاد طفلا من حقه أن يزور قصوره الرملية القديمة، يعاود فتح حجراتها أو حتى يأمل فى تجديدها، بل ومن حقه أن يبنى لنفسه قصورا جديدة من الرمال أيضا، مادام قد نجح هكذا فى الحفاظ على طفله نشطا فى هذه السن، وهل لبناء قصور الرمل أوان محدد فى عمرٍ بذاته؟
وبعد
…. ونواصل الأسبوع القادم
[1] – فضلت أن أرجع للعنوان الأصلى لأن ما لحق بالمتن الباكر هو مجرد تحديث طفيف وتصحيح لازم.
[2] – الأرقام بين قوسين تشير إلى الترقيم الذى أعطيته فى الدراسة التشريحية السابقة، ومن يريد أن يتتبع الفقرات المعنية فى الصورة الأصلية للأصداء عليه إما أن يرقم نسخته بنفسه مع مراعاة التعديل الذى أشرنا إليه لإزالة تدخلات الناشر، وإما أن يبحث عن عنوان الفقرة مثلا عنوان: ‘دعاء” هنا.
[3] – د يحيى الرخاوى، تقاسيم على أصداء السيرة الذاتية الفصل الرابع الإنسان والتطور، العدد 62 ص 165، يوليو 1998