“نشرة” الإنسان والتطور
9-2-2009
السنة الثانية
العدد: 528
يوم إبداعى الشخصى
… حدث من واحد وأربعين عاما!
قبل النص
حدث أثناء مراجعتى “تجارب” (بروفات) “كتاب العلاج النفسى من خلال الإشراف عليه” الذى جمع أول ثلاثين نشرة من باب “التدرب عن بعد” فى نشرات الإنسان والتطور أننى لاحظت أنه ورد فى الحالة رقم (17) حالة ذلك الصبى الذى سرق من أمه مبالغ كبيرة من النقود (عدة آلاف). وكنت أرد على مداخلة حول هذه النشرة تقول: أن هذه السرقة، ومن الأم دون غيرها، قد تكون محاولة من جانب الصبى أن يعلن أمه أنها لم تعطه حقه فى الرؤية أو الدفء أو الحنان أو الاعتراف، رددت على الصديق المعقب بأنى أوافقه رأيه، ثم تذكرت أننى قد خطر لى مثل هذا التأويل لهذا العرض (السرقة من الأم بالذات) فى أول عمل لى، شبه قصصى باسم “عندما يتعرى الإنسان”
كنت قد خاصمت هذا العمل طويلا حيث تصورت أن به من “الحكمة” و“الخطاب المباشر” أكثر مما به من التشكيل والإبداع، رجعت إلى هذا العمل الذى لم أقرأه، برغم أنه قد أشاد به – شفاهيا – كثيرون من بينهم محمد ابنى والناقد الحاذقيوسف الشارونى. أما أنا فكنت دائما أرفض الإشارة إليه، أو الإقرار بقيمته للأسباب السالفة الذكر، رحت أبحث عن الحكاية التى أشرت بها فى ردى على الحالة (17) فلم أجدها (حتى الآن).
فوجئت وأنا أفعل ذلك بالمقدمة وكأنى كتبتها اليوم، (مرة ثانية مضى على كتابتها 41 عاما واحد وأربعون عاما)، فوجدتها كأنى أقدم بها نشرة الإنسان والتطور (نحن الآن فى العدد 528) وكأنى لم أتغير منذ هذا التاريخ (هل هذه ميزة أو عيب)؟
قلت أختار من هذا العمل إحدى هذه الحكايات القديمة وأنشرها هنا اليوم (يوم إبداعى الخاص) لكننى حين مررت على المقدمة مرة ثانية شعرت أنها أوْلى بالنشر، بالرغم من أنها ليست إبداعا صرفا.
كتبت هذا الكتاب على نهج “كليلة ودمنة” أقدم به لكل قصة مغزاها وهدفها، (وكان هذا من بعض ما خاصمت العمل من أجله) وكنت قد صدرت هذا العمل بكلمة برزوية وهو يقول:
”. . . من قرأ هذا الكتاب، ولم يفهم ما فيه،
ولم يعلم غرضه ظاهرا وباطنا، لم ينتفع بما بدا له
من خطه ونقشه، كما لو أن رجلا قدر له
جوز صحيح لم ينتفع به إلا أن يكسره”
برزويه (رأس أطباء فارس)
كليلة ودمنة
اطمأننت بعد واحد وأربعين سنة، وتصورت أن أصدر قول برزوية لكل من يتهمنى بالصعوبة أو الغموض.
من المقدمة
……..
……..
على لسان الحيوان تعلمنا الحكمة، وقال بيدبا الفليسوف لدبشليم الملك حكمة الأمس. .
وحكمة اليوم أبعد منالا وأصعب تحقيقا… فهى أشهد اختلاطاً بالوهم من أى وقت مضى، وبذلك فهى أقل تحديدا ووضوحا.
………..
وقد حاولت أن أبحث عن حكمة اليوم فى حديثى مع أصدقائى المرضى ووجدتها فى كل مرة بلا استثناء، وحين كنت أعجز أن أراها، كنت أعلم أنى لم أفهم لدرجة كافية، أو أنه – صديقى المريض – لم يعان لدرجة كافية. .
وسأحاول فى هذه اللقطات أن أعرض بعض زوايا من صور الإنسان حين يتعرى ليهيم على وجهه باحثاً عن حقيقة ذاته، وإنى إذ أعرض هذه الصور التى لا تصف إنسانا بذاته، أرجو أن يقبل القاريء ابتداء صداقه أصدقائى، فهم أعز عندى من أن أعرض صورهم إلا على أصدقاء، رغم أنه لا توجد لقطة واحدة يمكن التعرف على صاحبها الحقيقى احتراماً وعهداً.
****
قال أحد هؤلاء الأصدقاء، “الفتى الذى اتضحت رؤيته وأستقام على الطريق”:
- أما وقد انتهى بنا المطاف، فهلا حدثتنى عن بعض ماعلمت من أمور النفس وأحوالها لعى أتعلم منك ما لن أجده عند غيرك، وربما نفعت به غيرى.
قال الحكيم:
- أما عما رأيت فهو كثير كثير، ليس أكثر منه إلا ما لم أره، أما ما عملت فهو أقل مما رأيت فليس كل ما رأيته علمته، كما أنه ليس كل ما علمته أو تعلمته رأيته. . فكم يرى العالم – مهما علم – رؤيا لا يجد لها فى علمه تفسيرا، وكم يبحث عن حقيقة تصورها قانونا فلا يصادفها فيما يرى أبداً، وليس هذا نقصاً فى قدرته، ولا هو قصور فى علمه، ولكنها طبيعة العلم. . وتقلب صور الحقيقة، وما دام العلم ليس له نهاية فى أى حال – وخاصة فى هذه الأحوال – فالمجال يتسع لكل ما يقال.
أما أن نتعلم مما أقول:
فهذا مما أراه جائزاً ولا أحسبه قاعدة يمكن إطلاقها، فأحوال النفس لا يتعلمها الإنسان من الكلام، وقوانينها لا يصدر بها أحكام، وعلينا أن نقيم الحقيقة – أو المعرفة التى نتصورها حقيقة “الآن” – بقدر ما تحتمل اللحظة الحاضرة من إدراك الأمور، بكل ما أتيح لنا من وسائل حالية. ولكن علينا أن نحمل أيضا تفتحا دائما لكل جديد , ولتكن التجربة هى الأصل فى كل حال.
تجارب الإنسان الفرد لا يعدها تجارب الغير، وإنما جعلت معرفة تجارب الغير خيرا لجواز النفع منها لا للاقتداء بها، فالانسان هو ذاته بكل معالمها الخاصة، ولا بد أن يعرف نفسه فى هذه الصورة الفريدة. . وأن يحقق وجوده كوحدة مستقلة فى تفاعل دائم مع الدنيا الصاخبة بالناس والأشياء، ولابد أن يهتدى فى ذلك بما يتعلم ويعلم، ولكن عليه أن يذكر دائما أن الحقيقة الأساسية هى أنه “إنسان فرد ليس كمثله أحد آخر” وأن وجوده جزء من وجود الآخرين، أنه بغير تحقيق هذه الذات لن “يكون“ شيئاً، ولا حتى فى نظر الآخرين.
وأما ما تسمعه منى ولا تجده عند غيرى، فأعلم – بنى-:
أنه ليس عندى جديد غريب، وأن الذى يستطيع أن يرى كما أرى، ويحس كما أحس فإنه قد يجد كل طبيعى غريب وكل غريب طبيعى، ثم هو لابد سيجد مفتاح الحقيقة، ولعل العثور على مفتاح الحقيقة هو الطريق الأول أو الأوحد، لأن الحقيقة ذاتها غير ثابتة ولا هى محدودة ولا محددة، وربما كان السعى إليها هو غاية تحقيقها فى نفس الوقت، فليس المهم أن ترى المنار الذى يضيء، ولكن المهم أن تمشى فى نوره، وليس ضروريا أن تصل إلى الشمس حتى تتمتع بضيائها ودفئها..، ولذلك فإنك مهما سمعت ووعيت فستجد أن ما سمعت هو القليل وأن ما ستلاقى بعد ذلك هو الكثير الذى لا تنتهى حكمته ولا تبلى جدته.
وأما أن “ينفع حديثنا هذا غيرك”
فهذا هو ما يدعونى إلى الاستجابة لمطلبك، ولكنه هو أيضا ما يخوفنى من الحديث معك،
لأن العلم الذى لا ينتفع به أكثر الناس لهو أمانة ضائعة، وخازنه كسارق الجوهرة الذى لا يستطيع بيعها، فيحبسها ويعيش فى فقره مع أوهام المطاردة، وخدعة امتلاك شيء ثمين وما هو بثمين.
على أن الكلام كالسكين ذى الحدين: قد يأتى منه الضرر من حيث ترجو به النفع، وبما أنه ليس هناك وسيلة للتفاهم أفضل من الألفاظ فى مجالنا هذا، فلابد من الحذر ونحن نرسل الكلم، ولابد من الحرص وأنت تسمع الخبر،
ولتأخذ منه ما تحس أنه وافق مكاناً صالحاً فى فكرك، ولا تقحم على نفسك ما لا ترتاح إليه طبيعتك، وبهذا ينتقى كل من الحديث ما يصلح له أو يصلح به، لأنه ليست للتجارب قواعد ثابتة وإنما هى أمثلة تنفع أو لا تنفع، فانك انما تسمع منى جانباً من رؤيتى لكيان ما، فى لحظة ما.. ثم إن هذه الصور قد تصل إليك بإحساس حى يجعل إدراكها كواقع قائم أمر سهل ومفيد؛ أو هى قد تظل ملساء مسطحة لا تدرك منها إلا بعد الصورة. وفى هذه الحالة فلا فائدة منها وما هى إلا رواية تتناقل مثل بعض القصص الجوفاء…
أما أن تنفع الناس بدورك، بما تسمع وتعى،
فإنك إنما تفعل ذلك إذا أدركت ما راق لك فعشته وتمثلته، ثم حفظته ووعيته، ثم كان جزءا من كيانك ونفسك… فإنه لا محالة ينضح بالخير على غيرك، فإنما تنتشر الحكمة إذا كانت هى الحقيقة، وإنما تتأصل الحقيقة إذا اختلطت بالذات لتصبح إيمانا، ثم يكون الايمان عملاً طبيعياً تلقائياً سلساً.
****
على أنى يا بنى لا أطمع فى الكثير،
فإنى بهذا الحديث ألقيت فى بحر الركود والظلام حجرا شحنته بكل ما أحمل للانسان من حب، ومهما كان الحجر صغيرا فأملى أن يهز الصفحة الراكدة فتنزاح دائرة صغيرة لتصبح دوائر متتابعة.
فاذا خرجت من هذا الحديث كله ببضع من الناس مثلك يا بنى، اكتملت يقظتهم إذ هزتهم الحقيقة فساروا على الطريق حتى نهايته… أو إذا أثرت به علامات استفهام وتعجب عند بضعة عشرات آخرين يعقبها أنه “ربما”… أو حتى إذا هيجت به الرفض للقديم والجديد معا عند بضعة مئات، إذا تم هذا أو شيء من هذا فقد حققت ما أردت.
كما أوصيك – بنى- ألا تتعجل الحكم على الأمور، فأنت لن تدرك أول الحديث إلا بآخره، لأنه حديث يكمل بعضه بعضا، فاسألنى يا بنى ما شئت وسأبحث لك فى جعبتى عما يشفى غليلك.
****
ثم رحت أقلب بين الحكايات لأختار إحداها لتمثل إبداعا مضى عليه هذا الزمن كله.
……….
وحين احترت أن أختار أيها أوْلى بالنشر.
اجّلت نشر النص إلى الأثنين القادم.
عذرا