نشرة “الإنسان والتطور”
الأحد: 16-12-2012
السنة السادسة
العدد: 1934
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (137)
الإدراك (98)
تجليات الإدراك فى الحياة المعاصرة (5)
علاقة الوجدان بالإدراك بالشعر بالموت (2 من ؟)
أنهيت نشرة الأسبوع الماضى بتعقيب يقول بالنص “..وحتى نلتقى الأسبوع القادم نكمل البحث فى علاقة الإدراك بالشعر بالموت” مع أن عنوان النشرة قد أغفل كلمة “الموت”، ويبدو أن هذا قد حدث رغما عنى، لأنها العلاقة الأصعب، وبرغم استشهادى بأدونيس عدة مرات وهو يقول “الموت ذلك الشعر الآخر”، إلا أننى لم أرجع لأربط بشكل مباشر أو غير مباشر بين الموت والشعر ، برغم ما يعتمل بداخلى من علاقة شديدة التداخل، والمتابع الصديق (ة)، يذكر كيف جرجرنا أ.د. السامرائى إلى الموت من منطلق الإدراك، فرحت من البداية أبحث عن ما يربطهما فلم أجد إلا معبر الشعر، ومع ذلك أجلت الحديث والبحث ما أمكننى ذلك، لكن يبدو أن ذلك لم يعد ممكنا
لا يمكن أن أطمع أن أشير على الصديق الذى استطاع حتى الآن أن يصبر علينا أن يراجع فروضى ومداخلاتى عن “الموت” على الأقل بالنسبة لما جاء فى النشرات، حتى دون الإشارة إلى ما جاء فى أعمالى النقدية خصوصا ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ (“دورات الحياة وضلال الخلود ملحمة الموت والتخلق “فى الحَرافيش” قراءات فى نجيب محفوظ)، والأفيال لفتحى غانم (“الموت.. الحلم.. الرؤيا” (القبر/الرحم) عدد يوليو 1983 مجلة الإنسان والتطور( اللهم إلا ما جاء فى ما يشبه النقد فى قصص هانز كريستيان أندرسون، التى سألحقها بهذه النشرة برغم التكرار لأبين كيف أن الأطفال يعرفون الموت (كما يعرفون الله) أفضل من الكبار، (وقد سبقت الإشارة إلى ذلك فى ملف الإدراك بالذات مع المبررات المناسبة.
كيف تطورت فروضى عن الموت؟
أولا: بدءا من نقدى لرواية الأفيال لفتحى غانم تعاملت مع الموت باعتباره نقيض الحياة على كل المستويات (“الموت.. الحلم.. الرؤيا” (القبر/الرحم) عدد يوليو 1983 مجلة الإنسان والتطور(
ثانيا: انتقالا لملحمة الحرافيش عند نجيب محفوظ رحت اعتبر أن “الوعى بحقيقة النهاية بالموت هى الدافع المبرر بإثراء الحياة بالحياة
ثالثا: مع تقدمى فى الربط بين مستويات الوعى ثم التصعيد المحتمل لمستويات أوسع فأوسع ، وضعت فرضا يقول “إن الموت هو نقلة من الوعى الشخصى إلى الوعى الكونى (إلى وجه الله)، وتصادف أن عرفت لاحقا أن هذا بالنص قد جاء فى “متون هرمس”.
رابعا: انطلاقا من دراستى للأحلام باعتبارها إبداع الشخص العادى، وأن النوم بما يحتوى من نشاط الحلم هو إعادة ولادة (الحمد لله الذى أحيانى بعد ما أماتنى، وإليه النشور)، تكامل الفرض السابق مع فرض يقول إن الموت هو “إعادة ولادة”
خامسا: بمواصلة الربط بين الموت والحياة فى متصل ممتد ، جاءنى هذا الفرض الأخير القائل: إن الموت هو أزمة نمو، بلغة أزمات النمو الثمان التى وصفها إريك إريكسون
وبعد
حتى فوجئت بالصديق المبدع الشاعر أ.د. السامرائى وهو يربط الموت بالإدراك، ويصف بعض الخبرات التى تحفظت فى استقبالها على أنها خبرة الموت (نشرة الإدراك (84) 29-10-2012 &الإدراك (85) 30-10-2012)، وفى نفس الأسبوع، بمحض الصدفة حضر إلينا مريض هذا الأسبوع يحكى عن خبرة ما زال يعيشها بين الموت والحياة ، مجرد وعى يقظ بنقلة لم تتم، وسوف أعر ض فيما يلى نص شكواه فقط دون تعليق، لأننى حاولت أن أستدرجه بكل السبل لينظر إلىّ وأنا أدير الحوار معه على مستوى آخر غير مستوى “جمع الكلمات” لرصد الأعراض وهو ما قام بها مشكورا زميلى الطبيب المقيم الذى قدم الحالة، فعجزت، فأجلت المقابلة مرة وأخرى ، آخرها منذ ربع ساعة، وأنا أؤكد له أننى أريد أن أناقش من خلال هذه المواجهة “فروضى عن الموت”، ولم أذكر كلمتى “الإدراك والوجدان”، لكنه قاوم ورفض النظر فى وجهى كما أنظر إليه، فأجلت المقابلة وأنا أؤكد له أننى أصدقه، وأننا سنبحث سويا عن معنى كلامه حين نقترب من بعضنا البعض بعد أن أنجح فى أن أكتسب ثقته.
وفيما يلى بعض شكواه وشكوى الأهل دون تعليق:
تعريف: هو رجل فى منتصف العمر، 32 سنة، بكالوريوس تجارة، يعمل (لا يعمل) بالخارج منذ خمس سنوات فى مجال الحاسوب (مصمم برامج)، أعزب.
كانت شكواه عند الدخول:
الفترة اللى فاتت أنا اتوفيت فى البلد اللى كنت فيها بره ، انا فى فتنة المحيا والممات، بعض الناس اللى بيموتو بيدخلوا فتنة المحيا والممات، والشيطان بيحاول يخدعهم ويفهمهم انهم فى الدنيا، أنا مش فى الدنيا ومش متوفى بس لسه فى مرحلة الموت، انا فهمت ده من كتاب قريته فى الجامع، وقبل كده كنت بدفع باللتى هى احسن علشان اتخلص من الشيطان، فكنت بَطـَلـّعْ صوت معين عشان ما يقعدش يسيطر على افكارى، لما كنت بره كنت بادفع بالتى هى احسن بس ماكنتش فى فتنة المحيا والممات قبل ما انزل مصر باسبوع تقريبا، كنت بافكر ارجع من بلاد بره عشان الفلوس وعشان الإقامه خلصت، كنت باسمع صوت يكلمنى فى بلاد بره وانا فى اخر شهر، مش فاكر صوت مين بس هو صوت راجل وهو اللى قالى إدفع بالتى هى احسن، ولما رجعت مصر بقيت اسمع صوت شياطين بيكلمونى فى ودانى، بيكلمونى مباشرة وبيعلقوا عليا باللغة العربية.
شكوى المريض: بعد بضعة أيام
…………
قبل ما آجى مصر بحوالى شهر كنت مقيم فى شقة فيها زملاء لى(رفقاء سكن) وبعد ما سابوا السكن باسبوعين ابتديت اسمع اصوات .اصوات كتيرة مش فاكر منها حاجة .صوت اكتر من واحد بيتكلم فى ودانى بيقول حاجات كتير مش فاكر معظمها، اهم صوت كان بيقول”ادفع بالتى هى احسن” فكنت بادفع باللتى هى احسن وازعق. الجيران اشتكونى فالشرطة جت خدونى ودونى مصحة قعدت فيها اسبوعين خدت فيها جلسات كهربا .الصوت اختفى و انا هناك .بعدها باسبوع فلوسى خلصت فجيت مصر.اول ما رجعت قعدت اسبوع بروح الجامع اصلى وماكنتش باسمع اصوات لغاية ما رحت فى الجامع رجعت الاصوات تانى اتاكدت من ده نتيجة مس الشيطان اللى عندى من الاصوات .صوت بيتكلم فى ودانى بيقوللى كلام كتير مش فاكر معظمه .شيطان بيكلمنى .الصوت ده شغال معظم اليوم .الصوت شغال من ساعة ما كنت فى بلاد بره .من ساعة ماالناس سابوا الشقة .فتنة المحيا و الممات هى إنى دلوقتى مش عايش . انا بين الحياة والموت وكل الناس اللى حواليا شياطين .انت شيطان واخواتى وامى شياطين وكلكوا بتحاولوا تقنعونى إنى عايش لكن أنا ابتديت الموت . وأنا دلوقتى فى فترة اختبار . لو اقنعتونى إنى لسة عايش حاكفر ولو عديت الفترة دى من غير مااقتنع حاموت،الجسد بتاعى ده جسد مختلف عن الجسد اللى كنت عايش بيه فى الدنيا،جسد مش محتاج اكل ولا شرب ولا نوم. فيه صوت بيقوللى ماتاكلش، أنا بنام اليومين دول نتيجة إنكم بتجبرونى إنى آكل لو ماكلتش مش حاحتاج انام، الانسان لما يموت الشيطان بيحاول يمنعه عشان يدخله فى فتنه المحيا والممات فيموت قصد، انا بدأت مرحلة الموت، هى مرحلة الموت دى بدأت من شهرين، بس الزمن فى فترة المحيا والممات مختلف عن الزمن فى الدنيا، انا مش فى الدنيا، انا فى المحيا والممات، وانا اتاكدت بعد ما حسيت بمس الشيطان فى دماغى، فى صوت بيكلمنى، الشيطان دلوقتى بيكلمنى، الصوت ده موجود معظم اليوم، انا كنت فى بلاد بره بحاول اعمل إقامة ومحصلش نصيب، وفلوسى خلصت فى شهر سبتمبر، وصرفت ميراثى من والدى كله، كنت قاعد فى بلاد بره مع زمايلى فى السكن وبعد ما مشيت بدأت اسمع اصوات، اصوات بتقولى حاجات كتير مش فاكرها، اكتشفت موضوع الفتنه ده من اسبوعين، فى شياطين بيحاولوا يقنوعونى انى عايش، الصوت اللى بيخلينى ما اكلش واخواتى بياكلونى بالعافيه، الاصوات دى بترشدنى انى ما اكلش هو صوت رجاله بيكلمونى فى ودانى، انت دلوقتى شيطان وانا بنى ادم، انا فى مرحله الفتنة ودى مرحلة قبل الموت، انا مش فى الدنيا، انا فى اثناء الموت وباموت دلوقتى، جسمى فى الدنيا واللى انا عايش بيه دلوقتى جسم تانى، يعنى جزء بيكلمك دلوقتى فى المحيا والممات زى جسم البنى ادم مش محتاج اكل ولا ميه ولا نوم، معرفش الفترة دى حاتطول ولا لا، الشيطان عايز يقنعنى انى فى الدنيا عشان اموت كافر، لا يمكن اشتغل عشان انا مش فى الدنيا، انا البنى ادم الوحيد اللى فى المحيا والممات.
وبعد
بالرغم من سهولة ترجمة كل هذه الشكوى إلى أعراض تسمى الهلوسة، والضلالات، مصاحبة لاكتئاب جسيم، إلى أننى وضعت فروضا للتركييبة الإمراضية فى محاولة ربط هذه الخبرة بهذا الرجل المتماسك القوى، وأفضل الآن أن أؤجل الحديث عنها إلا بعد اختبارها بعد لقائه عدة مرات، إذا نجحتُ أن أكسر مقاومته، ورفضه أن يتكلم أكثر من تكرار ما قاله دون النظر إلىّ!!
فى نفس الوقت فضلت أن أكمل نشرة اليوم بإعادة نشر ما خطر لى من خلال ما استلهمته من هانز كريستيان أندرسون عن مدى معرفة الأطفال بما هو موت، تلك المعرفة المرتبطة بمعرفة الله، المرتبطة بدورها بالإدراك (وغالبا المرتبطة بالشعر بشكل ما، أرجو أن يتضح ذلك لاحقا)
…………….
تناول هانز كريستيان أندرسون الموت فى بعض حكاياته وقدمه للأطفال برقة عذبة، وعمق لا يعرفه الكبار غالبا، اختيارى لبعض حكايات أندرسون لا يعنى أننى فهمت، أو وافقت، أو صفقت لـ كل ما كتب، عندى تحفظات مثلا على التضحية بحياة راع برئ فى قصة “كلاوس الكبير وكلاوس الصغير”، وعلى قتل الساحرة العجوز – مهما كانت ساحرة – فى حكاية “القداحة”
اخترت اليوم حكاية واحدة، دعمتها بإشارة إلى أخرى، ثم بحكاية واقعية من “نص بشرى” (مريض مصرى جميل) منتهيا بمقتطف من طاغور، دون تعليق.
كيف ومتى يعرف الطفل ما هو”الموت”؟ ونحن أيضا!!؟
يتصور الذى يكتب للأطفال أنه يكتب لسن معينة، فى حين أن المبدع يبدع وهو ليس وصيا على انتقاء قرائه، أنا أستمتع بقراءة ميكى حتى الآن، وأنزعج من قراءة مجلات مصرية وعربية للأطفال لا أود الآن أن أذكرها، اكتشافى لهانز كريستيان أندرسون هو قديم قدم الفيلم الذى مثله “دانى كاى” عن حياته، وكان ذلك فى الأربعينات، وكنت فى بعض “التّـاشر” Teens من عمرى 15- 16 غالبا). هانز كريستيان أندرسون ولد فى 2 إبريل 1805 ومات فى 1875، هو أشهر من كتب للأطفال، لعل فى انتشار هارى بوتر هذه الأيام عبر العالم ما يذكرنا بدور مثل هذا الأدب للكبار والصغار معا، وأيضا هو يرجعنا إلى ألف ليلة ودورها التربوى الإبداعى تاريخا وقوميا وعالميا.
أسئلة الأطفال هى هى أسئلة الفلاسفة، وبدرجة أقل: هى أسئلة كثير من المبدعين بصفة عامة، والروائيين منهم بصفة خاصة. أسئلتهم عن الله سبحانه، وعن الموت، وعن المصير، هى من أكثر الأسئلة إلحاحا، وهى أيضا من الاسئلة التى ليس لها إجابات نهائية، حتى الإجابات الدينية التقليدية تترك الباب مفتوحا للتفاصيل بشكل أو بآخر. سوف نقصر قراءتنا الآن على موجز ومقتطفات من قصة واحدة ، ثم نشير إلى أخرى، ثم نختم بطاغور (دون تعليق).
“بائعة أعواد الكبريت الصغيرة”
هذا هو اسم الحكاية الرئيسية التى يحكى فيها أندرسون عن طفلة فقيرة تبيع أعواد الكبريت لتكسب من خلال ذلك ما يسد جوعها، وربما جوع أسرتها حيث:
“كانت تخشى أن ترجع إليها وهى لم تتمكن من بيع عود كبريت واحد بعد”.
فاستمرت فى البرد تشعل أعواد كبريتها لعلها تدفئها حتى كان ما كان.
حين يحكى أندرسون، يجعلك تسمع وترى وتحس كأنك هناك فعلا. إذا قرأت هذه القصة بمثل ما قرأتـُها به فسوف ترى البنت البائعة الصغيرة رأى العين، سوف تراها وهى تسير حافية القدمين على الأرض المغطاة بذلك الصقيع المجمد، وقد تبتسم بالرغم من ذلك حين يشرح لنا أندرسون كيف صارت قدميها إلى الحفاء، لقد غادرت بيتها وهى ترتدى خفا كبيرا جدا عليها:
“….ربما كانت أمها هى آخر من استعمله، ولأنه كان كبيرا جدا فقد فقدته حين أسرعت لتعبر الشارع، إذ مرت بها عربتان منطلقتان بسرعة جنونية، فضاعت الفردة الأولى، أما الثانية فقد ركض بها ولد يقول بأنه سيستعملها كمهد حين ينجب أطفالا، ومشت البنت ذات القدمين العاريتين اللتين كانتا حمراويتين زرقاويتين من شدة البرد ..”
من خلال حمرة قدميها المختلطة بالزرقة شعرت فى جلدى مباشرة بدرجة البرد التى كان يحيط بالبائعة الصغيرة، ثم عدت فرأيت الصبى الظريف خاطف الحذاء ليجعله مهدا لطفله القادم، رأيت على وجهه تلك البسمة الساخرة وخيل إلى أنه بذلك يرحم البائعة الصغيرة من أن تسير بفردة حذاء واحدة تضاعف من إحساسها بالبرد، وكأنه بذلك أيضا قد كفاها أن تضيع وقتها فى البحث عن الفردة الأخرى. أبلغتنى هذه الصورة الاعتراضية، برغم الجوع والصقيع فالموت، أبلغتنى شيئا طيبا باسما عن المستقبل، فرأيت هذا الطفل الشقى حين يصير أبا وله طفل يرقده فى فردة الحذاء المهد المخطوف! ما علينا، صاحبتُ البائعة، ورأيتها وقد “سقطت ندف الثلج على شعرها الأصفر الطويل الذى تجعد بشكل جميل حول رقبتها، وقد وقفت “فى زاوية بين بيتين أحدهما قد تقدم قليلا على الآخر فى الشارع” !! وقد راحت تتابع ما يجرى داخل البيوت الدافئة. وفى محاولة أن تتغلب قليلا على بعض الصقيع الذى جعلها لا تعود تشعر بقدميها من شدة البرد، أشعلت عود ثقاب واحد لتدفئ أصابعها:
“كانت شعلة دافئة صافية مثل شمعة صغيره، أحاطته بيديها، كان ضوؤه عجيبا. ظنت البنت الصغيرة بأنها تجلس عند موقد حديدى كبير بكرات ومدخنة نحاسية، توهجت النار مشتعلة تنشر الدفء” وبانتهاء اشتعال عود الكبريت اختفى الموقد، وانتهى الدفء، فعاد البرد، فأشعلت آخر، فخلق لها مائدة فى غرفة معيشة عليها بطة مشوية محشية …المدهش فى الامر كان عندما قفزت البطة والسكين فى ظهرها حتى وصلت إلى الفتاة الفقيرة، وانطفأ حينئذ عود الكبريت، فلم تر غير حائط سميك بارد
حين أشعلت الصغيرة العود الثالث وجدت نفسها فى حضن طبيعة حانية محيطة
نظرتْ إليها آلاف الشموع الموقدة على تلك الفروع الخضراء والصور الملونة …وعندما مدت الصغيرة كلتا يديها فى الهواء انطفأ عود الكبريت وصعدت شموع عيد الميلاد الكثيرة إلى الأعلى، فرأتها مثل نجوم صافية سقطت إحداها مخلفة شريطا ناريا فى السماء
نلاحظ هنا النقلة الواصلة بين الطبيعة وشجرة عيد الميلاد بشموعها، كما يمكن أن نشاهد النجم الساقط الذى لم يكن إلا إحدى الشموع منذ قليل. كان يمكن أن ينتهى هذا الخيال فى بعض قصصنا الوعظية الإرشادية بجزاء طيب مقابل الصبر والإصرار على أداء المهمة، أو يمكن أن ينتهى بعثورالطفلة على كنز مخبأ، أو بمكافأة أبوية تجزيها خيرا على استقامتها فتسطح عقول أطفالنا ونطفىء خيالهم… إلخ. لم يحدث أى من ذلك. الذى حدث أنها تذكرت، وهى فى حضن الطبيعة الحانية، جدتها التى توفيت والتى كانت تقول لها “عندما تسقط نجمة، تصعد روح إلى الله”، وإذا بعود الكبريت الرابع حين شحطته يحضر لها جدتها فى هالة من الضياء.
“… واضحة لامعة حنونة طيبة”. صاحت الصغيرة جدتى خذينى معك، أعلم بأنك ستختفين عندما ينطفئ عود الكبريت. ستختفين مثل الموقد الدافئ، مثل البطة الشهية وشجرة عيد الميلاد المباركة، ثم أسرعت بشحط عيدان الكبريت الباقية فى الحزمة تلو الآخر، كانت تود بشدة أن تبقى جدتها، أضاءت عيدان الكبريت ببريق أصفى من ضوء النهار، لم تكن جدتها فى يوم أحلى وأكبر منها الآن، حملت الجدة الفتاة الصغيرة بين ذراعيها وطارا بألق وفرح عاليا، عاليا جدا، حيث لا برد ولا جوع ولا خوف، كانا عند الله”
أيضا كان يمكن أن تنتهى القصة هنا بتصفيق وعظى آخر، ، لكن أندرسون أنهاها وهو يصف جثة الفتاة بشجاعة وجمال أيضا
عند الصباح، وفى الزاوية تلك بين البيتين، كانت الفتاة الصغيرة، بوجنتين حمراوين، وابتسامة مرسومة على الفم….
ماذا تتوقع من هذه الصورة؟ الوجنتين حمراوين، والابتسامة مرسومة، الأرجح أنها قد نامت حالمة فى حضن جدتها الحانية، وهذا جزاء البنات الحلوات ، أليس كذلك؟ لكن أندرسون يقول شيئا آخر:
“….. كانت ميتة، ماتت متجمدة من البرد فى الليلة الفائتة من العام الماضى. طلع صباح السنة الجديدة على الجثة الصغيرة التى حضنت عيدان الكبريت ومنها حزمة محترقة، قيل بأنها كانت ولا شك تريد أن تحصل على دفء، لم يعرف أحد كم كان جميلا ما رأته، أى ضوء مشع دخلت عبره مع جدتها العجوز إلى فرح العام الجديد : (كتبت فى عام 1848)
لماذا أمات أندرسون هذه الجميلة؟ لماذا لم يجعل النهار يطلع عليها؟ وتشرق الشمس، فيذهب الناس إلى السوق ويمرون بها ويشترون منها ما يجعلها تعود إلى أهلها راضية ناجحة؟ لماذا لم يرجع أحد قاطنى المنزلين التى نامت فى الزاوية بينهما فيراها فيوقظها، ويدعوها برحمة إلى الداخل، ويعد لها حساء ساخنا، ويدفئها ويقبلها فتنام شاكرة صنيعه؟ لماذا لم يرسم لنا أندرسون جثتها بيضاء باهتة من الصقيع على الأقل، ولم يضع على وجهها تقلصات البرد التى أشعرنا بها طوال حكيه عنها حتى كدنا نتجمد ونحن نقرأها ؟
لقد علمنا أندرسون من خلال القصة حتى النهاية كيف يمكن أن تكون النقلة هادئة بين الحياة والموت، إلى الله سبحانه، كما عايَشَنا قبل ذلك هذا التداخل بين الواقع والخيال، كل ذلك ووعينا يضىء المرة تلو المرة فى نعومة حانية، وألم جميل، بما يجعلنا أقرب إلى أنفسنا، وإلى خالقنا ورحمته، وبما يجعل الموت هو القريب البعيد، هو الذى نخشاه بقدر ما ننتظره، هو الطريق إليه ونحن نعيش واقعنا نجمع بين قسوة الفقر، وقرص الحرمان، ونداء الطبيعة، وفرحة الأمل، وقوة الخيال، فى نفس الوقت.
(الآن: هل لهذا علاقة بشكوى المريض سالف الذكر؟)
قصة أم
القصة التالية مباشرة لهذه القصة (فى طبعة مجلة القاهرة 2005 ) اسمها “قصة أم”. فى تلك القصة يتجسد الموت للأم فى شكل شيخ غريب يخطف ابنها، فتهيم على وجهها لتسترده وهى تضحى بكل شىء تعطيه لمن تقابله، وما تقابله، فى مقابل أن يدلها على أين ذهب الشيخ (الموت) بابنها : تضحى بعينيها فلا تعود تبصر، وبلسانها و..و…الخ. حتى تصل إلى “مشتل الموت” فإذا بالموت ليس عدما بل مشتلا انقلب فيه الراحلون إلى زهور واعدة بما لا نعرف، وتنتهى القصة بأن ترضى الأم أن تتنازل عن إصرارها على استرجاع ابنها حيا، وتسلم ابنها زهرة بين الزهور فى مشتل الموت، زهرة تنتظر قدرها وتقبله، إنها تتنازل عن محاولتها استرداد طفلها قائلة للموت:
“….إحمله، إحمله بعيدا إلى ملكوت الله، إنس دموعى ، إنس دعواتى”
يتعجب الموت
لا أفهمك، أتريدين طفلك، أتريدننى أن آخذه إلى هناك، حيث لا تعلمين” ؟
ترد الأم:
لا تسمعنى حيث أسألك بخلاف مشيئتك، التى هى المُثلى، لاتسمعنى لا تسمعنى”،
وحنت رأسها إلى الأسفل إلى حضنها، ومشى الموت بابنها إلى البلاد المجهولة.
هذا السماح من الأم عايشتُهُ وأحد مرضاى يعلمنى معنى الموت فى رضا وإيمان كما يلى:
خبرة قديمة من العيادة (نص بشرى)
هو رجل فى منتصف العمر، دخل إلى حجرة الكشف بالعيادة، طويل جميل، يلبس جلبابا بلديا نظيفا، وجهه سمح جاد، يبدو من وجهاء الريف كما أعرفهم قديما، قال شكواه التى بدأت من بضعة شهور وتراوحت بين الحزن، والأرق، وأعراض جسدية تدل على التوتر بشكل أو بآخر، حكى شكواه بهدوء دون مبالغة، سألته عن عمله، ووقته واهتماماته، فأجاب بما أيّد ظنى، أنه ميسور الحال، بدأ تعليمه، وكان مجتهدا، لكنه فضل بعد موت والده باكرا أن يزرع أرضه، وهو راض عن قراره، وغير نادم على ترك الدراسة، وهو يثقف نفسه، احترمته أكثر. سألته عن عائلته، فصمت غير قليل، وطأطأ رأسه ببطء، ثم رفعها وهو يخبرنى بعدد أولاده وبناته، ووفاقه مع زوجته، خاصة بعد وفاة المرحوم العريس، استرجعته متسائلا : من العريس؟، أخبرنى بهدوء أن ابنه البكر ذا الأربع وعشرين عاما مات فى حادث سيارة قبل يوم عرسه بأيام، وكان ذلك منذ ستة أشهر، قالها بهدوء حزين رصين حتى كدت أقفز من كرسىّ جزعا، تعجب الرجل من تعبيرات وجهى، حتى تبادلنا الأدوار فراح يسألنى “مالك يا دكتور؟”، حينئذ انتبهت إلى أن المصاب مصابه وليس مصابى، فهم بأبوة حانية وقع المفاجأة علىّ، حاولت أن أقدم له التعازى، لكن يبدو أن حالتى كانت صعبة إلى درجة فاقت قدرتى على إخفائها وراء منظارى الطبى، تبادلنا الأدوار، فراح يطمئننى بأنها مشيئة الله، وأنه سبحانه قد استرد وديعته. قارنت بين قوله “استرد وديعته”، وبين قولى له “البقية فى حياتك”، أية بقية ؟ وهل لحياتنا بقية؟
استرجعت دورى كطبيب: حاولت أن أشرح له الوصلة بين رباطة جأشه الصلبة الظاهرة والمستمرة حتى الآن، وبين ظهور الأعراض التى حضر من أجلها لاستشارتى، رفض فى البداية، ثم اقتنع إلا قليلا، سألته إن كان قد بكى عقب الفقد، فأجاب بالنفى، شرحت له من جديد احتمال الربط بين جفاف الدموع، ودرجة الكبت، ولم أجرؤ أن أدعوه للبكاء، كتبت له بعض ما تيسر من عقاقير كعامل مساعد، وانصرف وأنا أقنع نفسى أن دموعا رقيقة أطلت من عينيه أخيرا وهو ينصرف، وأنه قرر أن يضعف، ليشفى ، وحدث.
وفهمت من درس هذا الأب الكريم موقف هذه الأم وهى تهدى ابنها إلى الموت، إلى البلاد المجهولة، إلى الغيب، نحو وجه الله.
هكذا يعلمنا أندرسون فى”قصة أم” ما يكمل صورة نهاية قصته “بائعة أعواد الكبريت الصغيرة”، فمن من الأطفال يخشى الموت بعد ذلك، ومن منا – كبارا- لا يتعلم من ذلك؟
متى يعرف الأطفال معنى الموت؟ ونحن؟!!
المعلومات العلمية التقليدية تقول إن الطفل لا يعرف الموت إلا فى سن متأخرة نسبيا، تختلف الدراسات فى تحديدها لكنها تتراوح بين السابعة والتاسعة، لكننى أشكك فى هذه الحقائق لأنها تتكلم عن الموت بمعنى الفقد، بمعنى الاختفاء الدائم، الطفل فعلا لا يدرك هذا الاختفاء الدائم إلا فى هذه السن بعد أن نكون قد علمناه أن يفكر بطريقتنا. الطفل يحتفظ بكل ما يصل إليه فى وعيه إلى الأبد، هذا الاختفاء الظاهر الذى يسميه الكبار الموت هو وهم الكبار فقط، نحن نضع تعريفا للموت كما نراه كبارا، ثم نفرضه على الطفل، ونزعم أنه لا يعرف هذا التعريف إلا فى سن كذا. لا أحد يمكن أن ينزع من الطفل من يحب، جدة بائعة الكبريت لم تمت، حضرت فورا بمجرد أن احتاجتها الصغيرة، وحين صحبت الجدة حفيدتها إلى السماء فى رحلة إلى وجه الله لم نلاحظ ذلك الخط الفاصل الذى نصطنعه نحن الكبار بين الحياة والموت.
الموت الذى يعرفه الأطفال أكثر هو وعى “بين بين”، هو الحقيقة الواقعة فيما بين مستويين من الوعى، المستوى الفردى، ومستوى آخر أرحب وأشمل.
(مرة أخرى: هل لهذا علاقة بشكوى المريض الأول التى لم تكتمل بعد؟)
حين وضعتُ فرضا يحدد مستويات الشعر فى مقابل مستويات الحلم(مجلة فصول 1984)، توقفت عند ” القصيدة بالقوة” وهى القصيدة الحاضرة التى لم تظهر بعد، والتى قد لا تظهر أبدا، بلغ إدراكى لعمق هذا الفرض أننى فسرت من خلاله جدلية الموت، والوجود قلت فى ذلك : “…. ولعل كثيرا من حقائق الوجود التى نعجز أصلا عن قولها هى من باب هذا الشعر الذى لا يقال، فالموت هكذا هو شعر لايقال بالنظر إلى الجانب البنائى فيه، لا مجرد التحلل والاختفاء، يقول أدونيس فى رثاء صلاح عبد الصبور: “…ففى لحظة الشعر، خصوصا لحظة الموت، ذلك الشعر الآخر..إلخ”.
ثم إننى تصورت أن متصوفا جادا قد يكتشف فى حقيقة أن الله سبحانه “ليس كمثله شىء” وأنه تعالى “لم يكن له كفوا أحد”، ما يقابل ما هو شعر لايقال.
عذاب القبر
أين كل هذا من الإلحاح على الحديث عن “عذاب القبر” بتلك الصورة التى شاعت بيننا أخيرا؟ موجهة إلى أطفالنا بالذات؟ أنا لست فى موقع أناقش فيه مصداقية الأحاديث الشريفة الخاصة بهذا الموضوع ومدى صحتها، هذا اختصاص آخر، يتحمل من يمارسه ويروجه بصورته الشائعة مسؤوليته أمام الله سبحانه.
كل ما أريده هنا هو إبراء ذمتى أمام الحق تعالى، بأن أحمّل من يتصدى لمثل ذلك، ويخاطب به النشء والأطفال، أحمله مسؤولية انتقاء الأعمار التى يخاطبها، كما أحمله تحديد هدفه، ثم قياسه بفطرة الله التى فطر الناس عليها، وما ينفع الناس، وحسابنا جميعا على الله الرحيم العدل الرحمن.
طاغور
انتهى المقال قبل أن أكمله، وقد أرجع إليه فى مقال لاحق، فأكتفى بختام من طاغور دون تعليق:
“قالت لى الغمامة: سأمّحى
وقال الليل: سأغيب فى الفجر المضطرم
وقال الألم: سألوذ بصمت عميق كآثار خطاه
وأجابت حياتى : سأموت وأنا فى منتهى الكمال
وقالت الأرض: إن أنوارى تلثم أفكارك فى كل لحظة
وقال الحب: وتمضى الأيام ولكننى أنتظرك
وقال الموت: سأقود زورق حياتك عبر البحر.
وغداً نلتقى لنجيب – ولو بفروض متجددة – عن الأسئلة التى أثيرت وغيرها مثل:
– هل الموت شعر لا يقال؟
– هل الإدراك هو الوسيلة لمعرفة ذلك؟
مثلما هو وسيلة لمعرفة الله سبحانه؟
– إلى متى يستمر طغيان الفهم على الإدراك
فيبعدنا ذلك عن الطريق إلى معرفة الموت ومعرفة الغيب ومعرفة الله؟
– وأين يقع الشعر من كل ذلك؟
– وأين يقع الإدراك؟