نشرت فى مجلة سطور
عدد أكتوبر – 1998
إحياء التراث بالجدل
تمهيد:
حين طلب منى أن أكتب عن الموقف من التراث باعتبار أنه يمكن أن يكون هربا فيه أو هربا إليه ترددت كثيرا أن أوافق على ذلك، أو أن أرفض ذلك، لأننى توقفت - بداية – عند محاولة تحديد “ما هو تراث” قبل أن أحاول النظر فى موقفنا منه،هربا أو غير ذلك
وقد بدأت حيرتى بهجوم أسئلة دالة تقول:
هل التراث هو مجرد ماض نحكيه ونتناقله ثم ننتقى منه ؟
أم رواية نجترها أو نتناساها حسب مقتضى الحال ؟
أم تاريخ نقرؤه بفخر أو خجل حسب مقدار الصدق والكذب والحياء والمسئولية ؟
المعجم (الوسيط) يقول:
التراث = الإراث، وهو ما ورث
فما هذا الذى ورث، وهل ما ورث هذا هو حاضر(بيولوجي) قائم فى تركيبنا(الآن)، أو هو وعى ماثل أو متاح فى وجودنا الحالي، أو هو معلومات مودعة على أرفف المكتبات وفى بطون الوثائق؟
وما علاقة التراث بالتاريخ الخاص لأمة من الأمم، وهل الأولي، والأكثر واقعية ومواجهة ومسئولية، والأقرب إلى الطبيعة النمائية، هو أن نتعامل مع التراث باعتباره تاريخا يزار، أو ملجأ نهرب إليه، أو إنجازا ماضيا نتفحص ما تبقى من قدراته ؟ أم أنه حاضر نجادله وننطلق منه وبه ومعه ؟
ولم أستطع، كذلك لم أجرؤ، أن أحاول الرد على كل هذه الأسئلة فى البداية، لكننى اكتفيت بأن أرفض ابتداء:
(1) أن أنساق وراء التقليد الشائع الذى يتعامل مع التراث باعتباره ماضيا يحكى، أو مهربا يغري
(2) أن أقصر التراث على ما هو مسجل تاريخا (صدقا أو غير ذلك علما بأنى أعامل حتى ما يصدق من التاريخ باعتباره إشاعة راجحة لوجهة نظر محدودة، مهما بلغت دقة تسجيلها وسلامة منهجها).
وبدلا من هذا وذاك، قلت أحاول أن أتعامل مع التراث الماثل أمامى “هنا”، ذلك أنه لاح لى بديل يقول إن
إن التراث هو حاضر فاعل يتجاوز ما أثبت رموزا فى وثائق يقال لها التاريخ،
وثائق لا يمكن إغفالها، كما لا يمكن الاكتفاء بها، وهذا الحاضر الفاعل يشمل بعدين أساسيين هما:
1- التراث كحاضر بيولوجى، مسجل فى خلايانا الحية الآن، ويثناه حيا عن حي، قبل أن نرثه أبا عن جد
2- التراث كوعى شعبى مرصود فى عادات، وتقاليد، وأغان، و رقصات، وأمثلة ممتدة
وسوف يكون تركيزى فى هذا المقال على البعد الأول دون الثاني،
وفى ذلك أقول:
إن الفرض الذى أطرحه هنا لفهم التراث وتحمل مسئوليته يزعم أن الإنسان، فردا، أو جنسا، أو جماعة، أو نوعا إنما هو تاريخه الماثل الآن، بمعنى أن التاريخ الصادق الوحيد هو ما بقى حتى الآن مسجلا فى خلايانا: بيولوجيا، وكامنا وجاهزا للتنشيط والجدل.
فإن صح ذلك (أنظر بعد) فإن الوسيلة الوحيدة لمعايشة التراث هى مواجهته “هنا والآن”، لا استدعاؤه، أو قراءته، وإنما تعريته، ومخاطبته، والجدل معه وبه،
وقبل أن أستطرد فى طرح بعض أبعاد هذا الفرض، أود أن أشير إلى قليل من أسسه: من المعلومات، والنظريات، والحقائق، والفروض السابقة على الوجه التالى:
أولا: مازالت نظريات التطور (داروين خاصة) محل جدل طويل، بعضه عقيم، لا بسبب استحالة إثباتها طولا-كما يزعمون، ولكن بسبب تراجع تحمل مسئوليتها عرضا، ومستقبلا
ثانيا: تراوحت الآراء حول وراثة العادات المكتسبة، من أول “لامارك” الذى قال بها حتى الدارونيين المحدثين المؤيدين بعلماء الوراثة الأقدم الذين أنكروها، مارين بداروين شخصيا الذى علق الأمر دون حسم. لكن البندول قد انتقل مؤخرا إلى الاعتراف المبدئى، دون تفصيل دقيق، أو يقين حاسم، بصحة وراثة بعض آثار أنواع معينة من التعلم (ليست بالضرورة “عادات”)
ثالثا: يؤكد ذلك: الدرسات الباكرة حول ظاهرة البصم imprinting، وهى ظاهرة تشير إلى نوع كامن من التعلم لا يتبع مبدأ المثير والاستجابة، بل مبدأ المطلق و البسط، حيث لا يحتاج السلوك المطبوع إلا أن يطلق فينبسط متكاملا، وهذا ما سمى بالتعلم بالبصم، وهو يؤكد انتقال هذا التعلم إلى أجيال تالية، ويتميز هذا النوع من التعلم عن النوع الأكثر شيوعا وهو التعلم الشرطى بمميزات لا مجال لتفصيلها حالا.
رابعا: واكب ذلك إضافات دالة نتيجة للتقدم الرائع فى تقنيات دراسة النشاط النوعى والكمى والموضعى لبعض أجزاء ومستويات الدماغ، وخاصة فيما يتعلق بما يسمى “المطاوعة النيورونية ” Neural plasticity وقد أظهرت هذه الدراسات كيف يمكن أن يتكيف، ويتغير، تنظيم تركيب المخ، نتيجة لخبرات يعايشها صاحبها فى البيئة المحيطة، وخاصة تلك الخبرات الجذرية المغيرة للسلوك الأعمق، أو المرتبطة بالبقاء والتطور.
خامسا: تدعمت هذه الدراسات الجينية والتعلمية بالدراسات الخاصة بالذاكرة، وخاصة فيما يتعلق بدور حامض “الدنا” (ديسوكسى ريبونيوكليك DNA ) ودوره المحورى فى كل من الوراثة والتعلم وأصل الحياة.
سادسا: أحيت هذه الدراسات ما كان قد أهمل من نظريات نفسية، ترى الإنسان فى بعده الطولي، تركيبا هيراركيا متكاملا، يحتوى الأحدث منه الأقدم ليتكامل معه لا ليمحوه، ولا ليحل – تماما- محله. (وهذه الاتجاهات قد تكاملت مؤخرا فى بعض النظريات النفسية ذات النظرة الغائية مثل نظريات علم النفس الإنسانى عموما و “ماسلو” خصوصا، على أننا قد يمكن أن نتعرف على بعض جوانب هذا الاتجاه فى نظريات أخرى أقدم وأعمق، مثل منظور النماذج البدائية عند كارل يونج وكيفية استيعابها فى عملية النمو التكاملى التفردindviduation
سابعا: ظهرت نظريات أحدث تجمع بين التنظيم الهيراركى للمخ تاريخا وحاضرا، وبين تعدد الذوات (الذات الطفلية Child Ego State، وما يقابلها من تنظيم بدائى يقال له الذات الأقدم Arche psyche، والذات الوالدية Parent Ego State، وما يقابلها من تنظيم قديم جاهز للبرمجة من سلطة خارجية، يقال له الذات الخارجية Extero psyche ، ثم الذات اليافعة Adult Ego State، وما يقابلها من تنظيم الذات الأحدث Neo psyche وهذه التعريفات، والتنظيمات هى من لغة ومصطلحات نظرية التحليل التفاعلاتيTransactional analysis -إريك بيرن-الذى يبدأ بالتحليل التركيبى Structural analysis وكلها تنظيمات بيولوجية فينومينولوجيه، وليست مفاهيم رمزية تجريدية )
ومن خلال هذه المعطيات الأقدم والأحدث انتهيت إلى تدعيم الفرض الحالى قائلا:
إن التراث الحقيقى للإنسان: نوعا، وجماعة، وفردا، هو مسجل بكل الدقة والتفاصيل، فى الحامض النووى عامة، وفى التنظيمات البيولوجية الخلوية، والمنظوماتية للدماغ البشرى ثانية، وإن هذا التراث هو حاضر حالا، وإن كان غير مستقل أبدا فى حالات الصحو والسلامة.
وهكذا وجدتنى أتعامل مع التراث وجها لوجه، ماثلا “هنا والآن”، وقلت أبدأ بالنظر فى التركيب الفردى، لأطرح تنويعات 0وتباديل، واحتمالات تعامل الإنسان مع تاريخه القائم فعلا فى تركيبه الآني، ثم أحاول، ولو بقياس تعسفي، أن أوازى بين هذا الذى نظمته البيولجيا، وبين ما يمكن أن نقوم به فى مواجهة وحمل مسئولية تراث الجماعة الخاصة، فالعامة، فالإنسان.
تجليات التراث الدماغى:
لا يوجد مدخل لمعرفة علاقة الأقدم بالأحدث فى تنظيمات المخ البشري، (مع احتمال وجود ما يقابلها داخل الخلايا من جهة، وفى الكون عامة من جهة أخري) أفضل من النظر فى التناوب الذى ينظمه الإيقاع الحيوى فى الأحوال العادية للإنسان الفرد، حيث يجرى بشكل نابض منتظم تبادل بين نشاط مستويات المخ، أثناء النوم واليقظة، ثم أثناء النوم: بين النوم الحالم والنوم الساكن.إلخ، (هذا إلى جانب الجدل الولافى على مسار النمو الطولي، مما سنؤجل الحديث عنه الآن)
فالحلم من هذا المنطلق، هو زيارة محدودة، ومنظمة، ودورية للتراث البيولوجى الكامن فى المخ، وهذه الزيارة ليست لمجرد الاستطلاع، أو التبادل التفريغي، وإنما يترتب -عادة – على هذه الزيارة نوع من التكامل مع بعض ذخائر التراث البيولوجي، حيث يحدث مع كل حلم -تذكرناه أو لم نتذكره – نوع من الإحكام consolidationوالتنغيم modulation لمنظومات المعلومات الأحدث مع الأقدم، وباستمرار
ثم إن الإبداع من هذا المنطلق أيضا، هو العملية التى تتم فيها مثل هذه الزيارة إلى التراث البيولوجي، بما تعد من الإحكام والتنغيم، ثم يتمادى الأمر بدرجة من الوعى والإرادة لإعادة التنظيم والتوليف حتى يتولد الأصيل الجديد المتجدد.
إذن: فالتراث المسجل بيولوجيا موجود طول الوقت، ومتاح فى الأحوال العادية للنائم خاصة أثناء نشاط الحلم فى سياق حالة “وعى آخر”.
كما أنه متاح للمبدع فى حالة وعى فائق ( وعى: هو جـماع وعى اليقظة العادي، والوعى الأقدم )
وعلى ذلك نخلص إلى القول بأن: علاقة الحاضر بالماضى على المستوى البيولوجى هى علاقة حاضر متاح، بحاضر كامن، وليست علاقة القديم بالحديث بالمعنى الزمنى الطولي.
هذا فى حالة السواء العادي
أما فى حالات الإبداع فإن المخ القديم يصبح دافعا وموردا رائعا لطاقة ومواد متنوعة وخام، بحيث يستطيع المخ الأحدث أن يعيد صياغتها جنبا إلى جنب مع ما يحصله من معلومات أحدث، وما يمارسه من واقع آني، فهى علاقة جدلية خلاقة بين التراث الكامن، والحاضر القادر
أحوال التراث فى تنويعات المرض:
أما فى الأحوال المرضية فإن علاقة مستويات المخ ببعضها تتنوع معوقة أومشلة أو مفسخة:
(1) ففى الجنون التفسخى (الفصام غالبا): بدلا من أن تظل أقدم مستويات الوجود والمخ، متداخلة ومتبادلة مع بقية التنظيمات والمستويات، فإنها تستقل، وتقود إذ تسحب الوجود إلى مرحلة بدائية نكوصية، تاركة وراءها، آثار التفسخ والعجز اللذان يصيبان المستويات الأحدث نتيجة الإزاحة، والإشلال، والإفقار.
(2) وفى أغلب حالات اضطرابات الشخصية: يطغى المخ الأحدث – ملوثا – حتى يستبعد أى تعاون أو تبادل دورى مع المستويات الأقدم وهو ما أصبح يسمى حديثا “فرط العادية” Hyper-normality
(3) وفى بعض حالات اضطرابات الشخصية الأخرى يبدو الأمر وكأن اتفاقا – بل تلفيقا تصالحيا – قد حسم الخلاف بين المستويات وبعضها، فيقوم المخ الأحدث السائد بخدمة أهداف المخ الأقدم دون أن يظهر الأخير فجا بعدوانيته، وبدائيته، وجذبه الانسحابى وهكذا يحقق كل أغراضه البدائية من خلال المظاهر شبه العادية، وشبه الحديثة حيث يقوم بتنفيذها -نيابة عنه- المخ الأحدث نتيجة هذا الاتفاق (السري) عادة. وهكذا.
القياس المحتمل:
فإذا استلهمنا هذا النموذج البيولوجى – المرضى – فإننا نستطيع أن نعيد تصنيف علاقتنا بالتراث عامة على الوجه التالى:
الاحتمال الأول (النكوص= التدهور): وفيه يقود التراث مهما كان قديما وجامدا، طبيعة ومسيرة الوجود الآني، فيقودنا إلى التكرار، والنمطية، والحلقات المغلقة، والوجود المثقوب.
وهذا نوع من التدهور العام الذى يقابل، فى حالة الفرد، الجنون السلبى الذى يتمثل فى غلبة المخ الأقدم، ثم التدهور العاجز
وهو ما يقابل فى واقعنا: الحركات الأصولية أو السلفية الداعية إلى العودة إلى القديم حرفيا، وتزويقه وتبريره إن أمكن، وكذلك الفخر بمنجزاته والمبالغة فى إنكار سلبياته.
الاحتمال الثانى (القشرية = التسطيح): وهو الاتجاه إلى المبالغة فى إلغاء القديم تماما، وإنكار تأثيره، حيث يتم الاكتفاء باللغة الأحدث، والإنجازات الأحدث،، فنمضى مثل أشباه القردة المبرمجة، إلى لا شيء، رغم ظاهر ما يسمى المعاصرة أو التنوير وما إلى ذلك،
وهذا هو ما يقابل ما أسميناه – فى حالة الفرد- فرط العادية (وهو نوع من اضطراب الشخصية)
وأيضا هو ما يقابل الحركات شبه العلمية المتعصبة للمناهج الحديثة المختزلة والمختزلة.
الاحتمال الثالث (التلفيق = التلوث): وهو يعنى هذه المحاولات الخائبة التى تضع الحديث فى خدمة القديم (التراث) لتبرر العودة إليه، فتشوه الاثنين معا، رغم الاحتفاظ بظاهر شعارات لغة الأحدث. وقد يتمادى هذا الاتجاه إلى تفسير القديم (التراث) بأبجدية الحديث، بل قد يتمادى الأمر إلى محاولة إثبات وتأكيد سبق القديم (التراث) لما جاء به الحديث
وهو ما يقابل – فى حالة الفرد- نوعا آخر من اضطرابات الشخصية.
وأيضا هو ما يقابل ما يحدث فى مجتمعاتنا بإفراط متزايد تحت عناوين مثل التفسير العلمى (العلم الحديث) للتراث وما إلى ذلك.
الاحتمال الرابع: (الانشقاق: لفض الاشتباك) وهنا يتم فض الاشتباك لتحقيق توازن موازن بحيث لا يلتقى التراث مع الحاضر إلا بمعاهدة صلح مشبوهة، فيقال إن التراث (بما فى ذلك تراث الأديان والايمان والحدس.. الخ) هو نشاط وجداني، فى حين أن معطيات العصر ومناهجه هى نشاط فكري، وأن الانسان المعاصر يحتاج إلى هذا وذاك لا أكثر، وهذا احتمال تلفيقى تصالحى خطير، لم أذكر ما يقابله فى حالة الفرد، حيث يحتاج إلى تفصيل خاص، إذ أنه يقع بين السواء والمرض لأنه يتم بانشقاق شبه تصالحى: يوقف النمو، لكنه لا يحدث مرضا.
ويقابل ذلك تلك المحاولات التوفيقية (التلفيقية أحيانا) التى تحاول أن تحترم التراث، لكنها لا تقتحمه، وهى تترجمه لكنها لا تستلهمه، وهى تستحضره لكنها لا تحييه، وأشير باحترام واعتذار لمحاولات زكى نجيب محمود مثلا فى هذا الصدد.
الخلاصة واقتراحات المواجهة:
نخلص من كل ذلك إلى عدة استتاجات أساسية، نأمل أن تهدينا إلى اقتراحات عملية:
أولا: إن التراث موجود “هنا والآن” بداخلنا قبل وبعد رصده فى كتب التاريخ أو روايات الأقدمين (هذا فضلا عن حضوره السابق الإشارة إليه فى صورة تقاليد، أو أمثال، أو أغان وممارسات شعبية مما قد نعود إليه فى حديث آخر)
ثانيا: إن هذا التراث الماثل فينا الآن، هو كامن عادة، إذ لا يمكن أن يسود أو يستقل إلا فى حالات النكوص والتدهور، وكمونه هذا لا يعنى خموله أو ثانويته، بل هو ينبه إلى ضرورة التبادل معه، والجدل من خلال تنشيطه (أنظر بعد)
ثالثا: إن الجدل بين هذا التراث البيولوجى الماثل فينا-“الآن”- بكمونه الجاهز للتنشيط، وبين المعطيات الأحدث، بالأدوات العصرية الأقدر، والمعلومات المتدفقة المتجددة أبدا، هو الإبداع الحقيقى الذى يمكن أن يميز ثقافة ما من ثقافات البشر، ثقافة لها هويتها المتميزة نوعيا، والقادرة على الإسهام التضفرى مع ثقافات أخرى مواكبة، تتجادل مع تراثها الخاص والعام طول الوقت.
رابعا: إنه بغير التربية التى تسمح للتراث البيولوجى (الذى هو حاضر كامن متبادل مجادل معا) أن يسهم فى تشكيل الوعى الفردى والجمعى لا يمكن أن يتكامل الإنسان فردا أو جماعة وسيظل: إما هيكلا هشا بلا جذور، أو أثرا كالحا بلا حياة.
خامسا: إنه ينبغى أن نحسن التفرقة بين ميوعة التلفيقية الشائعة بين القديم والمعاصر، والتى تركز على الترجمة الخائبة والمتعسفة إلى لغة أحدث، أو على التسوية الهامدة التى تقتطف من القديم جزءا لتلصقه إلى جزء أحدث، أو تصيغ نفس القديم بأبجدية أكثر معاصرة، نفرق بين ذلك وبين ما ندعو إليه ونأمل فيه من جدل مبدع مع ما يمكن تنشيطه من التراث البيولوجى الحاضر والجاهز دوما.
سادسا: إنه من خلال هذا الفرض يتبين لنا أن التراث ( البيولوجى خاصة) ليس قديما أصلا، بل هو حاضر شديد الثراء، وافر العطاء، لا يظهر فى إيجابيته إلا من خلال ناتج جدله مع الواقع الآنى الحى
سابعا: إن ما يسمى “التراث” (تقليديا: كما هو شائع فى أغلب الأحوال) وهو المسجل رموزا فى كتاب، أو معلومات فى تاريخ، أو منهج فى نظرية، لا ينبغى أن تقتصر معرفتنا به لتفيد الإلمام بتاريخنا الخاص، كما لا ينبغى أن نستعمله مهربا نلجأ إليه ندارى به عجزنا الحالي.
ثامنا: إن هذا التراث المكتوب، فى صورة مراجع، أو تاريخ، هو ضرورى تماما، لأنه القادر على إثارة ما يقابله فى تركيبنا الآني، فالواجب أن نعايشه ونحن نقرأه، لا أن نكتفى بحفظه، أو الفرجة عليه، أو حتى الفخر به وبألفاظ أخرى، إنه يعتبر المطق releaserالمناسب، لتراثنا البيولوجى المطبوع فينا، إذا أخدنا نظرية التعلم بالبصم قياسا لما نريد إيضاحه.
وبعـد
فإذا كان التراث حاضرا لا يمكن قراءته إلا من خلال جدل مبدع مع حاضر آخر أقدر وأرحب، فإن من يصوره لنفسه ولنا مهربا آمنا، أو بديلا جاهزا إنما يلغى كلا من حاضره المعاصر، وتراثه الكامن معا.