نشرة “الإنسان والتطور”
السبت: 23-11-2019
السنة الثالثة عشرة
العدد: 4466
الكتاب الثالث:
“عن الحرية والجنون والإبداع” (1) (الحلقة الثانية عشر)
…………
…………
الحل الإبداعى
الحل الإبداعى يصبح مطروحاً ومتاحاً من خلال درجة ما من الوعى الغامض بأن المُدخلات لم تُتَمثل، وأنها فى نفس الوقت لم تستقر، ثم أيضا أنها مازالت فى المتناول (أى لم تتناثر أو تستقل أوتسقط أو تغترب تماما). فى هذه المرحلة بالتحديد تظهر أهمية المتغير موضوع هذه الدراسة وهو “طلاقة” حركية التوجه لتحقق الحرية الأصيلة فى فعل الإبداع، فبقدر توافر هذه الحركية فى التوجه لإعادة التنظيم يتحقق البديل الإبداعى بإعادة تنظيم هذه المدخلات فى ناتج متجدد مبدع (بما فى ذلك إبداع الذات).
إن درجة من الاختيار هنا قائمة من حيث المبدأ، لكنها تزيد وتنقص بحسب المعطى من الفرص فى الخارج والداخل، وهى ليست قاصرة على إرادة واعية مختزلة، وقد أوضحت فى دراسة الإيقاع الحيوى (الفصل الأول) (2)، أن وظيفة الحلم هى محاولة إكمال استيعاب هذه المعلومات المدخلة الناقصة التمثل، كما ألمحت بعد ذلك - فى فرض الجدلية (الفصل الثانى) (3) إلى كيف أن وظيفة الإيقاع تتآلف مع الجدلية فى الحياة اليومية وتتبادل مع الإبداع ومشروع الجنون بشكل يجعل الحل الإبداعى فعلا يوميا متاحا للجميع، ويجعل الناتج الإبداعى مجرد احتمال قائم.
هل معنى ذلك أن ثمة حرية تمارس دون إعلان أنها حرية؟
الإجابة هى: نعم
لا أحد ينمو بهذه الحركية المستوعبة لمدخلات الخارج بتنوعها إلا باختيارات متداخلة يقوم جماع وعيه بتشكيلها فى الحلم والممارسة اليومية دون تعليق هذه اللافتة (الحرية) التى كثيرا ما تعلن حروفها عكس ما يجرى تحتها..
الذى يبدع ذاته ويسهم فى تغيير محيطه فينمو ويتغير بالرغم من كل شىء، هو يمارس حريته دون أن يعلن أى شىء.
الإرادة وتدريب الموهبة وفعل الإبداع
للإرادة مستويات وتجليات، وهذا بعض موضوع هذه الدراسة، إلا أن الإرادة لا تتحدد بشكل كاف فى المظهر الخارجى والاختيار الحاسم الواعى كما ذكرنا سالفا، إن قدرا مما يسمى “اللاإرادة” هو إرادة مبدعة كامنة (4) تتخفى تحت اسم اللاإرادة أو الإلهام أو الوحى، مع أنها تكون هى صاحبة القرار الأساسى فى تشكيل ما تحرك جاهزا لفعل إرادة الإبداع المشتملة. لم تأخذ الإرادة الظاهرة أكبر من حجمها فى فعل الإبداع إلا عند بعض غلاة السلوكيين الذين يتصورون أن التدريب على القدرات أمر ينتهى إلى حفز الإنسان إلى الوعى بإمكانية الاختيار الحر من خلال إرادة مشحوذة بالمهارة اللازمة لتحقيق فعل الإبداع. إلا أن هذا التدريب ليس بديلا عن الاختيار ولا هو مساوٍ له، إن التدريب يؤدى إلى اتساع مساحة الفرصة التى تسمح باختيارات أكثر، لكنه فى ذاته ليس اختيارا لفعل الإبداع لحظةَ مغامرة الاختراق. التدريب يسمح باتساع المجال وامتلاك الأدوات، وحفز الحركة، وإمكان تعتعة المفردات لإعادة تركيبها، أما فعل الإقدام بوعى متكاثف (5) إذْ يعلن إرادة الإبداع، فهو أمر آخر، ثم إن إرادة الإبداع ذانها قد تتفجر من عمق اضطرار ما، فكثيرا ما يُخرج الاضطرار أعظم إنجازات الإبداع.
إيجابيات ظاهرة سلبية (فى مجال الإبداع/الحرية)
إذا اقتصر الأمر على أن تكون الذات مجرد وعاء لاحتواء الخارج، والتلون بلونه، دون جدل أو ولاف فإن توقف النضج، هو النتيجة الحتمية، وهذا النوع من الوجود هو أقرب ما يكون إلى ما أسمته هيلين دويتش (6) شخصية كأن “”as if personality، وقد رأيت مؤخرا أن المسألة ليست مجرد وعاء ليس له لون إلا بما يوضع فيه، وإنما يصل الأمر أحيانا ببعض أنواع هذه الشخصية إلى أن عملية التقمص تكون شديدة الحذق والمهارة حتى تجعل صاحبها (الإناء) يفوق ما يوضع فيه (أى يبز مَـنْ تقمصه فيما يتميز به). ثم رأيت رؤية ثالثة -فى نفسى قارئا ومنشئا وناقدا فى مجال الأدب خاصة- حين تبينت أن المبدع لا بد وأن يتمتع بقدر من هذه الشخصية “الكأنية”، حتى يستطيع أن يعيش نبض شخوصه المستمدة من مواقعه من ناحية، أو نبض شخوص النص أمامه حسب موقعه إن كان متلقيا ، وأنه بقدر قدرته على ممارسة هذه الظاهرة الكأنـَية - شريطة أن يحتفظ لنفسه بقدر نشط من ذاته ليظل صاحب الكلمة النهائية- تكون قدرته على احتواء الواقع ثم إعادة إفرازه: سواء كان هذا الواقع هو واقع الحياة (أبجدية الإبداع) أم واقع النص الأدبى (لمعايشة النقد).
ولعل الإبداع فى “التمثيل” خاصة يأتى من فضل هذا الوجود الكأنِى.
ما أريد أن أوضحه هنا الآن هو أن الفرق بين “الكأن” الذى يعتبر مرضا واضطرابا فى الشخصية، وبين “الكأن” المبدع، هو مرونة الأخير وحركيته ودرجة وعيه التى يحافظ بها على استمرار الإمساك بناصية الحركة معظم أو طول الوقت، وقد صور سارتر صعوبة هذه التفرقة بين الاضطراب والإبداع فى شخصية الممثل “كين” (7)
المكان/ الساحة/ المساحة: مجال الحرية
حين تحدثنا عن الزمن خيل إلينا تحقيق قدر من استيعاب أبعاده من خلال كل من “النسبية”، والتعامل معه باعتباره “مكانا” يـُرتاد، وكأن التعامل مع المكان هو أكثر ألفة وتحكما، وواقع الأمر أن مفهوم المكان ليس مفهوما منبسطا محددا كما يبدو لأول وهلة، وبما أن الحرية هى “توجه حركية الوجود..” إلخ، فإن طبيعة المكان ومساحته لا بد أن تحدد هذه الحركة أو الحركية.
ساحة الحركة فى مسألة الإبداع هى داخل الذات، وهذا لا يعنى بأى حال من الأحوال الانفصال عن الواقع الخارجى أو إهماله، بل إن الذات المبدعة تصبح الساحة المُمَثِّلة لكل من الواقع والذات فى آن، ولكى تتمتع حركية الوجود بالقدرة المناسبة على الإبداع يجدر أن تتوفر فيما هو مكان/ساحة/مساحة الذات المبدعة بعض المواصفات، مثل أن يكون المكان الساحة/المساحة:
1- مُحكما، وفى نفس الوقت ذا نفاذية كافية.
2- مُمتدا وفى نفس الوقت محدودا فى لحظة بذاتها.
3- مَرنا وفى نفس الوقت مستقل النبض منتظمه.
4- حاويا لوفرة كافية من المعلومات والموضوعات والذوات والأزمنة، وفى نفس الوقت غير مزدحم.
5- ذَا مسافات متغيرة متقاربة بين مفردات محتواه، وفى نفس الوقت غير متلاصقة.
6- ألا يكون مكانا معينا بذاته فى مستوى وعى واحد بمعنى مشروعا دائم التكوين اتساعا وتنظيما وحركية وتبادلية.
وبقدر ما تكون هذه المواصفات متوفرة تكون احتمالات الحرية قائمة وقادرة، ومن ثَمَّ الإبداع.
ليس هنا الآن مجال لشرح كل هذه المقومات بالتفصيل، فضلا عن أننى سبق لى أن شرحتها جزئيا فى الفصلين الأول والثانى.
تكامل الفروض
إذا كان فرض “جدلية الجنون والإبداع” قد قدم لنوع العلاقات بين المفردات والمستويات، وكان فرض “الإيقاع الحيوى” قد قدم حقيقة التناوب المنتج للإبداع وللحياة، فإن فرض “الحرية” هذا يقدم طبيعة الحركة ومآزق الاختيار فيما هو توجه فى المكان والزمان معا.
من المهم أن “نرى” تلك المساحة التى تتحرك فيها أبجدية الإبداع بقدر ما نرصد المسافة بين قطبى الاختيار، إذ كلما زادت المسافة بينهما زاد احتمال الوقوع فى التناثر الجنونى بدلا من الإبداع الفائق. هذا البعد التركيبى الداخلى هو بين قطبى الاختيار، وليس بين الحالة الداخلية والحالة المعبر عنها وهى أقرب إلى المسافة التى رصدتها خالدة سعيد فى قراءتها أنسى الحاج (8) ، وأقرت أن قربها يتميز به الشعر فى حين أن بعدها يتميز به النثر، بل إننا نستطيع استنتاج معادلة تقول إن عبور المسافة الهائلة فى المستوى الثالث (أتجمد أو أطفر) إبداعا، إنما ينتج عنه تقارب شديد حتى التكثيف فى التركيب الداخلى ثم فى التركيب الداخلى/ الخارجى مبدعا مما يتفق مع ما ذهبت إليه خالدة فى النهاية.
………
ونكمل الأسبوع القادم بعرض “تطبيقات فى المرض والعلاج”
[1] – هذا هو الكتاب الثالث باسم “عن الحرية والجنون والإبداع” نشرت صورته الأولى فى مجلة فصول– المجلد السادس – العدد الرابع 1986 ص(30/58) وقد تم تحديثها دون مساس بجوهرها، وهو الفصل الثالث من كتاب “حركية الوجود وتجليات الإبداع” الصادر من المجلس الأعلى للثقافة -القاهرة، والكتاب يوجد فى طبعته الأولى 2007 وهذه هى الطبعة الثانية بعد أن قُسم إلى أربع كتب أضيف إليها ما جدَّ للكاتب بين الطبعتين، وهذا الكتاب هو الثالث.
[2] – الفصل الأول باسم “الإيقاع الحيوى ونبض الإبداع” من (ص 10 إلى ص 140)
[3] – الفصل الثانى باسم “جدلية الجنون والإبداع” من (ص 142 إلى ص 280)
[4] – كما يقول نزار قبانى ” تأتينى القصيدة … ومن جديد تجمع البروق وتلاحقها، تحدث الإنارة النفسية الشاملة،.. وفى هذه المرحلة فقط أستطيع أن أتدخل إراديا فى مراقبة القصيدة ورؤيتها…” (نزار قبانى: قصتى مع الشعر- بيروت 1974 )
ويقول أدونيس: “…إنها (القصيدة) عالم ذو أبعاد …تقودك فى سديم من المشاعر والأحاسيس، سديم يستقل بنظامه الخاص، تغمرك، وحين تهم أن تحضنها تفلت من بين ذراعيك كالموج” (أدونيس، زمن الشعر- دار العودة- 1971 ص235)
وفى خبرتى الشخصية صغت بعض ذلك شعرا:
” تدق بابى الكلمة، أصدها، تغافل الوعى القديم، أنتفض، أحاول الهرب، تلحقنى، أكونها، فأنسلخ.
قصيدة: “لست شاعرا” الديوان الثانى: “شظايا المرايا” ثلاثة دواوين (1981 – 2008) منشورات جمعية الطب النفسى التطورى 2019
وفى كل هذا يبدو أن الإرادة بالمعنى السلوكى الشائع كاختيار واع بين بدائل محددة بمعلومات كافية هى أمر غير وارد كما يتبادر عادة.(مزيد من الامثله فى الفصلين الاول والثانى)
[5] – لفهم ماهية الحرية التى تنبع فى مجال الاضطرار نقدم بعض الشواهد من الممارسة الإكلينيكية والذاتية كما يلى:، نظرا لصعوبة مسيرة العلاج الذى أمارسه، فإن المقاومة التى أواجهها مع المريض، وخاصة فى بدايات الرحلة العلاجية جعلتنى أوقن أنه لابد أن يضطر لعبورها معى، وأن مسألة الاختيار من البداية هى خدعة لا تؤكد إلا السلبية، وقارنت ذلك بالاضطرار البقائى على مسار التطورالحيوى، فلو لم يضطر النوع أن يعيش فى ظروف صعبة لانقرض، لكننى لاحظت أن الاضطرار يكون فقط فى عرض البدايات، وتوفير المعلومات عن البدائل، وبعد ذلك لابد للمضطر أن يختار، فالاضطرار هنا هو اضطرار للجذب إلى مجال الاختيار، إذ لو استمر الاضطرار لاستحال إبداع النمو بأى مقياس، وقد صغت ذلك فى إحدى طلقات ” حكمة المجانين”(بعد معايشة الجنون أيضا، يحيى الرخاوى حكمة المجانين، دار الغد 1982)، فقلت”لا يتطور إنسان باختياره، ولا يكمل الطريق إلا باختياره”.
ويمكن – من خلال هذا وذاك – فهم كيف أن المبدع المأجور، الذى يضطر للكتابة بعقد معين فى وقت معين (مثل دوستويفسكى حين يضطر أن يتعاقد على رواية مسلسلة لمجلة بذاتها لعدد معين من الصفحات وإذا به يخرج أروع أعماله من خلال ذلك) هذا المبدع يمكن أن يعطى أعظم عطاءاته لمجرد أنه مضطر أن يمسك القلم حتى لا يجوع مثلا.
وفى خبرتى شخصيا لم يخرج أهم أعمالى (دراسة فى علم السيكوباثولوجي) إلا لاضطرارى أن أعطى عملا لعامل طباعة ظل يعمل معى فى غرفة ملحقة بالمنزل (بالجراج)، توفرت بها مجموعة كاملة من صناديق الحروف التى كنت قد تورطت فى شرائها لطباعة عاجلة لمؤتمر علمى ما، وذلك قبل تيسيرات إمكانيات الطباعة الحديثة، ولما تورطت فى استخدام هذا العامل لجمع الحروف لفترة محدودة وفى انتظار أن يجد هذا العامل عملا ظل يعمل معى عدة أشهر; فاضطررت أن أكتب له ما يشغله حتى يجد عملا، فقمت بكتابة عدد معين من الصفحات يوميا حسب طلبه، فإذا بأكبر أعمالى وأهمها فى الطب النفسى يخرج إلى النور (دراسة فى علم السيكوباثولوجى، 1979).
[6] – هيلين دويتش Helen Dutch شخصية كأن، As-lf
[7] – سارتر: حياة مايكل كين منذ ولد في جنوب شرق لندن عام 1933 وقد راح في بداية حياته السينمائية يقبل أدوارًا لم يعد يمكنه الدفاع عنها، كما صور صراعه فى محاولة التخلص منها، أو من آثارها بعيدا عن التمثيل.
[8] – خالدة سعيد “حركية الإبداع”. ص 62-92 – دار العودة بيروت: والأمثلة تفوق الحصر، سواء فى استعمال لفظ الجنون فى نص العمل الأدبي-الروائى بصفة خاصة، أو فى وصف الخبرة الذاتية للمبدع (كمثال: وصف شعر أنسى الحاج: “بالجنون ينتصر التمرد”، أو فى النقد “. بهذا المعنى يكون الجنون هو: السبق، ونقض المصطلحات وخرق العادة، وتجاوز دائرة المعقول”)