الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ملف الوجدان واضطرابات العواطف (41) ثانيا‏: ‏الانفعالات‏ ‏العسرة‏:‏ (4) الحزن وثقافتنا (4)

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (41) ثانيا‏: ‏الانفعالات‏ ‏العسرة‏:‏ (4) الحزن وثقافتنا (4)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 16-11-2014    

السنة الثامنة

العدد: 2634

 الأساس فى الطب النفسى

الافتراضات الأساسيةالفصل الخامس:

ملف الوجدان واضطرابات العواطف (41)

اضطرابات الوجدان (العواطف) (7)

الاضطرابات الوجدانية: كمِّـيا (5)

ثانيا‏: ‏الانفعالات‏ ‏العسرة‏:‏ (4)

الحزن وثقافتنا (4)

هل ثقافتنا تدعو إلى الحزن، أم إلى إلغاء الحزن، أم إلى استيعاب الحزن، أم إلى احتواء الحزن، أم إلى التنكر للحزن، أم إلى طنبلة الحزن (تطنيشه)؟

وهل وصف الشعب المصرى أنه شعب “إبن نكتة” هو دليل على نفى الحزن، أم على غلبة السخرية وحضور البديهة

وهل ما شاع مؤخرا من الشعب المصرى كله أصيب بما أسموه “الاكتئاب القومى” فاختفت الابتسامة وحل محلها العبوس واليأس

وهل ديننا (أدياننا)  باعتبارها فى جذور الثقافة وتجلياتها ترحب بالحزن أم تنفيه أم تنذر به أم تحذر منه؟

وهل محاولة الإجابة على هذه الأسئلة مفيدة للطبيب النفسى، والمعالج النفسى، أثناء تصنيفه لعواطف مريضه، وأثناء علاجه، سواء من الحزن كمرض يسمى “الاكتئاب” (ولا مؤاخذة) أم من عرض الحزن، أم من الألم النفسى الدفين وراء الاكتئاب وغير الاكتئاب؟

بعد ظهور النشرة السابقة، وما فرضته على أبنائى وبناتى من إلزام بالتعليق عليها حتى أعرف من أخاطب، وأكسر بعض وحدتى فى نفس الوقت، وصلتنى تعقيبات بدت لى عسرة (وهذا متوقع لأنها تمت تحت ضغط سخيف)  لكنها نبهتنى إلى ضرورة تبسيط المسألة ما استطعت ، وهأنذا أحاول وكأنى أبدأ من جديد.

المنطلقات:

(1) نقطة الانطلاق الأولى هى احترام “فطرة الله التى فطر الناس عليها” ، ومن ثم، ومن واقع خبرتى الشخصية والمهنية وصلتنى رسالة موجزها أن الحق فى الحزن هو من حقوق الإنسان الاساسية، بنفس درجة الحق فى الفرح ، وغير ذلك من حقوق ربما هى أهم مما ورد فى مواثيق حقوق الإنسان الحديثة والمستوردة.

(2) أن يتمتع الإنسان منذ طفولته بممارسة حقوقه كاملة ، بما فى ذلك – مهما استغربتم- مثل الحق فى الحزن هو السبيل الوحيد لتنمية شكل ممارسة هذه الحقوق مرحلة بعد مرحلة، فى ظروف متنوعة ومتغيرة طول الوقت.

(3) أن يمارس الإنسان الحق فى تنمية برنامج عاطفى فطرى،(وهو هنا : الحزن)  ناله كثير من سوء الفهم والرفض، هو مهمة الكشف عن الطبيعة البشرية بما يسمح بحسن تعهدها ، وتحمل مسئولية ما خلقنا به، ثم ما خلقنا له.

(4) إن الحزن، عند البشر خاصة، هو مرحلة تكاد تميز البشر خاصة، من حيث أنه مرتبط بأمرين يصعب تصور وجودهما بدرجة مناسبة من الوعى عند الأحياء الأدنى من الإنسان ( مع الانتباه إلى عدم الغرور بشكل فوقى) ، وهما الوعى بالوعى، وحتمية التواصل مع آخر مختلف بدرجة ما من هذا الوعى.

(5) إن الحزن البشرى فى شكله الناضج – وقد سبقت الإشارة إلى ذلك – إنما يعلن حركية فعل التواصل البشرى، بين إنسان وإنسان آخر حقيقى (موضوع قائم خارجه غير مًسقط من داخله يسمى الموضوع الحقيقى Real Objectفى مقابل  العلاقة المُسقطة من داخلنا على الموضوع الذى يتحول بذلك  إلى موضوع ذاتى Self Object، وأن هذا الموضوع الحقيقى الخارجى– كما ذكرنا- هو مصدر للحب وهو فى نفس الوقت مصدر التهديد بالترك..(الهجر) .إلخ.

(6) إن استمرار حركية الحفاظ على العلاقة  بهذا الموضوع الحقيقى بهذه المواصفات، ينتج عنه آلام مزعجة ومخيفة وقوية وضرورية وبناءة ، نتاج تفاعلهما معا، وهكذا يمكن أن تكون هذه الصعوبة مرادفة  لما هو حزن إيجابى.

(7) إن فشل تحمل هذا التناقض، والعجز عن مواصلة التشكيل الجدلى ، قد ينتج عنه نتائج معيقة، ومعطلة، ومفسدة للهدف الأول من حركية هذه الفطرة الاصلية التى تميز الإنسان.

(8) إن رصد ظهور الحزن الدال على أن المريض قد همّ بالانتقال إلى محاولة جديدة لاستعادة حقه فى العلاقة بالموضوع مهما تألم، يظهر بعلامات أكلينكية علاقاتية أثناء رحلة العلاج ، بشكل ينبغى أن يتدرب عليه الأطباء وهيئة التمريض وكل العاملين حتى يمكن استثماره بدلا من الاكتفاء برصد كلمات المريض عن الصعوبة والمعاناة فحسب.

(9) إن السماح بجرعة الحزن التى يمكن استثمارها إيجابيا فى اتجاه تكوين علاقة وحفز النمو يمكن ترجمتها إلى تعبيرات أكلينيكية علاجية ليس لها علاقة باسماء الأعراض أو شدتها ، وذلك مثل : العياّن قرّب، العيّان صحصح، رغم إنه موجوع، العيان وشه نور مع إنه متألم فعلا ، إلخ .

على الرغم من أننى ذكرت كل ذلك قبلا، (غالبا) إلا أننى اضطررت للإعادة بعد أن جاءتنى التعقيبات التى رددت عليها فى بريد الجمعة أول أمس، لهذا قررت أن أخصص ما تبقى فى هذه النشرة لأبسِّط الفرق بين الحزن حين يكون سلبيا، وبين وجهه الآخر حين يكون إيجابيا ، فيما يلى:

أولا : نسمع هذا الطفل وهو يعلمنا كيف يأخذ حقه (1) ، قلت على لسان الطفل  ما يلى:

-1-   همّا مش فاهمين دا ليه؟همّا عايزنِّى ابقى ايه؟هما عايزينْ انى أفرح آه! وبس؟هوّا مش ربى خلقنى، إنى بنى آدم، باحِسّ؟

يبقى من حقى انى احزن

يبقى من حقى إنى أتألّم وازِنّ

حتى لو سبتونى ارنّ.

 
-2-  هما شايفين انى لازم ابقى دائم الابتسامأبقى أنا كده فى السليم؟!!  كله تمام؟ !!يعنى يّتكوا على بطنى أكركر؟

طب وأنا بالشكل ده إزاى راح اكبر؟!!

 

 16-11-2014_1
-3-   أنا برضه نفسى أفرحواجرى والعب حتى لو قالوا باصَرْمحبس لمّا أحزن كمان، …يبقى من حقى انى أحزن

مش كده أنا برضه فرّحِى: يبقى أحسنْ

 

 
-4-   أنا لمّا احزن  باحس انى أنامش ضرورى يبقى زنّ وعكننةإحنا خلقه ربنايبقى ناخد حقنا

فى دَهْ، ودَهْ

ولا شايف غير كدّهْ؟

 

 ****

وبعد (مرة أخرى)

حين أطلب من المريض – أيا كان تشخيصه – فى المقابلة الإكلينيكية أن يمارس حقه فى الحزن ، بأن يفرج عن حزنه الموجود “هنا والآن” دون ربطه بسبب معين، ودون إعلانه بالألفاظ، يخرج هذا فى أغلب الأحيان شريطة أن أمارس معه نفس الحق، وقد عزوت إنكار الحزن صادقا حقيقيا بين دهشة معظم الحاضرين، وقد لاحظت أن إنكار  هذا الحق قد يعود غالبا إلى  ثقافة الرعاية المفرطة وعدم قدرة الأمهات بالذات أن يرون أطفالهن فى حزن حقيقى ولو لفترة قصيرة.

نرجع إلى التبسيط واستجابة لمن طلب منى أن أميز بين الحزن الإيجابى البناء، وبين الحزن السلبى النعّأب فأقدم هذا الشكل ابتداء لعله يسهل المهمة:

 16-11-2014_2

أميل إلى مجرد توضيح الرسم فى سطور قليلة دون شرح أكثر.

(1) لاحظ كيف أن الحزن السلبى خامد ساكن، حتى لو تحرك فإنه يدور حول نفسه، فهى حركة فى المحل لا حركية للتشكيل، فى حين أن الحزن الإيجابى هو  حركية إيقاعية جدلية معا.

(2) إن الحزن السلبى مفرِّق مُشتـِّت (ليس بالضرورة مفسٍّخا)، فى الداخل على الأقل، فى حين أن الحزن الإيجابى ضام متكافل.

(3) حصيلة حركة الحزن السلبى عدمية توصف بالنفى غالبا، فى حين أن حصيلة الحزن الإيجابيى تشمل الكشف (المعرفة) والتواصل ( العلاقات البينشخصية مهما آلمت) وهى تشكيلية حتى تصل إلى حفز الإبداع.

وبعد (أخيرة):

لا يوجد  حزن سلبى خالص، كما لا يوجد حزن إيجابى خالص

وانت وشطارتك

والطبيب وضميره

وعلى الله قصد السبيل

وغدا نكمل البعد الثقافى من منطلق دينى، أسىء فهمه أيضا برغم ثراء التراث ودقته.

 

[1] –  نتعلم مرة أخرى من مخاطبتى للاطفال فى ديوان الأراجيز ( حتى لو سبق ورودها مستقلة): الحق فى الحزن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *