نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 5-9-2016
السنة العاشرة
العدد: 3293
الطبنفسى الإيقاعحيوى (94)
Biorhythmic Psychiatry
عودة إلى ما تبقى فى:
المقابلة الإكلينيكية (28)
مقدمة:
ما زلنا فى المقابلة الإكلينيكية، ونشرة اليوم هى عن: كيفية ودلالات الاستقصاء عن مرحلة الطفولة الباكرة.
2) الطفولة الباكرة:
المتن:(1))
يَسأل الفاحصُ فى هذه المرحلة عن عادات الأكل، والإخراج، ونمو الكلام، والسمات العصابية: [مثل قضم الأظافر، ومص الإصبع، ونوبات الشكاسة، والبوال الليلى، والنهارى، واللازمات، وفرط النشاط] وكذلك يرصُد أى سلوك انحرافى أو سوء تصرّف، كما يسأل عن علامات باكرة لأى احتمال تخلف عقلى بسيط أو جسيم، وهى علامات تظهر أكثر فى تأخر معدّل النمو عامّة، وخاصة فيما يتعلق بالتعلم البسيط للعادات الجديدة.،ويَسأل فى هذه الفترة أيضا عن تاريخ ضِرَار الأطفال” (من الوالدين أو غيرهم) وخاصة الجانب السلبى للضِّرار فى صورة الإهمال أو الحرمان كما ذكرنا.
التحديث:
أبدأ بالتذكرة بأن المعلومات المتاحة عن هذه المرحلة هى معلومات تقريبية، وإن كانت يمكن الحصول عليها أحيانا من المريض نفسه – مهما كان عمره – بدرجة أفضل من المرحلة السابقة، فكثيرا ما يذكر المرضى أحداثا ذات دلالة فى سن قبل دخول المدارس (عادة حتى السادسة وأحيانا قبل ذلك بكثير)، وليس نادرا أن تكون هذه الأحداث لها دلالتها الخاصة، وآثارها المتبقية ، وكثيرا ما تتعلق هذه الذكريات ليست فقط بأحداث وقعت للشخص (المريض نفسه)، وإنما فى الأسرة وتركت ما تركت فيه بما قد يتذكره ويحكيه، أو لا يتذكره لكنه أثــَّر فيه.
ويلاحظ أيضا بالنسبة لمعلومات هذه الفترة (وما بعدها بقليل) أن الأمهات المصريات (وربما العربيات عموما) يصفن أولادهن بصفات كثيرة أغلبها حسنة، كما ينكرن أى نقص أو قصور وخاصة فى الذكاء والقدرات المعرفية، وهناك من الأمثال العامية المصرية ما يؤكد وجود هذا النزوع فى ثقافتنا، وسوف أكتفى بضرب مثلين داليِّن، مع التماس العذر لكل الأمهات اللاتى ينطبق عليهن شطر البيت العربى القائل “وعين الرضا عن كل عيبٍ كليلةٌ..”، لكن المثلين العامين اللذان يعرّيان هذا الموقف: أقسى وأدق من هذا الشعر العربى المهذب، المثل الأول يقول “القرد فى عين امه غزال“، أما المثل الثانى الأكثر قسوة فهو يقول “خنفسة شافت بنتها عالحيط : قالت دى لؤلؤة فْ خيط“، ولا ينبغى على الفاحص أن يرفض هذا الموقف أو يعيبه، فهو موقف إنسانى طيب تسمح به ثقافتنا، لكن لا ننسى ما له من أضرار بالغة قد تستمر مدة ، وتتراكم حتى يحضر الشخص مريضا إلينا، ذلك أن إنكار القصور المعرفى الخـٍلقى، ولو كان متوسطا أو نسبيا، قد يترتب عليه أن يـُـطلب من الطفل، أو يـُـتوَقّع منه ما هو فوق طاقته، وتتسع الهوّة بين قدراته وبين المطلوب أداؤه سنة بعد سنة حتى يصدم الأهل بموقعه فى التحصيل الدراسى، أو بأى اختبار فى خبرة عملية موضوعية.
أما عن مسألة فحص وتقييم الضِّـرار((2)) فى هذه السن، فهذا عادة ما يرتبط بمفهوم الضرر والضرار للأطفال بالذات، وهو مفهوم يختلف اختلافا شديدا حسب الثقافة الفرعية، فالثقافة المستوردة الراقية تجعل التدخين فى حضور الأطفال أو بالقرب منهم جريمة يعاقب عليهأ ، حتى أن المدخن فى الشارع مثلا فى مونتريال (كندا) لا بد أن ينظر حوله ليتأكد من عدم وجود طفل على بعد كذا مترا من سيجارته، ..إلخ.
أما الثقافة المحلية عندنا ففيها لا يجازى المتخلف الذى يقوم بختان ابنته ضد كل الفتاوى والنصائح الطبية الواضحة إذ لا تعتبر ليس مجرما حتى الآن، أما الثقافة المحلية الإيجابية فهى تنبنى المبدأ الأشمل وأن “كل راع مسئول عن رعيته، وأنه “لا ضرر ولا ضرار”، بدءا بالأطفال والكهول وأصحاب الاحتياجات الخاصة. وكذلك تختلف الثقافات الفرعية، فضرار الأطفال فى الزمالك غير ضرار الأطفال فى عزبة القصيّرين فى غمرة، وضرار الاطفال بالعقاب الجسدى، غير ضرار الأطفال بالاعتداء الجنسى بدرجاته، وكل ذلك يحتاج إلى صبر ومعرفة قصوى بالاختلافات التطبيقية بين كل ثقافة فرعية وأخرى، هذا فضلا عن أن الآثار المسببة، والمسئولة عن هذا الضرار تختلف اختلافا هائلا مع الاختلافات الفردية وأيضا بين الثقافات الفرعية المختلفة.
ثم إن البحث فى هذه المنطقة، فضلا عن ما يتعرض من ألعاب الذاكرة إيجابا وسلبا، هو أمر بالغ الحرج فى مجتمعنا خاصة، وبالتالى على الفاحض ألا يهمله، وفى نفس الوقت ألا يختزله ويتعامل معه من منطلق أخلاقى أو دينى بحت، فهو فى البداية والنهاية طبيب لا قاض ولا مُصْدر أحكام.
ومن منطلق الطبنفسى الإيقاعحيوى، فإن الباحث الذى ينتمى إلى هذا النوع من الطب والتطبيب إنما يبحث – دون قصد غالبا – عن الأطفال بداخله ، يحدث ذلك ليس فقط وهو يفحص المرضى الأطفال، ولكن أيضا وهو يتلقى المعلومات من وعى (أكثر من ذاكرة) المريض أيا كان عمره ، وهو أيضا لا يتوقف عند ظاهر الضرار مثلا، بل يتعمق إلى الغوص فى احتمالات مستويات الوعى الممتدة فى تاريخ الحياة، دون أن يسميها كذلك.
وقد خطر لى مثل ذلك فقلت بعض جوانبه شعرا فى ديوانى بالعامية “أغوار النفس”
……….
وساعات أشوفنى طفل. . طفل. .
إنتو نسيتوه،
واهله سابوه،
ولا هوّا قادر يبقى ابوه،
ولا انْتو قادرين تلحقوه،
يا ناس ياهوه:
يا تلحقوه. ..،
يا تموّتوه.
وفى خبرتى، وجدت أن الفاحص الذى يوقظ الطفل فيه هو الذى يستطيع أن يسبر غور مرحلة الطفولة فى أعماق تركيبها كما خلقها الله، قلت بعض ذلك فى أرجوزة للأطفال (خارجنا، وداخلنا)
-1-
جيت أشوفها فى الكبار قمت اترعبتْ
الحكاية بايظة خالص، قَومْ سِكِتْ
كل حاجة غامضَةْ داخله فْ بعضها
واللى ماسك دفة المركب باينّـه
فى العسل نايم ولاهوش قدّها
(يعنى نيأسْ؟؟!!)
قلت لأَّه، مهما حاولوا يخرّبوها
يبقى نِلْجَاْ لِلِّى بُكْره حايعمِلوهـَا
شفتها فيهم بسيطهْ:
يعنى واضحة، بايْنَهّ واصْله لْوَحدَهَا
أعمل ايهْ؟
قلت أقولْها للعيالْ وعلى الله تنفعْ
للكبير برضُه ما هى يِمْكِن تِسمَّعْ:
-2-
نِفْسى أبقى بسيطْ وأوضحْ
نِفْسى إن الكلمة تنجحْ
نفسى احافظ عالأملْ
والكلام الحلو يبقى حلو،… لمّا يتعَمَلْ
هيَّا ورطةْ للكبير زىّ الصغيَّـرْ
ياللا يَا ابَنِى قبل ما بَـلْوِتْنا تكبْر
(ماهى كْبرتْ واللى كان دا بايِنّه كانْ!)
=… لأّهْ، داحنا قدّها، وانتمْ كمانْ.
……
* العيال واخدينها جّدْ
ماباينْشِى الحارهْ سدْ
إحَنا ليه بِنْسدّها بَدْرى عليهُمْ؟!
– أصلنا خايفين نشوفها بى عِينيهمْ
قومْ نراجعْ نفسنا !
(= لأْ ياعمْ، راجع انتَا بالنيابةْ عننَّا)
(انا مش نأوى أخطىِّ مِنْ هنا)
– طب نِسيبْهُمْ هُمَّا يمكن يعملوها
(= لأَّه برضـُهْ، هيّا سايـْـبهْ؟!
ما احنا عارفين اللّى فيها)
-3-
– همّا يعنى لسه راحْ يستَنّوا إذْنَكْ
همّا طايحين بالسلامه غصب عنىّ، آه، وعنّكْ.
العيال لازم يعدُّوا
كل واحد على قدّه
كلهّ بِيْحُطّ اللى عندُه
البُنَا يطلع لوحْدُه
…..
العيالْ راح يعملوهـَا واللى خـَلـَقـَكْ
العيال جّوَّانـَا برْضَك،
زىْ عندِى زى عندَكْ
يعملوا بكرَهْ وبـَعـْدُهْ
مِالنَّهارده الحلو برضُه
لو نحطـُّهْ عَالَى بعضـُهْ
(* يعنى قصدك: يعنى إيه؟
كل ده بـِـِتْرصُّه ليه؟)
– قصدى يعنى :
إنه حتى لو الكبير قفّلْ وطنّشْ
العيال راح يعملوها،
(* …….. لأ ما اظُنشْ.)
– لأ تُظُن ونُصْ،
بسّ حِسّ وبُصْ
علينا أن ننتبه كيف علـّمنا “إريك بيرن” صاحب مدرسة “التحليل التفاعلاتى”، أن حالات الذوات ليست فقط حالات متعددة (الطفل واليافع والوالد)، وإنما هى وحدات نمو متعاقبة ومتراصة الواحدة فوق الأخرى، وقد أغفل هذه الحقيقة – حتى تلاميذه – كل من اختزل هذه النظرية العظيمة فى سهولة صعوبتها، وقد أضاف إريك بيرن أن “وحدات الذات” Ego Units وليس فقط “حالات الذات” Ego States هى الَّلبِنَات التى تبنى بها الشخصية، وأن الَّلبِنَات الأولى أهم، لأنها “الأساس”، (وهى تمثل الطفولة خصوصا الطفولة الباكرة ) وأن الجرح (سوء التربية والتنمية) إذا لحق هذا الأساس، فإن البناء ينبنى مائلا معرضا للانهيار، وكلما تأخر الجرح ليلحق بوحدات الذات (اللبنات) المتأخرة (مثلا فى منتصف العمر) كان الميل أقل، والعرضة للانهيار، أما إذا استقامت وحدات الذات (اللبنات: وحدات النمو) الواحدة تؤسس للتالية وهكذا، فإن البناء يتصاعد مع أقل ميل ، وأقل مخاطر (الشكل).
وبعد
نواصل بدءًا من السبت القادم الحديث عن فحص مرحلة المدرسة، وأرجو يتحمل القلم والأصدقاء ما أنتظره وأنا أعرج إلى الكارثة التى آلت إليها حال المدرسة (على الأقل فى مصر!! وقد بلغنى مثلها للأسف فى بلدان عربية عزيزة أيضا)، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
[1] – نذكّر القارئ بأن “المتن” هنا يشير إلى النصوص التى وردت فى النسخة الأولى “ثنائية اللغة” من هذا العمل منذ أكثر من ثلاثين عاما (1986) وهو عمل غير منشور وأن التحديث هو ما طرأ على هذا المتن وخاصة بالنسبة لمنظور الطبنفسى الإيقاعحيوى.
[2] – Child Abuse ضرار الأطفال هو اللفظ الذى فضلت أن يكون ترجمة لهذا المصلح (ضَارَّتْهُ الْحَوَادِثُ: أَضَرَّتْ بِهِ ، آلَمَتْهُ ، أَلْحَقَتْ بِهِ ضَرَراً “وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلاَ يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ” البقرة آية 282، وفى الحديث الشريف: “لا ضرر ولا ضرار.”.