الأهرام فى : 20-7-1995
مأساة سيربرينسكا
ودوافع الكفر والإرهاب!!
إن الذى يحدث هكذا فى العالم، وقد تركز حقيقة ورمزا فى سقوط سيربرينسكا وما تلاه، لا تنفع فيه كتابة ولا خطابة، وهو أكبر من كل شجب أو مظاهرة، كما أنه من الخجل أن يصاغ قصة أو شعرا أو حتى مقالا سياسيا، لكننى- كإنسان مصرى مسلم – وقد عجزت عن أن أتبلد بالقدر الكافي، لم أجد مهربا من أن أحكى لكم بعض ما جرى لى،هذا الصباح، ثم هذه الأيام، أقوله حتى وأنا أعلم أنه سخيف ليس كسخفه شيء، وأسخف منه أننى أعلم سخفه، ثم إننى أعلن سخفه، ذلك أننى أشعر أننى أكتب عن مالا يكتب، وأحاول أن أعبر عن مشاعرى لست أدرى لمن، ولا لماذا، ولا ماذا بعد أن أقول ما سأقوله هنا هكذا :
أنا مواطن من بلد بعيد استمع إلى إذاعة لندن هذا الصباح (1995/7/13) هكذا: 6،30-7-8-9-10 إلا ربعا، صباحا بتوقيتنا، العالم هذا الصباح، الجولة الإخبارية الأولى فالثانية فالثالثة، موجز الأخبار أقوال الصحف اللندنية، ثم العربية الصادرة فى لندن، استمع إلى كل هذا الآن ثم : قال ماذا ؟ قال وآتى هكذا لأكتب مقالا للنشر !!!!!
ماذا ستفيد هذه الكلمات؟ النساء والأطفال يطردون من ديارهم ويرسلون إلى العراء والجوع والمجهول، والذكور تحت سن ستة عشر عاما يحاكمهم قتلتهم بتهمة أنهم ‘ مجرمو حرب !!!!! فلتسقط إذن كل الكلمات وأولها كلماتى هذه
لكننى لا أستطيع أن أنسى أو أتناسي،الألم أكبر من احتمالى، والصمت ليس فى متناولي، والعجز أكبر من قدراتي، والخزى من أنى ما زلت أعيش مع هؤلاء فى هذا العصر يغمرنى لكنه – للأسف- لم يشل قلمي.
أقابل شيخى الجليل وأشكو له بثى وهمى، يشاركنى ولا تخفى عليه حدة ما أنا فيه.
أذهب للنوم فإذا الأطفال الخواجات المسلمون يختبئون معى تحت الغطاء، أهدهدهم لكنهم لا ينامون، لا أستطيع أن أكذب عليهم أو أطمئنهم، حتى دورة المياة لم يترددوا أن يدخلوا خلفى إليها يمسكون بطرف ثوبى فزعا وحيرة .
كانت قصيدة فاروق جويدة عن البوسنة جميلة مؤلمة، أقول لشيخى إننى أشعر الآن أن كتابة قصيدة مثلها وأحسن منها هو خيانة لهؤلاء المشردين من البشر، ما ذا يفيدهم، أو يفيدنا الشعر الآن ؟ فيدهش أولا ثم يهز رأسه متعاطفا معي.
أحاول أن أتعلم من مرضاى حين يسحقهم الألم فيحتمون بفقد الشعور واللامبالاة، وأتذكر ما كتبته ونشر فى الأهرام بعد استشهاد سناء المحيدلى (فى ما أسميته مقالا فى قصة بعنوان ‘ تقرير’): كتبت أقول ‘ لماذا يتألم الناس إذا كان الألم لا يقتلهم ولا يدفعهم للقتل (الآن – وليس بعد)؟ ‘ أتذكر ذلك وأجدنى الآن أكثر ألما وأشد عجزا عن كل من هذا وذاك؟
عندى عادة كنت أفخر بها، والآن – بعد سيربرينتشا (كمثال)- أدعو الله أن يخلصنى منها، وهى اختلاط الخاص بالعام، فالحدث العام يدخلنى حتى النخاع، أتقمص الظالم وكأننى هو، فأنا مسئول عما فعل، وأتقمص المظلوم فأشعر بالإنسحاق والخزى أننى ما زلت أعيش !!
بعد حادث الحرم الإبراهيمى كتبت – فى الوفد- تحت عنوان ‘ النذير والجنون، وقائمة الاتهام ‘ أصرخ قائلا إن التهمة تقع علينا نحن، ونحن نقصر، ونحن نتهاون، ونحن نقتل بعضنا بعضا، ونحن نخرب اقتصادنا، ونحن نضحك على أنفسنا بادعاء أبحاث علمية وجوائز شكلية .. إلخ وانتهيت إلى تحذير نفسى من أن أكون – من فرط الألم – قد ذهبت ‘أعمم حتى قد تضيع مسئولية ذلك المجرم (الطبيب !!! روبنشتاين)؟ نعم…،ذلك لأننى إذا كنت لا أستطيع أن أحاكم هذا السفاح الوغد، ولا يكفينى أن يعدم هو وكل أهل مستوطنته، بل وكل أهل بلده، فلأحاكم نفسى وأهلى أولا وجميعا’
كتبت ذلك بعد مذبحة الحرم الإبراهيمى، ولما تقلب على الآن ما تقلب وأنا أتابع طبيبا (نفسيا) آخر انقلب إلى وحش مسعور ( رادوفان كاراجيتش ‘) لم أجدنى قادرا على هذا التعميم مرة ثانية،
أعلم مرة أخرى أنه لا هذا – الذى أكتبه الآن-، ولا ذاك – أننا مسئولون عن مهانتنا هكذا- سوف يقدم أو يؤخر، فهو لن يدفع الأمم المتحدة أن تتخذ موقفا أكثر صرامة وفاعلية، ولن يدفع المؤتمرالإسلامى أن يسهم أكثر إيجابية وحسما وحزما، ولن ينبه المجتمع الأوربى إلى تفاهة ما يرسل من كلمات التعازي، وخداع ما يواصل من إقناع القتلة أن يشحذوا سيوفهم أكثر حتى لا يصيح المحتضر وهم يجزون رقبته بسكين بارد، فيسمعه المجتمع المهتم – جدا جدا- بحقوق الإنسان ( ولا مؤاخذة)
ما ذا أفعل ؟ ما ذا نفعل ؟
قلت أهرب فى تذكر مصائبنا المحلية، وأصرف انتباهى إلى معاناة أهلى وناسى الأقربين، وواجبى نحوهم، فوجدتنى أصطنع مهربا آخر وكأن قضية الظلم والقهو والهوان يمكن أن تتجزأ ؟
ومع كل هذه البصيرة لم أتمكن من أن أمنع نفسى من الكتابة، مع يقينى أن الصمت أكرم وأستر.
وحتى أقلل من جرعة السخف واللاجدوى قلت أختم حديثى ببعض المعالم المحددة مما أثاره فى كل هذا، هكذا:
1- إن خطأ التعجيل باستقلال البوسنة، يا سيدى على عزت بيجوفتش- ربما كان بداية مصيدة الإبادة
2- إن الخطأ التالى مباشرة كان منع تسليح المتحاربين ( لماذا يا ربى، مقابل ماذا ؟)
3-إنه لا يوجد شيء إسمه الأمم المتحدة، فلنكفر بها حالا ودائما
4- إن اختلاف الموقف بين ما يجرى الآن وما جرى فى حرب الخليج هو دال بما لا يحتاج إضافة
5- إن جنون صدام حسين – رغم كراهيتى له طول الوقت، طول العمر- له (هكذا) ما يبرره
6- إن ما يسمى ‘ النظام العالمى الجديد’ هو الوجه القبيح الصريح لما صار إليه ما يسمى مجلس الأمن.
7- إننا -إذن – ينبغى أن نحذر هذا النظام الغامض المعالم، الكاذب المدعي- الخائن المتخاذل.
8- إن من يعيش مثل هذه المآسى بحجمها الحقيقى – إذا لم يجن- لا يملك إلا أن يكفر أو يقتل
9- إن من لا يملك أن يقتل القاتل الحقيقى، قد يجد نفسه – تخفيفا للألم – قد أزاح عدوانه إلى أى هدف سلطوى أو قيمة معاصرة، وما يكون يكون
(وهذا بعض ما يفسر ما يسمى الإرهاب عامة والإرهاب الإسلامى خاصة)
10- إن الكفر بهذه الشعارات العالمية السائدة (حقوق الإنسان – الديمقراطية …إلخ ) له – هكذا- ما يرره
11- إن القيم العربية القديمة ( أقتل أسيرك إنى ما نع جارى – السموأل) قد اختفت من العالم أجمع بما فى ذلك العرب والمسلمين طبعا
12- إن الإشراقة المتبقية التى تخفف بعض ما يجرى وتؤكد رحمة ربنا هو نشاط أمثال ما يسمى ‘ أطباء بلا حدود’
13-إنه لن ينقذنا – فى النهاية، مسلمين وبشرا- سوى الإنتاج والإبداع والقوة والإيمان، وكل ما عدا ذلك، بما فيه الخداع السياسى المحلى والعالمي، والتعصب الغبى والجمود تحت إسم الدين، هو ما يهيئ لتمادى هذا الذى يجرى وتكراره.
وبعد
يقول على عزت بيجوفتشى قبل أن يكون رئيسا للبوسنة، يقول فى نهاية كتابه الإسلام بين الشرق والغرب’ .. إن الإسلام لم يأخذ إسمه ولا محرماته من جهود النفس والبدن التى يطالب الإنسان بها، وإنما من شيء يشمل هذا كله ويسمو عليه : من لحظة مفارقة تنقدح فيها شرارة وعى باطنى .. من قوة النفس فى مواجهة محن الزمان، من التهيؤ لاحتمال كل ما يأتى به الوجود، من حقيقة التسليم لله ‘
يا عمنا بيجوفيتشي، إننى أخجل من كلاماتك هذه، لست قدرها، وأقسم أنك وقومك تتألمون أكثر من ادعائى مليون مرة، ولكن أين تلك اللحظة المفارقة ؟ وكيف ينقدح وعيى الباطنى لأسلم لله وأنا عاجز مقصر مهزوم هكذا، وهم جميعا إما قتلة، وإما سياسيون عالميون كونجريسيون أطلنطيون مهذبون يستعملون كل وسائل الإقناع والاستنكار والضغط الدبلوماسى جدا على القتلة السفاحين جدا!!!
يا ربنا الكريم أستغفرك وأتوب إليك، وأعتذر عما بدر فى داخلى مما لم أبح به تجاه عدلك ورحمتك.
ويا قارئى العزيز: أرجو ألا تأخذ ما كتبتـه مأخذ الجد، جتى لا يحدث لك ما أنا فيه، إذ أنك مالك أنت وكل هذا ؟ أليس يكفيك ما أنت فيه هنا والآن حتى تحمل هم هؤلا ء الخواجات الشقر حتى لو كانو مسملين، عذرا فعلا .
كنت أرجو أن أسكت، وليتكلم عنى صمتى المفعم – كما قال صلاح عبد الصبور – لولا أننى تذكرت أن صلاح نفسه أردف يصيح :
لا أملك إلا أن أتكلم : يا أهل مدينتنا، يا أهل مدنيتنا، هذا قولى : إنفجروا أو موتو
المسألة تخطت أهل مدينتنا يا صلاح، ونداؤك لا بد أن يعم العالم أجمع، وليكن ما يكون
وحتى هذا لا نملكه سيدى، إذا انفجرنا قالوا إرهابيين، والموت ليس بيدنا سيدى
فما العمل ؟
ياربنا نستغفرك ونعاهدك أن نكون كما خلقتنا مهما فعلوا بنا
الحمد لله.