نشرت فى مجلة سطور
عدد ديسمبر – 1998
”الحقيقة”هى الحركة المرنة المتخلقة فى اتجاه “الحقيقة”
من نافلة القول أن نقول إنه لايوجد شئ إسمه الحقيقة، وإنكار وجود الحقيقة – بالمفهوم الذى يلوح به بعض غلاة العلماء، أو بعض متعصبى الأديان ولأيديولوجيات- ليس موقفا عدميا أو مثاليا، وهو لا يعنى ما قال به بيراندللوا (ومثله كثيرون) فى مسرحيته الجميلة “لكل حقيقـته”، ولكنه إلزام متجدد بدوام السعى إلى تخليق الحقيقة المتحركة القابلة للتعديل والتشكيل باستمرار الحياة، واستمرار المحاولة.
فالأمر الآن يمكن أن يوجز فى فرض يقول: الحقيقة هى موضوعية وسلامة وصحة منهج السعى إليها، وحين نذكر كلمة المنهج، يقفز إلينا فى مجال العلم- متصدرا- المنهج التجريبى بما يعنى من حتم الإعادة والمقارنة، وهو منهج أحسن ما يقال فيه أنه قد يظهر بعض سطح الحقيقة دون سائرها، فإذا حل هذا الظاهر الجزء محل الكل فإنه يبعدنا عن الحقيقة لا يقربنا منها، أما فى مجال السياسة فإن الحقائق تختفى وراء مناهج حسنة السمعة ضعيفة المصداقية، مثل منهج الديقراطية، والتاريخية، والمفاوضاتية، وحتى منهج الحرب (وهى إحدى لغات السياسة) كلها مناهج تجعل من الأقوى، ومن الغالبية (بغض النظر عن نوعيتها) هى الوصى الشرعى الذى له الحق فى الإفتاء بما هو حق أو حقيقة.
وحين يحتار الإنسان بين هذه المناهج الناقصة، أو الزائفة، تقفز إليه مناهج بديلة تترجح بين أقصى الزيف، مثل ألعاب الحدس البدائى، والشطح الجماعى، والوهم المتناثر البراق، وبين أقصى الوثقانية الكلية الواعدة بالمعرفة الكلية المباشرة والتى تتمثل فى الإلهام الدينى والسعى الصوفى الجاد المثابر.
وحتى لا نـتمادى فى تنظيرات مجردة دعونا نطرح بعض التساؤلات والأمثلة لأشباه الحقيقة
أولا: هل حقيقة أن الصحيح نفسيا هو الشخص الذى يشبه سلوكه أغلب الناس، ويستطيع أن يتشكل كما يريدون، وأن من حاد عن السواء الإحصائى لعامة الناس، يمكن أن يوصم بوصمة المرض؟
ثانيا: هل حقيقة أن من يجمع عليه أغلبية المشاركين (فى الانتخابات العامة، أو مجلس الشعب، أو مجالس الكليات أو مجالس تحرير الصحف أو أى مجالس من أى نوع) هوالأقـرب للحقيقة، أم أنه الأقرب إلى احتياجات هؤلاء الناس فى هذه اللحظة الزمنية، حتى لو كانت هذه الاحتياجات هى الانتحار نفسه (تصور لو أجريت عندنا آنتخابات حرة فعلا ورشح المتدينون- الخصوصيون جدا- أنفسهم نيابة عن الله سبحانه وتعالى، فأى حقيقة يمكن أن يملثلوها مع كل هذه الديمقراطية).
ثالثا: هل ما تنتهى إليه النتائج العلمية جدا،هو الحقيقة، أم أنه مرحلة إلى الحقيقة ما دام العلم – بالتعريف – هو مفتوح النهاية أبدا وقابل للتفنيد ( بل للتكذيب) والمراجعة دائما.
نقول، بعد أن نتوقع إجابات مناسبة لهذه الأسئلة أوالأمثلة، إننا لا نملك إلا السعى، ثم السعى، ثم السعى إليها،لا أكثر.
فالساكن لا يصل، من موقعه (حتى لو كان متأملا فى المحل) إلى أى حقيقة كافية.
فهل يصل من يتحرك – جدا- إلى الحقيقة بالضرورة؟
الإجابة: ما زالت تحتمل النفى، فثمة حركة تبدو شديدة النشاط، شديدة الحماس، شديدة الحرارة، ولكن بتتبع خطواتها بأمانة كافية، و بتقييم موضوعى لنتائجها المرة تلو المرة، قد نكتشف أنها حركة “فى المحل” أيضا، وأنها ليس إلا إعادة لنص فاشل، سبق أن تكرر واعدا المرة تلوالأخرى، يحدث هذا فى أبسط مظاهر السلوك، مثل تكرار تجارب الحب أو الزواج الذى يتم فيها انتقاء الحبيب الجديد(أو الشريك الجديد) بنفس مواصفات القديم (مع تغير الإسم والعنوان وظاهر الصفات) ثم يتسلسل النص العاطفى حتى يتم الفراق أو الطلاق المرة تلو المرة بنفس الطريقة، ونفس الخطوات، ونفس النهاية، ثم، من جديد، وهكذا، يتكرر مثل ذلك مع المدمن الراجع، كما يمكن أن تكتشفه فيما شئت من التجارب البشرية فى مجالات الثراء الاستهلاكى التفاخرى، أو مجالات التعصب الأيديولوجى أو الدينى أو الوطنى، أو حتى بعض مجالات البحث العلمى الكمى، ولا يخفى أن مثل هذا “النص المكرر” لا يمثل الحقيقة بل يؤكد القصور عن الاستفادة من الوعى بالخطوات إليها، والعجز عن التعلم من نتائج الفشل عن تحقيق خيالاتنا عنها.
حتى العلاقة بالآخر كموضوع حقيقى (من حيث أنه - الآخر- وليس مجرد مسقطا لاحتياجاتنا) مثل هذه العلاقة لا توجد إلا من خلال “برنامج الذهاب والعودة” منه وإليه، ذلك البرنامج الذى يسمح لنا بإعادة الرؤية، وهو البرنامج الذي - إن صح- يسمح لنا أن نـتخلق فى حضور آخر يتخلق بنا ومعنا طول الوقت (فلا علاقة ولاخصوصية جدا بالمعنى الشائع فى الحب)
والحركة إلى الحقيقة، التى أزعم أنها هى هى الحقيقة، لا بد أن تكون لها مواصفات موضوعية محددة ، تجعلها فعلا إبداعا متجددا يخلق حقائقه المرحلية باستمرار، ومن هذه المواصفات
أولا: ألا تبدأ الحركة من فراغ، إذ لا بد أن تكون بدايتها محتوية تاريخها.
ثانيا: أن تقبل الحركة – رغم جدتها- أى قدر من التكرار المشروط (المشروط باحتمال مغامرة تغير نوعى ولو كان شديد الضآلة لا يمكن رصده ابتداء).
ثالثا: أن تقيس نجاحها وفشلها بنوعية التعلم المغير للمنهج، بدءا بمنهجها ذاته.
رابعا: أن تقبل التبادل الإيقاعى مع السكون الإيجابى، بمعنى ألا تكون حركة طول الوقت، وأعنى بالسكون الإيجابى ذلك النوع من التلقى المستوعب لمزيد من المعلومات التى تصبح ذخيرة الطور الأتى من حركة متجددة .
خلاصة القول: أن الإنسان الساعى إلى الحقيقة هو إنسان قادر على ممارسة الإيقاع الإبداعى بين السكون المسـتوعب، والحركة المهددة بالتحول، وهو الإنسان المغامر طول الوقت وهو يكابد أشرف ما تتميز به محنة الوعى والحرية من حتم التغيير إلى ما لا يعرف، باستعمال كل ما يعرف.