الوفد: 10-7-1992
40 عاما على حركة 23 يوليو:
لأول مرة قراءة نفسية فى شخصية عبدالناصر(2)
قبل أن تقرأ:
يحيى الرخاوى أحد أساتذة الطب النفسى فى مصر.. أدواته المهنية حاضرة.. عقليته السياسية واضحة.. ولها رؤية محددة.. ذهبت اليه بنحو 50 سؤالا عن عبدالناصر تطرح فى معانيها قضايا عديدة.. اسئلة أغلبها شخصية.. تتعرض لأدق نواحى حياة عبدالناصر الشخصية.. طفولته.. أسرته.. بيئته.. صداقاته.. هواياته.. قراراته.. وفكرنا فى أن نخضعها لأدواته.. كطبيب نفسى.. لنجرى هذه القراءة النفسية لشخصية عبدالناصر وهى رؤية موضوعية.. لأنها – على حد تعبيره فى حدود المعلومات المتاحة لمواطن مثله.. مستعد لتغير كل آرائه اذا حصل على معلومات أصدق تثبت العكس ولكن كيف ذلك والمصادر كلها مشبوهه مع مثلما هى ضد.
الثروة.. والسلطة.. فى عهد الزعيم
الكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل وضع كتابا عنوانه لمصر لا لعبدالناصر من بين كتبه الكثيرة التى تناولت ثورة 23يوليو.. وجمال عبدالناصر.. وفى هذا الكتاب فصل بعنوان مجموعة القيم الإجتماعية لدى جمال عبدالناصر وقد تناول فيه سلوكه العام والخاص على ضوء مجموعة القيم التى آمن بها والتى طبعت نمط حياته واتجاهات سياساته وتصرفاته اليومية وما أورده الأستاذ هيكل هو مدخلنا للقراءة النفسية لشخصية عبدالناصر.. والتى طرحها علينا الدكتور يحيى الرخاوى استاذ الطب النفسى.
*هيكل تحدث عن علاقة عبدالناصر بالثروة.. والغنى والحقد على الأغنياء.. والدكتور الرخاوى تحدث عن النزاهة والمال العام وحرمته وتوحد ذات الرئيس بذات الوطن.. وما أدى اليه من خلل فى أوجه الإنفاق
والأستاذ هيكل يطرح سؤالا محددا
هل كانت الثروة أوكان الغنى بين نجموعة القيم التى امن بها عبدالناصر وينطلق هيكل ليقول انه كان من بين المعايير الصارمة التى الزم نفسه بها ان لا يملك أرضا أو عقارا وكان يعتقد – واعتقاده صحيح – ان الملكية هى التجسيد العملى للإمتياز الطبقى ولم يكن ضد الملكية كمبدأ ولكنه كان ضد تجاوز الحدود فيها فى مجتمع أغلبيته الساحقة منالمعدمين وكان رأيه ان الحاكم فى مصر لا يجوز له ان يتملك لأنه بذلك يفقد قدرته على التعبير عن مصالح الأغلبية ويجد نفسه مهما حسنت نواياه – يعبر عن مصالح الأقلية.
ويرجح الدكتور الرخاوى ان عبدالناصر لم تمتد يده الى المال العام وأنه مات مديونا بلا رصيد فى البنوك ولا يملك اقساط منزله..
هذا رغم ماثار حول نزاهة عبدالناصر زحيانا هنا وهناك الا ان الدكتور الرخاوى يستدرك.. فيطلب وقفة متأنية يعزوها الى ما وصل اليه تدهورنا الأخلاقى المعاصر – فى مصر وغير مصر – الى ان نعتبر بديهيات الأخلاق هى مميزات فريدة للزعامة.
فالأصل فى الإنسان ان يكون أمينا نزيها، لا تمتد يده للمال العام ولا للمال الخاص (لدى الغير طبعا) لكن فى هذا الزمن الردئ أصبح من البديهى ان تعتبر كل انسان لصا حتى يثبت العكس، وأصبح على الأستاذ الجامعى اذا طلب صرف استمارة بمبلغ ثلاثة عشر جنيها مقابل مككافأة امتحان – مثلا – أصبح لزاما عليه ان يكتب فى أعلى الإستمارة تعهدا انه ليس لصا (وأن يسبق الصرف، أقر اننى لست لصا !!! ) ومادام زماننا الردئ هذا قد أوصلنا الى مثل ذلك فعلينا ان نمتدح الناس حتى الزعماء ببديهيات الأخلاق.
*ويتساءل هل هذا فضل يذكر لذاته؟ هذه واحدة.. والثانية وهى الأخطر والأقسى تحتاة مقدمة ايضاحية ذلك ان الحاكم يمد يده فى الحالات الآتية:
- حين يكون غير آمن على سلطته بشكل يدعوه الى ان يجنب لنفسه (خاصة فى الخارج ) ما قد ينفعه بعد خلعه.
- حين لا يكون هو الدولة، وبالتالى فثمة فرق بين المال العام والمال الخاص.
د. يحيى الرخاوى: عبدالناصر لم يكن لصا دنئ النفس..
لكن عبدالحكيم عامر سجل الجيش المصرى بإسمه فى الشهر العقارى !
من الذى سرق الجيش؟
ويقول د. يحيى الرخاوى
لم يكن عبدالناصر لصا دنئ النفس، والسلطة كانت قد تكورت واستكانت بيقين داخل راحة قبضته، اللهم الا من عين عبدالحكيم عامر الحمراء الخفية والتى لا ينفع فى مواجهتها مال عام أو خاص وأنما رشاوى جيشية كاملة حيث كاد الأمر يصل الى تسجيل الجيش المصرى له فى الشهر العقارى حفاظا على تأمين جانبه.. اليس هذا سرقة للمال العام وللجيش العام ولثورة الشعب جميعها؟
- وأخيرا فإنه أى الرئيس عبدالناصر – كان قد تقمص الدولة والسلطة والبلد حتى أصبح (نفسيا على الأقل) هو النظام فهل يسرق نفسه من نفسه ليؤمن نفسه؟
العطف السامى.. اللفتة السنية.. الفضيلة
وقضية الخلط بين المال العام والمال الخاص كانت ومازالت قائمة قبل عبدالناصر وبعد عبدالناصر وهى من صفات تقاليد المجتمع القبلى وتتضح بأجلى صورها اذا ما تابعنا ما يسمى بالعطف السامى وتوجيهات الرؤساء بمنح هذا ومنع ذاك، كانت هذه المظاهر قبل عبدالناصر تسمى اللفتة السنية أوالهبة الملكية وأيام عبدالناصر وبعده أخذت شكلا آخر سمى فضيلة وسجلت تحت اسماء مختلفة: عطف الرئيس على أبناء الشعب، وتمثله لآلام عامة الناس.. وأجازته الشخصية بتوجيهات حانية مساعدة فلان أو علان.
مثل العيد، المدارس.. أعيادالعمال ومنحة لاندرى ماذا منذ عبدالناصر حتى الان. التساؤل كان للدكتور يحيى ومازلت أذكر ان الدكتور زكى نجيب محمود كبير أساتذة الفلسفة المصريين كان له مقال حول هذا اللون من المنح.. تساءل فيه بصراحة: من الذى يمنح من؟
ويورد الدكتور الرخاوى نماذج مختلفة لتلك المنح أو الفضيلة كما أسماها:
بأمر السيد الرئيس الملك
مثلا: أمر سيادة الرئيس أن يدرس هذا الطالب على حساب الدولة نظرا لظروفه التى نشرت فى صحيفة كذا وماذا عن امثاله ممن لم تنشر ظروفهم فى الصحيفة. التساؤل للدكتور الرخاوى
مثلا: أوصى سيادة الرئيس (عبدالناصر القدوة لمن بعده ) أن يعالج ذلك المصاب (ولو بتخلف عقلى !!) فى الخارج لما شاء عطف الرئيس ان يرحم أمه التى نشرت صورتها وهى تبكى لأنها لا تعرف كيف تعلمه المشى فى سن سبع سنوات (وهى بالطبع قفشة للدكتور الرخاوى ). أو أن شئنا فلنقل انها صورة كاريكاتورية.
- مثال آخر: هذا الفنان – كما أمر الرئيس – يسافر للعلاج على نفقة الدولة لأنه فنان كويس (فى رأى الرئيس وهكذا وهكذا ) خطورة هذه التصرفات.
- يقول الدكتور يحيى الرخاوى انها لا تكمن فى عشرات الألوف من الجنيهات التى تنفق هكذا بتوجيها ت الرئيس ( الملك ) ولفتاته الحانية وأنما دلالتها فى اننا مازلنا نعيش بلا قانون عام، وما زال دئيس الدولة هو الدولة ليس فقط من الناحية الإدارية والسياسية وأنما من الناحية المالية والتصرف فى العاذد ويضيف
- يظهر هذا دائما أبدا أو يزداد كلما كان الحكم ماصريا أو ملكيا فى بلد منخلف فهل هذهالأمانة أمام المال العا ان هذه التصرفات تصبح مسموحة ومطلوبة فى حالة ما اذا كانت من المال الخاص لأى رئيس دولة (أو ملك )
وقد نكون أعدادها محدودة أو نادرة ولكن مغزاها الذى أريد اأن أوضحه هنا – والكلام ليحيى الرخاوى – هو أمران أولا: تنحى القانون العام وثانيا توحد مال الرئيس بمال الدولة وبالتالى تختفى معالم الأمانة. ودون الخروج عن الموضوع وبغية توضيح الأمر أذكر القارئ بنزاهة الرئيس القذافى فى الأغلب (التى لاأشك فيها ولم أفعل؟ ) مع حريته فى التصرف فى مال الدولة من ايرلندا الى تشاد وربما من كولومبيا الى ايران أو ميت غمر..
الطعام.. الشراب..
أما الأستاذ هيكل فيتساءل فى كتابه عن لمصر لا لعبدالناصر هل كان نمط حياته يزيد عن موارده، وهل كان مضطرا الى أن يجارى مستويات من المعيشة يراها من حوله مترفة ناعمة ومجاراتها لا تفرض عليه أن يبحث لنفسه عن مصادر أخرى لتمويل العجز، يقول هيكل: لم تكن للرجل وهذه حقيقة عرفها كل الذين خالطوه فى مصر أو فى العالم العربى أو فى الدنيا الواسعة كلها شهوة فى طعام أو شراب، وكان أفخر الطعام عنده على حد تعبيره لحما وأرزا وخضارا وكان عبدالناصر يقول ماذا يأكل الناس غير ذلك؟ كان تساؤله هذا مشوبا بالدهشة والإستغراب.. ومع أن هيكل كان يرد على عبدالناصر فيقول ان الدنيا تقدمت ومع التقدم تطور الطبخ ولم يعد الطعام وسيلة للشبع ولكنه أصبح فنا من فنون الحياة. وكان ذلك فى رأيه تجديفا يكاد ان يقترب من الكفر بنعمة الله.
ورغم أن الأستاذ هيكل فى كتابه حرب الخليج – وما أورده الكاتب عادل حمودة فى كتابه النكتة السياسية نقلا عن الصحفى الأمريكى بوب وودوارد من أن السادات كان يشرب الفودكا – ويخصها بالإهتمام دون غيرها لأنها لا تترك رائحة الا ان هيكل لم يتعرض فى أى من كتبه لمعاقرة عبدالناصر لأى مشروب كحولى واذا كان ذلك كذلك فما رأى يحيى الرخاوى فى عبدالناصر على ضوء معاقرة السادات للخمر:
* نقول أن عبدالناصر لم يعاقر الخمر. إذن ماذا هل نحن بصددتقييم أخلاقى أم إعطاء صك غفران دينى أم اننا نحاول قراءة تاريخ زعيم وطنى ؟
لقد شاع مؤخرا حتى بين بعض من يزعمون التصدى للتاريخ ما يمكن أن يسمى بخلط الأوراق، ولا شك ان احترام قيم المجتمع ونواهى الدين خاصة فى العلن، وهو أمر يحمد لأى زعيم كائن من كان لكن لا ينبغى أن يكون هذا فى ذاته تقييما للزعامة وتفخيما للدور التاريخى بلا قيد أو شرط
فلم يضر ونستون تشرشل أو يقلل من وظيفته أنه كان يشرب الخمر حتى الثمالة (كما يقولون ) فأين أضع هذه الصفة فى تقييمى النفسى لعبدالناصر.
ثم فلنكن صرحاء.. هل هذه المعلومة. أن عبدالناصر لم يعاقر الخمر – مطلقة لا تقبل المراجعة فى فترة ما قبل الثورة اننا لا نملك الدليل على نهذا.. لكن ثمة أقوالا لا تنشر تشير الى ذلك، ولست أقر هذه الأقولا وهى لا تعنينى بل انى أميل الى رفضها وإعلان تكذيبها دون الوقوع فى تهمة الكذب والكذب الأسود، أفعل ذلك حتى لا أكون مثل الكاتب الذى كتب كتاب عن السادات.. وقال فيه انه كان يتناول كاسا من الفودكا لست أدرى متى وأين أو أكون مثل الآخر الذى زعم أن عبدالناصر كان ملحدا.
أن مثل هذه الأحكام جميعا لا تصف عبدالناصر أو السادات وأنما تصف تخلف قائلها وخلط الأوراق فى مجتمع يسمح بذلك ولا يريد ان يتقدم وهى لا تدل على موقف متدين ولا تعلى من شأن الدين بقدر ماتؤكد سطحية المواقف واستسهال اصدارالأحكام ولا أحب هنا أن أذكر أن خلط الأوراق هذه قد يمتد الى همز ولمز منارات أخرى فى التاريخ بلا مسئولية أو وعى مثل أن نتكلم مثلا ليس على فلسفة بن سينا وطبه.. وانما عن مجالسة بين تلاميذه وطربه.. الخ الخ.
البطاطا.. والجبن والزيتون
نأتى الى حكاية الطعام.. والأرز والخضار.. والجبن القريش والزيتون وأقول ماذا يعنى هذا؟ التساؤل ليحيى الرخاوى الذى أجاب:
أخشى أن اتذكر أغنية صباح يغدينى جبنه وزيتون ويعشينى بطاطا.
حين بدأ مجلس قيادة الثورة اجتماعاته سنة 1952وسهر أعضاؤه حتى الفجر وذهب أحدهم ليشترى ساندوتشات فول وطعمية فرحنا جميعا (كان عندى 18 سنة آنذاك ) لأن اناسا يحكموننا يفعلون مثلما نفعل (وليس لأن الفول طعام ثورى فى ذاته )، لكن الأمر تطور بعد ذلك – يقول الرخاوى – وظهر هذا فى مزاج وطعام واشتراطات أغلب هؤلاء الناس كما ظهر فيما آل اليه حال بعض أولادهم وانسبائهم فى حياتهم وبعد مماتهم.
أنا لا أحاسب عبدالناصر عما آل اليه بعض أولاده وبناته وأن كان الأغلب الغالب أنه مسئول ضمنا فما يتضح ان عاجلا أو اجلا الا بما القى فيه شعوريا أو لا شعوريا وفى نفس الوقت أنا لا أقف مشدوها أقرأ التاريخ من طبيعة مأكل زعيم أو مشربه أومسكنه لذاته فخيمة القذافى ليست رمز أحياء الحضارة العربية، وجبن عبدالناصر القريش ليس الحل الإقتصادى والتقشف الذى أعفانا من الديون الخارجية.
وعباء ة السادات وعصاه ليست هى الدالة على ارتباطه بعيشة الفلاح المتهنى قلبه ومرتاح.
* * ترك عبدالناصر تراثا فكريا واجتماعيا مازال باقيا. فالرئيس عبدالناصر ترك ناصريين خلفه رغم قول الأستاذ محمد حسنين هيكل أنه لم يترك وراءه نظرية ناصرية واختلف الناصريون حول ماقاله هيكل.. ولكن الدكتور خالد عبدالناصر.. والدكتور أشرف مروان تجاهلا كل ذلك.. فالدكتور مروان يفعل بأمواله ! مايحلو له فى لندن.. يبيع ويشترى ويستثمر.. والدكتور خالد فى القاهرة يتمتع بقيادة أفخر السيارات فى العالم.
- كان غريبا أن لا يحافظ الأبناء على تراث الأب الذى دفع حياته ثمنا له.. فهل عبدالناصر هو المسئول عن أبنائه وأحفاده وعن تصرفاتهم.
إن هناك أقوالا مؤكده لأصدقاء عبدالناصر وحتى الذين اختلفوا معه تنفى مسئوليته.. لكن بالتأكيد.. فإن البعض لم يحترم تراث الأب الزعيم.
ود. يحيى الرخاوى يقدم لنا تفسيرا.. وهيكل يقدم لنا تفسيرا كلها تصب فى قناة واحدة.. وهى اننانكمل رسم بورتريه عبدالناصر.. بماتبعه من أفكار وقرارات.
ونمضى مع يحيى الرخاوى من هوايات عبدالناصر الى إعدام خميس والبقرى.. ومن عشق السينما.. الى تفجير الثورة على أنغام كور ساكوف.