نبذة: يكون الموت جميلا (استشهاد وفاء ادريس) يلبى نداء التناغم مع الكون المطلق من أجل الحياة، ويكون العقل جميلا حين يجمع التناثر فى إبداع جديد (فيلم: عقل جميل). هذا ما يتناوله المقال.
الاهرام: 8-4-2002
(1) معنى آخر للجمال
وسط كل هذا التذبيح، والقتل، والتجويع، والإبادة، والإهانة، والاستهانة، هل يوجد مكان للحديث عن الجمال؟ لابد أن للقبح معان أخرى كما أن للجمال معان أخرى، هل يوجد أقبح من تستمع لهذا السيد المسمى بوش وهو يصرح أى تصريح ولا تشعر بالغثيان. تعلمت من غثيان سارتر كيف يكون القبح مثيرا لمثل هذا الرد المعبر عن التقزز، إنك حين تسمع هذا الدبليو بوش وهو يطلب من عرفات أن يبذل جهدا أكبر لمكافحة الإرهاب وقد قطعوا عنه الماء فلم يعد يستطيع أن ينظف نفسه أو يتوضأ، أو وهو يوصى صديقه وحليفه شارون ألا يطرد عرفات حتى لا يمارس الإرهاب من الخارج، (وليس لأى سبب آخر)، وكل تصريحاته كذلك، لا تملك إلا أن تصاب بالغثيان وهو أقبح أنواع القبح. ذلك القبح النشاز المثير للنفور الفاتر اللزج المسخ.
هل يوجد بعد و وسط كل هذا القتل والإهانة والإذلال والتجويع، والغطرسة مجال للحديث عن عكس هذا تماما، عن الجمال؟
ما هو الجمال؟ وكيف يجد مكانا وسط كل هذا ؟
لا أعرف ما الذى جعلنى أخاطب وفاء إدريس فى نهاية مقال نشر لى فى موقع آخر(الوفد 6/ 2 / 2002) قائلا ‘ما أروعك يا وفاء، وأنت تقلبيين كل خططهم بكل هذا الجمال’، راجعنى بعض الأصدقاء والقراء عن مدى تناسب هذا الوصف مع صورة وفاء وقد تناثرت أشلاؤها بما يثير آلام وحسرة ذويها وكل من يحبها، لم أجد إجابة جاهزة حتى أننى كدت أراجع نفسى كأن اللفظ قد قفز منى رغما عني. لكننى حين طالعت بعد ذلك بأسابيع وجه آيات الأخرس وعشت – تقمصا ما أمكن ذلك – خبرتها وهى تودعنا لتلحق بأختها منال وإخوانها بلا حصر، عاد إلى وعيى ذلك الوصف الذى غمرنى وأنا أشير إلى رحيل منال رغم الدم والأشلاء والآلام .
ما الحكاية؟ أى جمال فى هذا الفعل الرائع؟
يمكن أن نتكلم عن البطولة، وعن الشجاعة، وعن التضحية، وعن الإيثار ، ولكن أن يوصف هذا الفعل بالجمال هذا هو ما توقفت عنده أحاول تفسيره
دون الدخول فى تنظير حول فلسفة الجمال ، وصلنى من خلال مغامرة القلم هذه أن الجمال ليس مجرد تناسق الأجزاء فى كل قادر أن يعيد تناسق وعى المتلقى بما تيسر، لكنه حضور جدلى بين وعى إنساني، ووعى إنسانى أو إلهى آخر فى حالة تصعيد بلا نهاية. الجمال حركة منفرجة ضامة مفتوحة النهاية قادرة على تحريك مواز ليواكبها. الجمال تآلف بطول الزمن الممتد، وبعرض الطيف غير المحدود ، كل هذا لا يتحقق بشكله المطلق إلا فى حالة من الوجد الصوفى الذى لا يوصف.
هل هذه هى الرسالة التى وصلتنى من وفاء وآيات وكل أولادى وأحبابى وأنا أنظر فى عيونهم بعد أن رحلت أجسادهم عن مجال حواسنا الأدنى لتتآلف فى المطلق غير المتناهى؟ ربما، وربما هذا هو الذى جعل الألم الذى يعتصرنى لا يمنعنى من استعمال تعبير الجمال فى وصف رحيل أجسادهم دون اختفاء دورهم.
لحن الاستشهاد هذا هو الذى يملأ الوعى بتأكيد العلاقة الوثيقة بين الحياة والموت، ليسا كضدين، ولكن بتوليد أحدهما للآخر، وهو هو الذى يؤلف بين الفرد وناسه، بين المحدود والمطلق ، بين الدنيا والآخرة، هذه العلاقة لا يمكن أن توصف إلا بالجمال، دون أن يحرمنا هذا التناغم من أن نتقطع ألما ونجزع فرقا.
إن الذى يقرأ وصف الأخرين من الثقافة الأخرى لهؤلاء الشباب لا بد وأن يشك فى سلامة وعيهم، ونقاء ذوقهم، إنهم يتحدثون عن هذا الجمال بأقبح الأوصاف، لم يذهب أحدهم إلى مرآته، ويمسك بأى آلة حادة، ويقربها من عنقه، ثم يسأل نفسه ما هو الدافع الذى يمكن أن يجعلنى أغرس هذا النصل فى عنقى هذا اللهم إلا أن يكون الشديد القوى الذى لم يعد يطاق ؟
الفلسطينيون المحتلون المهانون المستعملون المذلون يضخون بحياتهم الواحد تلو الآخر ليس نتيجة للإحباط وإنما هى استراتيجية انتحارية؟ والإسرائليون وهم يحتلون أرض غيرهم، ويهينون خلق ربنا، ويبصقون على كل الأعراف، ويمزقون كل القرارات الدولية، هؤلاء الإسرائيليون هم الذى يقومون بهذه المجازر الاضطرارية نتيجة للإحباط، شكرا يا سيد سترو.
لا أحد منهم يفهم معنى الموت الجميل، لأن لا أحد منهم يريد أن يتقمص هذا الوجه الجميل لأيات الأخرس، حتى لو عجز فريدمان عن ذلك، فليناد ابنته أو حفيدته فى مثل سن آيات، أو أكبر أو أصغر قليلا وليتطلع فى وجهها ويتصورها وهى تلف حزام التفجير حول وسطها الرقيق، ويسألها أو يسأل نفسه، ما الذى يجعلها تهدر كل هذا وتحرمه منها، وتحرم نفسها من كل آمالها وحبها وحلمها؟ إستراجية العمليات الانتحارية؟ لا يا شيخ !!!!! آيات لم تمسع كلمة استراتيجية أصلا يا سيدى
إنه ظلمكم يا سيد فريدمان. واحتقاركم لأى آخر غيركم
أريد فى النهاية أن أقر أن ما دفعنى إلى مراجعة معنى الجمال هكذا، هو ذلك الفيلم الذى يعرض الآن فى أكثر من دار عرض فى مصر فيلم ‘عقل جميل’، وهو ما يحتاج إلى عودة مستقلة تبين لنا هل يمكن أن يوصف العقل بالجمال وقد اعتدنا أن نصفه بالحذق، والموسوعية، والقدرة، والإحاطة، لا أكثر ولا أقل ؟
إن العقل الجميل لا يقول مثل هذا الخلل القبيح النشاز المقزز المثير للغثيان الذى بدأنا به هذا المقال، وهو أيضا ليس عقلا واحدا بالضروة،
ولعل هذا يكون موضوع المقال القادم.