نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 5-11-2012
السنة السادسة
العدد: 1893
الأساس: الكتاب الأول: الافتراضات الأساسية (126)
الإدراك (87)
إدراك الإدراك: (4 من ؟)
(مازلنا مع تعقيب أ.د.صادق السامرائى)
علاقة الموت بالإدراك
أشرت أمس إلى النشرات السابقة التى ألمحت فيها إلى إشكالة الموت عند الأطفال وعند الكبار، وعلاقته بالفقد وبالعدم، وبنقلات الوعى، وبفروض النوم واليقظة والبعث وغير ذلك، واعترفت أنه لم يخطر لى ربط الموت بالإدراك بشكل خاص، وحين ربطهما أ.د. صادق السامرائى بهذا الوضوح رأيت أن الأمر يحتاج منى إلى مراجعة، وأيضا ألمحت أمس إلى مخاوفى من وصاية التراث المحتملة فى هذا الموضوع بالذات، وهى المخاوف التى جعلتنى أعلن تكرار تحفظى على أن تكون المرجعية من خارج الممارسة أو الفطرة أو الفروض المتعلقة بنقد النص البشرى،..الخ،
هكذا حانت ساعة المواجهة وقبول دعوة أ.د.السامرائى إلى ربط خبرة الموت -كما عرضها- بما هوا “إدراك” فتقلّب الأمر عندى على الوجه التالى:
السؤال الأول الذى علىّ أن أجيب عليه هو: لماذا نربط الإدراك بالموت بالذات؟
كل ما تناولت فيما يتعلق بهذا المفهوم “الإدراك” هو باعتباره ظاهرة أو وظيفة أو قدرة معرفية حياتيه عادية، وأنها بدرجة ما: مُنْكرة أو مُزَاحة أو مُهَمَّشَة، مع أنها هى الأصل على مسار التطور والنمو جميعا (الفيلوجينيا، والأنتوجينيا)، وأن ما تولّد منها من قدرات معرفية وتعارفية أخرى مما يبدو أرقى وأكثر تحديدا وأنفع تواصلا (مثل التفكير واللغة والكلام) كان المفروض أن يكملها ويتكافل معها لتتأصل العملية المعرفية فيستحق الإنسان ما أنعم الله به عليه وهو يأمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن “يقرأ” باسم ربنا الذى خلق، يقرأ وربنا الأكرم، فنتبعه على مسار المعرفة.
لا أخفى عليك يا دكتور صادق أننى برغم فرحتى بإضافتك المهمة مازلت أتحفظ على هذا الربط بين الإدراك وبين خبرة الموت بالذات تحفظاً شديدا، برغم احتمال صحته.
بدايتى كانت من رفض سجن هذه الظاهرة الأشمل والأعمق بالحواس الخمس فحسب، وقد نقلنى هذا إلى معايشة “العين الداخلية” فى المرض والإبداع والأحلام معايشة واقعية لصيقة، قدمت بشأنها الفروض الواحد تلو الآخر، وبالذات فى أطروحة “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” بدءًا من ربط الإدراك بحركة العين السريعة (REM) أثناء نشاط النوم الحالم أو النقيضى دون ربطه بالحلم المحكى أو بتفسير الحلم…الخ
وحين طرحت أنت فكرة خبرة الموت كإحدى مظاهر الإدراك جعلت أحاول أن أجد لها مكانا فى هذه المنظومة التى تربط بين علم وظائف الأعضاء (الفسيولوجيا) وعلم النفس (السيكولوجيا) وعلم التطور، باحثا عن مبرر يدخل الموت فى أى من هذا، فلم أجد من وجهة نظرى ما يحفزنى لتبنى الفكرة بقدر كافٍ.
مسألة أخرى تتعلق بالمنهج، لأن لى تحفظ شخصى على هذا الحكى الذى يحكيه من أفاق من غيبوبة كانت هى والموت سواء، فمع تصديقى الشديد لكل حرف يقوله معظم هؤلاء المحتضرين الذين عادوا، فإننى أضع كل ما يقولونه (مثل الذى ذكرتَ) بين قوسين، ليس تكذبيا لهم، وإنما لأن موقفى الحالى يفصل فصلا مميزا بين الذاكرة والخيال على ناحية وبين الإدراك الخبراتى المباشر على ناحية أخرى، اللهم إلا فى تلاحق مرحلى فى محاولة نقل الخبرة المعيشة إلى حَكْى ذكرياتى، وقد نشأ هذا الموقف من شغلى فى الأطروحة السالفة الذكر “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” (أعتقد أنه من الضرورى الرجوع إلى هذه الأطروحة “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” لإمكان مواصلة الحوار)، وأنا أحاول أن أفصل بين “الحلم بالقوة” و”الحلم المحكى إبداعا” و”الحلم المؤلف تزييفا”، ثم انطلاقا من ذلك، ومع التركيز على “هنا والآن” فى العلاج الجمعى صرت أتعامل مع التذكر المرتبط نسبيا بالخيال من بعد زمنى متناه فى الصغر (جزء من ثانية) وهذا ما جاء فى فروضى عن إبداع الحلم قبيل اليقظة، فى جزء من ثانية، مهما وصَفَ الحكى أزمانا فى الحلم تستغرق أياما وشهوراً وأكثر، ثم انطلاقا من محاولة هذا التعرف على الزمن المتناهى الصغر هكذا بدأت أرصد حركية الوعى الفردى فالجمعى فى العلاج الجمعى خاصة، وتتطور الممارسة لتدعم فروض التعامل مع الحياة باعتبارها تراكم هذه اللحظات المتناهية الصغر لتشكيل الوعى الفردى ثم الجمعى، هذا بالنسبة لما أسميه “نقد النص البشرى”، وهو الممارسة العلاجية الموازية لخبراتى فى “نقد النص الأدبى”، ولعل هذا هو ما جعلنى أأتنس جدا بوصفك – يا د. صادق- أروع الشعر بأنه هو “ما تم تصنيعه فى مختبرات الإدراك البشرى الفياض”،
لكن دعنى أنتقل إلى هذه الخبرات التى حكيتها بأمانة الباحث العالم، وخبرة الممارس الناقد، فقد استقبلتها أقرب إلى آلية تأليف الحلم المحكى، – كما وصفته فى أطروحتى السالفة الذكر- منها إلى خبرة الإدراك كما تصفها أنت.
وبرغم هذا الاختلاف فى تقييم معنى ما حُكِى لك، فنقلته بأمانة، فقد سعدت بفتح هذا الملف الفرعى لأن علاقة الإدراك بالوعى (ومستويات الوعى) علاقة وثيقة جدا، وفروضى بالنسبة للموت لها علاقة مباشرة بالوعى أساسا، حتى تَخلّق الفرض الأخير الذى وضعته للموت، وكنت أحسب أننى سبقت إليه، وخلاصته: أن الموت هو: “نقلة من الوعى الفردى إلى الوعى الكونى إلى وجه الله تعالى”، وذلك قبل أن أعرف أن الجزء الأول من هذا الفرض قد ورد فى “متون هرمس”، أنظر نشرة “المصداقية بالاتفاق” بتاريخ 12-11-2007
علاقة الإدراك بالوعى وثيقة وغموض ماهية الإدراك هو جزء من غموض ماهية الوعى، ناهيك عن مستويات كلِّ، وخاصة مستويات الوعى، إن ما وصلنى من تشكيل الوعى الجمعى أساساً فى العلاج الجمعى، ثم فى علاج الوسط، كان مرتبطا أشد الارتباط برصدى التلقائى لحركية الوعى الفردى فالجماعى فى أجزاء الثوانى المتراكمة فى اتجاه تصحيح إيقاع الهارمونية المناسبة لاستعادة الإيقاع الأقرب إلى ما خلق الله تعالى.
علاقة الأحلام بكل من الوعى والإدراك أيضا يمكن أن تكون مبررا موضوعيا للربط بينهما فالحلم (قبل أن يظهر وأن يُحكى) هو نشاط إدراكى تنظيمى إيقاعى دورى: يتكرر تنشيطه ( لا محتواه) بدقة متناهية وإيقاعية راتبة، وهو يقوم فى الأحوال الطبيعية، بإعادة ترتيب المعلومات الحاضرة فى الواقع الداخلى تناغما مع المعلومات المدخلة أثناء اليقظة، Re-Patterning والعين الداخلية تتابع، وربما ترصد، هذه العملية كل 90 دقيقة لمدة 20 دقيقة، ومن ثَمَّ حركة العين السريعة، ومن هنا جاء الدعم لفرض العين الداخلية من منطلق فسيولوجى مباشر، أما ما يحكى على أنه الحلم، فهو حسب فرض الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع، ما يلتقطه الوعى البين بين (بين النوم واليقظة)…
وبعد
إن مغامرة الحديث عن الموت وفحصه هى إشكالة حياتية معرفية معقدة، وقد سبق أن أشرت إلى أبعاد هذه الصعوبة وأنا أقدم موجزا لكتاب مهم عن إشكالة “الموت والحياة” حتى يعرف من استطاع معنا صبرا، حسب تعبير د. صادق أن يّلم بحجم المشكلة، الكتاب “عن الموت والوجود” وقد قدمت بعض مقتطفات من أوائله للتعريف به وذلك فى نشرة 7/11/2007، بعنوان “عن الموت والوجود” حيث جاء ما يلى:
……. وفى مكتبتى وجدت هذا المرجع الموسوعى عن “الموت والوجود” “دراسة لتصورات الفناء الإنسانى فى التراث الدينى والفلسفى العالمى“، تأليف: جيمس ب. كارس، ترجمة بدر الديب، إصدار المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومى للترجمة، أخذت أتصفح الكتاب البالغ “610 صفحة”، من القطع الكبيرة، ووجدتنى قد خططت وهمّشت أغلب صفحاته، حاولت أن أتذكر: متى قرأته بهذا الاتقان؟ وماذا وصلنى منه وأنا أقرأه وأصارع أفكاره هكذا؟ وماذا تبقى من كل ذلك؟ ثم إننى اكتشفت أننى – شخصيا – قد اتخذت موقفاً مَا بعد كل فقرة خططتها أو عقبت عليها فى الهامش، فاحترت أى من هذه الفقرات فالمواقف أقدمها لقارئ هذه النشرة اليومية؟ وكيف؟ ثم اخترت الآتى:
من كلمة محرر السلسلة:
… صدر هذا الكتاب ضمن سلسلة بعنوان “الحركات الدينية المعاصرة” عن دار النشرالأمريكية جون ويلى John Wiley التى تصدر السلسلة بعنوان إضافى على أنها سلسلة تعتمد على ترابط العلوم وتشاركها، ومحرر السلسلة هو إرافنج. إ. زاريتسكى Iriving. I. Zaretsky، وقد أعد محرر السلسلة المقدمة التالية للكتاب:
… تعتبر مواجهة كل فرد منا لمسألة فنائه الشخصى ذات أهمية مركزية فى حياته، ومن هنا يتكون لديه إتجاه أو نظرة شاملة نحو الحياة والموت تشكل كيفية ومضمون سلوكنا اليومى.
إرفنج إ. زاريتسكى
نوفمبر 1979 نيويورك
أما المؤلف فقد جاء فى كلمته التمهيدية ما يلى:
…. “لقد سجلت نفسى فى هذا البرنامج الدراسى (لم يحدّده) لأننى أعلم أن ليس هناك شئ على الأطلاق يمكن أن أتعلمه منه، وقد كانت تلك كلمات طالب فى أول فصل دراسى تعرضت فيه لموضوع الموت، وكان ذلك منذ أكثر من عشر سنوات، وعلى الرغم من أن ملاحظة الطالب قد تلقاها زملاؤه من الطلبة بمرح كبير، كما كان يقصد الطالب، فإنها تبدو لى الآن مثقلة بالتنبؤ السليم.
فلاشك أن الطالب كان على صواب تماما، فلم أكن أنا ولا غيرى بقادر على أن يعلّمه شيئا عن الموت. فالموت فى ذاته ليس شيئا. وعندما أشار هاملت إلى الموت على أنه الأرض التى لم يعد من شواطئها كل من سافر إليها، فإنه كان بذلك يبعث على نحو حاسم الوضوح هذا الانفصال الذى يحدث بيننا وبين الموتى.
ثم أضاف:
… وعلى هذا فهذا كتاب شخصىَّ تشكل فى جانب منه من بحثى الروحى، ومن عدد لا حصر له من المناقشات مع طلبتى زملائى وأصدقائى. وحقا أن الكتاب ليس به ما يعلم أى أحد عن الموت من حيث هو، ومع ذلك فكل أملى أن فيه الكثير الذى يقوله عن الحياة.
جيمس كارس
خريف 1979
أما المترجم، الراحل الأديب الفيلسوف “بدر الديب” فقد كتب فى مقدمته ما يلى:
هكذا نجد فى فصول الكتاب، بعد عبارة “الموت من حيث هو”، مفاهيم وتصورات مثل المعرفة، الإغفال، والحب، ولاوجود، والصيرورة، والتاريخ، والإيمان، والرؤية، والسلطان، والخطاب”. وتمثل هذه التصورات المواجهة لتصور الموت المساهمة الفكرية الكبيرة للكتاب فى مواجهة الموت وفى إعطائه معنى فى وجودنا الإنسانى.
ثم أنهى المترجم مقدمته قائلا:
إن الكتاب كان يستحق ما بذل فيه من جهد وأنه فى آخر الأمر يعد نشيدا للموت وتهليلا للوجود وأنه، إن لم يجب على الأسئلة التى لا إجابة عنها فإنها قد تفتح للعقل والقلب مجالا للحوار والفهم هو باتساع الحياة والموت نفسه.
بدر الديب
28/12/1997م
لكن دعونا نختم هذه المقتطفات بكلمة أخيرة من مقدمة الكتاب للمؤلف نفسه:
…. هذا الكتاب، هو دراسة نقدية لعشر تصورات رئيسية للموت، وتهدف المقدمة إلى أن تضع الخطوط الخارجية لتصميم الدراسة وأن تبين الأسباب التى دفعتنى على القيام بها.
وعلى هذا فسنحاول أولا أن نصف أى نوع من الظواهر هو الموت؟ ولماذا يمكن تصوره بطرق مختلفة؟ بل، فى الحقيقة، هى غاية فى الاختلاف حتى إن كل منها ينفصل ويستعبد الآخر.
وبعد
هذا بعض ما كان فى تلك النشرة الباكرة التى صدرت بعد أربعة أشهر فقط من بدء إصدار النشرات اليومية “الإنسان والتطور”، وربما لم تتح الفرصة للأصدقاء المشاركين الآن فى الحوار للإطلاع عليها، حتى أننى حين وصلتنى مداخلة الابن الزميل د. إدريس الوزانى عن “قضية الموت والحياة”، وقد عرض فيها الموضوع وأَلَمَّ بالإشكالة والصعوبة بكل إحاطة وسلاسة فى نفس الوقت، فضّلت أن أؤجل التعليق عليها حتى أرجع إلى تلك النشرات الباكرة، ولم أفعل بعد.
وإلى أن نلتقى غدّا لنكمل الحديث عن “شعر” الموت (وليس الرثاء) وعلاقته بالوعى البينى، قد نعرج إلى أطروحة د. إدريس الوزانى بعد استئذان د. صادق السامرائى، أو قد نفرد لها تعقيبا خاصا لأنها لا تتعلق بشكل مباشر بالإدراك وإن كانت تتماسّ مع إشكالة الوعى.
وإلى الغد بإذن الله.