نشرة “الإنسان والتطور”
31-1-2011
السنة الرابعة
العدد: 1249
يوميات الغضب والبلطجة
ولادة شعب جديد قديم (3 من؟؟)
مقدمة: بمناسبة ما يجرى الآن فى ميدان التحرير، فى مصر الغالية، استيقطت ذاكرة كتاباتى من كل نوع، وخاصة وأنا فرحان بما يفعله الشباب المصرى بكل شهامة وشجاعة وانتماء، وهم يحموننا منا، فقفز إلىَ هذا المقطع ربما وهو أقرب إلى ما ورد منى فى عنوان هذه السلسلة: “ولادة شعب جديد قديم”.
ورد هذا المقطع فى ثلاثيتى “المشى على الصراط” أنشره بدون تعليق (كتبته سنة 1978 وهو فى الفصل الثامن من الجزءالأول “الواقعة” من ص 190 إلى ص 196) يحكى عبد السلام المشد:
ميدان التحرير يناير 1971
……….
وخرجت مسرعا (من عيادة هذا الطبيب الأجنّ منى) وأخذت أجرى فى الشارع، ولم أشعر بالأمان إلا حين وجدت نفسى فى ميدان التحرير.
أفقت على ما حولي، لا بد أننا بعد العِشاء بزمن، حركة غير عادية فى الميدان، جنود يلبسون الخوذات النحاسية، ويمسكون بالعصى الطويلة، وعربات بوليس تحمل مثلهم وتجوب الميدان، وأعداد من الشباب تتجمع وتتفرق، لا احتكاك ولا صدام، ما هذا كله؟.
تذكرت فجأة – دائما فجأة - أن الطلبة فى تذمر هائل هذه الأيام. أنباء الإضرابات – التى تسميها الصحافة “الاضطرابات”، تملأ الصحف، إشاعات الثورة والانقلاب تدور حول المكاتب وفى الأتوبيسات، وإلى درجة أقل فى البيوت والمقاهى. أين أنا من كل ذلك؟. غائب أنا عن كل هذا من زمان، غائب أو مُغيّب. أنا مسئول. كنت أتجنب كل ذلك زمان تحت ادعاء العقل، والآن أنكره بعد أن انسحبت لكوكبى الخاص تحت ادعاء الجنون. هل هذه بلدى أم أنى مجرد سائح عابر؟.
بدأ يداخلنى شعور بالخجل والذنب معا، حاولت أن أقضى عليه بسرعة. أفضل لى الآن أن أعترف بأن مابى هو مرض صريح، أنا مريض، ولا شأن لى بكل هذا، أنا لست من هنا، أنا لست سائحا فقط فى هذا البلد، ولكنى سائح فى هذا الكوكب الأرضى كله، أنا قادم من كوكب آخر؟. بل ربما أكون أنا شخصيا كوكبا آخر. هذا الجو المشحون بالحماس والشباب والبوليس، قفز لى عقل بالى:
- “هؤلاء الشباب وحتى البوليس”هم آهلك، هم أنت.
- مالى بهم، أنا عاجز حتى عن مزاولة واجباتى الزوجية.
- “فشلك فى دائرتك الصغيرة، يضعك فى دائرة أوسع، وهو لا يبرر هربك.
- أنا لم أفشل بخاطرى، أنا عاجز عن الحياة بكل أشكالها.
- “كاذب، وهارب، جبان. عليك أن تدفع الثمن”
- هذا المحيط الهلامى من الضياع؟. لست ناقصا ضياعا؟.
- “تشارك أو تعيش نذلا تعسا، لا مفر.
- أنا غير قادر على شئ.
- “جبان”.
- أنت الغبى.
اختلط علىّ الأمر وحاولت أن أوقف الحوار بداخلى. شعرت أننى يمكن أن أهيج أو أعدو أو أحطم شيئا أو أقتل. عاد يتحدى.
-.. لن أدعك تهنأ على حال.. سوف أحرمك حق الوجود ونعمة العمى معا.
- ماذا تريد منى؟.
- دعنا نذهب إليهم.
سآخذه على قدر عقله ولسوف نرى.
* * *
توجهت إلى أكبر مجموعة منهم - مضطرا على ما يبدو. حاولت أن أهدّئ من مشاعرى وأن أستدعى كل قدرتى علي”الفرجة”حتى لا يدفعنى حماسى إلى ما لا أدرى بعد أن أصبحت أوقن أنى مجنون مع وقف التنفيذ العلني، حاولت أن أضيع فى الزحام حتى لا يلحظنى أحد، اقتربُ منهم فى حذر خشية أن أضبطنى.
هم يغلون بالحماس والثقة، يتبادلون الأفكار فى هدوء واضح، يضحكون.
= هذا ذل ولن نسكت عليه.
= نحن مسئولون عنها أمام الأجيال القادمة.
= الانتظار تخدير أمريكى، والمؤمرات تدبر فى الخفاء.
= بل وفى العلن.
= الوعود تلقى فى المواسم والأعياد، ولا نجنى إلا تبرير الهزيمة.
= الحرب أو الثورة، ولنلق بالجميع إلى الجحيم.
= احتلال القاهرة خير من خدعة الكلام عن الإعداد للحرب.
= لا يريدون أن نواجه الهزيمة فى الشوارع خوفا على أنفسهم.
= آن الأوان……،
= ……..
= هذه بلدنا. هم الذين عليهم أن يذهبوا.
لم أستطع أن أكمل أكثر. الكلمات تدخل إلى وجدانى كالرصاص الحارق الذى يخترقنى إلى مخزن بارود لا أعرف من الذى خبّأه داخلى دون علمى. انصرفتُ قبل أن أتفجر فى أى اتجاه. أمسكت بخرطوم المطافئ أحاول أن أمسخ التجربة كلها بأى سخرية تطفئ مشاعرى حتى كدت أهتف بينهم “تسقط العــنّــة ويحيا الجنون”. ربما سمعنى أحدهم دون أن أنطق، نظر إلىّ هو يقول: عنـّة السياسة ألعن. التفتُّ إلى شاب وفتاة يجلسان وحدهما على ركن من قاعدة التمثال بلا تمثال، بدا أنهما يتناقشان فى السياسة والحرب والحب. اقتربت منهما وسألت.
- ماذا تريدون على وجه التحديد؟.
أجابنى الشاب بحذر وقوة:
- ومن أنت على وجه التحديد؟. من المباحث العامة أم من المخابرات؟ هل أنت مصري؟ من أنت؟.
- أنا عبد السلام المشد.
قلتها وأنا أعنيها مثلما صحت بها لابراهيم الطيب فى العيادة منذ قليل، أين محصلة الكهرباء لتؤكد لهم أننى عبد السلام المشد. هذه الفتاة لا تشبهها. قالت فيما يشبه السخرية لكنها ليست كذلك تماما:
- تشرّفنا.
قال الشاب:
- وماذا تريد؟.
قلت.
- أريد أن أحس بإحساسكم، أريد أن أعرف أكثر.
قالت الفتاة.:
- ألم تعرف بعد؟. البلد محتلة من سنوات. ألم يبلغوك الخبر؟.
قلت.
- هى النكسة، والكل يعرفها.
قال الشاب:
- يا فرحتى !! أى خدعة!! “النكسة”، ماركة سيارات جديدة هذه؟. ولم لا نقولها صريحة لنتحمل المسئولية. أليست هى الهزيمة فالاحتلال؟.
-… تريدون الجلاء.
- نريد أى شئ إلا ما نحن فيه، وأنت ماذا تريد؟.
(من أين لى أن أعرف!! لو كنت راضيا لما كنت الآن فى هذا المكان هاربا من عيادة طبيب نفسى. من أين لى أن أعرف ماذا أريد؟ أليس كل سعيى هذا لأعرف؟.)
- أنا لا أعرف ماذا أريد. لا أعرف حلا لأى شئ.
(لست متأكدا إن كنت قلت كل ذلك بصوت مسموع أم لا).
- الحل هو الثورة… أو الحرب.
استجمعت حكمتى القديمة لأخفى ما بى.
- ولكن لابد من الاستعداد للحرب، وإلا فنحن ننتحر.
قالت الفتاة:
- نحن ميتون… والميت ضاعت عليه فرصة الانتحار
قال الشاب:
- ألا تحسّ يا هذا؟. هل أنت “جـِبِلّة “؟. كيف تستطيع أن تواجه أولادك كل صباح؟. كيف تتمتع بزوجتك والبلد محتلة هكذا؟.
انزعجت من هذا التلميح. استبعدتُ أن يكون قد بـلـغه شئ عن عجزى. كدت أسأله هل من الوطنية أن أكون عنّينـًًا حتى يزول الاحتلال؟. أحسست بزهو خفى لأنى لا أتمتع بزوجتى فى ظل الاحتلال. لا بد أن ذلك من باب الوطنية. ارتسمت على وجهى ابتسامة سرية.أحسست نحوههما بحب غامر .أنا من نفس البلد.”نحن”، أخيرا “نحن” لنا بلد معا.
- ربنا يحميكم.
فوجئ الشاب. قال رافضا بيده:
- كفى ابتهالات ودعوات، هذه مسئوليتكم قبلنا، أنتم جيل الهزيمة والعار، أنتم الذين سرقتمونا وخدعتمونا، ثم لا تملكون لنا إلا الدعوات المباركات.
تمنيت أن تبتلعنى الأرض حالا، ماذا يريدون منى أن أصنع أنا بالذات؟. ما الذى جاء بى إلى هنا؟. هل كنت ناقصا اتهامات أو إهانات أو امتهانا، هذا الشباب المغرور الحالم ماذا يصنع إلا الهتاف والصراخ ثم سرعان ما يعودون إلى حظائرهم خلال أيام، كنا مثلهم فى يوم من الأيام وصنعنا الثورة فماذا صنعوا هم.
قلت مدافعا:
- لكل جيل واجب، وقد صنعنا الثورة.
قالت الفتاة:
- قل.. لقد سرقتم الثورة، خدعتمونا يا رجل. أين الثورة؟.
قال الشاب:
- فى كتب “التربية القومية”!!!
كدت أصيح فيهم: أنا مالى يا أولاد الكلب، كفانى ما بي، ما الذى جاء بى إلى هنا؟… يحمـلونى مسئولية الأحداث هكذا مرة واحده، وكأنى صانع الثورة، والمسئول عن انحرافها فى وقت واحد. أنا آحبكم والمصحف، حتى أسألوا……
قلت معتذرا ممهدا للانحساب:
- سرقوها وكذبوا علينا كما كذبوا عليكم.
لم تمهلنى الفتاة.
- أنتم رضيتم بالكذب، أنتم سكتم على الكذب.
يانهار أسود، يبدو أنى جئت إلى حتفى برجلي، أخشى أن يحاكمونى علنا مثلما كنا نسمع فى الصين، العالم أصبح صغيرا والعدوى تنتشر بأسرع مما نتصور، ملكنى خوف حقيقى حتى نظرت إلى عربة البوليس المليئة بالعساكر ذوى الخوذات. داخلنى شئ من الاطمئنان واليقين بلا مبرر: لا إعدام بلا محامكة، ولا ظلم فى عصر الشرطة! على كل واحد أن يدفع جزاء ماعمله فقط. لا أكثر ولا أقل.
واتتنى الشجاعة من منظر الشرطة المدرع فانطلقت أكمل دفاعى طالبا البراءة:
- أخفوا علينا كل التنازلات، لم نعلم أنهم يمرون فى شرم الشيخ منذ 56. ويوم علمنا حاربنا.
قالت الفتاة:
- لا تقل حاربنا قل حوربنا، وانهزمنا، وقالوا نكسة.
قال الشاب:
- ومازال الكذب يُعمل قراطيسا للب والفول السودانى.
المسائل أكبر من قدرتى الآن بالذات. لا حل إلا الانسحاب قبل أن يفلت منى الزمام، الخبل السرى يعاودنى لينقذنى. قراطيس الكذب التى تستعمل للب والفول “السوداني”، كلمة السودانى استدرجتنى إلى تذكر تلك المرأة السودانية وجذعها الأبنوسى المنصهر تحت نار جنونى المختلط بالنشوة. امتلأتُ فخرأ بفحولتى رغم الكلام عن النكسة والاحتلال والهزيمة، زهوت بنفسى لأنى حققت فى دقائق معدودة – دون مفاوضات تذكر – ما كان يحلم به كل من الملك فاروق الأول ملك مصر والسودان، والصاغ صلاح سالم بلا خسائر فى الأرواح. للجنون فوائد سرية.
انتبهت على قول الشاب.
-….. لكل شئ نهاية.
قالت الفتاة:
- ها نحن نرسم بداية النهاية:.
قال الشاب ونبدأ نحن هذه المرة.
انصرفت خجلا من أفكارى الجنونية الشبقية فى هذا الجو السياسى المحمل بالثورة ولكنى حمدت الله عليها، وعلى أنهم لم يعرفوا فيم أفكر. لم أستطع، رغم احتمائى بجنوني، أن أطفئ النار التى أشعلوها. كنت أحسب أن هذا الجانب منى قد مات إلى الأبد، رعبت من هذه الثورة بداخلى وحاولت أن ألغى كل ما حدث. المشاعر مرعبة ضخمة تحمل معها خليطا من الخزى والمسئولية والإفاقة والعجز.
كنت أحسب أن فشلى على السرير هو أعلى درجات الخزى ولكنى عرفت الآن ما هو أعلى منه وأكثر سحقا.
* * *
أجرجر رجلى إلى بيتى وأصعد الدرج وكأن سيقانى هى أكياس الرمل المعدة لإطفاء الحرائق بعد الغارات. بينما أنا أنتظر أن يفتح بابنا لمحت الأستاذ غريب من نافذة المنور وهو منكفئ على كتاب بين يديه. ملكنى غيظ تصاعد بسرعة فائقة حتى ملأ كل كياني، صحت فى صمت:
“ملعون أبوك”.
أحسست برغبة حقيقية فى قتله.
رعبت من تدهور حالتى.
(انتهى المقطع بدون تعليق من ص 190 إلى ص 196)