نشرت فى روز اليوسف
3 – 2 – 2006
سلسلة الإنسان
أ.د. يحيى الرخاوى
أما قبل
رأينا – فى العدد الماضى- كيف يمكن أن يكون الحلم هو “إبداع الشخص العادى”، باعتبار أنه العملية التى تتم بها إعادة تنظيم المعلومات الحية التى التقطها الدماغ (والجسم) أثناء وعى اليقظة، فراح الدماغ أساسا (مع الجسم) ينظمها بشكل دورى لمدة عشرين دقيقة كل تسعين دقيقة، ثم قبيل وأثناء اليقظة، يلتقط الوعى “البين-بين”(بين النوم واليقظة) ما تبقى على خشبة مسرح الأحلام قبل إسدال ستار النوم تماما، فيصنع منه، بالرمز والتجريد، ما تيسر مما يحكيه. هذا هو ما يحدث لأى منا وهو ما سمحنا لأنفسنا أن نسميه ” إبداع الشخص العادى”. المبدع الذى هو غير عادى، يمارس هذه العملية نفسها، فى وعى آخر، بقدرات أخرى، بأدوات أخرى، لأهداف أخرى. هذا صحيح، كل ما فى الأمر أننا أردنا باعتبار الحلم إبداعا، وليس مجرد إعادة عرض أو إذاعة لشريط تسجيل لأحداث حدثت أثناء النوم، أردنا ألا نقصر حق الإبداع على فئة بذاتها، وفى نفس الوقت أن نفهم طبيعة “عملية الإبداع” من خلال حركية “الإيقاع الحيوى” (دورات النوم/الحلم/الصحو)، وليس فقط من خلال الناتج الإبداعى المعروف، أو الموهبة الفريدة عند قلة من الناس.
أنا واحد ولاّ كتير؟ (5)
.. تتحرك كياناتنا الحية، فنعيد تشكيلها: فنبدع!
المبدع يمارس عملية الإبداع بإرادة مشتمِلة، يعى بعضها فى ظاهر شعوره بدرجة ما، لكن أغلبها (أغلب إرادة الإبداع) هو عميق شامل حركىّ عنيد مثابر جاهز متحفز قادر. عملية الإبداع هذه لا تحدث فى وعى بديل يتناوب مع الوعى السائد، كما هو الحال فى عملية الحلم، ولا هى (عملية الإبداع) تحدث فى حالة وعى الصحو العادى الذى نمارس به حياتنا الروتينية طول الوقت، لكنها تحدث فى حالة خاصة من الوعى تسمى أحيانا “الوعى الفائق”، وأنا أفضل أن أسميها “الوعى المشتمِل”، هذا الوعى الفائق/المشتمل هو حالة تحتوى أكثر من مستوى من مستويات الوعى “معا”، فهى جماع وعْى الصحو ووعى الحلم، وهى أيضا جماع وعى النصف الطاغى من المخ والنصف المتنحى، وكذلك هى جماع وعى مستويات الدماغ القديمة والحديثة، يحدث كل ذلك نتيجة لقدرة المبدع أن يعيش حركية المعلومات (التى أشرنا إليها فى الحلم، باعتبارها رقصة على مسرح الأحلام)، ليخلق منها سيمفونية الإبداع، يفعل ذلك وهو فى حالة من الإفاقة تسمح له بإمكانية التشكيل الهادف الذى يحرك بدوره ويضيف. حكاية “أنا واحد ولا كتير” اتسعت منا – بوجه حق – حتى فهمنا كيف أننا كيانات بلا حصر، لا لنتشتت فنَجن، (إنتظر لترى فى حلقة قادمة) ولكن لنكون من المرونة والحركية بحيث نحترم تركيبنا من المعلومات الحية القادرة على دفعنا على مسار النمو والإبداع باستمرار، كيانات متكاملة متحركة داخلنا، وليست مجرد ذكريات تستعاد، أو أبجدية تستعمل. هذا الكثير الذى رأينا كيف يتحرك على مسرح الأحلام، هو هو الذى يتحرك فى حقل الإبداع فى وعى مختلف شديد اليقظة، بالغ الطزاجة، نشط الحركية، قادر على التشكيل لإخراج الجديد/المفاجأة/الدهشة/الجمال.
يتوقف شكل الإبداع وناتجه على أبجديته، وأدواته معا، لكن حالة المبدعين، بغض النظر عن نوع الإبداع – تكون هى هى من حيث نوع الوعى الفائق الذى يعيشونه حالة كونهم مبدعين، فإذا كانت أبجدية المبدع معادلات رياضية، وعلوم طبيعية،أخرج لنا نظرية فى الطبيعة أو الرياضة مثل أينشتاين، وإن كانت أبجديته هى المساحة، واللون، والحجم، أخرج لنا نحتا جميلا جيدا، أو لوحة غير مسبوقة من تأليف غير مألوف، وإن كانت أبجديته هى الناس والأحداث والتاريخ والواقع بكل تصنيفاته، فإنه ينسج لنا من كل هذا حركة أحداث أخرى، بعلاقات أخرى، فى زمن آخر، فهو الروائى المبدع، وإن كانت أبجديته هى ألفاظ لغتنا العادية، لكنها تتآلف بشكل آخر، فى مساحات صور أخرى، مع تشكيل نغم آخر، فهو الشعر، وهكذا. كل هذ يقع تحت ما يسمى “إعادة تنظيم”، أو إعادة تشكيل، تماما مثل العملية التى أشرنا إليها فى العدد الماضى فى وظيفة الحلم, الفرق الحقيقى والمهم بين العمليتين هو أن عملية الحلم تحدث فى حالة وعى متبادل مع وعى اليقظة، فى حين أن عملية الإبداع تحدث فى حالة وعى فائق يشمل أكثر من مستوى، وبإرادة مشتملة ظاهرة وباطنة ، وبأدوات مصقولة تزداد صقلا وإتقانا بالممارسة والمراجعة والنقد والمعاودة.
صنفنا المعلومات فى العدد الماضى إلى نوعين، المعلومة الحيوية (البيولوجية) الحركية، والمعلومة الأداة الرمز التجريدية. ليكون للإبداع ناتج يصل إلى الآخرين، فإنه يلزم أن يستعمل كلا المستويين: النوع الأول، المعلومة الكيان الحى، هو الذى يجعلنا نعترف أننا “كتير”، ولسنا فقط ما يظهر منا. النوع الثانى هو أقرب إلى العلامات: الأبجدية التى تستطيع أن تحتوى هذه الكيانات “لتقول” بما تيسر لها من لغة وتفاصيل. عملية الإبداع تمر بطورين أساسيين: من حركية النوع الأول إلى تشكيل النوع الثانى.
من شهادات المبدعين
فى إجابات عدد ليس قليل من المبدعين عن حركية إبداعهم من خلال تجاربهم ،يمكن أن نرصد هذين النوعين من المعلومات، وكيف تتم عملية الإبداع بالإنتقال من مستوى المعلومات الحية (الكيانات التى هى نحن “كتير”) إلى مستوى التعبير والتشكيل المتاح للتلفق:
أولا: إدوار الخراط: مجلة فصول- المجلد الثانى- العدد الرابع ص: 265 سنة 1982)
”… بداءة، تتخلق القصة عندى – على الأغلب، أو على الأرجح – من صورة، صورة تتشكل فى الوقت نفسه بأصوات، بكلمات(……)، فهى أساسا صورة تتخذ لنفسها على الفور جسدا من اللغة. وأظن أن لى لغتى، فهى تتخلق بالكلمة أو بنسق من الكلمات، بجرسها وإيقاعها وكثافتها…، وهى فى الآن نفسه تأتى حسية ومدركة، أى أنها تأتى حسية ومتجسدة، ولها طعمها ورائحتها وملمسها، ومرتبة شديدة الحضور البصرى أساسا”.
القراءة
نلاحظ تركيز الكاتب على المثير بوصفه “صورة”، تتشكل بأصوات (مثل الهلوسة) ، ثم إن الصورة تتخذ لنفسها جسدا من اللغة ، ثم انظر النقلة التى أشرنا إليها فى موضوع الأحلام، والتى تؤكد ما ذهبنا إليه من تصنيف المعلومات فى قوله : “تتخذ الصورة لنفسها جسدا من اللغة”. ثم لاحظ كيف أن هذا الجسد اللغوى له جرس وإيقاع وكثافة، قبل أن يكون له مضمون ودلالة. وأخيرا التأكيد على أنها حسية، ومرتبة شديدة الحضور البصرى أساسا.
هل هناك دليل أوضح من هذا كيف أن المعلومات الأساسية فى الإبداع هى “كيانات” حية، وليست مجرد رمز أو تجريد؟ وأن هذه الكيانات هى “الكثير” بداخلنا جميعا؟
نجيب محفوظ: مجلة فصول- المجلد الثانى – العدد الرابع
ص: 303 سنة 1982)
… تدب حركة من نوع “ما” (التنصيص من عندى) فينشط الكاتب لتوصيلها إلى القارىء بعد أن تتجسد له فى شكل معين، ما هذه الحركة؟ قد تكون “أى شيء”، أو “لا شيء “بالذات… “.
القراءة
نلاحظ هنا تعبيرات “تدب حركة” “ما”، فلم يستطيع محفوظ أن يلتقط من هذا الذى يدب (ينشط) إلا أنه من نوع “ما “، فهو ليس مجهولا كل الجهل، كما أنه ليس محددا بعد. ثم نلاحظ هنا تحديد استجابة الكاتب بأن ثمة توصيلا يـُلح للإنجاز، وأن ثم “آخرا” يتوجه إليه التنشيط.
ثم يعود محفوظ ليجهّـل طبيعة هذه الحركة فى أنها “أى شيء” أو” لا شيء بالذات” على نحو يتحقق معه التأكيد على البدء بحركية حيوية كما ذكرنا، وهو ما يشير إلى أن الخطوات الأولى للإبداع (والحلم) تتميز بحركيتها وتوجهها أكثر مما تتميز بمضمونها أو هدفها (المحدد).
الحركة البدء هنا ليست ترميزا لموجود، ولكنها تحريك لكيان وكيانات كثيرة، هى نحن ، فى جدل مستمر.
(و) يوسف إدريس: مجلة فصول- المجلد الثانى- العدد الرابع ص: 305 سنة 1982)
“.. الإبداع عندى أشبه مايكون بخلق الكون..، سديم من الإحساس يتكون داخلى، ثم تبدأ حركة هائلة الضخامة، بطيئة الوقع. وتتخلق الأفكار من هذه الحركة السديمية للأحداث والشخصيات.. وبتوقف الحركة تكون القصة قد تخلقت فيما أسميه القصة -الكون – الحياة التى هى أعلى مراحل السديم “.
القراءة:
نلاحظ هنا تعبير”السديم” الذى له معنيان الأول “السديم: الضباب الرقيق”، والثانى: “السديم: مجموعة نجوم تظهر بعيدة، تظهر كأنها سحابة رقيقة”، وكلاهما يفيد ما أريد يناسب المقام، والمعنيان متداخلان.
ثم نلاحظ كيف أن هذا السديم ليس مثولا ثابتا، بل هو حركة أساسا (الحركة السديمية)، ومع أنه ألحق بها “للأحداث والأشخاص”، إلا أنها فى مرحلتها السديمية تلك ليست أحداثا بذاتها أو أشخاصا متميزين بقدر ما هى تنبيء، وتجزم فى الوقت نفسه، بأحداث وأشخاص “ما”.
ثم إن الأفكار تتولد من هذه الحركة، وكأن الأفكار هنا هى التى تنشيء من هذا الضباب الرقيق (أو تكثفه إلى) ما هو، فهى ليست ترجمة الإحساس إلى مفاهيم بقدر ما هى تخليق لمفاهيم قادرة على استيعاب حركة السديم المنبعثة.
إن الكيانات بداخلنا ليست موجودات ساكنة، ولكنها كيانات تتخلق، وهى ليست قاصرة على ما شاع عنها، وإنما هى مشتملة لكل معلومة حية بما هى، وبما يخرج منها مع غيرها فى تشكيلات بلا حصر.
أبو المعاطى أبو النجا: مجلة فصول- المجلد الثانى – العدد الرابع ص: 261 سنة 1982)
“.. فأكتب القصة لأعبر عن شىء، أو لأمسك بشيء يتململ فى داخلى، ويعجزنى أن أتعرف عليه قبل أن أضعه فى شراك الصيغة القصصية الملائمة، لأجسد شيئا هلاميا، يفتقر إلى التجسيد، ليكتسب معنى “.
القراءة
نلاحظ هنا أيضا معنى التنشيط الداخلى الذى أشرنا إليه، وذلك فى قول أبو النجا: “يتململ فى داخلى “.. إن هذا الذى يتململ هو بعيد عن التعرف عليه فى ذاته بما هو، كما هو، إذ لابد أن تصوغه إبداعية الكاتب فى تخليق مكتمل . لاحظ وله : أضعه فى شراك الصيغة القصصية. ثم الكاتب قد وصف هذا المستوى المعرفى الأول بـ ” الشيء”، وفى الوقت نفسه بالهلامية، وأنه لم يكتسب معناه بعد، ثم إنه لايكتسب معناه إلا بعملية “الوضع (وتضع كل ذات حمل حملها) “فى شراك المستوى المحتوِى إياه، المتجادل معه. أليست كل هذه كيانات حية ؟ اليس هذا هو الكثير الذى نحن مصنوعون منه لنصير؟
ننتقل إلى الشعراء
1 – نزار قبانى (نزار قبانى: قصتى مع الشعر- بيروت 1974 ص186-187)
”تأتينى القصيدة – أول ماتأتى- بشكل جمل غير مكتملة، وغير مفسرة، تضرب كالبرق وتختفى كالبرق. لا أحاول الإمساك بالبرق، بل أتركه يذهب، مكتفيا بالإضاءة الأولى التى يحدثها… أرجع للظلام وأنتظر التماع البرق من جديد، ومِـن تجمع البروق وتلاحقها، تحدث الإنارة النفسية الشاملة… وفى هذه المرحلة فقط أستطيع أن أتدخل إراديا فى مراقبة القصيدة ورؤيتها بعقلى وبصيرتى”.
القراءة
نلاحظ هنا التقاط التنشيط المبدئى فى وحدة زمنية شديدة القصر(مثلما ذكرنا فى تأليف الحلم فى العدد الماضى) برغم حكيها بمقياس الزمن العادى (بعكس حدس يوسف إدريس الذى التقط برْق اللحظة، وهذا ما يفسر كيف أن بعض قصص يوسف إدريس هى شعر أخطر من قصائد نزار). عبر نزار عن اللحظة نفسها بعد انقضائها، وبمقياس عادى تـتـبـعى (بعد انقضائها وليس من داخلها). وهذا الموقف هو الذى رجح لنا أن نزارا وهو يسير فى ضوء تجمع خطف البرق (من تجمع البروق وتلاحقها) يسيرفى “إنارة نفسية” أكثر منه “يخوض نارا ضبابية”.
2 – أدونيس: (زمن الشعر- دار العودة 1972، ص 235).
“…إنها (القصيدة)، عالم ذو أبعاد، عالم متموج متداخل كثيف بشفافية، عميق بتلألؤ،… تقودك فى سديم من المشاعر والأحاسيس، سديم يستقل بنظامه الخاص، تغمرك، وحين تهم أن تحضنها تفلت من بين ذراعيك كالموج”
القراءة
هذا مثال آخر لمستوى مختلف من الشعر، نلاحظ فيه أن الشاعر يظل محتفظا بنبض المستوى الأول نفسه، حتى تظهر ملامحه فى القصيدة نفسها بعد اكتمالها، وذلك من خلال مظاهر التكثيف والشفافية وتعدد الأبعاد فى أكثر من توجه “معا”. ثم إنه يستعمل كلمة “السديم” نفسها (مثل إدريس)، ولكنه يستعملها لوصف القصيدة ذاتها وليس لتفسير الحركة المخلِّـقة لها.
وبعد
ماذا يفيد القارئ العادى من كل هذا؟
من خلال الفهم الأحدث لطبيعة كل من الحلم والإبداع، يمكن أن نعيد النظر فى الأفكار الثابتة التى نحملها نحو الظاهرة البشرية (التى هى نحن)، إن هذا الفهم الأحدث جدير بأن يغير كثيرا من القييم والمفاهيم التى تعودنا أن نسلم لها، وأن نسلم بها، إن الطفل يولد وبه كل هذه المرونة والحركية، لكن التربية القامعة، والمفاهيم الثابتة الجاهزة، تقلبه إلى كيان جامد متحجر، إن الحفاظ على مرونة كيانات الطفل وتدريبها نحو غايتها، هو من أهم ما ينبغى الانتباه إليه تربية وإبداعا.
أدب للأطفال تنوير للكبار
المبدع الحقيقى لا يتنازل عن الطفل فيه، إذ أن هذه الكثرة الثرية فى حركية التخلق هى مسار النمو مذ نحن أطفالا، بعض المبدعين يستطيع أن يحرك هذا الكيان الطفلى الحى، بما هو، فى توجهه الإبداعى، ليخلق منه أعمق المعرفة، بأبسط وأسلسل الوسائل، يقدمه للأطفال أدبا جميلا بلا نصائح ولا خطب. هانزكريستيان أندرسون هو أروع مثال لهذا الإبداع المتميز، تعالو نطل على قصته “الظل التى كتبها سنة (والتى تناولتها بالتفصيل فى مكان آخر)، لا تكشف هذه القصة فقط عن حركية ومرونة كيانات إبداع كاتبها، وهو يقدمها للأطفال يحافظ بها على تعددهم، بل إنها تحفز فى نفس الوقت إلى تكامل الكبار بتحركهم فى إطار جدل النمو المتجدد.
قصة “الظل” تحكى عن “طالب علم” جاء إلى البلاد الحارة من البلاد الباردة، ولصقت به صفة “طالب العلم” حتى صارت اسمه. حضر من أول القصة وهو يلقى ظله أمامه أو وراءه أو بجواره حيثما ذهب (عادى)، لكن ومن البداية ظهر لنا وكأن للظل استقلاله، أو هو يحاول ذلك، وذات ليلة سمح طالب العلم لظله أن يمتد ليدخل عند الجار الغامض (الذى بدا لوهلة سابقة كعذراء مضيئة) ليستكشف مَنْ هناك، لكن الظل فعلها وتمادى مستقلا حتى تَأْنْسَن إنسانا، تاركا طالب العلم بلا ظل، ويدور الظل دورته، ويعرف، وينضج، ويستكشف أن الجار الغامض كان هو “روح الشعر” (إنسانا، وهذا اسمه) ثم يعود لصاحبه “طالب العلم” ويدور حوار، وتبادُل أدوار (يصبح طالب العلم ظلا ويبقى “الظل” إنسانا) وتصالُح، وكشف، واتفاق… وغير ذلك.
القراءة
بدا تماما من شرح “الظل” لخبرته مع الجار الغامض المسمى “روح الشعر”, هو أنهما واحد (كثير فى واحد) لأنه بعد أن استقل “الظل” عن صاحبه “طالب العلم”، وتجسد إنسانا، عاد يصف خبرة لقائه مع جاره “روح الشعر” يصفها بكل وضوح وبساطة. لم تكتف قصة الظل هذه بكشف الجانب الغامض المبدع للحياة هكذا، بل أنها عمَّقت التقابل بين “روح الشعر” (كيانا حقيقيا واعدا) وبين “طالب العلم” المعلوماتى الظاهر الوصّى (كيانا ظاهر)، لم يخطئ أندرسن فيتمادى فى الاستقطاب بين الظل الذى استوعب روح الشعر، وبين طالب العلم، ليفضل أحدهما على الآخر فى مناظرة مسطحة، وإنما مضى ليجعل رحلة “الظل” رحلة معرفية إبداعية شديدة العمق دون إلزام بتنافس سطحى مع “طالب العلم”. يقول “الظل” “لطالب العلم: “…. حضرتك كنت دائما تجلس وترنو إلى الممر، لم يكن هناك (عند الجار الغامض) ضوء نهائيا، فهناك ما يشبه الشفق، وكل الأبواب كانت جميعا مفتوحة على الآخر على طول الصالات والقاعات..”.
بحدس إبداعى فائق يدرك أندرسن، فيعلـم الأطفال فينا، كيف أن التكامل بين الذوات إنما يتم بالتصالح والرفقة، لا بالتبادل المستقطب، ولا بالتسوية المائعة، حتى قال طالب العلم للظل ذات يوم وهو يرافقه بناء على اتفاق طيب:
“..بما أننا أصبحنا رفيقَىْ سفر كما نحن الآن، ونحن أيضا قد نشأنا منذ الطفولة معا، ألا نشرب نخب رفع الكلفة بيننا، إنه أمر أكثر ألفة”….عرفت طبيعتى أيضا وما خلقتْ عليه، علاقتى العائلية بروح الشعر، أجل، عندما كنت مع حضرتك فى ذلك الزمن لم أفكر بذلك، ولكن بشروق الشمس، بغيابها، كما تعرف حضرتك، صرت كبيرا بشكل غريب، على ضوء القمر كنت أوشك تقريبا أن أكون أوضح من حضرتك، لم افهم وقتها طبيعتى – أدركت ذلك فىالممر الموزع، صرت إنسانا، خرجت راشدا”.
هل بعد ذلك ينكر أى منا أنه “كتير”؟
نكمل صحبتنا لهذا الكثير نراه من خلال لغة العيون فى العدد القادم.