نشرة “الإنسان والتطور”
8-2-2011
السنة الرابعة
العدد: 1257
يوميات الغضب والبلطجة
ولادة شعب جديد قديم (9 من ؟؟؟)
المكسب الحقيقى: رحيل مبارك؟
أم أن نعرف طريق الخلاص من “أىّ” مبارك؟؟
مقدمة واعتذار:
حين هممت بكتابة نشرة الغد (الثلاثاء) عن احتمال اكتمال فروضى عن ما دخل إلى الرئيس مبارك إثر حادث المنصة ثم حادث الأمن المركزى توقفت عند انتباهى إلى إغفالى علاقة هذا وذاك بمحاولة اغتياله فى أديس أبابا، ثم عدت اليوم لأراجع ما كتبت أمس (الأحد) ونشر اليوم (الإثنين) فلاحظت إصرارى على أن هذا الذى أكتبه لا يقع تحت لافتة ما يسمى علم النفس السياسى، ولا الطب النفسى السياسى، إذن ماذا؟ هل أنا أغالط نفسى أم أننى أكتب شيئا آخر يحتاج إلى مصطلح آخر.
كلما سألنى صحفى أو مذيع أو أى إعلامى عن التفسير النفسى لهذا الحادث أو تلك الظاهرة أو تحليل هذا الشخص أو ذاك، نبهته ابتداء إلى أن المنطق السليم هو أساس أى علم، وأن صفة “نفسى” التى تجذب الناس فيحاول الإعلام أن يفرضها على من يسأله من أمثالى، توحى بأن علم النفسى أو الطب النفسى قادر على تفسير كل حدث وكل ظاهرة، وأن هذا التوجه قد يؤدى فى النهاية إلى ما يسمى “نفسنة الحياة المعاصرة” بغير وجه حق..إلخ، لكنهم يصرون، وكثيرا ما أعتذر.
ويشتد رفضى لهذه النفسنة حين نقترب من مجال السياسة وشخصيات الساسة، خاصة ما يصدر من ركن الهواة حين يستسهل إعلاميون أو بعض المثقفين وصف الشعب مثلا بالفصام لمجرد رصد تناقض لم يفهموه، أو وصف حزن الناس المشروع بالاكتئاب القومى…إلخ، موقفى هذا يمتد إلى رفضى الاستفادة من علوم رصينة مثل علم النفس السياسى أو الطب النفسى السياسى، (1) برغم احترامى الهائل لمن يشتغلون به، ويكتبون فيه، وخاصة الصديق الكريم “أ.د. قدرى حفنى”.وقد لا يدل هذا الرفض والتحفظ إلا على جهلى، لا أكثر ولا أقل ، الأمر الذى أتمسك به ولا أريد التخلص منه ، على الأقل حالا.
إن لم يكن هذا الذى كتبته والذى أكتبه الآن عن السيد الرئيس علم نفس سياسى، ولا طب نفس سياسى، ولا تحليل نفسى، فماذا هو ؟
لقد أشرت أمس إلى أننى لا أكتب إلا مجرد فروض اجتهادية، تحتمل الصواب والخطأ، وأظن أن هذا اعتذار شكلى، فما العلم إلى فروض عاملة طول الوقت تقريبا، وما تحقق منه فى نظريات يكاد لا يكون إلا بداية لفروض جديدة وهكذا.
إذن ماذا؟
خطر ببالى الآن ما اهتديت إليه مؤخرا من صك مصطلح “قراءة النص البشرى” وهو المصطلح الذى حل عندى محل “لافتة التشخيص” بالنسبة للمرضى، ثم لحقه بسرعة مصطلح آخر استعملته طوال السنوات الثلاثة الماضية فى هذه النشرة، وهو “نقد النص البشرى” أصف به ما يجرى فى عملية العلاج من إعادة تشكيل كل من المريض والطبيب (إن صحت العلاقة وعمقت)، بما يخرج بهما إلى تشكيل جديد بديل، باعتبار أن النقد ما هو إلا إعادة تشكيل.
هل من الممكن أن أسمى ما أفعله الآن قى قراءة النص المسمى “الرئيس مبارك” نقدا مبدئيا على نفس المقياس؟
ربما، مع بعض التحفظات التى أفصّلها غدا حين استكمل ما وعدت به أمس.
وأكتفى اليوم بأن أورد نص رسالة وصلتنى على بريدى الخاص، وهى من صديق قديم جديد، د. زكى سالم تعرفت عليه من خلال صحبتنا معا لشيخنا نجيب محفوظ، وكتبتُ عنه ليس قليلا فى سلسلة نشرات “فى شرف صحبة نجيب محفوظ”، وتفضل بتصحيح ونقد بعض ما كتبت أولا بأول فى “بريد الجمعة” فى هذه النشرات،
عودة إلى النشرة عن “المنهج” و”النتيجة”!
كتب لى زكى رسالة هذا نصها:
د. يحيى
…. كلماتك مهمة ولابد من مواصلة الكتابة، وأنا لا اختلف مع سيادتك سوى فى أمر واحد فقط، ولكنه فى غاية الأهمية، فلابد أن يرحل مبارك وسيرحل فعلا وقريبا جدا، وذلك حتى نتعلم جميعا أن كلمة الشعب هى العليا، أما عبارة حرب أهلية فهى غير دقيقة، فنحن نعيش ثورة شعبية عظيمة كتب عنها أستاذنا كما كتبنا جميعا عنها، وما حدث ما هو إلا محاولة من نيرون أن يحرق مصر قبل أن يرحل، ولكنه سيرحل بالتأكيد، و ستتحرر مصر وتحقق ما نحلم به جميعا، ولله الفضل والشكر والحمد،
(التوقيع) : زكى
فأرسلت إليه ردى كما يلى (بعد حذف المقدمة):
عزيزى زكى
صباح الخير بإذن الله شكرا يا زكى لمتابعتك
……
……
……
اختلافى معك (معكم) حول مسألة توقيت رحيل مبارك اليوم وليس بعد بضعة شهور هو اختلاف منهجىّ، وليس مبدئىّ،
أنا أقدر مخاوف الذين يفضلون رحيله حالا خشية أن يلتف –مثلما فعل مرارا- حول وعوده فى هذه الأشهر الباقية، لكن معنى هذا الخوف هو أنهم – أننا– لا نثق فيما اكتسبناه من هذه الثورة العظيمة من أدوات، هى الأهم من النتائج
لعلك تذكر يا زكى استشهادى بـ “لاكان” فى مسألة “الدال” و”المدلول” ضاربا المثل بنقده لقصة “الرسالة المسروقة” لـ “إدجار ألان بو“، وقد حكيت رأيى فى ذلك تفصيلا للأستاذ (نجيب محفوظ) فى حضورك، سلامة المنهج يا زكى (خطوات العملية، أية عملية : التفكير أو الأداء ..إلخ) هو أهم من النتيجة الآنيّة، حين تعرف الطريق الصحيح ومسار خطواتك وكيفية التغلب على المصاعب: لابد أن تصل إلى هدفك، وبعد أن تكون قد تعلمتَ كيف الوصول إلى مثله وغيره باستمرار، حتى لو وصلت إلى المكان الخطأ مرة أو مرات، فإنك ستعيد مراجعة خطواتك فتصل إلى ما تريد ما دام منهجك قد اتضحت لك خطواته فاطمأننت إلى قدراته، أما أن تركز على “أنك حققت هدفا بذاته” لأنك أحسنت التصويب هذه المرة، فهذا لا يضمن لك أن بندقيتك فيها رصاصة تالية تحميك من الاحتمالات القادمة
الذى علينا أن نؤكد عليه الآن هو تدعيم ما تعلمناه من المكاسب المنهجية فى التعامل مع من يعمل فينا مثل هذا، مبارك، وكل مبارك
المصيبة لم تبدأ بمبارك ولكنها بدأت بعبد الناصر ثم السادات الذى لم يختلف قط عن عبد الناصر فى اتباع نفس المنهج، بل لعله شخْصَنَـه، وما فعله مبارك بدا فى البداية أقل اتقانا فى اتبَـاعهما حذوك “القهر بالقهر”، ربما لقصور فى إمكانياته، لكنه سرعان ما لبس (أو استجاب لهم حين ألبسوه) العمّة، وهتفوا كما علمنا شيخنا “اسم الله عليه!! اسم الله عليه!!” فصدق أنه الفتوة الذى لا يبارى، لا أريد يا زكى أن أذكّرك بما كتبته له صراحة فى خطابات مفتوحة متتالية بعد نجاته من محاولة الاغتيال فى أديس أبابا أو بعد حادث الأقصر، أو بمناسبة ترشيحه فى الولاية الرابعة(2)، ونبهته فى كل ذلك إلى بعض ذلك (فأنا على يقين أنه لم يقرأه)
إن رحيل مبارك الآن قد يبدو أنه النصر المبين، لكنه بالنسبة لى ليس كذلك ،النصر هو أن نعرف كيف نخلع مَن بعده إذا صار مثله، أو فعل مثله، مبارك ربما يكون رمز الفساد أو رأس الفساد، لكنه ليس كل الفساد ولا أصل الفساد، إنهم استعملوه للتمادى فى الفساد ففسد هو وربما سبقهم فى ذلك، ثم أحضرت زوجته بموافقته ابنه وورطته فيما ليس له، أملا فى الحفاظ على نفس المنهج، لاستمرار كل شىء إلى ما صار إليه، وأعتقد أن هذه الغلطة من قـِبَـل النظام كانت فى صالحنا نحن الشعب لأن هذا التلميذ المسكين، لم يحفظ الدرس، ولم يعرف لماذا أحضروه، فلم يصل إلى الناس، فعرّى أباه ونظامه، شكرا له، ومع السلامة، بعد أن يدفع حسابه، لست متأكدا.
إن التحفظ عل بعض اللصوص الذين استعملوا الرئيس وابنه واستعملوا الدستور واستعملوا ثقوب القانون واستعملوا الدين الخصوصى إنما يثير تساؤلات مهمة عن دور القضاء وتوقيت تدخله، وعن موقف آخرين حتى أولئك الذين قفزوا، أو طـُـردوا، من السفينة قبل أن تغرق مثل محمد سليمان وآخرين، هذا الإجراء الذى بدا قانونيا ومكسبا للجماهير: أوصل لى سلبيات طغت على ما كان ينبغى أن أشعر به من فرحة أو حتى شماتة حين بلغنى اتخاذه، هو إجراء لم يعنِ شيئا كبيرا لى، وحتى تخلى (أو طرد) ابنه من رئاسة لجنة السياسات(3)، ومن العمل السياسى – وهو لم يدخله أبدا– كان رحمة به من هواية لم يخترْها، هل تذكريا زكى مقالى “من ينقذ هذا الشاب من ورطته؟ وقد بدأتُ به عودتى لصحيفة الوفد منذ عام، لقد أنقذتـْه ثورة الشباب هذه فعليه شكرها، لكنه يظل مسئولا لأن السيدة والدته لم تضع له “حاجة أصفرة” قبل أن تورطه فى لعبة السياسة التى لم يفكر فيها طول عمره (وحتى الآن غالبا)
أُدعو معى الله ألا يسرق هذه الثورة العظيمة من هو ليس أهلا له، وخاصة الإخوان، مع علمى بتحيـّزك لهم، أنا خائف يا زكى منهم على إبداعك وإبداعى وإبداعنا، هم يكفـّرون النفرى والحلاج، هم ليسوا عصام العريان ولا فهمى هويدى، هم لا يعرفون من الغزالى إلا ما يقره المحاسبى، إعمل معروفا، وسوف أرسل لك بعض ما كتبته للرئيس فى محاولة تفسير المادة الثانية من الدستور تفسيرا آخر غير ما شاع، ونـُشر ذلك فعلا، ولم يلتفت إليه أحد.
إحذر يا زكى من عمائم الأزهر كما حذرنا الشيخ محمد عبده.
وأخيرا دعنا نتذكر الدروس والمكاسب الحقيقية التى حققتها هذه الثورة حتى الآن، لعلنا نستطيع أن نشكر شبابها عليها، بأن ندعمها بأية وسيلة طول الوقت، طول العمر وبعد العمر، وهاك بعضها:
- إن ثمة ديمقراطية أخرى غير ديمقراطية الإنابة، وغير الديمقراطية المستوردة المغشوشة، وهى مكملة (وليست بالضرورة بديلة) للديمقراطية الشائعة.
- إن حاجز الخوف مهما كان سُمكه يمكن كسره، مهما طال الزمن، ونحن تعلمنا من هؤلاء الشباب الطريق إلى ذلك، وأدعو الله ألا ننساه ، لا نحن، ولا هم.
- إنه لا توجد ثورة بدون شهداء، ولا مخاطرة
- إن الوسائل الإلكترونية التواصلية الحديثة هى لصالح الديمقراطة الحقيقية ولصالح الناس على المدى الطويل
- إن الإعلام السلطوى المركزى لم يعد قادرا على احتكار العقول
- إن القوة هى فى الاستمرار، وليس فى كسب معركة واحدة
- إن القوى الخارجية المالية والسلفية تلعب فى أمخاخنا كما تلعب فى سلوكنا كما تلعب فى مصائرنا لصالحها، ولصالحها فقط، سواء تم ذلك من خلال حكامنا، أو من خلال غسيل المخ وتصدير المبادئ والنصائح القرداتية (نوم العازب)، فلزِمَ الانتباه والحذر من الجميع، والتعاون على ذلك.
- إنه : “وإن عـُدْتـُمْ عـُدْنـَا”
- إنه”: ..وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض”
أشكرك مرة أخرى يا زكى وأرجو أن تواصل النقد والاختلاف لتصححنى أولا بأول (مع أننى أعرف صعوبة ذلك، لكننى أحاول)، وأن تدعو معى أن يحفظ الله مصر، بدءا من اقتصادها وليس انتهاء بالحفاظ على إبداع أبنائها كلهم، فالعالم يحتاج إلى إبداع كل إنسان حريص على نوعه ألا ينقرض، لأنه لا يخفى عليك أن القوى المالية الانقراضية تعمل بعمًى مطلق فى هذا الاتجاه.
مصر، يا زكى، تستأهل، وتقدر،
وأنا احبها،
وشعبها رحيم جميل،
والله العظيم
شكرا
وعليك السلام
يحيى
[1] – يذكرنى البعض بما فعلت وأنا أقرأ شخصية عبد الناصر، وقد لامنى كثير من أصدقائى وتلاميذى على ذلك، وقد دافعت عن موقفى، وحتى الآن وزعمت أيضا أن هذا ليس من منظور التحليل النفسى أو علم النفس السياسى، ثم إننى نشرت مقالا لاحقا بوضوح فى نفس الصحيفة (الوفد) التى انتقت للمقال الأول عناوين لم أجزها، أؤكد فيه أن أن عبد الناصر لم يكن مريضا نفسيا حتى أقوم بتقوييم حالته بأبجدية طب نفسية، وتمسكت بوجه خاص فى قراءة شخصية لمحاولة تفسير علاقته بصديقه عبد الحكيم عامر….إلخ،
[2] – (بصراحة أنا أخجل من الإشارة إلى ما سبق أن كتبته – أو أدعى الخجل- لكننى مضطر وقد أعود لتحديثه لمخاطبة الحكام الجدد قبل أن يغطسوا فى الغيبوبة التى تنتظرهم)
[3] – لم أفهم أبدا مضمون هذه الكلمة، وحين رشحتنى صحيفة الوفد للوزارة اخترت – تهكما– وزارة أسميتها “وزارة الوزارات”