“نشرة” الإنسان والتطور
16-3-2009
السنة الثانية
العدد: 563
يوم إبداعى الشخصى:
قبل النقد:
هذا يوم إبداعى الخاص، تركت مساحته لبداية نقدية واعدة قامت بفتح باب نحن فى أشد الحاجة إليه، فى تناول هذا العمل الذى لا يحتاج نقدا واحدا، بل نقدا على نقد على نقد على نقد على نقد، طبعا أعنى النص اللحن الأساسى، فليس من حقى أن أصف اجتهادى على النص الأساسى بتقاسيمى المتواضعة، ومع ذلك أسعدتنى هذه المبادرة بما أظهرت، وبما وعدت، حين تكتمل بإذن الله، حين تصبح كل التقاسيم فى متناولها.
أكتفى بهذا القدر شاكرا فرحا، وأعتبر أن يوم إبداعى الخاص، هو يوم أن تلقيت هذا النقد الخاص، الذى كنت ومازلت أنتظره، وقد أثار فى تساؤل جديد عن مدى توفيقى فى النقلة من النقد النقد للنص الأساسى، إلى هذا النقد التقاسيمى لقيمة الأحلام.
فادعونا نقبل إبداع الناقدة الجاد، ونأمل أن تواصل جهدها الواعد الرائع، ونحن نتذكر من جديد، أن النقد الذى يستحق هذه الصفة هو الذى يقوم بإعادة تشكيل النص،
وهذا بعض ذلك..
*****
ملاحظات نقدية على الأحلام والتقاسيم
د. أميمة رفعت
-1-
الأنثى
(1): الأنثى\” فى أحلام فترة النقاهة تيمة صعبة ومركبة وعميقة ولا يمكن سبر غورها فى بضعة أيام، أوإختزالها فى بضعة أسطر. وما سأكتبه هنا لا يتعدى كونه بعض الملاحظات التى لا أعتقد أنها وصلت أبدا للعمق الكافى للتيمة (إذا كان هناك ما يسمى بالعمق الكافى).
\” الأنثى\” فى الأحلام والتقاسيم فتاة شابة، وإمرأة ناضجة، وأم وأخت. وسأترك (الأم والأخت) الآن وأركز على الفتاة والمرأة. حتى تُعرض بقية الأحلام، فبالرغم من أننى أقتنى أحلام فترة النقاهة إلا أننى أقرأها من النشرة مصحوبة بالتقاسيم ولا أستبقها حفاظا على حالة التوتر والترقب الذى يخلقه جوهذا النص الخلاب.
“فتاة\” الأحلام دائما جميلة، فاتنة، رشيقة، خفيفة الحركة وكأنها النسيم، يشير إليها الراوى بأنها فتاته وحبيبة قلبه ومالكة فؤاده. هى أمنية أوحلم أووهم يحلم به الراوى ويتمناه ولا يناله، وكلما بدت أكثر حقيقية إمتلكت قلبه ووجدانه ولا يمتلك هومنها شيئا. فها هوفى الحلم (14) يتمنى أن تزوره (حبيبة القلب) فى المنام ولومرة واحدة، وعندما تأتيه (بطلعتها البهية، ومشيتها السنية، وملامحها الأنيقة) لا يستطيع حتى لمسها…فقد أتته من عالم الأموات! وكان الملاح فى (18) فتاة جميلة(إرتعش لمرآها قلبه) وحين التفت إليها اختفت وحل محلها ملاح عجوز…وفى السفينة العابرة للمحيط (27) رأى (حبيبته) فى مقدمة السفينة، ولكنها لم تتعرف عليه وتجاهلته. وفى (83) كانت فتاة (درب قرمز) أشبه بالفتاة الأسطورية تمتطى جوادا مجنحا وتتحول وهى ترتفع فى السماء إلى كوكب مضىء بينما يظل صاحبنا يرنوإليها بعينيه وهويغرق فى ظلام الليل..ويظل ينتظر وجه حبيبته الذى علمه العشق والخلود يلمع فى الفضاء مثل بقية الوجوه الراحلة (110) ولكنه لا يأتى.. ويأمل فى ظهور(الفتاة التى لا تُنسى) فى النافذة الخالية (114) ولكنها أيضا لا تظهر…
الإختفاء المفاجىء أو الإنتظار الغير مجدى ليسا الحائلين الوحيدين اللذين يمنعان التواصل بين الراوى والفتاة، فهناك من يظهر للراوى فى بعض الأحلام ينهره: مثل الحلم (25) حينما كان مع الفتاة وحدهما فى حجرته فيدخل عليهما (الأستاذ)ليذكره بحدة بواجباته ويقتلعه مما لم يبدا بعد، وآخر يحذره: (مدرس الحساب) (27) من أن يلقى بنفسه وراء حبيبته من مقدمة السفينة، وأيضا (الشرطى) (46) الذى يطارده، ثم يسخر من سذاجته عندما يلقى بنفسه من فوق البرج وراء حبيبته….ويبدوان هذه الشخصيات ما هى إلا موانع من الداخل… داخله، ربما كانت هى نفسها ذاته الوالدية التى تحذره من \”خطر\” الإقتراب، ففى الحلم 25 نجد الراوى(يعلم) بلا مبرر سابق (أن سعادته قصيرة. وأنه لن يلبث أن يفتح الباب ويجئ أحد) فيُفتح الباب فعلا ويدخل الأستاذ، بل ويبدوأيضا أن هذا المانع الداخلى كان من القوة بحيث انه إضطر لأن (ينادى رغبته) ولا تأتيه تلقائيا نتيجة اللحظة. ولا يقتصر الأمر على هذا (الأستاذ) فى نفس الحلم بل يظهر شكل آخر للذات الوالدية (حكيم صينى) يذكره قبل أن يرجع إلى فتاته بأنه موهوب (وينتظره مستقبل رائع)، فيواصل سيره وهو يعرف (ما ينتظره من وحشة). ومع ذلك فهناك أحلام تواصل الراوى فيها مع الفتاة.. ولم تكن نتيجتها مرضية…ففى الحلم (28) تعاطف مع فتاة المائدة المستديرة وساعدها ولكنه فى النهاية تعرض لإبتزاز المقامرين وكانت هى رسولهم وظل (يتوقع فضحية أوشرا)، وينقذ الصبية الجميلة التعيسة (40) من الأخ المنحرف فتتآمر مع أخيها على إتهامه باغتصابها.. ونلاحظ فى هذا الحلم تذكُرَه (كيف يتهمه أهله بالطيبة والغفلة) قبل أن يقدم على إنقاذها وأخذها إلى بيته ثم مقارنته – بعد الخديعة- بين ما يؤمن به من مبادىء وبين تحذيرات أهله ونصحهم له: (وعلى الرغم من إيمانى الراسخ فلم تغب عنى خطورة الموقف.) وأخيرا فى الحلم (15) يتعرض للرفض مرتين على التوالى عندما يتقدم للزواج من زميلتيه فى العمل فيتلقى (طعنة نفذت إلى صميم وجدانه)..واللافت للنظر أن تلك الأحلام الثلاثة الأخيرة خلت تماما من مشاعر الحب والرغبة حتى عند طلب الزواج فى (15)، فإذا كانت الخطورة تكمن فى أى تواصل بينه وبين الفتاة فما باله إذن بما سيحدث إذا أحبها أورغب فيها! ولعل الحلم (38) يوضح خوفه هذا وتردده (تكتسحه الدهشة والرغبة) عند دخول فتاة فى العشرين (جميلة ومثيرة ورشيقة) ثم (ساوره الإرتياب من ناحيتها) وبالرغم من أنها (ظهرت له… وتتبعته….وإستقرت فى منزله) إلا أنه لم (يخل من الوساوس) وأراد الهرب. وربما توضح الأحلام التالية مدى خوفه ووساوسه من دخوله فى أى علاقة حسية مع فتاته: يسبح مع (عشيقته فى مناجاة غيبت عن وعيهما الوجود) (69) ثم يفاجأ بإنذار بوجود قنبلة زمنية فيتساءل إذا كان لحبيبته (ثمة علاقة بالجريمة؟)…يتلقى الدعوة بالإختلاء بحبيبته من أمها (75) بذهول وفرح، ثم يكتشف أن الشقة التى سيختلى بها فيها تدار لأمور غير مشروعة بعلم من أمها، ونلاحظ هنا أن رجل الأمن الذى ظهر- الذى ربما كان يمثل الذات الوالدية للفتاة وليست له هوشخصيا حتى أنه وصفه بـ: (رجل من رجال الأمن) كان متواطئا هوأيضا فى هذه المؤامرة: (فوقف عند الباب زاعما الحفاظ على القانون) وعندما حاول صاحبنا الهرب – نلاحظ هنا تصرفه تلقائيا دون ظهور أستاذ أوغيره – وقف له رجل الأمن يمنعه (فتسمر فى وضعه فريسة للذهول وخيبة الأمل)…فى (96) رغب فى فتاة وجدها (تجفف جسدها العارى) فى حمامه ولكنها صدته ولم تأبه برغبته…
فتاة الأحلام إذن أكثر أمانا عندما تكون خيالا غير ملموس، وإنذارات الراوى الداخلية تحميه من المخاطر المحتمل وقوعها عند التواصل فتجنبه آلام الصد والرفض، وإحتمال الخديعة والترك. وقبل أن ننتقل إلى\” المرأة\” فى الأحلام يجب أن نقف قليلا عند الحلم (20) لإختلافه عن بقية الأحلام فى تناوله لتيمة \”الفتاة\”: نلاحظ فى هذا الحلم أنه لم تتم الإشارة إلى أن رفيق الراوى \”أنثى\” بأية طريقة، فلم يقل فتاة أوإمرأة، لم يصفها بحبيبته أوصاحبته، بل لانرى حتى ضمير المؤنث المنفصل \”هى\”، هناك فعلان فقط بهما التاء المؤنثة نستدل منهما أن رفيقته لابد أن تكون فتاة /إمرأة هما (صدَقت) و(قالت). ورفيقة الراوى معه دائما على نفس الموجة من المشاعر والأفكار والحركة والتصرف، نفهم ذلك من ضمير المتكلم الجمع فى الحلم بأكمله: (خرجنا باحثين….نظرنا إلى الهلال…. سمعنا….هللنا….أسكرنا الفرح….إلخ) حتى عندما إنفرد فى التحدث عن نفسه لم نعرف ماذا فعلت هى فى المقابل فيقول: رأيتُ (رجلا عملاقا)، (شعرتُ بأنه يجب مراجعة الموقف). وعندما خلعا ملابسهما لم نجد أية إشارة لإعجاب أوحب أورغبة حسية من أى نوع برغم كونهما رجل وإمرأة عاريين سكيرين بنشوة الفرح. فما العلاقة إذن التى تربط هذين الإثنين؟ هل هى صديقة مقربة جدا إلى نفسه؟ أم هى نفسه ذاتها؟ فهل هى ذاته الأنثوية؟ ولنلق نظرة على الحوار بينهما فى آخر الحلم (فقلت ونحن غارقان فى الظلام \”لنسبح نحوالقارب\”فقالت \”وإذا ضللنا الطريق\”؟ فقلت: \”نستطيع ان نسبح حتى الشاطئ فقالت: \”سنكون عاريين على الشاطئ\” فقلت: فليؤجل التفكير فى ذلك) ألا يشبه هذا الحوار التفكير بصوت عال… كمن يحدث نفسه؟ أيقصد الراوى ب \”غارقين فى الظلام \” ظلام الليل بعد إختفاء الهلال، أم يقصد ظلام الداخل…داخله؟ يقول الرخاوى فى قراءته للحلم (12) عن عالم الداخل:(ذلك العالم \”المثير للأعصاب\”، والذى يصلنا غامضا بما يحتاج معه إلى رؤية مخترقةْ) ثم يصف محفوظ فى قراءة الحلم (25) (بقدرته على التجول بين حالات ذاته (ذواته، منظومات وعيه)، فهل تكون هذه إحدى ذوات محفوظ فعلا. ..ذاته الأنثوية؟
****
-2-
المرأة
المقابلة الأولى لنا مع (المراة) فى الأحلام عنيفة صادمة. هى محاولة اغتصاب فى الحلم (21) لسيدة تسير على مهل، فى شارع مزدحم بالمارة، من قبل اربعة شبان. رد فعل الراوى صادم أيضا، فبرغم (الإرتياع والإشمئزاز) وقف (يراقب ما حدث) واكتفى بالأمانى أن يتحرك ليفعل هوأوغيره شيئا. وتأتى (الشرطة) للإستجواب فيظهر الشعور بالذنب ويشعر(بالخزى والقهر). فما سبب هذه السلبية؟ هل هى خوف من الاشتباك مع المعتدين؟ أم هى سلبية عدوانية تخفى وراءها شيئا آخرا؟
فإذا قارنا هذا الحلم بالحلم (58) حيث يرى الراوى فى الترام الجديد (أفعالا يندى لها الجبين) ثم يجد شابا من الخواجات (ينقض على طفلة يريد أن يلتهمها) فيحول الراوى فورا بينه وبينها. لم يكن سلبيا مع الطفلة بينما وقف يراقب إغتصاب السيدة فى تفصيل غريب (ينقضون عليها ويعبثون بها – يمزقون ثوبها ويعرون أجزاء من جسدها، والسيدة تصوت مستغيثة) وقد ظل واقفا يراقب هكذا حتى النهاية (وبعد أن تمت المأساة وفر الجناة…إلخ)، هل هناك رغبة جنسية مكبوتة تحت هذه السلبية؟ هل (القهر) الذى شعر به أثناء إستجواب الشرطة هومحاولة داخله لقهر هذه الرغبة وكبتها؟ نلاحظ فى الحلم (58) أنه بعد إنقاذه للطفلة من الخواجة، وهما على وشك الإشتباك، تظهر فجأة سيدة جميلة لتريهما \” سويا\” صورتها على غلاف سيرتها الذاتية (وهى عارية تماما) وينتهى الحلم فجأة!!…ما معنى هذه الإثارة التى تظهر فجأة؟ هل تمثل المرأة العارية رغبته الجنسية التى يحاول إنكارها وكبتها؟ ربما الأجدر بالتساؤل أولا كيف يرى الراوى المرأة فى هذه الأحلام؟
تظهر المرأة فى الأحلام (حتى الآن) قوية، مسيطرة، متحكمة فى زمام الأمور، بل وخطرة!! فهى فى الحلم (29) ذات وجه صارم ترتدى كالرجال وتسرق صاحبنا تحت تهديد السلاح بل وتلقيه خارج المصعد وهى تذكره – بقسوة- بعدم جدوى الصداقة بعد أن فقد أصدقاءه وهويدافع عنها.. هذا الحادث يدخل فى قلبه الشكوك بعد ان كانت نظرته للمرأة فى أول الحلم متسامحة وأقرب إلى السذاجة، فيشعر أن (حوادث كهذه تتربص به هنا أوهناك)
وفى الحلم(31) إمرأة محاطة بالكلاب الشرسة وبمقدرتها وحدها (ان تقوم بالخدمات) أو(تفنى من تشاء)! ويستسلم الراوى (أذعنت، ووقفت أمامها فى خشوع) يطيع أحكامها الآمرة الناهية دون أن يفعل شيئا متعللا (بالأمل).
يختلف الأمر قليلا فى الحلم (49) فتختلط السطوة بالإثارة (سيدة جميلة) تدير أعمالها بشروطها الخاصة (فالأجور تحدد تبعا للإتفاق معها) فيخشاها الراوى ويشعر بأن (الأخذ برأيها يجعلهم تحت رحمتها) عند هذا الحد كان الراوى يفكر ويجادل ويطلب تأجيل القرار حتى يكمل المناقشة فى جلسة أخرى، ولكنها تظهر بصورة أخرى فى الحفلة الموسيقية (ولا يدرى إلا والسيدة تتجرد من ثيابها وترقص عارية وبصورة غاية فى الإثارة)! وبسرعة يقرر الراوى الهرب… فيهرب من الشركة كلها وصاحبتها. مرة أخرى نجد المرأة عارية بل وبإثارة شديدة، هل هكذا تدير شركتها؟ أم أن هذه الصورة تجسيد للرغبة التى أثارتها داخله هذه المرأة القوية، وبمجرد أن شعر بها الراوى أنكرها وهرب؟
فى الحلم (50) (يتطلع) الراوى – مجرد تطلع – إلى (إمرأة فاتنة). فيظهر له فجأة من يشبه القواد، يزين له المرأة وسهولة التواصل معها، ويصفه الراوى بانه (برًاق العينين، منفر) ولكنه فى البداية لم يصده. وبعد المقابلات والملاحقات – من قبل القواد- التى لم تسفر عن شىء (يخشى على سمعته) فيحاول التخلص منه.. ويفشل. يقول الرخاوى فى قراءته لهذا الحلم: يقفز لى (من الداخل) هذا التفسير جاهزا كلما لاحت لى تنويعات الملاحقة فى الإبداع والمرض على حد سواء،).. فربما أن هذا القواد القبيح إذن ليس إلا رغبته الجنسية التى يحاول الهروب منها حتى أنه ترك المدينة بأكملها (وقرر الإنتقال إلى الإسكندرية) فوجد ملاحقه فى إنتظاره على المحطة بمجرد وصوله.. فرغبته لم تفارقه أبدا!
وكأن صاحبنا ملً هذه الرقابة الداخلية التى تمنعه من الإستسلام لأحاسيسه وتشوه له الرغبة، فقرر فى الحلم (54) أن يتمرد…. فهاهى الرقيبة – التى ربما تمثل الذات الوالدية الأم – يصفها الراوى بأنها (سيدة من أهل البيت لعلها أمى أوأخرى فى منزلتها) تراقب (بريبة) خلوته- التى تبدوبريئة- مع المذيعة. فيتمرد صاحبنا على غير عادته…ويتحدى (بصورة غير مسبوقة) فيندفع ناحية المذيعة أمام عين الرقيبة ويضمها إلى صدره، فيرتاح (لم أعد أبالى شيئا) وتختفى المرأة التى تراقبه من الحجرة (بل من البيت كله)…. وهكذا يتحرر من هذا الضغط الداخلى.
تختلف الأمور قليلا، ويحاول الراوى الإستسلام دون إستجابة حقيقية أوتفعيل لرغبته، ولكن على الأقل دون هرب، يبدأ الحلم (64) بشعور الراوى بالرعب الشديد، فعلى بعد ذراع منه (ثلاثة كلاب ضخمة متوحشة) تريد الإنقضاض عليه، لولاسيطرة إمرأة عليهم بالكاد، وعلى يمينها (كلبة فى ريعان الشباب آية فى غزارة الشعروبياضه ونعومته، تشاهد…. فى قلق).
هل يمكن وصف الكلبة بأنها (فى ريعان الشباب)؟ أوحى إلىَ هذا الوصف بأن هذه الكلاب ما هى إلا صفات لهذه المرأة التى تظهر فى خلفية الصورة دون ملامح أومشاعر أوحركة. فالكلاب الشرسة هى عدوانيتها التى تسيطر عليها بإستماتة خوفا من أن تفلت منها والكلبة الجميلة ما هى إلا أنوثتها الطاغية القلقة. (إشتعلت الرغبة المتأججة) فى عيون الكلاب الشرسة (فوثبت على المرأة) للتخلص من سيطرتها – وهنا نلاحظ إختفاء صورة المرأة من المشهد فجأة والتركيز فقط على الكلاب – وإرتمت عليه الكلاب – نلاحظ أيضا أنه لا يوجد أى تلميح عن ضرر أوأذى يحل بالراوى – ماذا فعلت هنا الكلبة الجميلة؟ تطلعت فترة ثم ترددت لحظة ثم (ألقت نفسها فى المعركة دون مبالاة بالعواقب) أى عواقب يمكن أن تفكر بها الكلبة؟ الأرجح أنها العواقب التى يخشاها صاحبنا، وليس الكلبة، من هذه العلاقة العنيفة والتى ترك نفسه لها دون هروب أومقاومة رغم رعبه الشديد فى أول الحلم…
تتغير الصورة كلية فى الحلم (81) فالمرأة هنا (هانم تتهادى فى أبعادها الفتانة)، الخلفية (بهوراعه جماله وضخامته)، وتعزف الموسيقى لحن الإقبال. الهانم (بحركة رشيقة) تشهر كل أسلحتها فى وجه الراوى (ثديين ومسدس أنيق) وتبدأ بعدوانيتها المثيرة، فتصوب المسدس تجاه صاحبنا الذى يتجمد فى مكانه أولا من المفاجأة، أوربما من الخوف، (فينسى الخطاب) ثم يبدأ فى الإنصهار، ربما من الإثارة، قبل حتى (أن تلمس الهانم زناد المسدس). المشهد يكاد يكون صامتا لولا موسيقى الإقبال، ساكنا لولا الحركة الرشيقة للهانم والإنصهار البطىء للراوى، مثيرا رغم المسافة التى تظل بينهما وعدم إقدام أى منهما على أى خطوة أخرى. مثل الحلم السابق، المرأة هى التى تبدأ وهويتلقى بإستسلام…
ربما تلقى \” الأحلام\” بعض الضوء على العلاقة بين الجنس والعدوان، فكيف تناولتها التقاسيم
*****
-3-
التقاسيم
بدأت التقاسيم على تلك التيمة (الأنثى) متأخرة فحرمتنا من تتبعها منذ البداية . لكن ما نأسف له هونفسه من حسن حظنا . إذ مكننا هذا التأخير من الإطلاع على قراءة نقدية فى غاية الثراء للرخاوى. مثل قراءة الحلم (7) والحلم (13)، حيث لم يهرب راوى الأحلام من فتاة الحلمين رغم أن الأولى فتاة ليل والثانية إبنة ريا، ورغم قلقه من التواصل مع (الفتاة) عموما، إلا أنه يتردد قليلا ثم يقرر المغامرة فيتبعهما . يقول الرخاوى فى قراءة حلم (7) (هل هوتسليم أن هذا النوع من التواصل العملى الوقتى الصفقاتى هوالمتاح؟) ويقول فى (13) (هل يقول لنا الحلم شيئا عن طبيعة نقلات النمو، وضرورة استيعاب الواقع) مع اليقين بتحرك الزمن من ريا إلى ابنتها، وتحمل الانفصال الواعد المؤلم، جنبا إلى جنب مع التردد البالغ فى العنف، وتوقع المجهول تحت مظلة الرعب؟).تحليله للقهر الداخلى الذى شعر به الراوى فى (21) بعد سلبيته مع السيدة المغتصَبة، و\”الذات المحورية\” فى الحلم (25) لتفسير (إنتزاع الراوى لنفسه) من أمام فتاته، والغوص فى أعماق الراوى بعد أن رُفض كخطيب للموظفة الحسناء ثم الأقل حسنا وتفسيره لتأثير هذا الرفض عليه فى إطار العلاقة بالآخر ….إلخ . كل هذه القراءات وغيرها أثارت لدىَ تساؤلا: هل من السهل التعقيب على ناقد أدبى هونفسه طبيب نفسى؟ هل يجب أن يكون من ينقده هوالآخر طبيبا نفسيا بجانب كونه ناقدا؟ وهل يجب أصلا أن يُنقد كل نقد أوكل نص يُكتب؟ ربما أن هناك نصوصا تفسد أوتفقد قيمتها وسحرها إذا تبعها أى تعقيب ! ربما كانت هذه القراءات من هذا النوع …لا يجب الإقتراب منها .
ملاحظاتى على تيمة الفتاة فى التقاسيم قليلة، ربما بسبب قلة التقاسيم، أوربما لأننى شعرت أن بعض التقاسيم التى ذُكرت فيها الفتاة لها عمق آخر أبعد من هذه التيمة فتركتها حتى تنضج معى، مثل تقاسيم (69) و(75(
ومع ذلك فقد لاحظت فرقا بين نضج الراوى فى علاقته بالفتاة الشابة وعلاقته بالمرأة .
ففى الحلم (79) يخدع الراوى نفسه برغم رؤيته بعينيه فتاته تسبح مع شاب آخر، فيحاول أن ينسى ما رآه بل يريد أن يجبر الفتاة أن تنسى هى أيضا الواقع فيقول (الوقت كاف لننسى …. حتى لا نتذكر) وبرغم رد الفتاة (نحن نضحك على أنفسنا) إلا أنه (أغلق مسام فهمه) وظل على إنكاره لما ليس على هواه حتى إختفت من أمامه، وحينئذ – فقط – إنهار عالمه الهش المزيف، فتذكر الطعنة التى كان يحاول تجاهلها منذ البداية (تذكر الخنجر الذى بين لحمه وقميصه(.
يتكرر هذا الإنكار وخداع النفس فى الحلم (98): فتاته مع شاب آخر فيقرر (وكأن الذى جرى ما كان، ونسيت ما حدث، وكأنه لم يحدث، ولم أعرف كيف نسيته،) هذه المرة الفتاة أقل صراحة وأكثر قسوة، فتحاول إقناعه – بلا مجهود يذكر – أنها متلهفة على لقائه (ففضل أن يصدقها) ثم تأتى بصديقها أمامه وتعرفه به – ببجاحة- على أنه خطيبها غير آبهة بمشاعره وصدمته، تتركه .. فيطلب من النادل (سمكا مشويا حارا بالردة دون تنظيف) تعبيرا على ما يبدوعما يشعر به من حرقة وخزى..
قلة نضجه التى يمثلها الإنكار والتبرير الخائب لما يريد ان يقنع به نفسه فى الحلمين السابقين يتجسد بطريقة مختلفة فى الحلم (96): فتاته تجفف جسدها العارى فيثار ويهم بها بلا مقدمات، فتذكره بأنها ليست مستعدة، ولكنه لا يسمع ولا يرى سوى) الفرصة) التى تفسد الواحدة تلوالأخرى، تنبهه أنه لا يرى (سوى جوعه) فلا يرى سوى أنها (لفت جسمها بالبشكير فزادت مفاتنها)، أوصدت باب حجرة النوم عليها فيتلصص عليها من ثقب المفتاح بإلحاح … حتى (ضبطه كبيرهم) .. من هم؟ ومن هوكبيرهم؟ هل هورقيب داخلى ضبطه متلبسا كالطفل الخائب؟
عندما نصل لتيمة المرأة تختلف الأمور. فتختلف صورة المرأة عن تلك فى الأحلام، ويختلف الراوى جذريا، وبالتالى تختلف العلاقة بين الإثنين .
فى تقاسيم (58) يتغير المشهد والديكور من الترام الجديد بألوانه الخضراء والبيضاء وزخارف جدرانه وفخامة مقاعده) إلى (عربة السوارس، فى شارع محمد على، يسوقها بغل نشيط يدق بحوافره فتتراقص عضلاته) . الراوى هنا ليس بطلا فى التقاسيم ولا دخل له بالأحداث لا من قريب ولا من بعيد، فهويقفز إلى مؤخرة العربة يرى ويسمع وينقل لنا الواقعة ..
الخيط الوحيد الذى يربط الحلم بتقاسيمه هوهذا الخواجة المختال بفحولته والذى يتصور أنه يستطيع النيل من أى أنثى، فيلتهم الطفلة ثم يتحول إلى مغازلة المرأة صاحبة الصورة العارية . وهنا يظهر له ما لا يخطر على باله… إمرأة متفجرة الأنوثة، بدينة (تحكم لف الملاءة حول جسدها الذى يزداد جمالا ببدانته المتسقة مع روحها المرحة)، بنت بلد تلقائية برغم خبثها المثير الفطرى، فتطلق طلقاتها القاتلة فى وجه الخواجة الطلقة وراء الأخرى، تبدأ بضحكاتها الملعلعة وثدييها المرتجين المثيرين وتنتهى بهجومها النهائى بجملة غزل سوقية مفضوحة (\”جونى يا جونى، تعابوسنى وْعـَ..ّّ.نِى\”)، فيتقزم الرجل ويحمر ويلتفت الناحية الأخرى ويفقد وسيلة نقله، فلا ترام ولا سوارس ولا شىء إطلاقا.
المراة هنا قوتها من نوع آخر غير السطوة والسيطرة الى بدت عليها فى الأحلام، بل هى فى أنوثتها وفطرتها وثقتها بالإثنين معا، وإن كان إقدامها لا يخلوأيضا من عدوانية مثيرة لم تنكرها التقاسيم .
فى (64) لم تختف المرأة تماما من الصورة، فقد أطلقت عدوانيتها (الكلاب الثلاثة الشرسة) على الراوى وأخذت تبتسم (إبتسامة شفقة وشماتة) وكأنها تعلن سيطرتها وإنتصارها الوشيك . وبرغم رعب صاحبنا الذى (شُل تفكيره) فى البداية إلاأنه على ما يبدوكان قد وجد سبيله إلى تكتيك ينقذه ويغير النتائج لصالحه .. فقد استعطفها بعينيه.. فلانت.. وتجمدت عدوانيتها (توقفت الكلاب وكأنها تماثيل من صخر)… بل وأخذت تتدلل (إلتقطت الكلبة البيضاء وأخذت تهدهدها وتمسح عليهابحنان بالغ) فنادى أنوثتها التى إستجابت فورا (قفزت إلى كتفى) . وإختفت صورة المرأة العدوانية ليحل محلها علاقة متناغمة سعيدة بين الراوى وتلك الأنثى الجميلة.
من الواضح أن راوى التقاسيم هنا أكثر إيجابية من راوى الأحلام، فاستطاع ترويض عدوانيتها وإستثارة أنوثتها. العلاقة بينه وبين المرأة سجال، كر وفر، إقدام وتراجع، حتى تنتهى بعلاقة حقيقية أشبه بالشراكة وليس بإنتصار طرف على آخر.
تقاسيم (81) تثبت أيضا هذه الفكرة: بنفس شخوص وديكور الحلم، تكشف الهانم عن ثدييها المثيرين وتوجه سلاحها (المسدس الأنيق) ناحية الراوى الذى ينصهر أيضا قبل أن تضغط على الزناد . ولكنه هنا يتحول إلى فراشة ترقص فيما يشبه رقصة التزاوج (تتمايل تعزف بألوان جناحيها المبرقشين لحنا جديدا شجيا)، وعلى عكس التقاسيم السابقة، لا تبدوهذه الرقصة تكتيكا للتخلص من عدوانية الهانم، بل كانت تلقائية فطرية نتيجة إثارة اللحظة، حتى أن الراوى (لم يحسب أن كل هذا الجمال كان بداخله) . وتتفاعل الهانم – داخليا- مع حركة الفراشة الرقيقة – المثيرة فى الوقت ذاته- على ثدييها، فتبدومتجمدة كالتمثال والمسدس فى يدها على حاله، ثم تتسع إبتسامتها تدريجيا مع تصاعد إثارتها الداخلية حتى تصل إلى الذروة ويسقط المسدس ويرجع صاحبنا إلى صورته الآدمية سعيدا هوالآخر . مرة أخرى لا يوجد منتصر ومنهزم ولكن الإثنين سعدا بعلاقتهما، فهى وصلت إلى ذروتها من النشوة، وهوأثير وسعد بإثارته لها ووصفها (بالسيدة الرائعة) حتى أنه ترك لها ميداليته وجائزته.
(الأحلام والتقاسيم) تشبه نصا واحدا ذى قطبين، يجد القارىء نفسه فى حالة من العدووالركض والتأرجح بينهما حتى يصل فى النهاية إلى بعد مختلف يظنه أعمق من سابقه، ثم يكتشف سطحيته بعد عدوه وركضه فى قراءة لاحقة .. وهكذا لا يكاد يلتقط أنفاسه حتى يكتشف نفسه وقد تغيرت على كل المستويات، ويكتشف فكره وقد نمى على غفلة منه، فلا يمل القراءة ولا يشكو كدحه!
كم نص يمكن أن يفعل هذا بقارئه؟!