نشرت فى الدستور
18/2/1998
شكرا: كلينتون- نتانياهو
حين هممت أن أكتب تعتعة الأسبوع الماضى, قفز إلى ذهنى حديث العراق طبعا, وبعد أن وصلت إلى نصف الصفحة, توقفت فجأة ساخطا رافضا محتجا على ما أسطر, ومزقت ما كتبت, وأحللت مكانه كلاما قديما معادا مهما عن أزمتى الشخصية مع الحضارة الغربية, ولامنى صديقى توفيق صالح, باعتبار أنه لا صوت يعلو فوق أزمة العراق, الذى هو نحن, وحكيت له ما حدث لى من إعاقة أثناء محاولتى الكتابة فى الموضوع, ثم إنى حاولت أن أواصل الهرب هذا الأسبوع لكننى لم أستطع, وعلى الرغم من أن ما وصلنا إليه من جمود ساكن حتى صرنا مثل الحجارة الهامدة المهملة وسط بقايا ريم بركة آسنة, أو أشد موتا, على الرغم من أن هذا الوضع لا يحتاج إلى تعتعة بل إلى زلزال, قلت أتحايل على قلمى وأكتب فى المسألة خشية مزيد من الملام
ولكن ماذا أكتب, وكل شيء قد كتب؟ هل أعيد ما قالوا ودمتم؟ هل أزيد عليه بعض ما يلمع؟ أقول يا حرام, وياعيني؟ أصفق لإعلان مدفوع الأجر أن أمريكا سيئة جدا جدا, وأضيف جدا ؟ ماذ تبقى ليكتبه قلم آخر عن جوع وموت أطفال العراق, وديكتاتورية صدام, وغرور -مع دونجوانية- كلينتون, ومومسية نتانياهو؟ ماذ يقال بعد كل هذا الذى كتب, و يكتب؟
الحكومات قالت كلمتها بكل قوة وصراحة: أنه يا أمريكا: هذا الذى سوف تعملينه لا يجوز أبدا جدا, والشعوب العربية قامت بمظاهرة وحيدة فى الضفة وغزة نيابة عن الشعوب العربية جمعاء وهتفت – هكذا تصورت: “يا أمريكا خلى بالك ,أصل الدنيا مش باقيالك!!, لأن بقية الشعوب العربية لم تأخذ الإذن بعد من مراكز الشرطة المسئولة عن إعطاء ت تصاريح الهجرة والعمل والوطنية والمظاهرات, ثم إن الشعوب ما لها وما يجرى, إنها أعلنتها صريحة مدوية لحكوماتها: طالما أنت هكذا, نحن ننتظر الإفراج عنا أولا. ثم إن الأقلام المرتزقة ارتزقت أكثر, والأقلام النازفة نزفت أكثر, ثم ماذا؟
لم يبق أمامى إلا أن أدعو مرة أخرى إلى شرف إعلان الاستسلام, لنعلنها صراحة مثل كامب ديفيد الحقيقية, ولنتحمل نتائجها لعلنا نطفو يوما فوق سطح الأرض وربما يحق لنا العيش حينذاك, أو لعله يثبت أنه دفن نستحقه بلا عودة .
ولنعترف بالفضل لأمريكا وإسرائيل, لكلينتون, ونتانياهو, وتونى بلير وكافة بنى آدم بصق فى وجهنا واحتقر وجودنا فى هذه الأزمة, حتى لو لم ينتج عن ذلك إلا مزيد من الاستسلام الذى سوف يؤدى حتما إلى فناء نستحقه ولا عزاء للجامعة العربية, أو لعل هذا الخزى الشديد الإيلام, والتعرى الشديد الوخز يحرك ما تبقى من خلايا كرامتنا, فنستغنى عن خمسين مليون بنى آدم, وقد أثبتنا أنه لا حاجة بنا لكل هذا العدد, بأمارة ما يحدث فى الجزائر, ونعلنها حربا لا نهاية لها, نجوع فعلا, نأكل أوراق الشجر, ثم ليكن ما يكون أو هل أدلكم على شيء أبسط من هذا وألذ, ألذ, بل ربما أكسب ؟
ما رأيكم نخاصمهم خصاما بائنا, وننسحب من كل مؤسساتهم العالمية, ونسحب نقودنا كلها, ونزرع السودان ونصنع العراق, ونأخذ أجازاتنا على شواطئ مصر وبين آثارها, ونعمل ستارا حريريا لمدة عشر سنوات, فإذا حاربونا لمنع كل هذا, نحارب حتى نفنى بشرف.
حين لا أجد أحدا يوافقنى على أى من ذلك لقد أفكر وأتساءل: لما حرم الله الانتحار الفردى إذ جعل المنتحر لا ينال لا دنيا ولا آخرة, ثم إن عقابه أن يعاود انتحاره فى النار خالدا مخلدا فيها أبدا, فهل يسرى هذا أيضا على هذا الانتحار الجماعى الذى نمارسه ونحن نغنى الأغانى الوطنية, ونقرض الشعر, ونحضر مفاوضات كثيرة كثيرة, نتائجها غالبا “إيجابية وبناءة” أى والله !!
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم.