نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 14-9-2019
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4396
الكتاب الثالث:
“عن الحرية والجنون والإبداع”(1) (الحلقة الثانية)
…………
…………
الحرية والجنون (2)
ثم ننتقل إلى الجنون لنجده أيضا يقف متحديا فى بؤرة إشكالة الحرية (3)فهو من ناحية: يعلن القدرة على الاختلاف على حساب أى مكسب، وباقتحام أى مجهول، فهو بذلك أحد مظاهر الحرية فى قصوى قدراتها الاقتحامية.
ومن ناحية أخرى: هو انسحاب كامل من كل المقومات الضرورية لاختبار حقيقة الحرية فى مواجهة الآخر/ والواقع.
وهو من ناحية ثالثة: استسلام للداخل القابع فى الظلام عادة، بما يؤدى إلى نفى الحرية، ليتركنا فى مواجهة الوجود الخاوى إلا من التناثر المختلط المَرَجْرَج فى المحل.
تقتطف خالدة سعيد (4) قول أنسى الحاج ” بالجنون ينتصر التمرد، ويفسح المجال لصوته كى يسمع” ثم تعقب: هذا ما يقوله ….“الجنون هو الوصمة التى يحملها من اختار أن يكون حرا”.
وعلى الرغم من أن خالدة سعيد قد وصفت الخلق عند أنسى الحاج أنه “لاغائى”، وأن كلمة خلق لا تناسب شعره، وعلى الرغم مما ذهبت إليه حينما يقترب من نفى الإرادة عن هذا النوع من الخلق “ما يسمى: عادة بالخلق ما هو عند أنسى الحاج إلا فعل ضرورى لوقف الاختناق” رغم كل ذلك فإن الاختيار سرعان ما قفز متحديا من أنسى إذ يقول: “والشعر قهر مشدود التواجد يخنقه الحنين” ….”إن أمام هذه المحاولة إمكانيتين إما الاختناق أو الجنون”
وهكذا، وقعنا بكل وضوح فى بؤرة إشكالة الإبداع والحرية
بإيجاز يمكن إعادة الصياغة بألفاظ أخرى تقول:
“إن المجنون يخترق كل حاجز، ويعيش كل تجاوز، ويقفز فوق أسوار اللغة بلا لغة، وهو يلعب بالزمن، لا يتبعه، ولا يقع فيه، لكنه فى نفس الوقت هو ينتهى إلى هـلامية ساكنة، حتى لو ترجرجت فى مكانها، وكأنها تتحرك. إن المجنون الحر الطليق هو فى واقعه دائر فى محله فى انغلاق دوائرى متناثر، فلا هو حر ولا هو طليق.
هكذا ينفى الجنون، الذى يبدو لأول وهله وكأنه الحرية الكاملة، ينفى الحرية تماما وهو يجتثــها من جذورها. مع أن الحرية فى جوهر حركيتها تبدو حتمية وهى تسمح باختيار الجنون، فنُفاجأ فى نفس الوقت أن الجنون هو فى النهاية مقصلة الحرية”.
الجنون هو فعل الحرية لتستحيل.
إذا كان الجنون اختيارا فى مستوى معين من الوجود، فإنه ليس اختيارا للحرية وإنما هو نفسه الحرية القاضية على نفسها، وهذه المأساة هى من أعظم إشكالات الجنون فَـهْـما، وعلاجا.
فى الجنون: الحرية تنتحر اختيارا.
المجنون يختار أن يحرم نفسه من قدرته على الاختيار.
هذا على الرغم من أن الشخص العادى عادة ما يستبعد، بل يستنكر فكرة أن يكون الجنون اختيارا على أى مستوى من الوعى، الشخص العادى لا يملك (بوعيه الظاهـر) أن يختار الجنون، الإنسان العادى (جدا) يبدو وكأنه لا يستطيع (أعجز من) أن يـُجَن.
ومع ذلك فالممارسة اليومية تُعلـِّمنا كيف أن المجنون – بجنونه- إنما يعلن أن له طريقا آخر، وأنه استطاع على الرغم من كل شئ أن يرفض السائد الآمِـن، وأن يتحدى، ليسلك -منفردا- الصعب المجهول “ثم يفشل”.
آن لنا أن نتوقف هنا عند كلمات مثل “استطاع”، ومثل “يرفض”، ومثل “العادى”، لضرورة التروى وتجنب الاختزال إلى الشائع.
السماح بالجنون (حق الجنون) (5)
لكى يجن إنسان ما (لكى يستطيع أن يجن) لا بد أن يـُـسمح له (بشكل ما) بذلك. لا بد من وجود مساحة متاحة للحركة (فى الداخل والخارج على حد سواء) تسمح بأن يمارس فيها الإنسان اختلافه لدرجة اختيار هذا النقيض الشاذ المتحدى (= الجنون). إن هذه المساحة (مع السماح الضمنى فى الخارج والداخل) هى التى تتفرع فيها الاختيارات المتعددة بما فى ذلك اختيار الجنون. ولتوضيح ذلك، فإنه على سبيل الافتراض (المستحيل): لو أن القمع الخارجى كان مطلقا (مائة فى المائة) والقمع الداخلى كذلك (مائة فى المائة) فإن الجنون يستحيل، لأنه لم يعد ثَمَّ سبيل لأى اختيار بين بدائل (6)، ولا لأى حركة فى أى اتجاه، بما فى ذلك اتجاه الجنون.
عن طبيعة الجنون والاختيار
إن فهم مسألة اختيار الجنون تحتاج إلى التسليم بأساسين:
الأول: تعدد الذوات، فى الشخص الواحد، ومن ثم يكون اختيار أى ذات منها على حدة هو نوع من الحرية، حتى ولو بدا على حساب الذات (الذوات) الأخرى. فى الجنون; يكون الاختيار الغالب هو فعل الذات الكامنة دون الظاهرة فى لحظة بذاتها، ثم تقتحم الذات الكامنة (البدائية عادة) لتقود، فيكون الجنون هو: محصلة غلبة اقتحام من قبل إحدى الذوات بالداخل الكامن جنبا إلى جنب مع آثار هزيمة الذات الظاهرة عيانا.
الثانى: إن اختيار الجنون لا يظهر بشكله المباشر والمعترف به، إلا بعد بداية الجنون نفسه، بمعنى: إن اكتشاف أن الأمر كان اختيارا سابقا، على مستوى آخر أخفى، ثم أعلن الجنون لاحقا بوعى ظاهر. إن ذلك لا يعنى أن الذى يختار الجنون هو تنظيم واحد فقط من بين المنظومات المتعددة للدماغ وللفرد (من بين الذوات المتعددة)، لأن الجنون حين يـُعـلـن، إنما يؤكد محصلة اختيار الذوات (المنظومات) المتعارضة والمتصارعة والهشة والمهمشة والمستعيدة بدائيتها والناكصة، وبالتالى فإن الذى يـُجـن هو الكل المتداخل فى واحد ظاهر، وهو هو الكيان الذى له إسم عـَـلمٍ يـُنـَادى به، وهو الذى يوصف بالجنون. وعلى الرغم من أن بداية الاختيار تكون بترجيح غلبة ومحاولة قيادة أحد التنظيمات البدائية على حساب التنظيم الواقعى الناضج، لكن الذى يحضر - مجنونا – فى الوعى الظاهر – كما أشرنا - هو:
-
جماع آثار تنشيط هذا المستوى البدائى من الوعى. جنبا إلى جنب مع:
-
مظاهر مقاومة مستوى الوعى الظاهر القائم لهذا النشاط المقتحم. بالإضافة إلى:
-
آثار (بقايا) معاركهما (المستوى البدائى الذى طغى، والمستوى الواقعى الظاهر المهزوم)
إن المجنون الذى يقر باختيار جنونه أثناء العلاج النفسى المكثف (مثلا)، لا يفعل ذلك إلا بعد أن يطمئن لقدرة جنونه على التحدى، وفى مرحلة لاحقة: إلا وهو مطمئن إلى معالِجِه الذى يقبل، أو على الأقل يناقش اختياره. المجنون يقر لنفسه بطريقة غامضة اختيار ما هو به، وذلك بعد تمكـن الجنون من الحلول فى الوعى الظاهر، ولكنه لا يعلن هذا الإقرار إلا بعد استشعاره الأمان من معالج قادر على الحوار مع مستوياته المتعددة. الجنون حين يـكسر القشرة ليطل من الداخل إذْ يقتحم الوعى الظاهر يجعل الداخل خارجا أو جزءا من الخارج، وهنا يمكن إعلان إدراك أن الأمر ”كان اختيارا”، وهذا ما يسمى ”سبق التوقيت” لبداية الجنون، وهذا بمثابة الاعتراف باختيار سابق، أو هو تأكيد اختيارٍ ما سبق اختياره.
“إن الجنون هو حصيلة اختيار كان كامنا ثم أمكنه إعلان نفسه باختراق هادفٍ شاطحٍ معا”
وبعـد:
أعلم أنها مقدمة طالت، لكنها بدت لى ضرورية حتى يتضح المدخل الذى تتناوله هذه الدراسة من خلال التناقض الهائل الذى يمثله الجنون من حيث أنه يمثل حرية تُحقِّق اختيارا جزئيا ليصبح مسئولا عن شلل الإرادة الكلية للذات المشتمِلة، ثم كيف أن هذا وذاك يرتبط أشد الارتباط بعملية الإبداع من حيث أن الإبداع مخاطرة تمر برعب اختراق نفس هذه المنطقة من الحرية (منطقة حرية الجنون) لينطلق بها وعبره إلى تشكيلات الابداع.
[1] – هذا هو الكتاب الثالث باسم “عن الحرية والجنون والإبداع” نشرت صورته الأولى فى مجلة فصول– المجلد السادس – العدد الرابع 1986 ص(30/58) وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها، وهو الفصل الثالث من كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع” الصادر من المجلس الأعلى للثقافة -القاهرة، والكتاب يوجد فى طبعته الأولى 2007 وهذه هى الطبعة الثانية بعد أن قُسم إلى أربع كتب أضيف إليها ما جدَّ للكاتب بين الطبعتين، وهذا الكتاب هو الثالث.
[2] – نبهنا فى الكتاب الأول والثانى على ضرورة تحديد مضمون للفظ الجنون كما يستعمل فى كل مداخلة، ويكفى أن أكرر هنا أنه لابد من استبعاد ما يسمى المرض العقلى العضوى التشريحى للأسباب سالفة الذكر فى الفصلين السابقين، كما أن”الفصام” هو الممثل الأساسى لما يسمى الجنون فى هذه الدراسة دون استبعاد الذهانات الأخرى مثل الذهان الوجدانى والذهان البارنوى.
[3] – كما أنى سوف أستعمل لفظ الحرية، فى البداية،، استعمالا فضفاضا كما يوحى به ما شاع عنه، لا كما قد ننتهى إليه فى هذه الدراسة.
[4] – خالدة سعيد: حركية الإبداع (الشعر وعتمات الجسد) ص62،61 دار العودة 1979 بيروت.
[5] – يحيى الرخاوى: “دراسة فى علم السيكوباثولوجى” دار الغد للثقافة والنشر 1979- القاهرة.
– أنظر نشرة الإنسان والتطور بتاريخ: 13-7- 2008 (زخم الطاقة، والإيقاع الحيوى، واختيار الجنون) وأيضا ردى على د.رفيق حاتم فى نشرة (حوار/بريد الجمعة) بتاريخ 25/7/2008
[6] – هنرى إى: الجنون والعالم المعاصر Folie et la monde moderne، قرأت هذه الورقة فى فرنسا سنة 1969 وصورتها وأحضرتها معى ولم أعثر عليها أثناء كتابتى هذه الدراسة، ذهب فيها هنرى إى إلى أنه لكى يجن أى إنسان لابد أن يكون هناك أمامه مساحة للحركة، بها قدر من الحرية، ليستطيع أن يختار الجنون، وقد فسر فيها تراجع ظهور الجنون عددًا فى الاتحاد السوفيتى الستالينى بفرط القهر والحرمان المطلق (على ما أذكر).