نشرت فى مجلة سطور
عدد يوليو – 1999
الخروج من مصيدة العصر!
تناوب إيقاع التغيير والتعتيم:
هل التغير فعل إرادى مطلوب دائما أو غالبا؟ أم أنه إعلان لما تم تراكـمـه فاعلا: فى لحظة نقلة نوعية؟
وهل التعتيم تضليل مقصود عادة؟ أم أنه قد يكون ضرورة دفاعية تمهيدا لتغيير أقدر فى وقت أنسب؟
وهل يستطيع الإنسان أن يعيش وينمو ويتطور دون أن يترجح ما بين التغيير والتعتيم بشكل يكاد يكون متناوبا ومنتظما ومضطردا؟
وهل يمكن أن تثار نفس الأسئلة على المدى الأشمل (تطور النوع فتطور الإنسان)، وأيضا تطور المجتمعات ودورات الحضارات؟
ثم ما هى علاقة التغيير والتعتيم الفردى بالمسار الجماعى (والاجتماعي) طولا وعرضا؟
هذا ما عن لى ـ من تساؤلات ـ وأنا أحاول الاستجابة للمشاركة فى هذه القضية المثارة.
وللإجابة على بعض هذه الأسئلة لابد من فتح ملفات فروض التطور، والتعلم، والنمو الفردى، وأزمات المرض، وأزمات الثورة، ودورات الإبداع، وتماوج استعمال الحيل النفسية (الميكانزمات)، ودورات الإيقاع الحيوى، حيث يتداخل كل ذلك بقدر ما فى إضاءة زوايا هذه القضية بشكل أو بآخر.
فالنمو الفردى ـ مثلا ـ يتم فى دورات، فهو لا يضطرد بشكل كمى خطى أصلا، وكل دورة تعيد سابقتها وتضيف إليها بعد فترة استيعاب لمنجزات الدورة السابقة، فتتواصل المسيرة ما بين مظاهر أزمات التغيير، واستثمار كمون التعتيم.
وبلغة التحليل النفسى، فإن كل الحيل النفسية اللازمة للتكيف هى نوع من التعتيم الضرورى للتكيف وخفض التوتر، أما التغيير فهو أقل تناولا فى مفاهيم التحليل النفسى، اللهم إلا فى ثنايا عملية التحليل نفسها.
وهذا التناوب أيضا أصبح يرصد فى أنواع التعلـم المختلفة وتبادلها، وفى دورات المزاج الفصلية وغير الفصلية، مما لا مجال لتفصيله هنا.
نخلص من كل ذلك إلى أنه لا يوجد تغيير بدون تعتيم يسبقه ، كما لا يوجد تعتيم إلا تمهيدا لتغيير ما و أن هذا هو ما يحدث فى “الأحوال الطبيعية”
وفى هذه العجالة يستحيل الإحاطة بكل ما تطور من مفاهيم تكاد تقلب منظومة القيم التى شاعت حول اللفظين أو على الأقل تعيد ترتيبها أو تعيد صياغتها، كذلك فثمة إعادة نظر فى إيقاع الحركة وطبيعة العلاقات.
لكل ذلك سوف يكون الطرح فى هذه المرحلة بمثابة خطوط عريضة لفروض بديلة، لعلها تثير حفزا للمراجعة المتأنية، حتى لو اهتزت منظومات قديمة.
التغيير كشف عما تم أثناء التعتيم:
إن مدخل فهم هذا التناوب الجارى على كل المستويات هو من خلال ما يسمى بالإيقاع الحيوى، ولكى نواكب دورات الطبيعة بفهم أعمق: ينبغى أن نعيد النظر ـ أساسا ـ فى مضمون “مفهوم “ما هو تغيير وما هو تعتيم، وما علاقتها بهذا الإيقاع
فالشائع أن التغيير هو فعل إرادى أقرب إلى ما يشبه الثورة أو التجديد، وأن التعتيم هو نوع من التمويه والمناورة
وأيضا يغلب على الظن-العام- أن التغيير هو ما نلاحظه أو نرصده فى وقت إعلانه، وأن التعتيم هو عملية سلبية تفتقر إلى فرص تجميع وحدات الوجود (والمعرفة) بعيدا عن الوعى قليلا أو كثيرا، وكل ذلك يشير إلى مفاهيم تحتاج إلى مراجعة
والفروض البديلة التى تصاغ من مدخل الإيقاع الحيوى تقول:
(1) إن التغيير الظاهرى ما هو إلا “كشف” لما تم قبله، بقدر ما هو إبداع ضام لوحدات تجمعت، هى التى سمحت بنقله ولافية نوعية.
(2) وعلى ذلك فلكى يتم (يعلن) التغيير فى الوقت المناسب، لا بد وأن تسبقه عمليات شحن كافية، لا تجرى عادة إلا تحت مظلة درجة خافتة من الوعى (يمكن أن تعتبر تغييبا)، جنبا إلى جنب مع فرص تنظيم استيعاب مناسب لما يتم تجميعه، حتى إذا حان وقت إعلان النقلة من الكم إلى الكيف كانت الأبجدية المتراكمة جاهزة ومناسبة لصياغة الجملة الجديدة
الإيقاع الحيوى وحتمية التناوب:
إن هذا الذى يحدث لا يتم من خلال المفهوم الأحادى البعد،الكمى التقدير، الخطى المسار، الاستقطابى التناقض، لكنه يتناوب مع / فى الزمن الذى يتشكل أبدا على إيقاع النبض الحيوى، وبعض مظاهر ذلك:
(1) إن الظاهرة البشرية على كل مستوياتها (مثلها مثل أغلب الظواهر الطبيعية والكونية) هى ظاهرة إيقاعية فى جوهرها (والإيقاع هنا يعنى: الدورية والإعادة والإطلاق والتصعيد معا).
(2) إن الطبيعة الإيقاعية للوجود البشرى راسخة وأساسية، سواء كان ذلك بطبيعتها أم أنها نتيجة تكيف الكيان الحيوى (البشرى ضمنا) على مدى القرون مع إيقاعية الكون أساسا (دورات الأفلاك التى أقرب مظاهرها: دوران الأرض، وتناوب الليل والنهار).
(3) إن أظهر إيقاعات الطبيعة البشرية هو تناوب النوم واليقظة، ثم تناوب النوم الحالم والنوم الساكن، وفى الفسيولوجيا عامة تناوب أطوار دورة النبضة القلبية.
(4) وعلى مستوى النمو الفردى فإن كثيرا من المدارس النفسية تتناول مسار النمو باعتباره، يتم فى دورات إيقاعية (إريك إريكسون – أوتو رانك – النظرية الإيقاعية التطورية:الرخاوي).
(5) أما تطبيق دورات الإيقاع الحيوى على مدى التطور الحيوى كله فهو أساس جوهرى فى فكرة “نظرية الإستعادة” وبالتالى هو أساس ما أسميته “النظرية الإيقاعية الحيوية”، وهى النظريات التى تعتمد القياس المتوازى المستعاد الذى يفترض أن تطور الفرد يكرر تطور النوع (نظرية الاستعادة: هيكل)، ومن ثم يفترض أن كل طور من أطوار النمو (الإيقاع الحيوى عامة) يكرر مراحل ودورات تطور النوع، فالفرد، على فترات مضطردة، تتكامل الواحدة بعد الأخرى (النظرية الإيقاعية)
وفى حالة النمو، ونشاط المخ، والتطور عامة، فإن الدورات ليست مغلقة تعيد نفسها حرفيا (مثل دورات القلب)، وإنما يتم التوليف النسبى فى كل دورة باستيعاب سابقتها، بحيث تنتهى كل دورة إلى مستوى من الوجود مختلف عن، و أعلى من، سابقه
ولكى يتحقق ذلك بكفاءة مناسبة، فإن ما يتم من خلال فعلنة المعلومات information processing على المدى الطويل أثناء الكمون ظاهرا إنما يمثل ملء المخ بمفردات صالحة للتفاعل الولافى الخلاق، حتى إذاما حان دورالبسط للتغيير، سواء كان ذلك فى دورة نمو أو فى خبرة إبداع أو فى إنجاز ثورة، وجد المخ ما يخلق به المستوى الجديد، وهو ما يعلن معه ما يبدو باعتباره “تغييرا”.
التغيير السلبى والتعتيم الهروبى:
كل ما سبق هو الأرضية التى يمكن أن نفهم من خلالها كيف أن التغيير والتعتيم هما طورا الحركة المتبادلان فى دورات النمو و التطور عامة، وبالتالى كيف أن لهما دور إيجابى لا يمكن الاستغناء عنه، وهذا صحيح، لكن كلا من التغيير والتعتيم يمكن أن يكون سلبيا، وهذا ما يحدث فى ظروف النمو العسرة وفى الأمراض النفسية، كما ترجح كفة هذه السلبية بشكل أو بآخر فى المجتمعات الفقيرة، والمشوشة، والتابعة، والمطحونة.
فكيف ذلك؟
يكون التغيير سلبيا حين يتم
(ا) تعسفا، أو
(ب) متلاحقا، أو
(جـ) مـفتعلا، أو
(ء) تفكيكا إلى أدني
هذه هى المحكات التى يمكن أن نفرق بها بين: ما هو “مرض عقلى وما هو إبداع”، بين ما هو “ثورة وما هو انقلاب”، وأيضا بين “النبى والمتنبي”، وأخيرا بين “الحداثة وأدعياء الحداثة”.
كذلك يكون التعتيم سلبيا حين يتم
(ا) بغرض الإخفاء لا التخفيف من حدة الوعي
(ب) وحين يكون مدبرا من خارج لحساب الخارج، لا لإتاحة فرصة تنظيم الداخل.
(جـ) وحين يمتد حتى يستديم، فيحول دون نقلة التغيير أصلا.
(ء) وحين يسمى بعكسه، فالشفافية المعاصرة المزعومة هى تعتيم انتقائى بشكل أو بآخر.
قيم جديدة، ولغة جديدة:
إن المعروض من خلال إعادة النظر فى هذين البعدين ـ هكذا ـ هو أن نركز على النظر الأعمق فى نوع التغير، وليس فى مبدأ التغيير.
وأيضا فى وظيفة التعتيم وليس فى المسارعة إلى شجب التعتيم.
فالذى حدث مؤخرا فى صدمة الحاضر (وليس صدمة المستقبل بعد) أن كثيرا من المعلومات تكاثرت، والوصاية زادت، والحركة تداخلت، ومن ثم فلابد لنا من أن نضمن ألفاظنا القديمة مضامين جديدة، فتصبح كلمة “الثورة “- مثلا – ليست بمعنى النقلة الجماعية الإيجابية النوعية المركزة، وإنما تتحور لتعنى مدى نشاط حركية الوعى النشط المثابر الملتحم بوعى الجماعة فالكون، فيكتسب الموقف الثورى حيوية دائمة، ولا يقتصر على نقلة مفاجئة.
ويجرنا هذا إلى احتمال وارد، وهو أن نكف عن استعمال الألفاظ القديمة ـ حتى لفظ الثورة ـ ما دامت لم تعد تحتوى معناها المألوف، وأن نبحث عن أبجدية أخرى ومناهج أخرى تسمح لنا أن نستوعب إحاطتنا بطبيعة حركة التطور، كما تصلنا أحدث فأحدث، ذلك أن إعادة النظر التى أدعو إليها قد تجعلنا لا نعود نصفق للتغيير لمجرد التغيير، أو نشجب التعتيم خوفا من الغموض والخداع للتسكين.
إن النظر الموضوعى المواكب للغة العصر يقتضى الإلمام بالمحكات التى تميز الإيجابى عن السلبى، كما يلزم باتباع المنهج الذى يرجح الإيجابى عن السلبى، فى كل من التغيير والتعتيم.
إن الإنسان و قد امتلك إرادة أن يحسن الإنصات لإيقاع مسيرة الحياة بلغة علمية أحدث، قد أصبح عليه أن يواكب الطبيعة التطورية بترجيح إيجابية كل دور، فلا يعود يفرح بالتشنج سعيا للتغير، كما أنه لا يستطيع أن يبرر لنفسه أن يستسلم لليأس حين يضطر إلى التعتيم.
لم يعد مناسبا-مثلا- أن نصفق كثيرا لصلاح عبد الصبور وهو يعايرنا وينبهنا على لسان سعيد فى “ليلى والمجنون” أنه “..لن ينجيكم أن تندمجوا أو تندغموا حتى تتكون من أجسادكم المرتعدة كومة قاذورات” ثم يصيح بنا أن الحل هو أن ننفجر أو نموت، “فانفجروا أو موتوا، إنفجروا أو موتوا” لم يعد مناسبا أن نصفق لهذا الموقف الأشبه بخطب عبد الناصر أو كاسترو، هذا إذا كنا قد نضجنا حتى استطعنا أن نفهم كيف أن الانفجار والموت مترادفان بشكل أو بآخر.
وأحسب كذلك أن هذه الرؤية المطروحة يمكن أن تنبهنا إلى تفسير انتقائى لبيتى شعر الشابى الشهيرين “إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر” فالإرادة هنا هى إرادة الحياة لا إرادة التغيير، والاستجابة هنا توحى بامتلاك ناصية القدر وليس بافتعال قوانين خارجه، أما البيت الثانى، فإن بؤرة الانتباه-بالفهم الجديد-لابد وأن تنتقل من شطره الثانى “ولا بد للقيد أن ينكسر” إلى شطره الأول “ولا بد لليل أن ينجلي” لأن ذلك يبدو – من هذا المنطلق الجديد- أقرب إلى ما ذهبنا إليه هنا من أن التغيير يتم بمواكبة الإيقاع الحيوى، وليس بمجرد الفعل الإرادى الظاهر المحدود، كما نلمح فى الشطر الثانى.
إعادة صياغة:
من كل ما سبق يمكن إعادة صياغة الخطوط الأساسية للقضية كالتالى:
1- إن إرادة التغيير هى العمل على الحصول على مقوماته، للامتلاء بأبجديته، واستيعاب وحدات العمل الصالح لإتمامه.
2- إن فعل التغيير جار طول الوقت، سواء منه ما يجرى تحت ستار ما يسمى التعتيم، أو ما يرتبط بما نعيه إراديا بشكل مباشر نطلق عليه دون غيره لفظ “التغيير”.
3- إن التعتيم ضرورة حيوية وطور لازم فى حركية الإيقاع الحيوى (المتناوب أبدا).
4- إن ثمة أوقات وظروف ومراحل يصبح فيها التغيير الإرادى الحاسم والحاد بلا بديل، ولكنه لا ينجح أو يستمر إلا إذا كان قد أعد له بما ينبغى، وهذه الأوقات والفرص لم تعد بنفس الإلحاح كما كانت فى الماضى، كما لم يعد لها نفس البريق السابق.
5- إن ثمة مناطق فى المعرفة والوعى بالوجود وبالكون تتطلب درجة ما من التعتيم المناسب، ومن أهمهما ما يتعلق بماهية الروح مثلا، وربما بمعالم الذات الإلهية.
6-إن أيا من التعتيم والتغيير قد يتم بفعل فاعل، لينحرف عن مساره الطبيعى: فمثلا قد يكون الحفز إلى التغيير من فعل المخابرات الأمريكية، كما قد يكون التمادى فى التعتيم هو بهدف محو الهوية القومية للشعوب التابعة.
خلاصة القول:
أولا: إن “التعتيم” الإيجابى هو “تغيير” مؤجل.
ثانيا: إن ما يسمى التغيير هو “كشف” لنهاية مرحلة متصلة ، وهو يعلن الوعى بالنقلة الكيفية أكثر منه إعلان تفاصيل عملية منقطعة عما قبلها.
ثالثا: إن الاستسلام للتعتيم والتأجيل إلى أجل غير محدد، هو مناورة خطرة ينبغى أن تكون موضع اختبار حذر، ومراجعة طول الوقت
رابعا: إن اليأس فى فترات الكمون (تعتيما) هو المسئول عن توقف الفعل التحضيرى، ومن ثم تراجع المسار أو التمهيد لتغيير سلبى عشوائى.
خامسا: إن العامل الأساسى فى ترجيح احتمال التطور دون الانقراض هو:
(1) مواصلة الإعداد،
و(2) حسن التوقيت،
بديلا عن:
(1) فرط الحماس،
و(2) إجهاض دورات النضج.
وبعـد:
فمن حق قاريء هذه المـداخله أن يساوره الشك فى أن الأخذ بفروضها يمكن أن يهمد زخم الثورة فينا، وأن يسهل على أصحاب الغرض ممن يملكون مقاليد التوجيه والتشكيل بالوسائل الأحدث، يسهل “عليهم” تنويمنا وخداعنا إلى ما لا نهاية.
ليكن،
فإذا كان ولابد، فلتأت نهايتنا ـ فنهايتهم ـ ونحن على وعى بلغة العصر، أفضل من أن تأتى نتيجة لأوهام الفعل وتشنجات الاختلاف ظاهريا.
إن الإنسان قد أثبت عبر تاريخه – حتى الآن – أنه قادر على استيعاب تحديات الانقراض، وأحسب أننا بتفهمنا لقوانين التطور وحسن مواكبتها، برفض اليأس، لا يكون أمامنا إلا استيعاب نبض الحياة: كل دور بلغتة
وهكذا لا نقع فى مصيدة تغيير زائف، ولا نستسلم ـ يأسا ـ لمناورات تعتيم ساكن.