نشرت فى الاهرام
25-7-2005
“باريس – ميت بدر حلاوة”، وبالعكس!
كان د. رفيق حاتم (إبني: المصرى/الفرنسى) يحدثنى عن أن أهل بلدة “ميت بدر حلاوة” قد استولوا على سوق الخضار (الهال)، فى باريس، هبـت على رائحة هذا السوق الأشهر وأنا فرح بشطارة أهل بلدى فى كل مجال، فى كل مكان، ليس فقط فى البحث العلمي، وإنما فى سوق الخضار، فلماذا هم ليسوا كذلك فى سوق السياسة والانتخابات والبحث والابداع فى بلدنا هنا والآن ؟!!!.
انتقل حديثنا ونحن على شاطئ دهب جنوب سيناء إلى مفاجأة الـ”لا” الفرنسية للدستور الأوربي. قال إبنى: قبل التصويت، كانت أغلب وسائل الإعلام والمسؤولون والمثقفون والعالمون ببواطن الأمور وظواهرها، يتوقعون أن نتيجة الاستفتاء سوف تكون “نعـم بشكل مريح، لكنها جاءت بوضوح أنه: “لا”. سألته وأنا أتباهى بصوته الانتخابى (القرعة تتباهى بشعر بنت اختها”) وأنت، وزوجتك (ابنتى أيضا)؟؟، فأجابا انهما قالا “نعم” لصالح مزيد من قدرة أوربا المتحدة فى مواجهة أمريكا، ثم أشار لمحاولاته إقناع كبرى بناته ياسمينة (حفيدتي)، مع أنها لم تستعمل صوتها (يا فرحتى: لى ثلاثة أصوات تقرر مصير أوربا، مقارنة بصوتى الهزيل الموقوف عن التفعيل). ثم أردف: أثبت العامة أنهم قادرون على تحدى وصاية الإعلام والواقع الحساباتي، حتى لو بدا ذلك ضد مصلحتهم. ثم أضاف: يبدو أن الخوف على الهوية، يغلب على الحسابات وأرقام المكاسب، وضغط الواقع، وتلويح الوعود.
قبل ذلك (25 يونيو 2005) كنت قد قرأت فى إذاعة لندن العربية، تعليقا جميلا (أنور حامد) يفسر هذه الـ “لا الفرنسية”تحدث فيه عن اختلاف العادات الغائر فى مختلف الثقافات، بما فى ذلك الثقافات الفرعية، وضرب مثلا بطقوس عرض تقديم قدح قهوة على الضيف فى كل من هولندا وفرنسا وإسبانيا (مع تلميح إلى الإكراه بالكرم المصري)، وانتهى إلى أن العادات والتقاليد تبدو أعمق غورا من البيانات والدعاية. ثم إنه عرج إلى ذكر حديث بين شاب إنجليزى يسأل بائعة فرنسية صديقة سؤالا بإنجليزيته المصقولة فتجيبه البائعة بفرنسية واضحة لم يفهم منها السائل حرفا، وحين عاتبها الكاتب صاحبها أوضحت: “أنت تعرف أننى أتحدث الانجليزية بكل سرور فى مدريد أو القاهرة، ولا أتبجح بلغتى الأم فى بلد غريب…. ماذا يتصور هؤلاء الانجليز؟. هم يرون من الطبيعى أن يتحدثوا إلى أى شخص فى أى مكان فى العالم بلغتهم، ليرد بها!”.
رحت أقارن ذلك بما يجرى حولى هنا ونحن نرطن مع بعضنا البعض، بلغة هجين، تعلن النقص، والشعور بالنقص معا، من أول محاضرات كلية الطب، حتى لافتات المحلات.
فى نفس الوقت انتبهت أننا على الناحية الأخري، نخلـق هويات فرعية عنصرية متشرذمة: فى الملبس، والشعارات الدينية على زجاج العربات، والرد على السلام، وعلى الهاتف. نحن نتنازل عن هويتنا الوطنية والقومية واللغوية، لنبتدع هويات شكلية، بلا محتوى إبداعى متميز.
بدت “لا” الفرنسية للمراقبين غير موضوعية، ومع ذلك قالها الناس، فاحترمها الموافقون والمسئولون، فى كتمة ساهمة، لحين إشعار آخر، إشعار يتخلق من واقع حركية الناس وهم يبحثون عن “نعم” أخري، أرحب وأضمن، يفعلون ذلك بجهد مثابر وإبداع مغامر.
على من يريد أن تتميز هويته فعلا أن يستوعب الهوية العامة المتخلقة هذه الأيام عبر العالم، لا الهوية الأمريكية الاستهلاكية المتسلطة، ولا الهوية التاريخية المتحجرة، يستوعبها لا ليستسلم لها، وإنما ليضيف إليها. إن خشية إبنى حاتم من ديماجوجية “لا” الفرنسية لم تمنعه من احترام بعض دلالاتها الدافعة لبدء البحث عن حل ثالث لعله يتجلى فى استفتاء قادم.
هذه بعض معالم الجميلة اللعوب العرجاء التى – برغم قلة ديمقراطيتي- أدعو لها بدوام الصحة، وزوال الإعاقة، كما أدعو لنا بالصبر على مخاطرها حتى نبدع منها وبها ديمقراطية أجمل واقدر وأصدق.